13/08/2025
حياد لبنان بين الضرورة والاستحالة
د.خليل حسين
رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
حياد لبنان مطلب عميق الجذور في الحياة السياسية اللبنانية، انطلق بين مرحلة وأخرى وفي مناسبات مختلفة، ذلك منذ انشاء الكيان اللبناني في العام 1920 مرورا في العديد من المحطات التي افترق فيها اللبنانيون حول طبيعة النظام ومواقفه العربية والدولية؛ لكن اليوم تحديدا يبدو ان مطلب الحياد بات يقترب من اجماع اللبنانيين عليه بالنظر للمتغيرات الحاصلة في المنطقة وظهور مواقف تطالب بضم أجزاء من شمال لبنان وبقاعه الى سوريا ، بمعنى محاولة إعادة الاقضية الأربعة الى سوريا حين تشكيل الدول على قاعدة مؤتمري فرساي 1919 وسان ريمون 1920، وهي صورة تقترب من خطر وجودي على الكيان اللبناني كما رسم العام 1920.
ومما رفع من منسوب ذلك الخوف، تصريح المبعوث الأميركي توم براك حول إعادة تركيب لبنان الجغرافي وضم بعض اجزائه الى سوريا. وهو امر يبدو ان ثمة تشكل اجماع لبناني على رفضه في الظروف الحالية التي تمر بها سوريا والخوف من امتداد ما يحصل فيها الى لبنان، حيث الظروف الديموغرافية المتصلة بديموغرافية بعض الطوائف اللبنانية تلعب ادورا مؤثرة في هذا المجال.
في أي حال من الأحوال، يبدو ان ارتفاع منسوب الخطر الوجودي على الكيان اللبناني بلغ مستويات عالية ما جعل اللبنانيون يتهيبون من ذلك، ويحاولون ولو بطرق مختلفة رفض هذه المقترحات، حتى من الأطراف التي كانت تدعو سابقا للتحالف مع سوريا وحتى قبولها بفكرة الانضمام الى سوريا في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث لاقت فكرة الحياد آنذاك انتشارا واسعا على قاعدة رفض الانضمام ومحاولة التوصل الى مبدأ نظام الحياد في القانون الدولي الذي له شروط قانونية خاصة ينبغي وجودها لنبنيه ونجاحه ، او ايجادها والاعتراف به دوليا.
لقد مر لبنان بظروف قاسية جدا في مراحل مختلفة من تاريخه المعاصر، الا ان الظروف الحالية تشكل خطرا وجوديا حقيقيا ، فلبنان حاليا يعاني من مشاكل بنيوية لا تعد ولا تحصى، فهو وان بدأ مسيرة إعادة تركيب السلطة بعد سلسلة الفراغات في المؤسسات الدستورية وغيرها، فهو اليوم لا زال غارقا في مشاكل عضوية في بنيته، تبدأ في الاقتصاد والإدارة والامن، ولا تنتهي بضغوط النازحين ومخاطر التركيبة السكانية الذين اقتربوا من نصف تعداد السكان، وهو امر يعتبر قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة ولأي سبب ، وبالتالي الانطلاق نحو تفجير الداخل.
في الواقع يشكل حياد لبنان وبرعاية دولية وتحديدا أميركية وفرنسية ، مشروع يمكن حماية لبنان من خلاله، الا ان المشكلة في الأساس هو تأمين وتوفير شروط عامة من بينها مثلا ، مواققة معظم اللبنانيين عليه، وهو امر بات شبه مؤمن ولو غير معلن بين الأطراف اللبنانية، وهو يمكن ان يكون مشروعا قابلا للحياة في ظل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان والمنطقة.
إضافة الى ذلك، ان موافقة الدول الإقليمية ذات التأثير في الواقع اللبناني، ليس متوفرا كما يبدو او كما يجب، فاسرائيل وايران وتركيا وسوريا مثلا ، لا توافق حاليا على حياد لينان لما سيقيد مواقفها ويحد من تحركاتها ومصالحها. كما ان الامر ينسحب على الولايات المتحدة التي سترفض ذلك، فيما فرنسا وان ستوافق بالتأكيد ليس لها القدرة على فرض المشروع، وفي ظل غياب الدول العالمية العظمى والكبرى مثل الصين وروسيا، سيكون الامر للولايات المتحدة في هذا الموضوع.
تمر اليوم معظم دول الشرق الأوسط بمخاض عسير وسط محاولة إعادة تركيب الجغرافيا السياسية لدوله، وفي هذه الحال معظم الدول المعنية بذلك، باتت مهيأة لاعادة التركيب مجددا، مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان وغيرها، وغريب المفارقات في هذا الموضوع، لم يشر الى لبنان في أي خرائط سبق ان نشرت حول التقسيمات الجغرافية وإعادة التركيب والتكوين، حيث النظم التي تم الإشارة اليها هي على قاعدة الفدرالية كما انطلقت في العراق واليمن مثلا إضافة الى المشاريع السورية سابقا.
اذن ، ثمة العديد من المؤشرات الصعبة التي يعيش فيها لبنان حاليا، وهو امر يستدعي البحث بسرعة وجدية عن وسائل تمكنه البقاء ككيان في المنطقة ومحاولة التوصل بين بنيه الى إيجاد الوظيفة الاقليمية التي تسعفه في البقاء كدولة وكيان وسط تحديات لها اول وليس لها آخر. طبعا ثمة مصاعب كبيرة لا تسعف اللبنانيين في اختيار البدائل الممكنة، فالحياد الذي لم يوافق عليه اللبنانيون سابقا، ربما بات امرا مقبولا وقابلا للحياة وسط تهديد وجودي للكيان، وهنا لا تكمن المشكلة في موافقة اللبنانيين على الحياد، انما الظروف الإقليمية لدول المنطقة لن توافق على هذا المشروع باعتبار انه سيكف يدها عنه، كما ان الامر ينسحب أيضا على بعض الدول الكبرى التي اما ان ترفض كالولايات المتحدة او ليس بمقدورها الفرض كفرنسا، او دول غير مهتمة حاليا كروسيا والصين وغيرها.
خلاصة القول، ان لبنان بدأ يغادر المنطقة بخطى متسارعة، وضرورات البحث عن حل ينبغي ان يجده أبناءه، واذا كان الحياد غير مقبول سابقا للعديد من الاعتبارات ، ربما اليوم يشكل مدخلا لاعادة ترميم النظام بموافقة ورعاية إقليمية ودولية، رغم المصاعب الهائلة التي سيكون من شبه المستحيل إيجاد مخارج لها.