ماذا بعد العلاقات الدبلوماسية اللبنانية السورية
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
من مسلمات العلاقات الدبلوماسية بين الدول أنها تنشأ بين دول لها تاريخ طويل من العلاقات الودية التي تكون محل طموح متبادل لتطويرها وفقا لمصالح متقاطعة.فيما العلاقات السورية اللبنانية شهدت حالات مد وجزر بحسب تقلبات السياسات الإقليمية والدولية المحيطة بهما،وإذا كانت العلاقات تصنف بين العلاقات المميزة في بعض المراحل والقطيعة قي بعضها الآخر،فان ما تنتظره المرحلة المقبلة مرتبط إلى حد بعيد بقضايا ومسائل ذات صلة بما فات وانقضى،أي بمعنى آخر إن قرار إنشاء سفارات وتبادل دبلوماسي بين الدولتين ليست هي القضية ،بل أهم من ذلك معرفة البلدين ما يريدان من هذه الخطوة التي ظلت منذ استقلال البلدين موضع شبهة سياسية اختلط فيها محاكمة النوايا بالوقائع التي عززت شكوك الطرفين.ومهما يكن من أمر هذه العلاقة الملتبسة،ثمة ملاحظات كثيرة ذات دلالات فارقة ستؤثر على طبيعة العلاقة المستقبلية ونوعها وأبرزها:
- ثمة قسم كبير من اللبنانيين رفض فكرة الدولة وحتى الكيان اللبناني قبل استقلاله في العام 1943، وتمسك بفكرة الوحدة مع سوريا من منطلقات قومية أو غيرها، قابله قسم آخر من اللبنانيين لا يستهان بحجمه أيضا طالب بأقصى صور الاستقلال وإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين على قاعدة مساواة لبنان بغيره من الدول العربية التي أقامت دمشق علاقات دبلوماسية معها.وثمة وقائع مثبتة تاريخيا مفادها أن موقف الكتلة الوطنية في سوريا في العام 1936 قد لعب دورا مؤثرا في ثني المسلمين اللبنانيين عن المطالبة بالوحدة والقبول بفكرة الكيان اللبناني والاندماج في الدولة اللبنانية،ما يعزز إشكاليات العلاقات حتى قبيل ظهور كيان الدولتين كوحدتين سياسيتين مستقلتين.
- إن عامل الجغرافيا السياسية للحدود بين البلدين لعب هو الآخر دورا بارزا في عدم إيضاح حدود العلاقة بين دولتين مستقلتين.فلطالما اعتبر المسؤولون السوريون ووافقهم بعض اللبنانيين أن ثمة شعب واحد في دولتين،وإذا كانت عوامل المصاهرة والتداخل الديموغرافي للسكان والهجرات العمالية الواسعة وعدم وضوح نمو التجمعات السكانية على جانبي الحدود،وحتى وجود قنوات بديلة كثيرة للانتقال المتبادل،فان جميعها لا تعني بالضرورة وجوب التغاضي عن بعض خصوصيات الواقع اللبناني الذي يفترض التعامل معها بحرص ودراية شديدتين،الأمر الذي يعني تمييز العلاقة على قاعدة إقامة أفضل العلاقات بين دولتين متجاورتين، والتعامل مع هذه الخصوصية أيضا على أنها أولوية في سياسات الدولتين.
- إن مركزية الصراع العربي الإسرائيلي سابقا في السياسات الخارجية السورية، ومن ثم تحولها إلى استراتيجيات مغايرة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، جعل من العلاقات اللبنانية السورية،علاقات غير متوازنة في ظل عدم تكافؤ ميزان القوى الفعلي بين دولة تسعى إلى السلام المشروط وفقا لمبادئ وأسس معينة، وبين دولة ليست قادرة على الابتعاد عن هذه الاستراتيجية.
