استنزاف الصين في التيبت
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
بيروت 25-3-2008
يلاحظ المراقب للتطورات السياسية على الساحة الدولية أن هناك علاقة طردية بين نمو وتمدد وانتشار الصين خارجيا، وبين كثرة منغصاتها الداخلية، فكلما وقعت بكين اتفاقيات جديدة مهمة في أماكن بعيدة ظهرت لها مسألة تايوان، وعندما تتزايد وتتنوع صادراتها وتصل إلى كل مكان تقريبا تطفو مشكلة هونج كونج، وإذا اقتربت من بعض القضايا الإقليمية الساخنة يتكرر فتح ملف حقوق الإنسان وصدامات ميدان السلام السماوي الشهيرة، وفي حالة نجاحها في تطوير علاقاتها مع بعض الدول المنتجة والمصدرة للنفط في إفريقيا تظهر لها أزمة التيبت، هذا الملخص يصلح ليكون مدخلا مناسبا لتفسير جزء معتبر من المظاهرات والاحتجاجات والتجاذبات بين بكين والقيادتين الروحية والسياسية في التيبت، التي بلغت خلال الأيام الماضية حدا خطيرا ينذر بمزيد من التداعيات، بعد أن أصبح العامل الخارجي عنصرا لافتا في أجندة جميع الأطراف، يعيد للأذهان جانبا من تفاعلات الحرب الباردة في عقود سابقة.
الواضح أن بكين غمزت كثيرا إلى قناة الدعم الغربي للزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما واتهمته بالتحريض على العنف، ولم تنس زيارته التاريخية للولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عندما قلده الرئيس الأمريكي جورج بوش أرفع وسام مدني “كمدافع عن الحرية الدينية”، على الرغم من معارضتها الزيارة والتكريم، ولم يخل الأمر من تلميح للهند الجارة التي يتخذها الدالاي لاما مقرا لإقامته، من مغبة المشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تسخين الأوضاع في التيبت، وما تنطوي عليه من مشكلات تضاعف من الحساسيات الراهنة في منطقة مليئة بالصراعات والتوترات التي لا تقل خطورة عن التيبت، يؤدي فتح الباب أمامها إلى خلط كثير من الأوراق.
الظاهر في العلن أن مشكلة التيبت كأي مشكلة داخلية لها أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية ويمكن حلها بالتفاهم مع الحكومة المركزية، لكن مفاصلها الخفية تسير في طريق مغاير أسبغ عليها صفات درامية، حتى أصبحت وكأنها لعبة أمم مصغرة، حيث دخلت على خطوطها معظم القوى الدولية الرئيسية وحدثت استقطابات ثنائية، فهذه موسكو تؤكد أن الإقليم جزء لا يتجزأ من الصين ومشكلاته داخلية، بينما تؤيد دوائر غربية احترام خصوصيته وتغدق المديح على رهبان وسياسيي التيبت، وبدأ سيناريو المواقف التقليدية في عدد من القضايا الدولية يتكرر هنا، فقد درجت بكين وموسكو في الآونة الأخيرة على الوقوف في خندق مقابل في غالبية الأحيان لواشنطن وحلفائها، وحتى لو توارى هذا الفرز نسبيا حيال التيبت، فإن مكوناته وأبعاده سوف تكون حاضرة، وهناك روابط وثيقة بين الجانبين تفرض النظر إليه من هذه الزاوية الدقيقة.
لم تكن التحذيرات الغربية السابقة من صعود الصين مخادعة، بل كانت تعني أن بكين عازمة على توسيع نطاق نفوذها بعد نجاحها في بناء هياكل أساسية تساعدها على ذلك، وبدأت فعلا تظهر ملامح خطواتها الحثيثة في مناطق متعددة تهدد عرش بعض القوى التقليدية، ويتوقع كثير من المراقبين أن تحقق المزيد من التفوق في ظل حفاظها على التقدم بمتوالية هندسية محكمة، لأنها أضحت تملك من الأدوات والعلاقات ما يساعدها على الوصول لأغراضها السياسية والاقتصادية بطريقة أسرع من منافسيها، من هنا فالربط بين هذا الصعود ونكأ الجروح الداخلية لم يعد على سبيل الفانتازيا السياسية، ويستند هذا الربط على نقطتين، الأولى أن الولايات المتحدة القوة العظمى المحورية درجت على استخدام القضايا المحلية في لعبة ضغوطها على مناوئيها ومنافسيها، والثانية أن الصين التي حققت معدلات نمو اقتصادية غير مسبوقة، لا تزال حافلة بالمشكلات الداخلية وتخشى إجراء إصلاحات سياسية حاسمة، بالتالي قد يتحول إقليم التيبت إلى كرة لهب خطيرة تحرق معها الأخضر واليابس في الصين وخارجها.
يمكن الإشارة إلى ثلاثة محددات تدعم عملية تحول التيبت إلى مسمار غربي حاليا لمضايقة الصين، الأول تطور العلاقات بين كثير من الأوساط الغربية والزعيم الروحي للإقليم، ومع أنه يدين بالبوذية، غير أنه يحظى باحترام واسع، استمده من اتجاهه نحو حل المشكلات بالطرق السلمية، والثاني ارتفاع معدل النداءات والزيارات والتدخلات المطالبة بوقف الاعتداءات الصينية على مواطني التيبت، واتخاذها مطية لتصفية حسابات سياسية مؤجلة، وقد لاحظنا الهجمة الإعلامية الغربية على الصين، في حين تم تجاهل أزمات أكثر حدة في مناطق أخرى، والثالثة تأكيد أن طموح ونفوذ بكين الخارجي له حدود ويمكن وضع سدود تحول دون زحفه مستقبلا، إذا تجاوزت الصين بعض الخطوط الحمراء.
في هذه الأجواء جرت العادة أن تشير أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة، باعتبارها المستفيد الأول من عملية فرملة الطموح الصيني، لكن حصيلة مواقف وتصريحات الإدارة الأمريكية مشت في طريق مخالف، لا يتناسب مع تصوراتها وتصرفاتها السابقة، فهذه كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية تدعو بكين لفتح حوار مع الدالاي لاما لإنهاء العنف، من دون أن تحملها صراحة مسؤوليته، وعلى هذا المنوال جاءت معظم التعليقات الرسمية الأمريكية، وهو ما يمكن تفسيره برغبتها في إبعاد أصابع الاتهام إليها بوصفها صاحبة مصلحة استراتيجية في هز عرش الصين من الداخل لمنع تمددها في الخارج، والحرص على عدم الدخول في مواجهات مفتوحة مع بكين في وقت تزايدت فيه الأزمات التي تعترض طريق الولايات المتحدة في مناطق كثيرة، لذلك فالهدف هو التسخين إلى حد لا يصل إلى التفجير التام للحفاظ على قدر من التوازنات، وإرسال إشارات مفادها ضرورة احترام القواعد التي أرستها واشنطن إزاء عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
على ضوء المعطيات السابقة يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات لأزمة التيبت، لا يعني الاستقرار على أحدها الابتعاد عن الأخرى، فالأزمة معقدة ومتشابكة وخيوطها الداخلية لا تنفصل عن نظيرتها الخارجية، وأخذت فروعها تتشعب، بما ينذر باحتفاظها بدرجة عالية من الحرارة السياسية والمجتمعية.
الأول، التوصل إلى تفاهمات مشتركة بين بكين والدالاي لاما لطي ملف المظاهرات والصدامات الحالية، وضمان نجاح دورة الألعاب الأولمبية في الصين العام الجاري، التي دخلت حقلا حافلا بالمزايدات من قبل بعض العناصر في التيبت، بعد ظهور تهديدات بإفشالها، وقوام أي تفاهمات التنازلات المتبادلة والحفاظ على إقليم التيبت ضمن الدولة الصينية، والكف عن التلويح بورقة الانفصال.
الثاني، استمرار الحلقات الجهنمية للعنف وتمدده إلى مناطق مجاورة، خاصة أن المتظاهرين أسرفوا في التخريب وقابلتهم الشرطة بإجراءات صارمة وقاسية، وخلف هذا الوضع حالة شديدة من الاحتقان، ربما يحول دون التوصل لقواسم مشتركة للتفاهم حول بعض القضايا السياسية، وبدأت تظهر أصوات متباينة في أوساط التيبت، تتجاذبها أطراف في الداخل وأخرى في الخارج، مما يقلل في النهاية من الزعامة الروحية التي يحظى بها الدالاي لاما.
الثالث، الإقدام على خطوة انفصالية غير مدروسة جيدا، تحت ذريعة التأييد الغربي المغلف بعبارات تنتقد الصين من وقت لآخر، وخطورة هذا الاحتمال في جر المنطقة لمزيد من الصراعات ووضع بكين وأصدقائها أمام مواجهات علنية مع واشنطن وحلفائها، والعودة صراحة لأجواء الحرب الباردة بكل ما تحمله من تداعيات، لم تستعد لها جيدا بعض القوى الدولية.
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
بيروت 25-3-2008
يلاحظ المراقب للتطورات السياسية على الساحة الدولية أن هناك علاقة طردية بين نمو وتمدد وانتشار الصين خارجيا، وبين كثرة منغصاتها الداخلية، فكلما وقعت بكين اتفاقيات جديدة مهمة في أماكن بعيدة ظهرت لها مسألة تايوان، وعندما تتزايد وتتنوع صادراتها وتصل إلى كل مكان تقريبا تطفو مشكلة هونج كونج، وإذا اقتربت من بعض القضايا الإقليمية الساخنة يتكرر فتح ملف حقوق الإنسان وصدامات ميدان السلام السماوي الشهيرة، وفي حالة نجاحها في تطوير علاقاتها مع بعض الدول المنتجة والمصدرة للنفط في إفريقيا تظهر لها أزمة التيبت، هذا الملخص يصلح ليكون مدخلا مناسبا لتفسير جزء معتبر من المظاهرات والاحتجاجات والتجاذبات بين بكين والقيادتين الروحية والسياسية في التيبت، التي بلغت خلال الأيام الماضية حدا خطيرا ينذر بمزيد من التداعيات، بعد أن أصبح العامل الخارجي عنصرا لافتا في أجندة جميع الأطراف، يعيد للأذهان جانبا من تفاعلات الحرب الباردة في عقود سابقة.
الواضح أن بكين غمزت كثيرا إلى قناة الدعم الغربي للزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما واتهمته بالتحريض على العنف، ولم تنس زيارته التاريخية للولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عندما قلده الرئيس الأمريكي جورج بوش أرفع وسام مدني “كمدافع عن الحرية الدينية”، على الرغم من معارضتها الزيارة والتكريم، ولم يخل الأمر من تلميح للهند الجارة التي يتخذها الدالاي لاما مقرا لإقامته، من مغبة المشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تسخين الأوضاع في التيبت، وما تنطوي عليه من مشكلات تضاعف من الحساسيات الراهنة في منطقة مليئة بالصراعات والتوترات التي لا تقل خطورة عن التيبت، يؤدي فتح الباب أمامها إلى خلط كثير من الأوراق.
الظاهر في العلن أن مشكلة التيبت كأي مشكلة داخلية لها أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية ويمكن حلها بالتفاهم مع الحكومة المركزية، لكن مفاصلها الخفية تسير في طريق مغاير أسبغ عليها صفات درامية، حتى أصبحت وكأنها لعبة أمم مصغرة، حيث دخلت على خطوطها معظم القوى الدولية الرئيسية وحدثت استقطابات ثنائية، فهذه موسكو تؤكد أن الإقليم جزء لا يتجزأ من الصين ومشكلاته داخلية، بينما تؤيد دوائر غربية احترام خصوصيته وتغدق المديح على رهبان وسياسيي التيبت، وبدأ سيناريو المواقف التقليدية في عدد من القضايا الدولية يتكرر هنا، فقد درجت بكين وموسكو في الآونة الأخيرة على الوقوف في خندق مقابل في غالبية الأحيان لواشنطن وحلفائها، وحتى لو توارى هذا الفرز نسبيا حيال التيبت، فإن مكوناته وأبعاده سوف تكون حاضرة، وهناك روابط وثيقة بين الجانبين تفرض النظر إليه من هذه الزاوية الدقيقة.
لم تكن التحذيرات الغربية السابقة من صعود الصين مخادعة، بل كانت تعني أن بكين عازمة على توسيع نطاق نفوذها بعد نجاحها في بناء هياكل أساسية تساعدها على ذلك، وبدأت فعلا تظهر ملامح خطواتها الحثيثة في مناطق متعددة تهدد عرش بعض القوى التقليدية، ويتوقع كثير من المراقبين أن تحقق المزيد من التفوق في ظل حفاظها على التقدم بمتوالية هندسية محكمة، لأنها أضحت تملك من الأدوات والعلاقات ما يساعدها على الوصول لأغراضها السياسية والاقتصادية بطريقة أسرع من منافسيها، من هنا فالربط بين هذا الصعود ونكأ الجروح الداخلية لم يعد على سبيل الفانتازيا السياسية، ويستند هذا الربط على نقطتين، الأولى أن الولايات المتحدة القوة العظمى المحورية درجت على استخدام القضايا المحلية في لعبة ضغوطها على مناوئيها ومنافسيها، والثانية أن الصين التي حققت معدلات نمو اقتصادية غير مسبوقة، لا تزال حافلة بالمشكلات الداخلية وتخشى إجراء إصلاحات سياسية حاسمة، بالتالي قد يتحول إقليم التيبت إلى كرة لهب خطيرة تحرق معها الأخضر واليابس في الصين وخارجها.
