ماذا في مشروع المعاهدة الأمريكية العراقية؟
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية
على الرغم من أن تفاصيل المعاهدة التي يجري التفاوض بشأنها -التي اتفق عليها في تشرين الثاني 2007 في مذكرة التفاهم بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والرئيس الأمريكي جورج بوش- سرية، ، فقد سربت مصادر عراقية مسودة هذا الاتفاق والذي كشف عن صيغة تبرر الوجود العسكري الأمريكي لأجل غير محدد، إذ تسعى لإحلال القوات الأمريكية محل الأمم المتحدة هناك بما يبيح للولايات المتحدة القيام بعمليات عسكرية غير محدودة في العراق واستباحة أرضه وسمائه ومياهه ولو ضد دول الجوار.أما ابرز خلفيات ما جاء في الاتفاق:
- البحث عن صيغة قانونية قبل انتهاء عهد الرئيس الأمريكي الحالي بوش تضمن بقاء القوات الأمريكية بشكل شرعي في العراق وتوفير ما بين 4 و12 قاعدة عسكرية دائمة أو غير دائمة في الأراضي العراقية؛ بغرض إظهار إدارة بوش على أنها خرجت منتصرة من الحرب، وبما يسمح بسحب جزء من القوات لتخفيف ضغط الديمقراطيين وغالبية الشعب الأمريكي المعارضين لاستمرار الاحتلال الأمريكي؛ بسبب حجم الخسائر البشرية.
- محاولة التوصل لصيغة بهدف إقامة قواعد عسكرية أمريكية دائمة أو مراكز لتجمع القوات، كبيرة وبعيدة عن أماكن التجمعات السكانية والمدن الكبيرة، وتشير تقارير عراقية في هذا الصدد إلى أن واشنطن تدرس فكرة استخدام المعسكرات القديمة للجيش العراقي كمراكز تجمع تتحول لقواعد دائمة في المستقبل بحيث يجرى تجميع هذه القواعد العراقية (106 قواعد) إلى 14 قاعدة موزعة على أرجاء متفرقة من العراق بما يضمن سيطرة هذه القوات على أنحاء العراق، ويمكن تحويلها لأربع قواعد عسكرية كبرى مستقبلا هي: (قاعدة السعد) في غرب العراق، و(قاعدة بلد) في الوسط، و(قاعدة أربيل) أو (القيارة) في الشمال، و(قاعدة في جنوب العراق غير محددة)، بحيث تتكامل مع القواعد الأمريكية في الكويت والخليج، وهو ما يعتبره خبراء عسكريون مقدمة لتنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة لتطويق إيران وربما ضربها.
- بحجة الإرهاب والأخطار الخارجية –خصوصا إيران– يطرح الأمريكيون في الاتفاق فكرة قيام القوات الأمريكية بالإشراف على وزارتي الداخلية والدفاع والاستخبارات العامة لمدة عشر سنوات؛ ما يعني إلغاء السيادة العراقية تماما وتحويل هذه الأجهزة لحماية قوات الاحتلال والدفاع عن مصالح المتحالفين معها ووضع العراق تحت الوصاية الأمريكية.
- تسعى معاهدة الوصاية الأمريكية لتوقيع اتفاقيات نفطية بعيدة الأمد مع العراق تعطي لشركات النفط الأمريكية السيطرة على الآبار العراقية بما يضمن إمداد العراق لأمريكا بالنفط لسنوات طويلة بأسعار أرخص من الأسواق العالمية ضمن ما سمي "قانون النفط الجديد" الذي يمنح الشركات الأمريكية حقوقا وامتيازات تسمى "بالمشاركة" التي تستمر إلى نحو 33 عاما.
- تسعى المعاهدة للإيحاء بوجود علاقات دبلوماسية بين طرفين سياديين وفتح سفارة أمريكية في العراق، بيد أن المعلومات التي نشرت عن هذه السفارة الأمريكية في العراق تشير لأبعاد أخرى تتعلق بنظرية الوصاية على العراق وتظهر السفارة كدولة داخل الدولة العراقية؛ إذ إنها من أكبر السفارات في العالم على الإطلاق، فمساحتها 104 هكتارات وفيها 21 مبنى ضخما وتتوفر فيها آخر مقتنيات العصر في توفير الراحة والأمن ووسائل الاتصال، وحتى السينما والمسرح وحمامات السباحة والمطاعم ، وقد بلغت تكلفة هذه السفارة ما بين 750 مليون دولار إلى بليون دولار؛ ما يحولها لمركز لإدارة المهمات العسكرية والدبلوماسية في العراق وفي الشرق الأوسط كله مستقبلا.
ويعتبر المطلب الخاص بحصانة الجنود الأمريكان ومرتزقة شركات الأمن الأمريكية الخاصة من أخطر المطالب الأمريكية في العراق بالنظر لجرائم هؤلاء في الآونة الأخيرة.إذ أن هذه الشركات المرتزقة العاملة في العراق تعمل وفق مرسوم وضعه الحاكم الأمريكي للعراق عقب احتلاله بول بريمر، فوفقا للعقود المبرمة معها واستنادا كذلك إلى المرسوم الذي أصدره الحاكم الأمريكي السابق في العراق بول بريمر عام 2004 والمسمى "القاعدة 17"، فإن "القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات ورعايا هذه الدول المقيمين في العراق والشركات الأمنية الخاصة "معفون من أي مساءلة قانونية أمام المحاكم العراقية ولا يشملهم القانون العراقي"!
