تركيا وداعش وجيوبولتيك المنطقة د.خليل حسين أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية تعتبر تركيا من الدول القليلة التي استفادت فعليا وعمليا من سياساتها الإقليمية ، وبخاصة تجاه العراق وسوريا. وعلى الرغم من انقلاب الصورة في شعارها السياسي الذي أتى به حزب العدالة والتنمية "صفر مشاكل" مع دول الجوار، إلا أن أنقرة تحاول إعادة التاريخ نفسه في التعاطي مع قضايا التدخل العسكري ، من خلال الدخول في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الداعشي؛ وهي في هذا المجال مارست "الغنج السياسي" على الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية ومن ثم احتلال العراق، بهدف تحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية في المنطقة، واليوم تمارس البرغماتية نفسها لأهداف إضافية جيوبوليتيكية من البوابتين العراقية والسورية تحديدا. ورغم تغيّر بعض الظروف والوقائع في المنطقة، ظلت أنقرة شاخصة إلى تكوين بيئة إضافية مساعدة لإقامة منطقة عازلة ولو تحت مسمى منطقة آمنة، وجاءت هذه المرة على قاعدة محاربة الإرهاب الداعشي وتداعياته ولو من أبواب إنسانية ، كقضية اللاجئين الأكراد السوريين مؤخرا، علاوة على اللاجئين الذين دخلوا تركيا في الفترات السابقة . بداية ترددت تركيا في الدخول إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، بذريعة الرهائن الأتراك الذين احتجزتهم داعش والذي تم الإفراج عنهم مؤخرا، اليوم بدأ الموقف التركي بالتحوّل لكن ضمن محددات وشروط ظاهرها يبدو مقبولا وباطنها يحتاج لمزيد من التوافق الدولي، وجلها تتسم بالعمومية وتتعلق بالأمن القومي التركي. وفي الواقع لم تكن هذه المحددات لتعبر عن حقيقة المواقف التركية، إلا في مسألتين أساسيتين، الأولى حماية الأمن القومي التركي خاصة في ظل لعبة فك الارتباط ببعض التنظيمات ودخولها لاحقا في الصراع المباشر معه على الأراضي التركية وخارجها. وتتمثل الثانية في السيطرة على النفط في دولتي جوار مهمتين مثل العراق وسوريا، إذ تخشى أنقرة بان تفضي الحملة الأميركية ضد داعش إلى السيطرة على بعض المناطق النفطية بدون مشاركتها الفعلية ، الأمر الذي يصطدم وفكرة الإبقاء على الوحدة الجغرافية لهذه الدول ، التي يبدو أنها قادمة على مشاريع الفدرلة التي تناسب المظلة التركية – الأميركية. إضافة لذلك، صرح الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بعد عودته من نيويورك ، أن بلاده تفرض شروطاً محددة لاستخدام قاعدة انجرليك، في إشارة إلى بداية التغيير في الموقف التركي، ومن بين هذه الشروط العمل على تشكيل منطقة عازلة داخل الأراضي السورية لاستقبال وإعادة توزيع اللاجئين السوريين الذين أجهدوا الاقتصاد والأمن التركيين، إضافة إلى شرط آخر هو الإعلان عن منطقة حظر للطيران فوق الأراضي السورية بذريعة حرمان سوريا من إمكانية استخدام الطيران والأوضاع الإستراتيجية التي ستظهر لاحقا لتسجيل مكاسب ضد المعارضة السورية. في مقابل ذلك، ردت الإدارة الأمريكية على هذه الخطوة عبر الإعلان بأنها تفكر جديا بالعمل على إقامة منطقة عازلة في سوريا وإقرار منطقة حظر للطيران ،وبالتالي ثمة تناغم واضح بدأ بالتشكل بين واشنطن وأنقرة في صياغة التفاعلات الجيوبولتيكية في المنطقة، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات والمخاوف التي بدأت تتراكم جراء الإشارات التي تم التأكيد عليها بين الدولتين ، والتي بدأت بتشكل مرحلة جديدة، ستظهر فيها ملامح العقيدة الجيوبولتيكية للطرفين في تقاسم الأدوار وتحديد مجالات النفوذ في الحملة ضد الإرهاب. وعلى الرغم من الاستجابة الأمريكية الواضحة للمحددات التركية لمواجهة داعش، ثمة العديد من الأسئلة التي ستثار حول ردة الفعل السورية والعراقية التي ستضاعف من منسوب شكوكهما ، بعد تنامي فكرة أن الضربات الجوية لدول التحالف، ليست حملة موجهة بالضرورة ضد داعش مباشرة، بقدر ما هي حملة موجهة لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية مجددا في العراق وسوريا ،عبر تشكيل وسائل نفوذ تركية – أميركية بأدوات جديدة ، بعد الانتهاء من استثمار داعش واستنفاد دورها. في المحصلة ،ثمة صورة واضحة لسياسات تركيا العراقية والسورية، بصرف النظر عن أي وقائع مستجدة، فيبقى النفط في مقدمة القضايا الاقتصادية، وتبقى القضية الكردية في مقدمة القضايا الأمنية القومية، وهذا ما ترجمته أنقرة في تاريخها السياسي الحديث والمعاصر ، وبخاصة في عصر الأحادية القطبية، فهل ستطبق أنقرة نفس المحددات في محاربتها لداعش ؟ يبدو أن الأمر كذلك.