16‏/01‏/2010

موسوعة التنظيم الدولي المجلد الأول النظرية العامة والمنظمات العالمية

موسوعة التنظيم الدولي المجلد الأول
النظرية العامة والمنظمات العالمية

إذا كان بالإمكان القول، أنَّ الصراعات وجدت منذ وجود البشرية ، فذلك يستتبع القول أنَّ الصراعات متلازمة مع الحياة البشرية ومجتمعاتها، ومردُّ ذلك إلى العديد من الأسباب والاعتبارات المتعلقة بشبكة المصالح المتقاطعة أو المتباينة فيما بينها، والعودة إلى التاريخ تُثبت ذلك بشكل واضح।ففي القرون الخمسة الماضية نشب ما يقارب الخمسة عشر ألف حرب،وما يقارب المائة حرب خلال النصف الثني من الألفية الثانية।وما يزال الإنسان يبحث عن سبل رأب الصدع بين المجتمعات والدول بهدف تقليل المشاكل وبالتالي النزاعات فيما بينها
لقد جرَّبت المجتمعات القديمة والحديثة كما المعاصرة،الوصول إلى هياكل وبرامج ومنظمات ، حاولت من خلالها قدر المستطاع تنظيم أوضاعها ووضع قواعد وقوانين تحدِّد سلوك تعاملها وحل خلافاتها،وبصرف النظر عن الإخفاقات أو النجاحات ثمَّة محاولات جادة،لتأسيس بيئة قابلة للحياة للحد من نكبات الحروب وآلامها.
هذه المحاولات،لا تعتبر حديثة العهد بل لها جذور ضاربة في التاريخ القديم،ورغم هلامية أفكارها وركاكتها،إلا أنَّها تُعبِّر عن شعور بالمرارة لما يحل بالمجتمعات جرَّاء النزاعات،فكانت المقترحات والأفكار مرورا بالتوصيات وصولا إلى المنظمات.فقدم المفكرون والعلماء العرب والمسلمون كما الغربيون،العديد من المشاريع التي شكّلت اللبنات الأولى لنشأة ما يسمى في عالمنا المعاصر بالمنظمات العالمية أو الدولية.
وكما أسلفنا،راودت فكرة التنظيم الدولي العلماء والمفكرين والحكام منذ أقدم العصور، ويمكن العودة بجذورها إلى الشعوب القديمة والعصور التاريخية التالية. ومع ذلك لم تظهر الفكرة إلى حيّز الوجود سوى في مراحل لاحقة؛ فلم تكن قد اكتملت أسبابها الموجبة لوضعها موضع التنفيذ ، وجوهر فكرة التنظيم الدولي يكمن في أنَّ العلاقات بين الدول تكون أكثر سلما وأعمق أمنا وأشمل تعاونآ، إذ كانت هذه العلاقات تجرى عبر قنوات منتظمة، أي أجهزة منظّمة ، وإلا ستظهر قوانين الغاب، سواءً تمثل ذلك في فوضى عالمية أو في إمبراطورية عالمية، حيث أنَّ العالم تردّت أوضاعه بين هاتين الصورتين دون أن يتمكن أيهما من تحقيق السلم أو التعاون الدوليين.
وبهذا المعني، يظهر التنظيم الدولي كوسيلة لحلِّ المشاكل وتحقيق التعاون، ولا يتصور قيامه بهذا الدور على وجه فعَّال، إلا بوجود هيئة أو منظمة دائمة، يتم من خلالها وعن طريقها العمل على تحقيق ذلك . وانطلاقا من ذلك، فالمنظمة الدولية هي جوهر فكرة التنظيم الدولي إضافة إلى أنها تقدم الدليل الخارجي أو الظاهري على وجود هذا التنظيم . ومع ذلك فإذا كانت المنظمة الدولية ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي وسيلة لتحقيق التنظيم لدولي باعتبار أنَّه لا يتصور تحقيق ذلك بدون وجود منظمة أو منظمات دولية . وهكذا تصبح الوسيلة غاية كما هو الحال تماما داخل الدول حيث لا يتصور تحقيق الأمن والعدل داخل أي إقليم ما لم يكن ثمَّة تنظيم ما في هذا الإقليم.
ومن أهداف التنظيم الدولي، الحيلولة دون تغيير الواقع الدولي، أو الإخلال بأوضاعه، والعلاقات فيه، أو تبديلها بما يلائم مصالح دولة ما، عبر اتخاذ إجراءات دولية جماعية ضاغطة، أو مانعة لمحاولات هذه الدولة أو مجموعة الدول. كما أنَّ نظام الأمن الجماعي ينكر استعمال وسائل العنف المسلح لحلّ النزاعات والخلافات القائمة في مصالح الدول، وسياساتها، بل يؤكد على استعمال الطرق والأساليب السلمية.
ولمَّا كانت القوة، لا تزال الأساس في تحديد إطار استراتيجيات الدول، كما المحرك لأنماط العلاقات الخارجية وتقرير طبيعة أهداف سياساتها، فإن الأقوى كان وما زال يستغل القوة لفرض مصالحه على الآخرين من دون اعتبار لمصالحهم، وبغضّ النظر عمّا يسببه من أضرار للمصالح؛ من هنا كانت فلسفة "الحق للقوة" هي السائدة في المجتمع الدولي منذ القديم. وحتى اليوم، وعلى الرغم من النظريات المثالية الحالمة، فإن القوة هي الواقع في التعامل الدولي، أمَّا الأخلاقيات فتقع في مكان ما بينهما .
انطلاقاً من هذا الواقع ونتيجة الحروب التي لم تتوقف عبر التاريخ، قام منظرو السياسة الدولية بوضع النظريات لإقامة السلام العالمي، ونظام الأمن الجماعي لردع المعتدي ، بهدف تمكين المجتمع الدولي من العيش بسلام وكرامة، وفق مبادئ وأسس تلتزم باحترامها الدول كافة، وعلى قدم المساواة كبيرها وصغيرها، فهل تحقق ذلك فعلاً؟
يعتبر منظرو السياسة الدولية، أنَّ اعلي منافع البشرية وتقدمها يوجد في سيادة القانون: القانون الدولي، والقانون الخاص، وضرورة تطبيق القوانين التي اتفق عليها، ولكن الواقع التطبيقي، والممارسة الفعلية في العلاقات الدولية يسمح بطرح التساؤل: أي قانون؟ وقانون من؟ فالقانون ليس شيئاً مجرداً، كما لا يمكن فهمه بمعزل عن مكوناته السياسية التي أوجدته، ولا عن المصالح السياسية والاقتصادية التي يخدمها، ذلك أن القوانين الدولية والتنظيم الدولي، والنظام الدولي المنبثق عنها، إنما هو تعبير عن إرادة ورغبات ومصالح القوى التي صاغت هذا القانون، ووضعت قواعده وهو يعمل في الحقيقة وبنسبة كبيرة من الواقع لخدمتها وتحقيق أهدافها.
هكذا، فالتنظيم الدولي لم يظهر بقفزة واحدة ، ولكن مثله مثل كل التنظيمات الاجتماعية الأخرى ، أخذ صورة التطور . وإذا كان هذا التطور بطيئا بشكل عام ، إلا أنه لا يزال مستمرا.وعليه فإنَّ نظرة سريعة إلى الفكر السياسي في القرون الماضية، تظهر الملامح العامة التي نظر إليها بعض المفكرين للنظام العالمي الأمثل وللتنظيم الدولي الذي يستوعبه ويديره، والسبل الآيلة إلى سعادة البشر ورفاه حياتهم وعلاقاتهم ، وان كان تضارب الأفكار والمعتقدات شيئا ظاهرا وبارزا بين هذه الأفكار، إلا أنَّ كل منها، سعت جاهدة إلى إظهار نفسها البديل الملائم والصحيح للحياة الكريمة والرقي والازدهار الذي يحلم فيه جميع بنو البشر.

ثمَّة العديد من المؤلفات التي عالجت ونظَّرت للتنظيم الدولي ومنظماته،فعالج كل منها الموضوع من زاوية خاصة ومنهج محدد،ويمكن رصد العشرات بل المئات منها، إلا أننا أخذنا على أنفسنا الخوض في غمار كتابة التنظيم الدولي، لما له من خصوصية المتابعة والتطوير.فالتنظيم الدولي ومنظماته العالمية منها والإقليمية تنفرد بخصوصية التّغيّر والتبدّل، للعديد من الاعتبارات.ولم يقتصر عملنا هذا على المتابعة وتطوير المعلومات وتحديثها،بل سلكنا منهجا علميا وموضوعيا اتّسم بالطابع الموسوعي والشمولي،علنا نكون قد أحطنا بالموضوع من غالبية جوانبه.
لقد قسَّمنا الكتاب الأول إلى خمسة أجزاء، عالجنا في الأول منه النظرية العامة للمنظمات العالمية الذي أشتمل على إحدى عشرة فصلا،بدءا من الملامح العامة للتنظيم الدولي في العصور القديمة والمتوسطة وصولا إلى المعاصرة منها.وعالجنا في هذا الجزء ماهية المنظمات وتكييفها القانوني،كما البيئة التي تحكم عملها ومقرراتها وفعاليتها.
أما الجزء الثاني فخصصناه لعصبة الأمم حيث عالجنا أسباب نشأتها والإطار القانوني الذي حكم عملها وصولا إلى انجازاتها وأسباب فشلها.فيما خصصنا الجزء الثالث لدراسة هيئة الأمم المتحدة التي عالجناها في ستة أبواب عبر أثني عشرة فصلا،فضمَّ الباب الأول النشأة والمبادئ والغايات،فيما الثاني حلَّلنا فيه الميثاق والعضوية،أما الثالث فخصصناه للأجهزة ومهامها وسلطاتها وتأثيراتها في المجتمع الدولي.فيما الرابع تمَّ تسليط الضوء فيه على نشاط المنظمة لجهة النجاحات والإخفاقات.أما الخامس فقد عالجنا فيه التحدّيات التي واجهت الأمم المتحدة ومشاريع ومقترحات الإصلاح التي ظهرت من غير طرف.فيما السادس أفردناه إلى دراسة الوكالات والبرامج المتخصصة التابعة لعمل الأمم المتحدة.
أما الجزء الرابع فقد خصصناه للمنظمات الدولية غير الحكومية، لما لهذه المنظمات من دور فاعل في أدوات التنظيم الدولي ووسائله،عبر أربعة فصول، الأول للاتحاد البرلماني الدولي،والثاني للاتحاد الدولي للنقابات الحرة،والثالث للجنة الدولية للصليب الأحمر،أما الرابع فعالجنا فيه منتدى دافوس.
أما الجزء الخامس والأخير فقد خصصناه إلى الملاحق الذي ضمَّ عددا من الوثائق ذات الصلة بموضوع الكتاب كميثاق عصبة الأمم والأمم المتحدة والنظم الداخلية للأجهزة الرئيسة للأمم المتحدة،إضافة إلى عدد من الخرائط والجداول.
إننا إذ نضع هذا المؤلف الموسوعي، بين يدي المختص كما المهتم،نأمل أن نكون قد أسهمنا بعملنا المتواضع هذا،في وضع لبنة صغيرة لسدِّ حاجة مجتمعاتنا العربية وغيرها، لهذه المعرفة التي باتت جزءا من حياتنا اليومية المعاشة.