وبالتالي فليس للحكومة العراقية الحالية أي سلطة على هؤلاء المرتزقة وليس لهم أي سند قانوني يخولهم سحب ترخيص بلاك ووتر، أو أي من الشركات الأمنية الخاصة، بل لا تستطيع الحكومة -قانونا- محاكمة أي مجرم من هذه الشركات ارتكب مجازر بحق المدنيين؛ لأن هذه الشركات الأمنية الخاصة في العراق تتمتع نظريا بحصانة دبلوماسية وتتوقف الملاحقات القضائية المحتملة ضدها على القرار السياسي.
07/06/2008
04/06/2008
حكومات لبنان بين العمر المديد والقصير
حكومات لبنان بين العمر المديد والقصير
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية
منذ الاستقلال تعاقب على رئاسة الحكومة 22 شخصية سياسية: اثنان منهم فقط من الطائفة المارونية والباقون معظمهم مما يعرف بنادي رؤساء الحكومة مع استثناء شكله الرئيس رفيق الحريري وتلاه الرئيسان نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة. هؤلاء شكّل كل واحد منهم حكومة او اكثر في العهود المتعاقبة منذ قيام الجمهورية عام 1926. ووصل عدد الحكومات الى 87 حكومة اقصرها عمراً كانت حكومة نور الدين الرفاعي التي لم تعمّر اكثر من 65 ساعة، أما اطولها على الاطلاق فهي آخر حكومة في عهد الرئيس السابق العماد اميل لحود والتي استمرت أكثر من 1000 يوم من 26 تموز 2005 حتى 25 ايار 20000 .
أولى حكومات الاستقلال كانت برئاسة رياض الصلح احد ركني الميثاق الوطني، وتولى الصلح رئاسة الحكومات المتعاقبة حتى اغتياله عام 1951 في العاصمة الأردنية عمان. وخلفه عبد الله اليافي في رئاسة الحكومة، وذلك في عهد الرئيس بشارة الخوري الذي شهد تشكيل 12 حكومة.
اما الرئيس كميل شمعون فارتأى تكليف سامي الصلح رئاسة معظم الحكومات المتعاقبة في عهده، كما كان لافتاً تعاونه مع رشيد كرامي الذي أدخله الى نادي رؤساء الحكومة للمرة الأولى عام 1955.
وثبت رشيد كرامي انتماءه الى نادي رؤساء الحكومة في العهد الشهابي، وشكل اطول حكومة في عمر الجمهورية قبل الحرب اللبنانية.
ورغم ان عهد الرئيس شارل حلو اعتبر امتداداً للعهد الشهابي الا ان حلو فضل التعاون مع شخصيات اخرى من الطائفة السنية، وفي مقدمها حسين العويني وعبد الله اليافي في تشكيل الحكومات. اما الرئيس سليمان فرنجية فاختار صائب سلام لترؤس اكثر من حكومة منها "حكومة الشباب"، إلا ان عهد فرنجية عرف اول حكومة عسكرية برئاسة العميد نور الدين الرفاعي التي لم تعمر اكثر من 65 ساعة وعقدت جلسة يتيمة قبل ان ترغم على الاستقالة.
وبعدما دخلت البلاد في اتون الحرب الأهلية فضّل الرئيس الياس سركيس تكليف الرئيس سليم الحص رئاسة الحكومات، ومكث الحص على رأس اطول حكومة قبل الطائف.الا ان توقيع اتفاق الطائف واضافة بعض المواد الدستورية كبّلا رئيس الجمهورية وجعلا اختياره للرئيس المكلف تشكيل الحكومة وفقاً للمادتين 53 و 64 من الدستور.وفي عهد الرئيس الياس الهراوي تعاقب على رئاسة الحكومة كل من سليم الحص وعمر كرامي، ورشيد الصلح، ورفيق الحريري. والأخير كان شخصية سياسية تقتحم الحياة السياسية من خارج نادي رؤساء الحكومة، واستمر الحريري في تشكيل الحكومات حتى العام 2004 في عهد الرئيس اميل لحود، رغم اقصائه عن الحكومة بين العامين 1998و2000.
الا ان الحريري ترأس واحدة من اطول الحكومات عمراً في تاريخ لبنان واستمر 930 يوماً في رئاسة الحكومة. الا ان الرئيس فؤاد السنيورة كسر الرقم القياسي المسجل باسم الرئيس الحريري وتولى رئاسة الحكومة في 19 تموز 2005 ولا يزال حتى اليوم، ما يعني ان حكومته حطمت الأرقام القياسية ليس بطول عمرها وحسب وانما باصدارها مئات المراسيم في جلسة واحدة، كما حصل بعدما كان الرئيس اميل لحود يرفض اصدار المراسيم، مما دفع بحكومة السنيورة الى اصدارها تباعاً في جلسات ماراتونية وسجلت رقماً قياسياً في اصدار اكثر من 700 مرسوم في جلسة واحدة.
وبحسب النص الدستوري، فان لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية ترتكز على الفصل بين السلطات وتعاونها، مما يعني ان اصول النظام البرلماني توجب على الحكومة التقدم ببيانها الوزاري لنيل الثقة من البرلمان، وفي المقابل يكون للحكومة حق حلّ البرلمان. لكن الأمور في لبنان مختلفة، فلا البرلمان يحجب الثقة عن الحكومة ولا الأخيرة تستطيع حلّ مجلس النواب، وخصوصاً ان ظروف حله متوافرة بعد ان امتنع عن الاجتماع طيلة عقد عادي، ولم يصدر الموازنة منذ 3 اعوام.