يمكن الإشارة إلى ثلاثة محددات تدعم عملية تحول التيبت إلى مسمار غربي حاليا لمضايقة الصين، الأول تطور العلاقات بين كثير من الأوساط الغربية والزعيم الروحي للإقليم، ومع أنه يدين بالبوذية، غير أنه يحظى باحترام واسع، استمده من اتجاهه نحو حل المشكلات بالطرق السلمية، والثاني ارتفاع معدل النداءات والزيارات والتدخلات المطالبة بوقف الاعتداءات الصينية على مواطني التيبت، واتخاذها مطية لتصفية حسابات سياسية مؤجلة، وقد لاحظنا الهجمة الإعلامية الغربية على الصين، في حين تم تجاهل أزمات أكثر حدة في مناطق أخرى، والثالثة تأكيد أن طموح ونفوذ بكين الخارجي له حدود ويمكن وضع سدود تحول دون زحفه مستقبلا، إذا تجاوزت الصين بعض الخطوط الحمراء.
في هذه الأجواء جرت العادة أن تشير أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة، باعتبارها المستفيد الأول من عملية فرملة الطموح الصيني، لكن حصيلة مواقف وتصريحات الإدارة الأمريكية مشت في طريق مخالف، لا يتناسب مع تصوراتها وتصرفاتها السابقة، فهذه كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية تدعو بكين لفتح حوار مع الدالاي لاما لإنهاء العنف، من دون أن تحملها صراحة مسؤوليته، وعلى هذا المنوال جاءت معظم التعليقات الرسمية الأمريكية، وهو ما يمكن تفسيره برغبتها في إبعاد أصابع الاتهام إليها بوصفها صاحبة مصلحة استراتيجية في هز عرش الصين من الداخل لمنع تمددها في الخارج، والحرص على عدم الدخول في مواجهات مفتوحة مع بكين في وقت تزايدت فيه الأزمات التي تعترض طريق الولايات المتحدة في مناطق كثيرة، لذلك فالهدف هو التسخين إلى حد لا يصل إلى التفجير التام للحفاظ على قدر من التوازنات، وإرسال إشارات مفادها ضرورة احترام القواعد التي أرستها واشنطن إزاء عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
على ضوء المعطيات السابقة يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات لأزمة التيبت، لا يعني الاستقرار على أحدها الابتعاد عن الأخرى، فالأزمة معقدة ومتشابكة وخيوطها الداخلية لا تنفصل عن نظيرتها الخارجية، وأخذت فروعها تتشعب، بما ينذر باحتفاظها بدرجة عالية من الحرارة السياسية والمجتمعية.
الأول، التوصل إلى تفاهمات مشتركة بين بكين والدالاي لاما لطي ملف المظاهرات والصدامات الحالية، وضمان نجاح دورة الألعاب الأولمبية في الصين العام الجاري، التي دخلت حقلا حافلا بالمزايدات من قبل بعض العناصر في التيبت، بعد ظهور تهديدات بإفشالها، وقوام أي تفاهمات التنازلات المتبادلة والحفاظ على إقليم التيبت ضمن الدولة الصينية، والكف عن التلويح بورقة الانفصال.
الثاني، استمرار الحلقات الجهنمية للعنف وتمدده إلى مناطق مجاورة، خاصة أن المتظاهرين أسرفوا في التخريب وقابلتهم الشرطة بإجراءات صارمة وقاسية، وخلف هذا الوضع حالة شديدة من الاحتقان، ربما يحول دون التوصل لقواسم مشتركة للتفاهم حول بعض القضايا السياسية، وبدأت تظهر أصوات متباينة في أوساط التيبت، تتجاذبها أطراف في الداخل وأخرى في الخارج، مما يقلل في النهاية من الزعامة الروحية التي يحظى بها الدالاي لاما.
الثالث، الإقدام على خطوة انفصالية غير مدروسة جيدا، تحت ذريعة التأييد الغربي المغلف بعبارات تنتقد الصين من وقت لآخر، وخطورة هذا الاحتمال في جر المنطقة لمزيد من الصراعات ووضع بكين وأصدقائها أمام مواجهات علنية مع واشنطن وحلفائها، والعودة صراحة لأجواء الحرب الباردة بكل ما تحمله من تداعيات، لم تستعد لها جيدا بعض القوى الدولية.