بروفيسور خليل حسين
الموقفان الروسي والصيني في الحرب الإيرانية
واذا كانت أسباب الصدام قائمة على تماس دائم التوتر والتصعيد وقبول الاشتعال بين ايران وإسرائيل ، الا انها لم تكن يوما صداما مباشرا ، اذ ترك الامر لحلفاء ايران وأذرعها القيام بما هو مطلوب، على قاعدة رئيسة وهي قواعد اشتباك مزنرة بقواعد ردع متبادل، اقله إشاعة أجواء ان اشعال فتيل الحرب المباشرة، سيؤدي الى حرب إقليمية واسعة ، وربما عالمية او اقله ذات طابع عالمي؛ وما يجري اليوم من وقائع ومظاهر تشي ببقاء الصدام محصورا بين الطرفين دون دخول اطراف أخرى فيها رغم ما يظهر تصريحات ومواقف.
بداية الحرب ظهرت مؤشرات تطورت الى حدود اليقين، ان الولايات المتحدة ستدخل الحرب الى جانب إسرائيل وقد دخلتها فعلا وانفردت في ادارتها، فيما آمال كثيرة علقت على الجانبين الروسي والصيني في الوقوف الى جانب ايران، لكن ما جرى مفاجئ الى حد بعيد بالنسبة لإيران، فحتى الآن بدت طهران وحيدة في مواجهة حلفاء كثر دون ظهور مواقف فعلية داعمة، باستثناء مواقف الإدانة والدعوة لوقف التصعيد والدخول في مفاوضات لايجاد مخارج حلول حتى وان بدت غير مقبولة لطهران.
أبدت موسكو استعدادها للدخول في وساطة بين الطرفين، لكن سرعان ما قابلها الرئيس الأميركي برفض دبلوماسي على غير عادته عبر الطلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انهاء الحرب على أوكرانيا أولا، ما يعني ان واشنطن لا ترى في موسكو شريكا في حلول ممكنة، وهي تعامل موسكو كدولة من طراز دول العالم الثالث غير القادرة على انتاج حلول، بل تعامل كدولة تحتاج هي من يساعدها على حل مشاكلها وأزماتها. وفي التدقيق اكثر، يبرز ان مستوى العلاقات الروسية الإيرانية مثلا لم تصل الى مستوى التحالف، وهو لم يتعدى مستوى الشراكات التي لا تنتج حلولا لحرب في هذه المستويات، وهو ما تدركه واشنطن بدقة.
والمفارقة الأخرى، تبدو في الموقف الصيني تحديدا، وهو مفاجئ من الطراز الأول، بالنظر لحجم الشراكات في مختلف المجالات الاستراتيجية ولزمن ممتد لربع قرن ،وذلك لم يؤثر في موقف بكين في الحرب القائمة حاليا، مكتفية بالنظر من بعيد وكأن الامر لا اثر له، في حين ان الاتفاقات القائمة بين البلدين، ذات طابغ استراتيجي ينبغي ان يلامس اقله حلفا دفاعيا مشتركا، الامر الذي لا يعتبر موجودا حتى الان.
والغرابة في موقفي موسكو وبكين يبدو مستغربا، فروسيا مثلا اتكلت على دعم ايران عبر المسيرات في حربها مع أوكرانيا، فيما عقود النفط التي تؤمنها طهران لبكين ، تعتبر ركيزة للاقتصاد الصيني، وبذلك ان الموقفين الروسي والصيني ليسا في المستوى الذي تتطلبه الوقائع القائمة.
وفي أي حال من الأحوال لا تبدو خريطة المواقف الدولية والإقليمية من طرفي الحرب متوازنة، بل ثمة دعم قوي وواضح الى جانب إسرائيل، وهو امر سيؤدي الى نتائج واضحة نهاية الحرب، وهو امر متوقع في الأساس عند ربط الحرب بنتائج ما وصلت اليه الأمور في الساحات الأخرى في حروب غزة ولبنان وسوريا والعراق، باختصار ما يجري حاليا هو نتيجة واضحة للزلزال الذي جرى مؤخرا والذي لا زالت تداعياته تتوالى.
والمفارقة الثالثة أيضا تظهر في عدم الاتعاظ والتعلم من الحروب السابقة ، فما جرى ضد ايران منذ بداية الحرب هو مطابق تماما لما قامت به في حربها على لبنان، لجهة استعمال التكنولوجيا بشكل رئيسي في مسار الحرب علاوة على الاختراقات الاستخبارية العميقة في البيئة الإيرانية، وهو امر أدى الى حسم وجهة الحرب منذ بدايتها ، وهو ما احسنت إسرائيل استثماره من نظرية التفوق عبر الضربة الاستباقية الاولى، رغم استيعاب ايران لهذه الضربة وقدرتها على إعادة تكوين واطلاق قواها ولو في حدود مقبولة.
والمفارقة الرابعة كما هو متوقع ، ما له علاقة بتكريس نتائج الحرب والقدرة على فرض معادلات إقليمية وربما دولية جديدة، وهو امر مرتبط أيضا بقدرة إسرائيل وواشنطن على تثبيت ما تم السعي اليه منذ ربع قرن بالتمام والكمال، سيادة إسرائيل في نظام شرق اوسطي جديد او كبير؛ كما نظر اليه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز ، وما تبعه من وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق مادلين اولبرايت، ومن بعدها أيضا كونداليزا رايس في الحرب على لبنان العام 2006.