ومجلس النواب لم يسبق له ان سحب الثقة من اي حكومة في تاريخ الجمهورية اللبنانية، كما انه لم يحاكم احداً من الرؤساء او الوزراء امام المجلس الأعلى لمحاكمة الروساء والوزراء وفقاً للمادة 80 من الدستور. ولم تنزع الثقة عن اي وزير رغم استجواب وزير الاتصالات الأسبق في حكومة الحريري جان لوي قرداحي، فما كان من مجلس النواب الا ان منحه ثقته بما يفوق عدد الأصوات التي نالتها الحكومة التي هو عضو فيها.
يعتبر نظام الحكم في لبنان برلماني ومجلس النواب يمارس دوره في اطار الديموقراطية التوافقية، و"بالتالي اثبت هذا المجلس قدرته على ممارسة السلطة التشريعية، وهذا المجلس لعب ادواراً مهمة على المستوى الوطني، وساهم في صناعة محطات مهمة في تاريخ لبنان".
كما ان مجلس النواب والزعامات التقليدية تسعى دائماً الى تأمين حصتها في السلطة فتجاري رئيس الجمهورية في حركته السياسية، باعتبار ان رئيس الجمهورية كانت لديه صلاحيات دستورية تخوله تعيين الوزراء واختيار رئيس من بينهم، وكذلك اقالتهم قبل العام 1990 المادة 53 من الدستور قبل التعديل، وبالتالي كان هؤلاء يحاولون ارضاء رئيس الجمهورية لتحقيق المكاسب الشخصية والذاتية، ولم يكن هناك قوة برلمانية قادرة على اسقاط اي حكومة داخل المجلس، باعتبار ان القرار النهائي عند رئيس الجمهورية".
اما "بعد الطائف اصبح مجلس النواب يضم تكتلات كبرى قادرة على فرض آرائها، وبالتالي لم تكن الكتل النيابية تتفاعل مع بعضها لإسقاط الحكومات".
اما في الشارع ف"لم تسقط الحكومات بسبب النقمة ضد الحكومة، لكن هناك شخصيات سياسية كانت تسعى لإسقاط هذه الحكومات في الشارع وهو ما حصل في العام 1992".
أول حكومة يرأسها عسكري كانت في العام 1952 عندما تولى قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الحكومة الانتقالية لثلاثة ايام فقط، ثم جاء دور العماد ميشال عون بعد 36 عاماً ليرأس الحكومة العسكرية، اعتباراً من ليل 23-24 ايلول 1988 حتى 13 تشرين الأول 1990..
وما بين الجنرالين تولى نور الدين الرفاعي رئاسة حكومة لم تكتب لها الحياة. واغتيل ثلاثة رؤساء للحكومة وهم: رياض الصلح ورشيد كرامي ورفيق الحريري.
واذا كانت الحكومات اللبنانية متعذر اسقاطها تحت قبة البرلمان لإعتبارات عدة، فإن الشارع يعوض النقص في النظام البرلماني، وتكفّل في اسقاط حكومات عدة منها حكومة تقي الدين الصلح في العام 1974، وحكومتا الرئيس عمر كرامي في العامين 1992 و2005.ويُسجّل ان حكومة الشباب استقالت، اضافة الى اعتكاف رئيس الحكومة السابق الشهيد رشيد كرامي لأكثر من 7 اشهر عقب تظاهرة 23
وتميزت حكومات ما بعد الطائف باستقرارها واستحداث منصب وزراء دولة اضافة الى كونها حكومات موسعة أي ثلاثينية.لكن حكومات ما بعد الطائف تميزت بالثنائية ايضاً في عهد الهراوي، اذ بعد العام 1992 ترأس الحريري كلّ الحكومات حتى العام 1998، وابعد سنتين عن الحكومة بعد انتهاء عهد الهراوي ليعود في العام 2000 وبقي رئيساً ثالثاً حتى خريف العام 2004، اي قبل اغتياله بثلاثة اشهر تقريباً.وخلال 18 عاماً تشكلت 11 حكومة مقابل 24 حكومة في عهدين رئاسيين قبل الطائف.
تعتبر حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تشكلت في تموز عام 2005 الأطول عمراً في تاريخ الجمهورية اللبنانية، وهي استمرت لنحو 1040 يوماً. وأيضاً تعتبر الأكثر اصداراً للمراسيم، وخلال احد جلساتها اصدرت 700 مرسوم، كذلك هي الحكومة الوحيدة التي حكمت لبنان زهاء عام ونصف العام من دون مشاركة طائفة كبرى فيها، وأيضاً هي التي وصفت باللاشرعية وغير الدستورية منذ 11 تشرين الثاني عام 2006. واخيراً هي الحكومة التي حوصرت في السرايا منذ الأول من كانون الأول عام 2006 حتى الحادي والعشرين من ايار .
وتعاقب على رئاسة الحكومات بعد الطائف 5 رؤساء هم على التوالي: سليم الحص، عمر كرامي، رفيق الحريري، نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة. وشكّل هؤلاء 11 حكومة توزعت كالآتي: الحص (حكومتان)، كرامي (حكومتان)، الحريري (5 حكومات)، ميقاتي حكومة واحدة والسنيورة حكومة واحدة. وكانت حكومة الحريري الثانية الأطول عمراً حيث عمرت 930 يوماً اما حكومة ميقاتي فكان امامها زهاء شهرين للإشراف على الإنتخابات النيابية في ايار وحزيران من العام 2005 . والمفارقة ان حكومتي الرئيس عمر كرامي سقطتا في الشارع في ايار عام 1992 وشباط 2005.
