تداعيات سقوط القذافي
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 29-8-2011
ثمة أسئلة لا تنتهي، بدءا من التداعيات الخارجية وبخاصة على بعض الأنظمة العربية التي تشهد حراكا مستمرا منذ شهور،مرورا بجملة تقاطع المصالح وتباينها إقليميا ودوليا بحكم موقع ليبيا الجيوسياسي والنفطي، وصولا إلى التداعيات الداخلية وكيفية تركيب النظام القادم.
فعندما انطلقت ثورة بو عزيزي التونسي، لم يكن أحد يتخيل أنها ستصل إلى باب العزيزية في ليبيا، كما ان لا أحدا كان يتخيل ان حكاما عربا سيحاكمون،وبالتالي صح شعار "الشعب يريد ..." ، ما يعني ان تداعيات انهيار النظام الليبي سيستتبع سقوط أنظمة أخرى لا زالت تتمايل على وقع مطالب عمرها من عمر كيانات هذه الأنظمة. وبصرف النظر عن أي نظام سيأتي عليه الدور لاحقا، إلا ان دروسا مستفادة ينبغي استخلاصها ومن بينها،التعلم على كيفية إدارة الأزمات الداخلية للأنظمة بهدف تقليل الخسائر ما أمكن،سيما وأن ظروفا ليست بالعابرة تعصف بها،وبالتالي عدة الشغل القديمة لم تعد صالحة للانتقال إلى مراحل جديدة من عمر هذه الكيانات والأنظمة،وبالتالي ان الدرس الليبي الأول الذي ينبغي التعلم منه،هو ان الحلول الأمنية ليست هي البديل لأي حل ممكن ولو على حساب التنازل عن السلطة،والتّعوّد على تداول السلطة ولو مكرهين.
وربما أخطر التداعيات وان كانت خارجية هنا، فتكمن بين حفلة الصراعات الباردة والحامية بين الفواعل الإقليميين والدوليين المتدخلين في الأزمة الليبية حاليا.والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا،مدى تقاطع المصالح ضمن حلف الناتو نفسه،وبالتحديد القطبين الفرنسي والأمريكي مقرونا بالألماني والايطالي، على تقاسم جبنة ليبيا النفطية.هل ثمة تصورا واضحا لما بعد القذافي بين المنتصرين الحقيقيين في ليبيا وخارجها؟ أم ان الخلافات ستعصف فيما بينهم حول عقود إعادة اعمار ما كان من شبه دولة قائمة؟ وما هي خطط إقامة نظام لبيبي يحاكي المتغيرات العالمية القائمة حاليا؟.
عندما غزت أميركا العراق في العام 2003 ألغت عقودا نفطية كانت قائمة مع فرنسا وروسيا بمئات مليارات دولار، وكانت شركة توتال الفرنسية الخاسر الأكبر في حفلة الهيمنة على العقود لا تقسيمها،باعتبار ان حسابات لقوى الصف الثاني في الغزو. اليوم ربما الصورة معكوسة نسبيا في ليبيا حيث تعتبر فرنسا معنية ببوابة أفريقيا الشمالية، والعصب النابض للاتحاد المتوسطي،فهل ستكون باريس لقمة سائغة في حسابات النظام القادم في ليبيا مستقبلا؟ وهل ستكون مجرد مدعوة على وليمة كبرى بدل من ان تكون شريكة فيها. الأمر نفسه ينطبق أيضا على باقي الأطراف شبه الفاعلين في القضية الليبية.
وإذا انتقلنا إلى المقلب الآخر، حول الموقع الروسي في كل تلك العملية بتفاصيلها الجغرافية والاقتصادية، فهل ستقف موسكو حيث هي الآن، وهي المتأخر الأول في سياق إدارة الأزمة الليبية منذ بداياتها،حيث عارضت سياقات القرارات الدولية وبالكاد التحقت بالركب الأميركي الأوروبي.وهل ستبقى مكتوفة الأيدي لتخرج خالية الوفاض من البحر المتوسط،الحلم الدفين بالمياه الدافئة،بعدما تركته عنوة، وبخاصة ان وضعها في قاعدة طرطوس السورية ليس بأحسن حال في ظل ظروف سوريا الضبابية. الأمر ينطبق أيضا على موقع الصين مثلا التي استثمرت مئات مليارات الدولارات في غير بلد أفريقي،والذي لن تكون هذه الدول بمنأى عن التداعيات الليبية القادمة على القارة السمراء.