إن متغيرات الساحتين الإقليمية والدولية ودخول عوامل إضافية أخرى ، قد أثرت بشكل مباشر على طبيعة العلاقة،الأمر الذي حتّم على كلا البلدين إعادة النظر بكثير من الأمور التي كانت لفترة ليست ببعيدة تعتبر من قضايا "التابو".ما مهّد إلى تكوين بيئات داعمة لاتخاذ قرارات متبادلة بإقامة علاقات دبلوماسية ربما ستصنف لاحقا بالأغرب بين دولتين يجمع بينهما بقدر ما يُباعد بينهما من سياسات وقضايا.
إن تاريخ العلاقات بين الدول المتجاورة وبخاصة التي لها تداخلات كثيرة يبيّن أهمية إقامة العلاقات الدبلوماسية باعتبارها أداة من أدوات تنظيم القضايا المشتركة من سياسية واقتصادية وغيرها،وبصرف النظر عن طبيعة هذه القضايا، ثمة شروط كثيرة ينبغي مراعاتها والأخذ بها، للوصول إلى علاقات صحية وصحيحة في آن معا. ومن بينها:
- ثمة بيئات قانونية كثيرة تكرّست مندرجاتها العملية منذ العام 1991 أي منذ التوقيع على معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين البلدين،والتي تفرّع منها اتفاقات متنوعة لامست قضايا استراتيجية لبنانية وسورية،اعتبرها البعض مجحفة للجانب اللبناني ،الأمر الذي يستدعي إعادة النظر ببعضها،مع الأخذ بعين الاعتبار عدم المسّ بالمسائل التي تعتبر استفزازية للطرفين.
- حصر التعامل بين الدولتين في القنوات الرسمية منعا لتفسير أي علاقة مستقبلية مع بعض الأطراف على أنها علاقة موازية ومخالفة لأبسط الأعراف والقوانين الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول.
- ثمة قضايا مركزية من الصعب على دمشق تجاوزها أو غض النظر عنها،من بينها قضايا السلام في المنطقة،فدمشق اليوم تنتظر الإدارة الأمريكية الجديدة لتحديد سرعة انطلاقتها نحو المفاوضات مع إسرائيل ما يستدعي تنسيقا دقيقا بين بيروت ودمشق في مراحل لاحقة، وبالتالي إن تفعيل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين يمكن أن يسهم في إيجاد بيئة مريحة للبناء عليها في اتجاهات العلاقات الثنائية القادمة.
- ومهما يكن من أمر توصيف أو تكييف العلاقات السابقة بين البلدين،فان ما ينتظرهما لاحقا هي مدي قدرة القيادتين اللبنانية والسورية على استيعاب دروس الماضي والاستفادة منها،وبخاصة أن المنطقة ستشهد ابتداء من الربيع القادم تغيرات دراماتيكية سريعة من الصعب التكهن بنتائجها مسبقا والبناء على افتراضات غير واضحة المعالم أو القرائن.
في عالمنا اليوم تقوم العلاقات الدبلوماسية بين الدول على أسس وقواعد محددة مسبقا،وهي لم تعد كسابقاتها في الصور الماضية،إلا أن الثابت بين الماضي والحاضر في علاقات الدول هو مقدرة القيادات والمواقع الفاعلة في الدول على معرفة حاجات دولها وشعوبها والبناء عليها،وفي هذا السياق يبدو أن كلا البلدين لبنان وسوريا هما بحاجة لإقامة أوضح العلاقات وليست بالضرورة فقط الدبلوماسية، فثمة مجالات كثيرة يمكن ولوجها والبناء عليها كالعلاقات الاقتصادية التي تعتبر مدخلا في عصرنا الراهن لتقريب المسافات وتجاوز الخلافات،فكم من التجمعات الإقليمية التي بنيت على أسس تجارية واقتصادية بعد حروب ونزاعات موصوفة كالحالة الأوروبية على سبيل المثال لا الحصر.
إن العبرة لا تكمن بإقامة العلاقات الدبلوماسية رغم أهميتها وحساسيتها بين البلدين، وإنما العبرة تكمن في تطويرها والبحث عن آليات جديدة تلبي طوحات الجانبين وهي كثيرة وبخاصة الجانب اللبناني، فهل ستسير رياح العلاقات بما تشتهي سفن الدبلوماسية؟ سؤال يصعب الإجابة عليه لارتباطه بمسائل خارجة عن ارادتهما.