منذ العام 1992 حتى اليوم اظهرت الممارسة العملية على مستوى الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان العيوب في تطبيق النصوص الدستورية، لجهة دور المؤسسات الدستورية في تأمين حسن سير النظام البرلماني، وطرحت اسئلة عدة لعل ابرزها التشكيك في صلاحية اتفاق الطائف كحل جذري للمعضلة اللبنانية المحكومة بالديموقراطية التوافقية. وشهد مطلع التسعينات من القرن الماضي تركيبة عجيبة غريبة عرفت بـ"الترويكا"، فالأخيرة اختصرت عمل المؤسسات وعطلت مفاعيل البنود الإصلاحية للطائف لتقع البلاد في قبضة ما اصطلح على تسميته ممثلي الطوائف الثلاث الكبرى في الحكم. انهكت تجربة "الترويكا" الدستور اللبناني وتحكمت الزبائنية في عمل السلطات واتخمت الإدارات العامة بالأزلام والمحاسيب بعيداً عن الكفاءة والجدارة، مما اضعف البنية الإدارية لمؤسسات الدولة. وتمادت الطبقة السياسية في خرق الدستور على مدار اكثر من عقد من الزمن وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإن السلطة التنفيذية حاولت مصادرة صلاحيات السلطة التشريعية من خلال قانون الضريبة على القيمة المضافة في العام 2002، لكن الطامة الكبرى تكمن في اصدار مجلس النواب قوانين انتخابية غير عادلة مما يشكل انتهاكاً صارخاً للمادة 95 من الدستور. ولكن تجاوز الدستور لم يقتصر على السلطتين التنفيذية والتشريعية بل تعداهما الى السلطة القضائية. والمثل على ذلك القرار الصادر عن المجلس الدستوري في العام 2002 والذي قضى بإبطال نياـبة مرشح فائز في الإنتخابات النيابية الفرعية و"اهداء" المنصب النيابي الى مرشـح لم يستطع استرداد مبلغ الـ10 ملايين ليرة لبنانية التي دفعها كتأمين إلزامي لخوض المعركة الإنتخابية وبالتالي لم يحصل على نسبة الـ 10 بالمئة من أصوات المقترعين!!
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية
منذ الاستقلال تعاقب على رئاسة الحكومة 22 شخصية سياسية: اثنان منهم فقط من الطائفة المارونية والباقون معظمهم مما يعرف بنادي رؤساء الحكومة مع استثناء شكله الرئيس رفيق الحريري وتلاه الرئيسان نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة. هؤلاء شكّل كل واحد منهم حكومة او اكثر في العهود المتعاقبة منذ قيام الجمهورية عام 1926. ووصل عدد الحكومات الى 87 حكومة اقصرها عمراً كانت حكومة نور الدين الرفاعي التي لم تعمّر اكثر من 65 ساعة، أما اطولها على الاطلاق فهي آخر حكومة في عهد الرئيس السابق العماد اميل لحود والتي استمرت أكثر من 1000 يوم من 26 تموز 2005 حتى 25 ايار 20000 .
أولى حكومات الاستقلال كانت برئاسة رياض الصلح احد ركني الميثاق الوطني، وتولى الصلح رئاسة الحكومات المتعاقبة حتى اغتياله عام 1951 في العاصمة الأردنية عمان. وخلفه عبد الله اليافي في رئاسة الحكومة، وذلك في عهد الرئيس بشارة الخوري الذي شهد تشكيل 12 حكومة.
اما الرئيس كميل شمعون فارتأى تكليف سامي الصلح رئاسة معظم الحكومات المتعاقبة في عهده، كما كان لافتاً تعاونه مع رشيد كرامي الذي أدخله الى نادي رؤساء الحكومة للمرة الأولى عام 1955.
وثبت رشيد كرامي انتماءه الى نادي رؤساء الحكومة في العهد الشهابي، وشكل اطول حكومة في عمر الجمهورية قبل الحرب اللبنانية.
ورغم ان عهد الرئيس شارل حلو اعتبر امتداداً للعهد الشهابي الا ان حلو فضل التعاون مع شخصيات اخرى من الطائفة السنية، وفي مقدمها حسين العويني وعبد الله اليافي في تشكيل الحكومات. اما الرئيس سليمان فرنجية فاختار صائب سلام لترؤس اكثر من حكومة منها "حكومة الشباب"، إلا ان عهد فرنجية عرف اول حكومة عسكرية برئاسة العميد نور الدين الرفاعي التي لم تعمر اكثر من 65 ساعة وعقدت جلسة يتيمة قبل ان ترغم على الاستقالة.
وبعدما دخلت البلاد في اتون الحرب الأهلية فضّل الرئيس الياس سركيس تكليف الرئيس سليم الحص رئاسة الحكومات، ومكث الحص على رأس اطول حكومة قبل الطائف.الا ان توقيع اتفاق الطائف واضافة بعض المواد الدستورية كبّلا رئيس الجمهورية وجعلا اختياره للرئيس المكلف تشكيل الحكومة وفقاً للمادتين 53 و 64 من الدستور.وفي عهد الرئيس الياس الهراوي تعاقب على رئاسة الحكومة كل من سليم الحص وعمر كرامي، ورشيد الصلح، ورفيق الحريري. والأخير كان شخصية سياسية تقتحم الحياة السياسية من خارج نادي رؤساء الحكومة، واستمر الحريري في تشكيل الحكومات حتى العام 2004 في عهد الرئيس اميل لحود، رغم اقصائه عن الحكومة بين العامين 1998و2000.
الا ان الحريري ترأس واحدة من اطول الحكومات عمراً في تاريخ لبنان واستمر 930 يوماً في رئاسة الحكومة. الا ان الرئيس فؤاد السنيورة كسر الرقم القياسي المسجل باسم الرئيس الحريري وتولى رئاسة الحكومة في 19 تموز 2005 ولا يزال حتى اليوم، ما يعني ان حكومته حطمت الأرقام القياسية ليس بطول عمرها وحسب وانما باصدارها مئات المراسيم في جلسة واحدة، كما حصل بعدما كان الرئيس اميل لحود يرفض اصدار المراسيم، مما دفع بحكومة السنيورة الى اصدارها تباعاً في جلسات ماراتونية وسجلت رقماً قياسياً في اصدار اكثر من 700 مرسوم في جلسة واحدة.
وبحسب النص الدستوري، فان لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية ترتكز على الفصل بين السلطات وتعاونها، مما يعني ان اصول النظام البرلماني توجب على الحكومة التقدم ببيانها الوزاري لنيل الثقة من البرلمان، وفي المقابل يكون للحكومة حق حلّ البرلمان. لكن الأمور في لبنان مختلفة، فلا البرلمان يحجب الثقة عن الحكومة ولا الأخيرة تستطيع حلّ مجلس النواب، وخصوصاً ان ظروف حله متوافرة بعد ان امتنع عن الاجتماع طيلة عقد عادي، ولم يصدر الموازنة منذ 3 اعوام.
ومجلس النواب لم يسبق له ان سحب الثقة من اي حكومة في تاريخ الجمهورية اللبنانية، كما انه لم يحاكم احداً من الرؤساء او الوزراء امام المجلس الأعلى لمحاكمة الروساء والوزراء وفقاً للمادة 80 من الدستور. ولم تنزع الثقة عن اي وزير رغم استجواب وزير الاتصالات الأسبق في حكومة الحريري جان لوي قرداحي، فما كان من مجلس النواب الا ان منحه ثقته بما يفوق عدد الأصوات التي نالتها الحكومة التي هو عضو فيها.
يعتبر نظام الحكم في لبنان برلماني ومجلس النواب يمارس دوره في اطار الديموقراطية التوافقية، و"بالتالي اثبت هذا المجلس قدرته على ممارسة السلطة التشريعية، وهذا المجلس لعب ادواراً مهمة على المستوى الوطني، وساهم في صناعة محطات مهمة في تاريخ لبنان".
كما ان مجلس النواب والزعامات التقليدية تسعى دائماً الى تأمين حصتها في السلطة فتجاري رئيس الجمهورية في حركته السياسية، باعتبار ان رئيس الجمهورية كانت لديه صلاحيات دستورية تخوله تعيين الوزراء واختيار رئيس من بينهم، وكذلك اقالتهم قبل العام 1990 المادة 53 من الدستور قبل التعديل، وبالتالي كان هؤلاء يحاولون ارضاء رئيس الجمهورية لتحقيق المكاسب الشخصية والذاتية، ولم يكن هناك قوة برلمانية قادرة على اسقاط اي حكومة داخل المجلس، باعتبار ان القرار النهائي عند رئيس الجمهورية".
اما "بعد الطائف اصبح مجلس النواب يضم تكتلات كبرى قادرة على فرض آرائها، وبالتالي لم تكن الكتل النيابية تتفاعل مع بعضها لإسقاط الحكومات".
اما في الشارع ف"لم تسقط الحكومات بسبب النقمة ضد الحكومة، لكن هناك شخصيات سياسية كانت تسعى لإسقاط هذه الحكومات في الشارع وهو ما حصل في العام 1992".
أول حكومة يرأسها عسكري كانت في العام 1952 عندما تولى قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الحكومة الانتقالية لثلاثة ايام فقط، ثم جاء دور العماد ميشال عون بعد 36 عاماً ليرأس الحكومة العسكرية، اعتباراً من ليل 23-24 ايلول 1988 حتى 13 تشرين الأول 1990..
وما بين الجنرالين تولى نور الدين الرفاعي رئاسة حكومة لم تكتب لها الحياة. واغتيل ثلاثة رؤساء للحكومة وهم: رياض الصلح ورشيد كرامي ورفيق الحريري.
واذا كانت الحكومات اللبنانية متعذر اسقاطها تحت قبة البرلمان لإعتبارات عدة، فإن الشارع يعوض النقص في النظام البرلماني، وتكفّل في اسقاط حكومات عدة منها حكومة تقي الدين الصلح في العام 1974، وحكومتا الرئيس عمر كرامي في العامين 1992 و2005.ويُسجّل ان حكومة الشباب استقالت، اضافة الى اعتكاف رئيس الحكومة السابق الشهيد رشيد كرامي لأكثر من 7 اشهر عقب تظاهرة 23
وتميزت حكومات ما بعد الطائف باستقرارها واستحداث منصب وزراء دولة اضافة الى كونها حكومات موسعة أي ثلاثينية.لكن حكومات ما بعد الطائف تميزت بالثنائية ايضاً في عهد الهراوي، اذ بعد العام 1992 ترأس الحريري كلّ الحكومات حتى العام 1998، وابعد سنتين عن الحكومة بعد انتهاء عهد الهراوي ليعود في العام 2000 وبقي رئيساً ثالثاً حتى خريف العام 2004، اي قبل اغتياله بثلاثة اشهر تقريباً.وخلال 18 عاماً تشكلت 11 حكومة مقابل 24 حكومة في عهدين رئاسيين قبل الطائف.
