حصار لبنان بين الحكومة والمحكمة
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية في 23-12-2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
مفارقة لبنان وقوعه بين حصارين محلي ودولي،حكومة تقبض حصارها داخليا على شعب بأكمله بذريعة البحث عن حقيقة بات من في لبنان وخارجه يعرفها تماما،تمنع البحث بملف شهود الزور،ومحكمة تدّعي ظاهريا بعدم اعترافها بشهود الزور ،وضمنا تحميهم بمنع تسليم وثائق ارتكزت عليها في توقيف قيادات أمنية لبنانية على قاعدة اتهام سياسي باغتيال امتدت أهدافه وغاياته وتداعياته باتجاه سوريا.
محكمة أفرجت عن "معتقلين سياسيين" بدون مِنَّة من القضاء اللبناني، وحكومة اعترف رئيسها بدور شهود الزور في توتير العلاقة مع سوريا، مواقف لا رصيد سياسي لها ،وقرارات قضائية دولية تنحدر إلى درك محاكم القرون الوسطى.باختصار حصار داخلي ظالم، وضغط خارجي هائل تقوده محكمة تسير بدفع التسييس الأمريكي الإسرائيلي،ومفارقة هذا الحصار انه ممهور بتوقيع سياسيين أعمتهم لعبة الفتنة المذهبية التي لن ينجو منها أحدا لا في لبنان ولا خارجه اذا ما اشتعلت.
وبصرف النظر عن حجم وسقف الأصوات المعترضة على هذا الواقع، ثمة إشارات أطلقت لإمكانية استمرار هذا الوضع اقله لشهرين إضافيين،على قاعدة ربط الوضع الداخلي بالخارجي،أو بمعنى أدق وضع الحكومة بالمحكمة،كما غيرها من المؤثرات ذات الصلة بالملفات الإقليمية القابلة للاستثمار السياسي.
لقد تمنّعت الحكومة اللبنانية منذ شهرين عن البت في قضية شهود الزور ذلك بخلفيات واضحة مفادها الخوف من الوصول إلى من صنّعهم وموّلهم وحماهم وبالتالي إمكانية تظهير واقع مختلف تماما عما هو قائم الآن يطال الفريق الداعم للمحكمة ومسارها الحالي الذي يتهم حزب الله بالاغتيال أو بشكل أدق "أفراد غير منضبطين".وبعيدا عن المواقف السياسية ، ثمة بيئة قانونية قابلة لإخراج الحكومة من المأزق التي وضعت نفسها به،على قاعدة ان جريمة الاغتيال هي أصلا مرفوعة أمام المجلس العدلي،ومن الطبيعي والمنطقي والشرعي والقانوني إحالة متفرعاتها أيضا أمام المجلس العدلي.فلماذا الإصرار على عدم بت الموضوع في الحكومة وإبقاء لبنان محاصرا من قبل حكومته.
في مقابل ذلك وفي مواقف تتماهي مع مسار الحكومة وطريقة إدارتها للأزمة القائمة، تسير المحكمة في سياق تقطيع الوقت لإخراج قرار اتهامي بات معروفا ومقروءا ومفهوما بتفاصيله المملة، ولم يبق سوى الوقت القليل جدا لإطلاق صافرة الاتهام الذي يمكن ان يأخذ لبنان من ضفة إلى أخرى في حال فشلت المساعي القائمة لتدارك الأسوأ.
ثمة حراك عربي لاحتواء ردّات فعل غير محسوبة النتائج تقودها سوريا والسعودية بدعم إيراني قطري تركي، إلا ان معالمه لم تتبلور بالشكل الذي يسمح بالقول ان ثمة مبادرة قابلة للحياة والبناء عليها.ما جعل أطراف الحراك الداخلي اللبناني يرفعون السقف كل على طريقته.
ان تعقيدات الحكومة والمحكمة وملفاتهما ذات الشد والجذب الإقليميين، حفَّز الدبلوماسية السورية بشخص رئيسها،بشار الأسد، للتحرك باتجاه باريس،كما الدوحة،وفي كلتا الحالتين،كلام واضح مفاده ان لا احد قادر على الوقوف مكان اللبنانيين في حل أزماتهم، فهل اللبنانيون قادرون على ذلك. من الصعب الاقتناع بذلك وإلا لماذا التعليق على المبادرات الخارجية حتى الآن.في وقت تزداد الهوة بين اللبنانيين على قضايا مصيرية بمكن ان تصيب أسس الكيان واستمراره اذا ما استمرت معالجة الأزمات بهذه العقلية وبهذا السلوك السياسي.
ارتفع السقف السياسي في الأيام القليلة الماضية،وسرعان ما أعيدت اللعبة السياسية إلى أمكنة اقل حدة،لكن بإشارات مختلفة.وبين هذا الواقع وذاك،ثمة ربط مبطن بين ما يمكن ان تؤول إليه مفاوضات اسطنبول بكعكتها النووية ذات النكهة الإيرانية وبين مسارات معالجة ملفات المحكمة،وما يعزز هذا الاتجاه تقاطع التوقيتات على أواخر الشهر القادم.
فهل سيتسمر الحصار المزدوج للبنان؟وما هي عدة الشغل السياسية خلال الوقت المستقطع؟ في المبدأ ان جميع المؤشرات تظهر مصلحة جميع الأطراف بإبقاء الوضع على ما هو عليه،بانتظار أولا مسار الاتصالات العربية ،وثانيا القرار ألاتهامي ليبنى على الشيء مقتضاه كما أعلن أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله.لكن ذلك لا يعني استسلام الأطراف جميعها لقدر الحكومة والمحكمة.
فخطاب السيد نصرالله العاشورائي فيه الكثير من الدلالات والإشارات التي ستؤسس إلى ما بعد القرار ألاتهامي.فهي المرة الأولى التي يشير فيها بإصبع الاتهام للحكومة بحماية شهود الزور ما يعني ان الحزب على قاب قوسين أو ادني لاتخاذ قرار اقله ذات صلة بمشاركته بالحكومة، إذ لم يكن مسار إسقاط الحكومة وبخاصة اذا اعتبر هذا الإسقاط احد وسائل إفشال وإعدام القرار ألاتهامي ويبدو ان الأمور تسير بهذا الاتجاه. أما الإشارة الثانية المدوية التي أطلقها السيد نصرالله هي فساد المحكمة من أساسها حينما أفشى معلومة عن نائب رئيس لجنة التحقيق الدولية غير هارد ليمان،وبيعه وثائق التحقيق.وبذلك يكون حزب الله قد تمكّن مبدئيا من ضرب أسس التحقيق والمحكمة في آن معا،كما وضع الحكومة في سياق الاستهداف اذا ما استمرت في عدم البت بملف شهود الزور.
في جميع الأحوال،يتحكم في الواقع اللبناني وملفاته القابلة للاستثمار الإقليمي والدولي، مساران متكاملان،محكمة تحاصر لبنان بمشروع قرار اتهامي لا أساس قانوني أو أدلة دامغة فيه، وحكومة تمتنع عن البت بأحد أسس قضية الاغتيال، وفي كلا الحالتين ثمة اتجاه للانتظار مجددا على وقع محاولات الاستثمار الأمريكي الإسرائيلي لملفات المحكمة وتردد الحكومة،وفي كلتا الحالتين أيضا لبنان هو الخاسر الوحيد بين اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين.