كيف ولماذا تعدّل مشروع الاتحاد المتوسطي؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ميزات فارقة فهو سياسي طموح لكنه مزعج، ينفرد بمبادراته لكنه يتسرع بتصريحاته، يسعى للشهرة على حساب الفكرة، يفكر قط بمصلحته على حساب الآخرين، يعد بتحقيق أكثر مما يستطيع، وربما أكثر مما يريد، فمن أراد التعامل معه عليه أن يكون ذا نفس طويل، وحذر شديد، وقدرة دبلوماسية فائقة. والأمر نفسه ينطبق على المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل التي "أنقذت الموقف" مرتين على الأقل، أولاهما عندما اقترح ساركوزي تشكيل "مجلس حكماء أوروبي" للتفكير بمستقبل الاتحاد الأوروبي وللعمل على منع انضمام تركيا إليه، ولم يبق من الفكرة إلا العنوان، فتشكّل المجلس، ولكن دون أن يكون من صلاحياته ما يتعلق بعضوية تركيا، ولا النظر في المستقبل "القريب" للاتحاد، بل طرح أفكار عامة حول مستقبله بعد عام 2020.والمرة الثانية كانت قبيل القمة الأوروبية في بروكسل منتصف آذار الماضي، فما طرحه ساركوزي لتشكيل اتحاد أوروبي- متوسطي، يحمل بصماته بدءا بالطموح والتسرع، انتهاء بعدم مراعاة الآخرين من الشركاء والأصدقاء، أمّا ما وُضع على مائدة المفاوضات مع انعقاد القمة، فكان شيئا آخر، حمل بصمات ميركل مع ساركوزي، وبدّل وجه المشروع المطروح إلى درجة تسمح بالقول إنّه مشروع جديد.ومن أهدافه المعلنة:
- اتحاد جديد قائم بذاته يجمع الدول الأوروبية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، والدول الأخرى المطلّة عليه.
- اعتبار عضوية تركيا في هذا الاتحاد بديلا عن عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
- تعزيز التعاون الاقتصادي (وهذا ما يتضمّن سعي فرنسا مؤخرا لتسويق مفاعلاتها النووية في الشمال الإفريقي العربي) والتعاون البيئي (جعل البحر الأبيض المتوسط أنظف بحر في أنحاء العالم) والتعاون الأمني (مكافحة الإرهاب وفق مفهومه الغربي ومكافحة الهجرة من الجنوب إلى الشمال وما شابه ذلك).
ومن الأهداف غير المعلنة بإيجاز أيضا:
- تشكيل وعاء سياسي يجمع العرب والإسرائيليين بعد إخفاق مشروع ما عُرف بإعلان برشلونة دون تحقيق هذا الهدف الجوهري لتأسيسه بعد إخماد الانتفاضة الفلسطينية الأولى وانطلاقة أوسلو على خطى مدريد.
- ربط سوريا من بين "دول الممانعة" بمشروع يحقق لها مصالح اقتصادية، ثمنا للتخلّي عن "ممانعتها" سواء على صعيد المقاومة الفلسطينية أو المقاومة اللبنانية أو "التطبيع" غير المشروط مع الإسرائيليين.
- ترسيخ النفوذ الفرنسي المنافس للنفوذ الأمريكي من جهة، والمتكامل معه من جهة أخرى، في اتجاه المنطقة العربية المجاورة، التي كانت دائما هدفا فرنسيا وأوروبيا وأمريكيا.
والمفارقة أن ساركوزي لم يطلق على مشروعه عنوان "الاتحاد الأوروبي-المتوسطي"، بل المتوسطي فقط، بهدف أن يكون الاتحاد الأوروبي من ورائه ولكن من الناحية المالية، باعتباره بديلا أو مكملا لطريق إعلان برشلونة، الذي أخذ من الميزانية الأوروبية المليارات وخصص له 16 مليارا أخرى للفترة بين 2007 و2013 .