تعتبر حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تشكلت في تموز عام 2005 الأطول عمراً في تاريخ الجمهورية اللبنانية، وهي استمرت لنحو 1040 يوماً. وأيضاً تعتبر الأكثر اصداراً للمراسيم، وخلال احد جلساتها اصدرت 700 مرسوم، كذلك هي الحكومة الوحيدة التي حكمت لبنان زهاء عام ونصف العام من دون مشاركة طائفة كبرى فيها، وأيضاً هي التي وصفت باللاشرعية وغير الدستورية منذ 11 تشرين الثاني عام 2006. واخيراً هي الحكومة التي حوصرت في السرايا منذ الأول من كانون الأول عام 2006 حتى الحادي والعشرين من ايار .
وتعاقب على رئاسة الحكومات بعد الطائف 5 رؤساء هم على التوالي: سليم الحص، عمر كرامي، رفيق الحريري، نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة. وشكّل هؤلاء 11 حكومة توزعت كالآتي: الحص (حكومتان)، كرامي (حكومتان)، الحريري (5 حكومات)، ميقاتي حكومة واحدة والسنيورة حكومة واحدة. وكانت حكومة الحريري الثانية الأطول عمراً حيث عمرت 930 يوماً اما حكومة ميقاتي فكان امامها زهاء شهرين للإشراف على الإنتخابات النيابية في ايار وحزيران من العام 2005 . والمفارقة ان حكومتي الرئيس عمر كرامي سقطتا في الشارع في ايار عام 1992 وشباط 2005.
منذ العام 1992 حتى اليوم اظهرت الممارسة العملية على مستوى الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان العيوب في تطبيق النصوص الدستورية، لجهة دور المؤسسات الدستورية في تأمين حسن سير النظام البرلماني، وطرحت اسئلة عدة لعل ابرزها التشكيك في صلاحية اتفاق الطائف كحل جذري للمعضلة اللبنانية المحكومة بالديموقراطية التوافقية. وشهد مطلع التسعينات من القرن الماضي تركيبة عجيبة غريبة عرفت بـ"الترويكا"، فالأخيرة اختصرت عمل المؤسسات وعطلت مفاعيل البنود الإصلاحية للطائف لتقع البلاد في قبضة ما اصطلح على تسميته ممثلي الطوائف الثلاث الكبرى في الحكم. انهكت تجربة "الترويكا" الدستور اللبناني وتحكمت الزبائنية في عمل السلطات واتخمت الإدارات العامة بالأزلام والمحاسيب بعيداً عن الكفاءة والجدارة، مما اضعف البنية الإدارية لمؤسسات الدولة. وتمادت الطبقة السياسية في خرق الدستور على مدار اكثر من عقد من الزمن وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإن السلطة التنفيذية حاولت مصادرة صلاحيات السلطة التشريعية من خلال قانون الضريبة على القيمة المضافة في العام 2002، لكن الطامة الكبرى تكمن في اصدار مجلس النواب قوانين انتخابية غير عادلة مما يشكل انتهاكاً صارخاً للمادة 95 من الدستور. ولكن تجاوز الدستور لم يقتصر على السلطتين التنفيذية والتشريعية بل تعداهما الى السلطة القضائية. والمثل على ذلك القرار الصادر عن المجلس الدستوري في العام 2002 والذي قضى بإبطال نياـبة مرشح فائز في الإنتخابات النيابية الفرعية و"اهداء" المنصب النيابي الى مرشـح لم يستطع استرداد مبلغ الـ10 ملايين ليرة لبنانية التي دفعها كتأمين إلزامي لخوض المعركة الإنتخابية وبالتالي لم يحصل على نسبة الـ 10 بالمئة من أصوات المقترعين!!
03/06/2008
تحديات المحكمة الخاصة بلبنان ولجنة تحقيقها
تحديات المحكمة الخاصة بلبنان ولجنة تحقيقها
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
ثمة شعور سائد لدى المتابعين أن المبادرة المتعلقة بالمحكمة الخاصة بلبنان ولجنة التحقيق الدولية باتت خارج نفوذ أصدقائهم التقليديين في بيروت. كما أن الصداقات في لبنان والمنطقة بدأت تتغير. وبالتالي يتوقّعون الكثير من التطورات لاحقا، باعتبار ان الأجهزة الأمنية تتمتع بحرية سياسية أكبر في «الأزمنة الرمادية». وبالتالي تخشى أن يلجأ كل فريق إلى مزيد من التكتم في تحركاته ضمن معادلة زواج الضرورة السياسي الحاصل وبغية طمس ما قد يكشف حقيقة أعماله عندما كان متمتعاً بقسط اكبر من حرية الحركة.إضافة إلى ذلك ثمة ملاحظات متصلة أبرزها:
- ثمة من يقول أن «صبر السلطات اللبنانية قد نفد فيما يختص بقضية بدء عمل المحكمة الدولية، كما بدأت تشعر بأنها سراب وبأن المجتمع الدولي يتخلى عنها، وبالتالي أن إطالة عمل لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال الحريري ستة أشهر سيؤدي إلى تأخير انطلاقة المحكمة إلى أجل غير مسمى.
