| ||
غريب المفارقات في الثورات العربية تضمنها أفعالاً وسلوكيات تبدو غريبة عن الأعراف والغايات والأهداف التي تتفاخر وتتغنى بها أي ثورة أو تحرك يهدف نحو الأفضل والأحسن . والمفارقة الأغرب أن كلا الفريقين القائم بالثورة أو النظام يمارس وسائل وأساليب متشابهة، بحيث أظهرت هذه الممارسات أعرافاً وسياقاً وسلوكاً عملياً في التعاطي مع المجريات القائمة .
فالأنظمة مارست الاستبداد والتهميش للآخر والاستقواء بالدين لتقوية مواقعها السلطوية، في محاولة للاستمرار والبقاء، فيما الحركات المعارضة مارست الأمر نفسه عندما تسلّمت السلطة وربما في بعض الحالات لجأت إلى أساليب عنفية غير مبررة، وأنتجت حالات ومظاهر أشد قسوة مما كانت تعانيه وهي خارج السلطة .
لقد تمكّنت بعض الأنظمة من تأمين أمن مجتمعي موصوف،لكنه كان على حساب الحريات العامة . فكان أمناً تمارسه السلطة بقبضة حديدية يقابله خوف وذعر مجتمعي . فيما لم تؤمن الثورات أي بيئة أمنية، بل جل ما توصلت إليه انفلات وفوضى عارمة مستتبعان بظروف هي أقرب إلى الحروب الأهلية .
تمكنت بعض الأنظمة من استبدال الحريات العامة بتأمين الحاجات الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، كالتعليم والطبابة وغيرهما، شرط عدم مواجهتها أو ممانعتها لسياساتها العامة . فيما لم تتمكن الثورات العربية - في معظم بيئاتها الاجتماعية - من تأمين الحد الأدنى لمتطلبات الحياة الكريمة التي كانت ترفعها شعاراً لها .
قامت الثورات العربية على مبدأ التحرك السلمي لتحقيق مطالب محقة، لكنها حملت السلاح وواجهت أنظمتها بعنف مفرط، وصل إلى ممارسة فظائع وجرائم بحق الإنسانية وفي بعض الحالات لجأت بعض الأنظمة والثورات إلى التفنن في استعمال هذه الجرائم، لتبرير أو تغطية مواقف وانتصارات مزعومة ولو على بني جلدتها .
في معظم الأنظمة التي شهدت تحولات دراماتيكية في الفترة الأخيرة مارست الحكم تحت واجهة حزبية واحدة وببرامج وسياسات محددة بصرف النظر عن حقيقتها وأهميتها، فيما غابت عن تحرك الثورات الأحزاب السياسية، وحل محلها الحراك الشبابي من دون برامج محددة، ما أدى بشكل أو بآخر إلى تهميش شرائح واعدة في المجتمعات العربية .
لم تتمكن أي من الثورات من تثبيت دعائمها في السلطة بل تخبطت في ممارستها، فيما رموز الأنظمة وأدواتها الاقتصادية والسياسية لا زالت الحاكم الفعلي والمسيّر لمفاصل الأنظمة الموجودة فيها .
لقد عُزل وقتل وحوكم وتم تهريب رؤساء، فيما لم يقدم أي تقييم لأي تجربة في أي بلد، فظل الحراك أو الثورات يعدّان من المقدسات التي لا ينبغي تناولها، تماماً كما كان الأمر متبعاً في الأنظمة الحاكمة .
ثمة مفارقات لا تعدّ ولا تحصى في الأنظمة العربية وثوراتها، بحيث يعجز علم الاجتماع السياسي بكل مدارسة واتجاهاته عن تفسير تلك الممارسات والسلوكات والمظاهر، ما يستدعي وقفة تأمل حقيقية لما جرى وسيجري مستقبلاً . فالمجتمعات العربية باتت اقرب إلى التمزق والاحتراب بفعل عدم قدرتها على تحمل تداعيات ما وضعت فيه من جانب الأنظمة والثورات القائمة عليها .
إن ما فعلته الأنظمة بشعوبها ومجتمعاتها يفوق القدرة على التحمل، وهذا ما يفسر سرعة الحراك في أكثر من نظام عربي، وفي مقابل ذلك لم يكن لأي حراك أفق واضح لاستيعاب ما يواجهه، ما أدى إلى تندر وتحسر المجتمعات الحاضنة لها على ماضيها، ولو كان سيئاً، وهذا لم تسجله أية سابقة في العالم .
ثمة مظاهر مخيفة تعمّ المجتمعات العربية، فهي منقسمة عامودياً على نفسها، تُمارس عليها سلطة أمر واقع وتدفعها إلى اقتتال مرعب، وسط غياب لأي أفق واضح للخروج مما تتخبط فيه . تُمارس فيها وعليها جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب، في وقت يدخل فيه رئيس إلى السجن ويخرج آخر من دون معرفة العامة لهذه المفارقة .
في عزّ حكم الأنظمة كانت حفلات التندر تنطلق من حركات التصحيح، اليوم ربما نحن بحاجة ماسّة إلى تصحيح أوضاعنا قبل فوات الأوان، باعتبار أن ما وصلنا إليه يكاد يقضي علينا وعلى فكرة الدولة والمجتمع التي طالما حلمنا بها منذ عقود طويلة . ربما هذا المطلب المتواضع الذي يعد من أبسط حقوق الإنسان بات أملاً يستحيل تحقيقه .
|