المشروع الذي قُدّم للقمة الأوروبية يُعتبر امتدادا لمشروع إعلان برشلونة بتطوير محدود بعد أن عُدل ألمانياً ، ثم شاركت فرنسا في تبنيه، كما يعتبر اتحادا أوروبيا (يشمل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي جميعا وهي حاليا 27 دولة) متوسطيا، وإن بقي يحمل اسم الاتحاد المتوسطي رسميا.
لقد استكمل المشروع بإجراء شكلي، يجعل رئاسة الاتحاد الثنائية مقتصرة (بالتناوب كل عامين) على الدول المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، إلى أن تشملها الدورة جميعا (18 سنة) ثم تشارك الدول الأوروبية الأخرى في التناوب على الرئاسة أيضا.أمّا المضمون على الأصعدة الاقتصادية والأمنية وسواها، فهو هو كما كان، بين الاتحاد الأوروبي ودول المنطقة عبر إعلان برشلونة، ولكن سيحمل عند تأسيس الاتحاد بالفعل اسم الاتحاد المتوسطي.
الشكل الجديد المعدّل للمشروع باسمه القديم، هو ما وجد ترحيبا "مبدئيا" من جانب من عارضه سابقا، كالدول الإسكندنافية والنمسا، بسبب التكاليف المالية والاستثناء من العضوية، وقد بدا أنّ الاتحاد المتوسطي لم يعد مشروعا ساركوزيا، بل أصبح جزءا من مسيرة المحور الفرنسي- الألماني المشترك.
وإذا سارت الأمور على ما يرام وتحقق الاتفاق على التفاصيل- أن يُعلن عن تأسيس الاتحاد في احتفال رسمي على مستوى قمة طارئة تنعقد في باريس في13/7/2008، أي بعد أسبوعين من استلام فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وقبل يوم واحد من احتفالات فرنسا بيومها الوطني.أمّا الحصيلة الحقيقية للمساومات الأوروبية حول المشروع فهي أنّ ساركوزي اضطر إلى "اقتسام الغنيمة" مع شركائه الأوروبيين، ليس في صناعة القرار فقط، بل فيما يمكن تحقيقه اقتصاديا أيضا.
الخلافات حول صياغة المشروع الجديد كانت خلافات أوروبية- أوروبية، والحلول الوسطية كانت أوروبية، والمفاوضات على التفاصيل ستجرى بين الأوروبيين، والمخطط الزمني المقرّر يرى أن يستمرّ ذلك حتى يتمّ اتخاذ القرار أوروبيا، ثم يحضر الغائبون من الرؤساء والملوك على الساحل الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ليشاركوا في احتفال تدشين تأسيس الاتحاد الجديد على خطى مسيرة برشلونة القديمة.
قبل العروض النووية الفرنسية الأخيرة، كانت الدول العربية وما تزال تشتري ما قيمته سنويا أكثر من 120 مليار يورو (126 مليارا عام 2006) من الآلات والسيارات والمنتجات الكيماوية وغيرها، من الدول الأوروبية، وهو ما يمثل سندا لا يستهان به لازدهارها الاقتصادي الذي يعتمد على "بند الصادرات" في الدرجة الأولى.
وكانت تلك الدول وما تزال - وبخاصة ليبيا والجزائر- مصدر تأمين نسبة عالية من احتياجات النفط والغاز للقارة الأوروبية بتكاليف منخفضة نسبيا، نظرا للجوار الجغرافي ولاعتبارات أخرى.هذا إضافة إلى أنّ الدول العربية ذات القدرات الاقتصادية الأكبر نسبيا، بغض النظر عن الأوضاع المعيشية، سوق مرغوبة أوروبيا للاستثمارات المالية شريطة تشريع القوانين لحمايتها، أو بتعبير أوضح لضمان تحقيق أرباح للأوروبيين من خلالها، دون ضمان تحقيق انتعاش اقتصادي حقيقي في البلدان المضيفة، فغالبها استثمارات في قطاعات السياحة والبناء وأمثالها، وليس في قطاعات إنتاج صناعي وتطوير تقني.يضاف إلى ذلك أنّ أوروبا تضع في حسابها تحت وطأة شيخوختها وانقلاب هرم الأعمار السكاني فيها رأسا على عقب "استيراد" الأيدي العاملة من الدول العربية في الشمال الإفريقي، بنسبة عالية خلال عقد أو عقدين على الأكثر.