- كما أن الاحتفاظ بالضباط الأربعة رهن الاعتقال لن يطول، وإذا خرجوا من السجن فستكون الموالاة في وضع حرج على الصعيدين الداخلي والدولي.كما ثمة خشية من تبديد جهد اللجنة والتمديد لها مرة أخرى في نهاية العام الحالي، ولن يكون من شأن ذلك، إذا حصل، تمكين المدعي العام الدولي من التوصل إلى اتفاق مع قاضي ما قبل المحكمة. وحتى لو جرى اتفاق، قد لا تقبل هيئة المحكمة بتوجيه اتهامات دون إرفاقها بقرائن وإثباتات تتناسب مع المعايير القانونية.
- ثمة خشية من المناخ الأمني الانتقالي الحالي في لبنان. ففي المناخ السابق كانت لجنة التحقيق تعمل في تنسيق مستقر نسبياً مع قوى أمنية منسجمة معها، لكنها في الصيغة الجديدة ستستغرق عملية بناء الثقة بينها وبين قادة الأمن وقتاً
طويلاً.
- ثمة خوف لدى أعضاء اللجنة الدولية، حتى قبل الأحداث الأخيرة. فمنذ تقديم القاضي بلمار تقريره الأول، وبعد اختفاء الشاهد محمد زهير الصدّيق، لم تعد الثقة كسابق عهدها بين بلمار من جهة وسلطات الأمن الداخلي اللبناني من جهة أخرى. حتى إنه تحرّك أحياناً في الشارع دون إبلاغ السلطات الأمنية عن وجهته، كما جرى في التحقيق في قضية اغتيال جورج حاوي.
- بقد ابتعد بلمار كثيراً عن مسار التحقيق الأول الذي رسمه المحقق الألماني الأسبق ديتليف ميليس الذي حظى برضا فريق 14 آذار. وبدا بلمار مكملاً لخط سلفه سيرج براميرتس الذي تعرّض معه لنقد الموالاة، وكذلك ميليس نفسه. وجه بلمار اتهامه الواضح نحو «شبكة إجرامية»، وبذلك كاد يخرج سوريا والضباط الأربعة ضمناً من دائرة الشبهة الأولى، أو هكذا بدت الأمور لهم في الوقت الراهن. ثم إنه ترك الباب موارباً أمام تشعبات القضية، ومنها التقاطع بين الجماعات المتطرفة السنيّة وميليشيات استنبتت في مرحلة ما من مراحل الأزمة اللبنانية التي تلت 14 شباط 2005. وإذا مضى بعيداً في البحث عن «الحقيقة»، فربما لن تسرّ الحقيقة التي سيكتشفها أولئك المستثمرون فيها.
- ثمة أمر ىخر وهو الانفتاح الفرنسي ـــ السوري، والمفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية عبر تركيا، التي لا تبدو أن واشنطن تفعل ما يكفي لتعطيلها. كلها أمور قد تضعف الرهان على تغيير النظام في سوريا، التي كانت العدو الأول لـ«ثورة الأرز». ولا يزال التمويل الخجول لمشروع المحكمة يُقلق، فصندوقها يضم أربعين مليون دولار من أصل 130 مليوناً مطلوبة للسنوات الثلاث الأولى. وفي عالم التقلّب الراهن، من السهل على الدول التملص من أي التزام إذا تضاربت مصالحها السياسية مع انطلاق عمل المحكمة.
بلمار تحرك في الأشهر الماضية في تحقيقاته بسرية باغتت حتى القوى الأمنية الخاصة في بيروت، في ظروف أمنية وصفها هو نفسه لأعضاء مجلس الأمن الدولي بالخطرة، علماً بأن تقريره سبق الأحداث الدرامية التي دارت في بيروت الأسابيع الأخيرة.
ربما لم تتأثر لجنة التحقيق مباشرة بالأحداث الأخيرة، لكن ما جرى يستدعي مضاعفة عدد أفرادها وعدد حراس الشهود، ولا سيما إذا ما ظلت الأمور على توترها، كالجمر تحت الرماد. وحتى لو هدأت الأوضاع بفعل جهود عربية ودولية، فإن السنة الانتخابية في لبنان وخارجه قد تترافق مع مخاض مؤلم، وهذا يقتضي توافر مساهمات مالية كبيرة، وكوادر بشرية غير اعتيادية.إذ أنه من الصعب في الظروف الانتقالية الراهنة الإتيان بعناصر أمنية أجنبية من الخارج قد توصف من جانب هذا الفريق أو ذاك بأنها تنتمي إلى جهة معينة.
ثمة مصاعب كثيرة تنتظر عمل لجنة التحقيق والمحكمة إذ أنها ستكون مرتبطة بالعديد من القضايا التي يمكن استثمارها بطريق أو بآخر ،وبالتالي إن ما يشاع عن قرب انطلاقة فاعلة لا يعدو كونه آمال وتمنيات لا تمت للواقع بصلة.
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
ثمة شعور سائد لدى المتابعين أن المبادرة المتعلقة بالمحكمة الخاصة بلبنان ولجنة التحقيق الدولية باتت خارج نفوذ أصدقائهم التقليديين في بيروت. كما أن الصداقات في لبنان والمنطقة بدأت تتغير. وبالتالي يتوقّعون الكثير من التطورات لاحقا، باعتبار ان الأجهزة الأمنية تتمتع بحرية سياسية أكبر في «الأزمنة الرمادية». وبالتالي تخشى أن يلجأ كل فريق إلى مزيد من التكتم في تحركاته ضمن معادلة زواج الضرورة السياسي الحاصل وبغية طمس ما قد يكشف حقيقة أعماله عندما كان متمتعاً بقسط اكبر من حرية الحركة.إضافة إلى ذلك ثمة ملاحظات متصلة أبرزها:
- ثمة من يقول أن «صبر السلطات اللبنانية قد نفد فيما يختص بقضية بدء عمل المحكمة الدولية، كما بدأت تشعر بأنها سراب وبأن المجتمع الدولي يتخلى عنها، وبالتالي أن إطالة عمل لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال الحريري ستة أشهر سيؤدي إلى تأخير انطلاقة المحكمة إلى أجل غير مسمى.