بالمحصلة، ان الحرب الإيرانية الإسرائيلية ستترك تداعيات وآثار كثيرة اقله في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تنطلق منها عادة تركيب النظم الدولية عبر العصور، ذلك في وقت لا قوى دولية فاعلة وقادرة او اقله لها رغبة في المشاركة بما يجري التأسيس له اقله لقرن قادم.
النزوح
والسلوك الاجتماعي اللبناني
د.خليل حسين
رئيس قسم
العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
بيروت:
16/10/2023
في علم الاجتماع السياسي المحقق في بناء
المجتمعات وإعادة التكوين في النظم السياسية، ثمة ثوابت باتت جزءا من سياقات من
الصعب اهمالها او تجاوز آثارها في السلوك المجتمعي. ومن الملفت في هذا الاطار ان
ظاهرة النزوح واللجوء باتت امرا يؤرق صانعي سياسات الدول ، كما أصحاب العلاقاة
والاختصاص على المستويات الإقليمية والدولية، وهي قضية باتت أولوية متقدمة لمواجهة تداعياتها المقلقة.
والامر الأكثر خطورة والاشد اثرا، يكمن
في الدول والمجتمعات المتعددة التي تعاني في الأساس خللا في التركيبة السكانية او
التوزيع الديموغرافي داخلها، وهو امر يشكل
خطرا داهما ومحققا في إعادة التركيب السكاني ، كما السلوك النفسي المجتمعي المتصل
بالعادات والسلوكيات والأعراف التي تبدو غريبة في أحيان كثيرة.
واذا كان الامر يبدو بهذا الشكل من
التعقيدات اللامتناهية، فان الامر يبدو اشد خطرا في بعض الدول والمجتمعات ومنها
لبنان على سبيل المثال لا الحصر،حيث تتعدد وتتنوع المسببات عبر الكم الهائل من
التقاليد والعادات والأعراف الوافدة على مجتمع يعاني في الاساس اشد أنواع الحساسية
من أي مظهر اجتماعي او سلوك يتخذ طابعا محددا مغايرا عن الشائع او اقله المتعارف
عليه.
ثمة مظاهر دخلت الحياة الاجتماعية اللبنانية،
عبر عقود خلت بعضها بات جزءا من سلوكيات اعتاد المحتمع اللبناني عليها ولو عنوة، وبعضها الآخر ثمة صراع دفين لا يعرف
معظم متلقيه كيفية مواجهته او اقله الحد من تداعياته وتغلغله في السلوك المجتمعي
غير القادر او القابل على هضمه بسهولة، او
التعايش معه ولو مؤقتا وفي ظروف يعتبرها ستتغير يوما ما ، ليعاود العيش وفقا لرؤاه
وما اعتاد عليه.
ثمة مؤثرات إضافية دخلت في طور التغيير
الحاصل، وهو الوضع الاقتصادي الصعب جدا والذي بلغ مستويات غير مسبوقة، مما أخذ
السلوك الاجتماعي في التعاطي مع المؤثرات الى أماكن يمكن وصفها بالعنصرية
والكراهية وصولا الى مستويات الصدامات
المباشرة، مع استعمال طرق ووسائل غريبة على المجتمع اللبناني لم تظهر في سلوكه
ابان اشد النزاعات الداخلية والأكثر دموية، ذلك يدل على مستوى تأثير الوافدين
الجدد في الحياة الاجتماعية بعد الاقتصادية والعملية وغيرها. فمثلا ثمة شيوع ملفت
لحالات القتل والسلب الذي يمارس بصور وحشية كالذبح والتعذيب عبر عصابات محترفة
ومنظمة منتشرة في غير مكان، وتمارس نشاطاتها بشكل مرعب وسط عدم قدرة فعلية على
التصدي لها ومواجهتها.
وفي لبنان الذي شهد موجات نزوح ولجوء
متعددة ومتكررة وبخلفيات وأبعاد متنوعة، باتت هذه الظاهرة تشكل مفردة سياسة ذات
مخاوف امنية وعسكرية ، ومخاطر وجودية على الكيان اللبناني نفسه، حيث بات النازحون
واللاجؤون يشكلون اكثر من نصف المواطنين ويشكلون مؤثرا اجتماعيا وسلوكيا خطرا على
بنية السلوك المجتمعي المخترق بعادات بعيدة
عنه.
حاليا ثمة موجات نزوح غير مسبوقة تصل الى
الآلاف يوميا وسط عجز تام على مواجهتها او التخفيف منها، ووصلت الى حد الاستسلام
وترك الأمور على عواهنها، سيما وان ثمة سلوك سياسي دولي يشجع هذا النزوح وعمل في
السر والعلن على ابقائهم وتوطينهم حيث هم. واللافت في هذا الموضوع انه ليس جديدا ،
وانما تم العمل عليه وطرحه في العديد من
محطات الازمة اللبنانية ، وكان
أيضا سببا رئيسا في اشعال الازمات وتفجير التصارع المجتمعي.
في لبنان باتت الظروف الاجتماعية مهيأة
فعليا وعمليا لشتى مظاهر التغير السلوكي، ذلك بفعل هشاشة الواقع الاجتماعي وضمور
عوامل التصدي والمواجهة، علاوة على تحلل مؤسسات الدولة، وتلاشي الضوابط
المجتمعية، في ظل مراكمة هائلة لمؤثرات النازحين واللاجئين الذين باتوا يمتلكون
القدرات لمواصلة تثبيت دعائم الوجود والتمدد الجغرافي والديموغرافي.