عند النظر في الوثيقة الصادرة عن المفوضية الأوروبية عام 2000 (أي بعد خمس سنوات على انطلاق مسيرة برشلونة) يمكن استقراء الأهداف الأهمّ في نظر الأوروبيين من خلال التعاون الأوروبي-المتوسطي، فآنذاك أبرزت المفوضية أهم "العقبات"، فكان أوّلها بطء "عملية التسوية السلمية"، ومنها عدم تبني "إستراتيجية التحوّل الاقتصادي" وفق الرؤية الغربية (إلغاء الحماية جمركيا وتجاريا واستثماريا).
أما الميادين التي تحقق فيها النجاح، فكان على رأسها "الميدان الأمني" لمكافحة الإرهاب والهجرة غير المشروعة، وعدد من المشاريع على المستوى الثقافي والفني.يمكن أن يكون بين الأهداف الرسمية المعلنة، دعم مسيرة التنمية في الجنوب المتوسطي، وإذا انطبق العنوان على المضمون، فلذلك خلفيته الأوروبية المشروعة، أن تنمو القدرة الشرائية وبالتالي يزداد الاعتماد على الواردات الأوروبية.
ولكن من الملاحظ طوال ثلاثة عشر عاما مضت على إعلان برشلونة، وعلى الوثائق الرسمية للمؤتمرات المشتركة والمشاريع المختلفة، أن ليس في "برنامج" الأوروبيين وليس في "برامج" الأطراف العربية المشاركة، مشروع واحد يعزّز مثلا إنشاء بنية تحتية عربية مشتركة من طرق مواصلات، ومواني بحرية ومطارات وغيرها، وشبكة اتصالات، تزيد ارتباط الدول العربية بعضها ببعض، وجلّ ما يُطرح على مستوى مشترك هو ما يستهدف اصطناع مشاريع عربية-إسرائيلية على طريق التطبيع، وهو ما تهدمه الجرافات والدبابات الإسرائيلية يوميا من قبل نشأته، رغم سقوط التحفظات السياسية عليه.. لو أمكن تحقيق سلام.
كما لا توجد في البرنامج الأوروبي والبرامج العربية مشاريع تحقق اكتفاء ذاتيا على أساس التكامل العربي لاستغلال المساحات الزراعية في السودان مثلا لصالح المنطقة العربية، أو استغلال الخبرات العلمية والتقنية في مصر وسوريا وسواهما لتطوير التصنيع العربي المحلي بما يراعي الاحتياجات العربية ويخفف من وطأة النفقات للاستيراد.ليست مشكلة إعلان برشلونة ولن تكون مشكلة الاتحاد الأوروبي-المتوسطي مشكلة الأوروبيين، فهذه موضع الخلافات والمساومات والاتفاقات فيما بينهم، ولكنها مشكلة الأطراف العربية التي لم تصبح "طرفا" عربيا متكتلا، لتكون شريكا دوليا على قدم المساواة في إطار تكتل دولي.هذا علاوة على أنّ الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا في عهد ساركوزي، تريد انتزاع ثمن سياسي لما تعتبره "دعما اقتصاديا" وهو في حقيقته مصلحة ذاتية اقتصادية، فالهمّ الأوروبي، جماعيا ولكل دولة على انفراد، هو أن يتحقق الاندماج الإسرائيلي (التطبيع) في المنطقة العربية، وهذه عقبة، لم يعد تجاوزها في أيدي الحكومات العربية، بل أصبحت عبر محطات فلسطين ولبنان في أيدي المقاومة الشعبية، فإذا أمكن انتزاعها مجدّدا بمختلف الوسائل، لا سيما القمعية "الأمنية والعسكرية"، حقق الاتحاد الأوروبي المتوسطي ما عجز مشروع برشلونة عن تحقيقه خلال 13 عاما مضت.