.
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
من مسلمات العلاقات الدبلوماسية بين الدول أنها تنشأ بين دول لها تاريخ طويل من العلاقات الودية التي تكون محل طموح متبادل لتطويرها وفقا لمصالح متقاطعة.فيما العلاقات السورية اللبنانية شهدت حالات مد وجزر بحسب تقلبات السياسات الإقليمية والدولية المحيطة بهما،وإذا كانت العلاقات تصنف بين العلاقات المميزة في بعض المراحل والقطيعة قي بعضها الآخر،فان ما تنتظره المرحلة المقبلة مرتبط إلى حد بعيد بقضايا ومسائل ذات صلة بما فات وانقضى،أي بمعنى آخر إن قرار إنشاء سفارات وتبادل دبلوماسي بين الدولتين ليست هي القضية ،بل أهم من ذلك معرفة البلدين ما يريدان من هذه الخطوة التي ظلت منذ استقلال البلدين موضع شبهة سياسية اختلط فيها محاكمة النوايا بالوقائع التي عززت شكوك الطرفين.ومهما يكن من أمر هذه العلاقة الملتبسة،ثمة ملاحظات كثيرة ذات دلالات فارقة ستؤثر على طبيعة العلاقة المستقبلية ونوعها وأبرزها:
- ثمة قسم كبير من اللبنانيين رفض فكرة الدولة وحتى الكيان اللبناني قبل استقلاله في العام 1943، وتمسك بفكرة الوحدة مع سوريا من منطلقات قومية أو غيرها، قابله قسم آخر من اللبنانيين لا يستهان بحجمه أيضا طالب بأقصى صور الاستقلال وإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين على قاعدة مساواة لبنان بغيره من الدول العربية التي أقامت دمشق علاقات دبلوماسية معها.وثمة وقائع مثبتة تاريخيا مفادها أن موقف الكتلة الوطنية في سوريا في العام 1936 قد لعب دورا مؤثرا في ثني المسلمين اللبنانيين عن المطالبة بالوحدة والقبول بفكرة الكيان اللبناني والاندماج في الدولة اللبنانية،ما يعزز إشكاليات العلاقات حتى قبيل ظهور كيان الدولتين كوحدتين سياسيتين مستقلتين.
- إن عامل الجغرافيا السياسية للحدود بين البلدين لعب هو الآخر دورا بارزا في عدم إيضاح حدود العلاقة بين دولتين مستقلتين.فلطالما اعتبر المسؤولون السوريون ووافقهم بعض اللبنانيين أن ثمة شعب واحد في دولتين،وإذا كانت عوامل المصاهرة والتداخل الديموغرافي للسكان والهجرات العمالية الواسعة وعدم وضوح نمو التجمعات السكانية على جانبي الحدود،وحتى وجود قنوات بديلة كثيرة للانتقال المتبادل،فان جميعها لا تعني بالضرورة وجوب التغاضي عن بعض خصوصيات الواقع اللبناني الذي يفترض التعامل معها بحرص ودراية شديدتين،الأمر الذي يعني تمييز العلاقة على قاعدة إقامة أفضل العلاقات بين دولتين متجاورتين، والتعامل مع هذه الخصوصية أيضا على أنها أولوية في سياسات الدولتين.
- إن مركزية الصراع العربي الإسرائيلي سابقا في السياسات الخارجية السورية، ومن ثم تحولها إلى استراتيجيات مغايرة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، جعل من العلاقات اللبنانية السورية،علاقات غير متوازنة في ظل عدم تكافؤ ميزان القوى الفعلي بين دولة تسعى إلى السلام المشروط وفقا لمبادئ وأسس معينة، وبين دولة ليست قادرة على الابتعاد عن هذه الاستراتيجية.
إن متغيرات الساحتين الإقليمية والدولية ودخول عوامل إضافية أخرى ، قد أثرت بشكل مباشر على طبيعة العلاقة،الأمر الذي حتّم على كلا البلدين إعادة النظر بكثير من الأمور التي كانت لفترة ليست ببعيدة تعتبر من قضايا "التابو".ما مهّد إلى تكوين بيئات داعمة لاتخاذ قرارات متبادلة بإقامة علاقات دبلوماسية ربما ستصنف لاحقا بالأغرب بين دولتين يجمع بينهما بقدر ما يُباعد بينهما من سياسات وقضايا.