ثمة أسئلة محرجة على الصعيد الليبي الداخلي، هل ستتمكن التشكيلات السياسية القائمة حاليا وبالتحديد المجلس الانتقالي من نقل البلاد من ضفة إلى أخرى في ظروف ليبية معروفة هي أقرب إلى المشاع السياسي البعيد كل البعد عن مفهوم الدولة العصرية وأسسها ؟ هل يمكن تخطي الواقع الاجتماعي - السياسي القائم بتشكيلاته القبلية المعقدة التي حُكمت سابقا بآليات عجيبة غريبة؟ هل يمكن إعادة العصب الاقتصادي الليبي النفطي الانطلاق مجددا بسرعة لإعادة الإعمار ؟ أم سيكون مرهونا بمؤتمرات إقليمية ودولية على شاكلة السوابق العربية مثل العراق ولبنان وغيرهما؟ كلها أسئلة محيّرة تبحث عن أجوبة في خضم ضباب يكتنف الوضع الليبي برمته.
طبعا، ليبيا كغيرها من الدول التي تتميز بموقع جيو استراتيجي،لكنها تقترن أيضا بميزات إضافية ذات طبيعة إستراتيجية حيوية، فهي تشكل 2 بالمئة من إنتاج النفط العالمي، وهي بوابة أفريقيا الشمالية،وهي بمثابة أفغانستان آسيا، وعلى قياسها تفصل السياسات القارية والدولية. هي صاحبة أطول شواطئ الاتحاد المتوسطي، وهي على حدود ثورة مصر التي بدأت تأخذ مناحي أخرى متعلقة باتفاقات كامب دايفيد وأخواتها،وهي عصب الجغرافيا السياسية للمغرب العربي،وهي على بعد مرمى حجر من الولايات المتحدة الأوروبية الموعودة، وهي تختزن برمال صحاريها الكثير من الاحتمالات المفتوحة على شتى صنوف الخيارات الداخلية والخارجية.
أخيرا وبصرف النظر،عن المآلات المتصلة بالتداعيات الداخلية ومنها مثلا مصير إمبراطورية القذاغي الراقدة على ثروة 130 مليار دولار،ومن ضمنها طبعا الأموال الليبية المجمدة في الخارج، وكذلك إمكانية محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، ثمة خوف كبير ان تلحق ليبيا بما سبقها من أنظمة عربية تهاوت سابقا، فيصبح تحرير الأنظمة مقرونا بالاحتلال الأجنبي، وهي طامة أنظمتنا العربية التي سادت عقودا من الزمن، وغريب مفارقاتها أنها بادت في لحظات غفلة من الزمن. أنها كلمة الشعب الذي أراد.
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 29-8-2011
ثمة أسئلة لا تنتهي، بدءا من التداعيات الخارجية وبخاصة على بعض الأنظمة العربية التي تشهد حراكا مستمرا منذ شهور،مرورا بجملة تقاطع المصالح وتباينها إقليميا ودوليا بحكم موقع ليبيا الجيوسياسي والنفطي، وصولا إلى التداعيات الداخلية وكيفية تركيب النظام القادم.
فعندما انطلقت ثورة بو عزيزي التونسي، لم يكن أحد يتخيل أنها ستصل إلى باب العزيزية في ليبيا، كما ان لا أحدا كان يتخيل ان حكاما عربا سيحاكمون،وبالتالي صح شعار "الشعب يريد ..." ، ما يعني ان تداعيات انهيار النظام الليبي سيستتبع سقوط أنظمة أخرى لا زالت تتمايل على وقع مطالب عمرها من عمر كيانات هذه الأنظمة. وبصرف النظر عن أي نظام سيأتي عليه الدور لاحقا، إلا ان دروسا مستفادة ينبغي استخلاصها ومن بينها،التعلم على كيفية إدارة الأزمات الداخلية للأنظمة بهدف تقليل الخسائر ما أمكن،سيما وأن ظروفا ليست بالعابرة تعصف بها،وبالتالي عدة الشغل القديمة لم تعد صالحة للانتقال إلى مراحل جديدة من عمر هذه الكيانات والأنظمة،وبالتالي ان الدرس الليبي الأول الذي ينبغي التعلم منه،هو ان الحلول الأمنية ليست هي البديل لأي حل ممكن ولو على حساب التنازل عن السلطة،والتّعوّد على تداول السلطة ولو مكرهين.
وربما أخطر التداعيات وان كانت خارجية هنا، فتكمن بين حفلة الصراعات الباردة والحامية بين الفواعل الإقليميين والدوليين المتدخلين في الأزمة الليبية حاليا.والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا،مدى تقاطع المصالح ضمن حلف الناتو نفسه،وبالتحديد القطبين الفرنسي والأمريكي مقرونا بالألماني والايطالي، على تقاسم جبنة ليبيا النفطية.هل ثمة تصورا واضحا لما بعد القذافي بين المنتصرين الحقيقيين في ليبيا وخارجها؟ أم ان الخلافات ستعصف فيما بينهم حول عقود إعادة اعمار ما كان من شبه دولة قائمة؟ وما هي خطط إقامة نظام لبيبي يحاكي المتغيرات العالمية القائمة حاليا؟.