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ميزات فارقة فهو سياسي طموح لكنه مزعج، ينفرد بمبادراته لكنه يتسرع بتصريحاته، يسعى للشهرة على حساب الفكرة، يفكر قط بمصلحته على حساب الآخرين، يعد بتحقيق أكثر مما يستطيع، وربما أكثر مما يريد، فمن أراد التعامل معه عليه أن يكون ذا نفس طويل، وحذر شديد، وقدرة دبلوماسية فائقة. والأمر نفسه ينطبق على المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل التي "أنقذت الموقف" مرتين على الأقل، أولاهما عندما اقترح ساركوزي تشكيل "مجلس حكماء أوروبي" للتفكير بمستقبل الاتحاد الأوروبي وللعمل على منع انضمام تركيا إليه، ولم يبق من الفكرة إلا العنوان، فتشكّل المجلس، ولكن دون أن يكون من صلاحياته ما يتعلق بعضوية تركيا، ولا النظر في المستقبل "القريب" للاتحاد، بل طرح أفكار عامة حول مستقبله بعد عام 2020.والمرة الثانية كانت قبيل القمة الأوروبية في بروكسل منتصف آذار الماضي، فما طرحه ساركوزي لتشكيل اتحاد أوروبي- متوسطي، يحمل بصماته بدءا بالطموح والتسرع، انتهاء بعدم مراعاة الآخرين من الشركاء والأصدقاء، أمّا ما وُضع على مائدة المفاوضات مع انعقاد القمة، فكان شيئا آخر، حمل بصمات ميركل مع ساركوزي، وبدّل وجه المشروع المطروح إلى درجة تسمح بالقول إنّه مشروع جديد.ومن أهدافه المعلنة:
- اتحاد جديد قائم بذاته يجمع الدول الأوروبية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، والدول الأخرى المطلّة عليه.
- اعتبار عضوية تركيا في هذا الاتحاد بديلا عن عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
- تعزيز التعاون الاقتصادي (وهذا ما يتضمّن سعي فرنسا مؤخرا لتسويق مفاعلاتها النووية في الشمال الإفريقي العربي) والتعاون البيئي (جعل البحر الأبيض المتوسط أنظف بحر في أنحاء العالم) والتعاون الأمني (مكافحة الإرهاب وفق مفهومه الغربي ومكافحة الهجرة من الجنوب إلى الشمال وما شابه ذلك).
ومن الأهداف غير المعلنة بإيجاز أيضا:
- تشكيل وعاء سياسي يجمع العرب والإسرائيليين بعد إخفاق مشروع ما عُرف بإعلان برشلونة دون تحقيق هذا الهدف الجوهري لتأسيسه بعد إخماد الانتفاضة الفلسطينية الأولى وانطلاقة أوسلو على خطى مدريد.
- ربط سوريا من بين "دول الممانعة" بمشروع يحقق لها مصالح اقتصادية، ثمنا للتخلّي عن "ممانعتها" سواء على صعيد المقاومة الفلسطينية أو المقاومة اللبنانية أو "التطبيع" غير المشروط مع الإسرائيليين.
- ترسيخ النفوذ الفرنسي المنافس للنفوذ الأمريكي من جهة، والمتكامل معه من جهة أخرى، في اتجاه المنطقة العربية المجاورة، التي كانت دائما هدفا فرنسيا وأوروبيا وأمريكيا.
والمفارقة أن ساركوزي لم يطلق على مشروعه عنوان "الاتحاد الأوروبي-المتوسطي"، بل المتوسطي فقط، بهدف أن يكون الاتحاد الأوروبي من ورائه ولكن من الناحية المالية، باعتباره بديلا أو مكملا لطريق إعلان برشلونة، الذي أخذ من الميزانية الأوروبية المليارات وخصص له 16 مليارا أخرى للفترة بين 2007 و2013 .