إن تاريخ العلاقات بين الدول المتجاورة وبخاصة التي لها تداخلات كثيرة يبيّن أهمية إقامة العلاقات الدبلوماسية باعتبارها أداة من أدوات تنظيم القضايا المشتركة من سياسية واقتصادية وغيرها،وبصرف النظر عن طبيعة هذه القضايا، ثمة شروط كثيرة ينبغي مراعاتها والأخذ بها، للوصول إلى علاقات صحية وصحيحة في آن معا. ومن بينها:
- ثمة بيئات قانونية كثيرة تكرّست مندرجاتها العملية منذ العام 1991 أي منذ التوقيع على معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين البلدين،والتي تفرّع منها اتفاقات متنوعة لامست قضايا استراتيجية لبنانية وسورية،اعتبرها البعض مجحفة للجانب اللبناني ،الأمر الذي يستدعي إعادة النظر ببعضها،مع الأخذ بعين الاعتبار عدم المسّ بالمسائل التي تعتبر استفزازية للطرفين.
- حصر التعامل بين الدولتين في القنوات الرسمية منعا لتفسير أي علاقة مستقبلية مع بعض الأطراف على أنها علاقة موازية ومخالفة لأبسط الأعراف والقوانين الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول.
- ثمة قضايا مركزية من الصعب على دمشق تجاوزها أو غض النظر عنها،من بينها قضايا السلام في المنطقة،فدمشق اليوم تنتظر الإدارة الأمريكية الجديدة لتحديد سرعة انطلاقتها نحو المفاوضات مع إسرائيل ما يستدعي تنسيقا دقيقا بين بيروت ودمشق في مراحل لاحقة، وبالتالي إن تفعيل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين يمكن أن يسهم في إيجاد بيئة مريحة للبناء عليها في اتجاهات العلاقات الثنائية القادمة.
- ومهما يكن من أمر توصيف أو تكييف العلاقات السابقة بين البلدين،فان ما ينتظرهما لاحقا هي مدي قدرة القيادتين اللبنانية والسورية على استيعاب دروس الماضي والاستفادة منها،وبخاصة أن المنطقة ستشهد ابتداء من الربيع القادم تغيرات دراماتيكية سريعة من الصعب التكهن بنتائجها مسبقا والبناء على افتراضات غير واضحة المعالم أو القرائن.
في عالمنا اليوم تقوم العلاقات الدبلوماسية بين الدول على أسس وقواعد محددة مسبقا،وهي لم تعد كسابقاتها في الصور الماضية،إلا أن الثابت بين الماضي والحاضر في علاقات الدول هو مقدرة القيادات والمواقع الفاعلة في الدول على معرفة حاجات دولها وشعوبها والبناء عليها،وفي هذا السياق يبدو أن كلا البلدين لبنان وسوريا هما بحاجة لإقامة أوضح العلاقات وليست بالضرورة فقط الدبلوماسية، فثمة مجالات كثيرة يمكن ولوجها والبناء عليها كالعلاقات الاقتصادية التي تعتبر مدخلا في عصرنا الراهن لتقريب المسافات وتجاوز الخلافات،فكم من التجمعات الإقليمية التي بنيت على أسس تجارية واقتصادية بعد حروب ونزاعات موصوفة كالحالة الأوروبية على سبيل المثال لا الحصر.
إن العبرة لا تكمن بإقامة العلاقات الدبلوماسية رغم أهميتها وحساسيتها بين البلدين، وإنما العبرة تكمن في تطويرها والبحث عن آليات جديدة تلبي طوحات الجانبين وهي كثيرة وبخاصة الجانب اللبناني، فهل ستسير رياح العلاقات بما تشتهي سفن الدبلوماسية؟ سؤال يصعب الإجابة عليه لارتباطه بمسائل خارجة عن ارادتهما.
.