عندما غزت أميركا العراق في العام 2003 ألغت عقودا نفطية كانت قائمة مع فرنسا وروسيا بمئات مليارات دولار، وكانت شركة توتال الفرنسية الخاسر الأكبر في حفلة الهيمنة على العقود لا تقسيمها،باعتبار ان حسابات لقوى الصف الثاني في الغزو. اليوم ربما الصورة معكوسة نسبيا في ليبيا حيث تعتبر فرنسا معنية ببوابة أفريقيا الشمالية، والعصب النابض للاتحاد المتوسطي،فهل ستكون باريس لقمة سائغة في حسابات النظام القادم في ليبيا مستقبلا؟ وهل ستكون مجرد مدعوة على وليمة كبرى بدل من ان تكون شريكة فيها. الأمر نفسه ينطبق أيضا على باقي الأطراف شبه الفاعلين في القضية الليبية.
وإذا انتقلنا إلى المقلب الآخر، حول الموقع الروسي في كل تلك العملية بتفاصيلها الجغرافية والاقتصادية، فهل ستقف موسكو حيث هي الآن، وهي المتأخر الأول في سياق إدارة الأزمة الليبية منذ بداياتها،حيث عارضت سياقات القرارات الدولية وبالكاد التحقت بالركب الأميركي الأوروبي.وهل ستبقى مكتوفة الأيدي لتخرج خالية الوفاض من البحر المتوسط،الحلم الدفين بالمياه الدافئة،بعدما تركته عنوة، وبخاصة ان وضعها في قاعدة طرطوس السورية ليس بأحسن حال في ظل ظروف سوريا الضبابية. الأمر ينطبق أيضا على موقع الصين مثلا التي استثمرت مئات مليارات الدولارات في غير بلد أفريقي،والذي لن تكون هذه الدول بمنأى عن التداعيات الليبية القادمة على القارة السمراء.
ثمة أسئلة محرجة على الصعيد الليبي الداخلي، هل ستتمكن التشكيلات السياسية القائمة حاليا وبالتحديد المجلس الانتقالي من نقل البلاد من ضفة إلى أخرى في ظروف ليبية معروفة هي أقرب إلى المشاع السياسي البعيد كل البعد عن مفهوم الدولة العصرية وأسسها ؟ هل يمكن تخطي الواقع الاجتماعي - السياسي القائم بتشكيلاته القبلية المعقدة التي حُكمت سابقا بآليات عجيبة غريبة؟ هل يمكن إعادة العصب الاقتصادي الليبي النفطي الانطلاق مجددا بسرعة لإعادة الإعمار ؟ أم سيكون مرهونا بمؤتمرات إقليمية ودولية على شاكلة السوابق العربية مثل العراق ولبنان وغيرهما؟ كلها أسئلة محيّرة تبحث عن أجوبة في خضم ضباب يكتنف الوضع الليبي برمته.
طبعا، ليبيا كغيرها من الدول التي تتميز بموقع جيو استراتيجي،لكنها تقترن أيضا بميزات إضافية ذات طبيعة إستراتيجية حيوية، فهي تشكل 2 بالمئة من إنتاج النفط العالمي، وهي بوابة أفريقيا الشمالية،وهي بمثابة أفغانستان آسيا، وعلى قياسها تفصل السياسات القارية والدولية. هي صاحبة أطول شواطئ الاتحاد المتوسطي، وهي على حدود ثورة مصر التي بدأت تأخذ مناحي أخرى متعلقة باتفاقات كامب دايفيد وأخواتها،وهي عصب الجغرافيا السياسية للمغرب العربي،وهي على بعد مرمى حجر من الولايات المتحدة الأوروبية الموعودة، وهي تختزن برمال صحاريها الكثير من الاحتمالات المفتوحة على شتى صنوف الخيارات الداخلية والخارجية.
أخيرا وبصرف النظر،عن المآلات المتصلة بالتداعيات الداخلية ومنها مثلا مصير إمبراطورية القذاغي الراقدة على ثروة 130 مليار دولار،ومن ضمنها طبعا الأموال الليبية المجمدة في الخارج، وكذلك إمكانية محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، ثمة خوف كبير ان تلحق ليبيا بما سبقها من أنظمة عربية تهاوت سابقا، فيصبح تحرير الأنظمة مقرونا بالاحتلال الأجنبي، وهي طامة أنظمتنا العربية التي سادت عقودا من الزمن، وغريب مفارقاتها أنها بادت في لحظات غفلة من الزمن. أنها كلمة الشعب الذي أراد.