المشروع الذي قُدّم للقمة الأوروبية يُعتبر امتدادا لمشروع إعلان برشلونة بتطوير محدود بعد أن عُدل ألمانياً ، ثم شاركت فرنسا في تبنيه، كما يعتبر اتحادا أوروبيا (يشمل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي جميعا وهي حاليا 27 دولة) متوسطيا، وإن بقي يحمل اسم الاتحاد المتوسطي رسميا.
لقد استكمل المشروع بإجراء شكلي، يجعل رئاسة الاتحاد الثنائية مقتصرة (بالتناوب كل عامين) على الدول المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، إلى أن تشملها الدورة جميعا (18 سنة) ثم تشارك الدول الأوروبية الأخرى في التناوب على الرئاسة أيضا.أمّا المضمون على الأصعدة الاقتصادية والأمنية وسواها، فهو هو كما كان، بين الاتحاد الأوروبي ودول المنطقة عبر إعلان برشلونة، ولكن سيحمل عند تأسيس الاتحاد بالفعل اسم الاتحاد المتوسطي.
الشكل الجديد المعدّل للمشروع باسمه القديم، هو ما وجد ترحيبا "مبدئيا" من جانب من عارضه سابقا، كالدول الإسكندنافية والنمسا، بسبب التكاليف المالية والاستثناء من العضوية، وقد بدا أنّ الاتحاد المتوسطي لم يعد مشروعا ساركوزيا، بل أصبح جزءا من مسيرة المحور الفرنسي- الألماني المشترك.
وإذا سارت الأمور على ما يرام وتحقق الاتفاق على التفاصيل- أن يُعلن عن تأسيس الاتحاد في احتفال رسمي على مستوى قمة طارئة تنعقد في باريس في13/7/2008، أي بعد أسبوعين من استلام فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وقبل يوم واحد من احتفالات فرنسا بيومها الوطني.أمّا الحصيلة الحقيقية للمساومات الأوروبية حول المشروع فهي أنّ ساركوزي اضطر إلى "اقتسام الغنيمة" مع شركائه الأوروبيين، ليس في صناعة القرار فقط، بل فيما يمكن تحقيقه اقتصاديا أيضا.
الخلافات حول صياغة المشروع الجديد كانت خلافات أوروبية- أوروبية، والحلول الوسطية كانت أوروبية، والمفاوضات على التفاصيل ستجرى بين الأوروبيين، والمخطط الزمني المقرّر يرى أن يستمرّ ذلك حتى يتمّ اتخاذ القرار أوروبيا، ثم يحضر الغائبون من الرؤساء والملوك على الساحل الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ليشاركوا في احتفال تدشين تأسيس الاتحاد الجديد على خطى مسيرة برشلونة القديمة.
قبل العروض النووية الفرنسية الأخيرة، كانت الدول العربية وما تزال تشتري ما قيمته سنويا أكثر من 120 مليار يورو (126 مليارا عام 2006) من الآلات والسيارات والمنتجات الكيماوية وغيرها، من الدول الأوروبية، وهو ما يمثل سندا لا يستهان به لازدهارها الاقتصادي الذي يعتمد على "بند الصادرات" في الدرجة الأولى.
وكانت تلك الدول وما تزال - وبخاصة ليبيا والجزائر- مصدر تأمين نسبة عالية من احتياجات النفط والغاز للقارة الأوروبية بتكاليف منخفضة نسبيا، نظرا للجوار الجغرافي ولاعتبارات أخرى.هذا إضافة إلى أنّ الدول العربية ذات القدرات الاقتصادية الأكبر نسبيا، بغض النظر عن الأوضاع المعيشية، سوق مرغوبة أوروبيا للاستثمارات المالية شريطة تشريع القوانين لحمايتها، أو بتعبير أوضح لضمان تحقيق أرباح للأوروبيين من خلالها، دون ضمان تحقيق انتعاش اقتصادي حقيقي في البلدان المضيفة، فغالبها استثمارات في قطاعات السياحة والبناء وأمثالها، وليس في قطاعات إنتاج صناعي وتطوير تقني.يضاف إلى ذلك أنّ أوروبا تضع في حسابها تحت وطأة شيخوختها وانقلاب هرم الأعمار السكاني فيها رأسا على عقب "استيراد" الأيدي العاملة من الدول العربية في الشمال الإفريقي، بنسبة عالية خلال عقد أو عقدين على الأكثر.