- كما أن الاحتفاظ بالضباط الأربعة رهن الاعتقال لن يطول، وإذا خرجوا من السجن فستكون الموالاة في وضع حرج على الصعيدين الداخلي والدولي.كما ثمة خشية من تبديد جهد اللجنة والتمديد لها مرة أخرى في نهاية العام الحالي، ولن يكون من شأن ذلك، إذا حصل، تمكين المدعي العام الدولي من التوصل إلى اتفاق مع قاضي ما قبل المحكمة. وحتى لو جرى اتفاق، قد لا تقبل هيئة المحكمة بتوجيه اتهامات دون إرفاقها بقرائن وإثباتات تتناسب مع المعايير القانونية.
- ثمة خشية من المناخ الأمني الانتقالي الحالي في لبنان. ففي المناخ السابق كانت لجنة التحقيق تعمل في تنسيق مستقر نسبياً مع قوى أمنية منسجمة معها، لكنها في الصيغة الجديدة ستستغرق عملية بناء الثقة بينها وبين قادة الأمن وقتاً
طويلاً.
- ثمة خوف لدى أعضاء اللجنة الدولية، حتى قبل الأحداث الأخيرة. فمنذ تقديم القاضي بلمار تقريره الأول، وبعد اختفاء الشاهد محمد زهير الصدّيق، لم تعد الثقة كسابق عهدها بين بلمار من جهة وسلطات الأمن الداخلي اللبناني من جهة أخرى. حتى إنه تحرّك أحياناً في الشارع دون إبلاغ السلطات الأمنية عن وجهته، كما جرى في التحقيق في قضية اغتيال جورج حاوي.
- بقد ابتعد بلمار كثيراً عن مسار التحقيق الأول الذي رسمه المحقق الألماني الأسبق ديتليف ميليس الذي حظى برضا فريق 14 آذار. وبدا بلمار مكملاً لخط سلفه سيرج براميرتس الذي تعرّض معه لنقد الموالاة، وكذلك ميليس نفسه. وجه بلمار اتهامه الواضح نحو «شبكة إجرامية»، وبذلك كاد يخرج سوريا والضباط الأربعة ضمناً من دائرة الشبهة الأولى، أو هكذا بدت الأمور لهم في الوقت الراهن. ثم إنه ترك الباب موارباً أمام تشعبات القضية، ومنها التقاطع بين الجماعات المتطرفة السنيّة وميليشيات استنبتت في مرحلة ما من مراحل الأزمة اللبنانية التي تلت 14 شباط 2005. وإذا مضى بعيداً في البحث عن «الحقيقة»، فربما لن تسرّ الحقيقة التي سيكتشفها أولئك المستثمرون فيها.
- ثمة أمر ىخر وهو الانفتاح الفرنسي ـــ السوري، والمفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية عبر تركيا، التي لا تبدو أن واشنطن تفعل ما يكفي لتعطيلها. كلها أمور قد تضعف الرهان على تغيير النظام في سوريا، التي كانت العدو الأول لـ«ثورة الأرز». ولا يزال التمويل الخجول لمشروع المحكمة يُقلق، فصندوقها يضم أربعين مليون دولار من أصل 130 مليوناً مطلوبة للسنوات الثلاث الأولى. وفي عالم التقلّب الراهن، من السهل على الدول التملص من أي التزام إذا تضاربت مصالحها السياسية مع انطلاق عمل المحكمة.
بلمار تحرك في الأشهر الماضية في تحقيقاته بسرية باغتت حتى القوى الأمنية الخاصة في بيروت، في ظروف أمنية وصفها هو نفسه لأعضاء مجلس الأمن الدولي بالخطرة، علماً بأن تقريره سبق الأحداث الدرامية التي دارت في بيروت الأسابيع الأخيرة.
ربما لم تتأثر لجنة التحقيق مباشرة بالأحداث الأخيرة، لكن ما جرى يستدعي مضاعفة عدد أفرادها وعدد حراس الشهود، ولا سيما إذا ما ظلت الأمور على توترها، كالجمر تحت الرماد. وحتى لو هدأت الأوضاع بفعل جهود عربية ودولية، فإن السنة الانتخابية في لبنان وخارجه قد تترافق مع مخاض مؤلم، وهذا يقتضي توافر مساهمات مالية كبيرة، وكوادر بشرية غير اعتيادية.إذ أنه من الصعب في الظروف الانتقالية الراهنة الإتيان بعناصر أمنية أجنبية من الخارج قد توصف من جانب هذا الفريق أو ذاك بأنها تنتمي إلى جهة معينة.
ثمة مصاعب كثيرة تنتظر عمل لجنة التحقيق والمحكمة إذ أنها ستكون مرتبطة بالعديد من القضايا التي يمكن استثمارها بطريق أو بآخر ،وبالتالي إن ما يشاع عن قرب انطلاقة فاعلة لا يعدو كونه آمال وتمنيات لا تمت للواقع بصلة.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)