عند النظر في الوثيقة الصادرة عن المفوضية الأوروبية عام 2000 (أي بعد خمس سنوات على انطلاق مسيرة برشلونة) يمكن استقراء الأهداف الأهمّ في نظر الأوروبيين من خلال التعاون الأوروبي-المتوسطي، فآنذاك أبرزت المفوضية أهم "العقبات"، فكان أوّلها بطء "عملية التسوية السلمية"، ومنها عدم تبني "إستراتيجية التحوّل الاقتصادي" وفق الرؤية الغربية (إلغاء الحماية جمركيا وتجاريا واستثماريا).
أما الميادين التي تحقق فيها النجاح، فكان على رأسها "الميدان الأمني" لمكافحة الإرهاب والهجرة غير المشروعة، وعدد من المشاريع على المستوى الثقافي والفني.يمكن أن يكون بين الأهداف الرسمية المعلنة، دعم مسيرة التنمية في الجنوب المتوسطي، وإذا انطبق العنوان على المضمون، فلذلك خلفيته الأوروبية المشروعة، أن تنمو القدرة الشرائية وبالتالي يزداد الاعتماد على الواردات الأوروبية.
ولكن من الملاحظ طوال ثلاثة عشر عاما مضت على إعلان برشلونة، وعلى الوثائق الرسمية للمؤتمرات المشتركة والمشاريع المختلفة، أن ليس في "برنامج" الأوروبيين وليس في "برامج" الأطراف العربية المشاركة، مشروع واحد يعزّز مثلا إنشاء بنية تحتية عربية مشتركة من طرق مواصلات، ومواني بحرية ومطارات وغيرها، وشبكة اتصالات، تزيد ارتباط الدول العربية بعضها ببعض، وجلّ ما يُطرح على مستوى مشترك هو ما يستهدف اصطناع مشاريع عربية-إسرائيلية على طريق التطبيع، وهو ما تهدمه الجرافات والدبابات الإسرائيلية يوميا من قبل نشأته، رغم سقوط التحفظات السياسية عليه.. لو أمكن تحقيق سلام.
كما لا توجد في البرنامج الأوروبي والبرامج العربية مشاريع تحقق اكتفاء ذاتيا على أساس التكامل العربي لاستغلال المساحات الزراعية في السودان مثلا لصالح المنطقة العربية، أو استغلال الخبرات العلمية والتقنية في مصر وسوريا وسواهما لتطوير التصنيع العربي المحلي بما يراعي الاحتياجات العربية ويخفف من وطأة النفقات للاستيراد.ليست مشكلة إعلان برشلونة ولن تكون مشكلة الاتحاد الأوروبي-المتوسطي مشكلة الأوروبيين، فهذه موضع الخلافات والمساومات والاتفاقات فيما بينهم، ولكنها مشكلة الأطراف العربية التي لم تصبح "طرفا" عربيا متكتلا، لتكون شريكا دوليا على قدم المساواة في إطار تكتل دولي.هذا علاوة على أنّ الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا في عهد ساركوزي، تريد انتزاع ثمن سياسي لما تعتبره "دعما اقتصاديا" وهو في حقيقته مصلحة ذاتية اقتصادية، فالهمّ الأوروبي، جماعيا ولكل دولة على انفراد، هو أن يتحقق الاندماج الإسرائيلي (التطبيع) في المنطقة العربية، وهذه عقبة، لم يعد تجاوزها في أيدي الحكومات العربية، بل أصبحت عبر محطات فلسطين ولبنان في أيدي المقاومة الشعبية، فإذا أمكن انتزاعها مجدّدا بمختلف الوسائل، لا سيما القمعية "الأمنية والعسكرية"، حقق الاتحاد الأوروبي المتوسطي ما عجز مشروع برشلونة عن تحقيقه خلال 13 عاما مضت.