تحولات سياسة إسرائيل الخارجية في عقدها السادس
د.خليل حسين
رئيس المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية والدولية
ثمة مفارقات لافتة في سياسات إسرائيل الخارجية منذ نشأتها وبخاصة مع بعض الدول الأوروبية التي كانت محل اتهام دائم لجهة ما سمته بالهلوكوست ،فعلى الرغم من أن لا صداقات ولا عداءات دائمة في العلاقات الدولية فقد ظلت كل من ألمانيا وبولندا تترأس لائحة الابتزاز السياسي والاقتصادي في سياسة إسرائيل الخارجية،ورغم أن متغيرات دولية كثيرة حدثت في العقد الأخير من القرن الماضي انتظرت تل أبيب لأشهر خلت لتظهير تحولات لافتة في علاقاتها الخارجية مع كل من بولندا وألمانيا،فما هي خلفيات هذا التحول ؟وكيف ستصرفه إسرائيل عمليا في الذكرى الستين لاغتصابها فلسطين؟
لقد شهدت السياسات الخارجية الإسرائيلية، بالتزامن مع الاحتفال بستينية الدولة، مجموعة من التحولات السياسية غير المسبوقة التي أثرت بدورها على توجهات وأنشطة الدبلوماسية الإسرائيلية، ففي الوقت الذي تهتم فيه إسرائيل خلال احتفالاتها السنوية بذكرى قيام الدولة بإثارة التاريخ ألعدائي الذي ربطها بتلك الدول والشعوب على قاعدة ما تعرضوا له في أوروبا خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي من النازيين، يلاحظ ما شرعت به تل أبيب في تدشين علاقات إستراتيجية غير مسبوقة مع عدد من بين تلك الدول؛ والتي يمكن رصدها بالتالي:
مع مطلع شباط 2008 توالت الإشارات التي أظهرت بوضوح على تتابع البدايات الأولى لدخول العلاقات الألمانية - الإسرائيلية مرحلة التعاون غير المسبوق، عبر إعلان السفير الإسرائيلي لدى ألمانيا يورام بن زائيف عن اقتراح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تطوير العلاقات الألمانية – الإسرائيلية إلى مستوى لم تصل إليه من قبل، ذلك بمناسبة مرور ستين عامًا على إقامة دولة إسرائيل، أعقب ذلك قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بزيارة رسمية لألمانيا بتاريخ 10/2/2008 استغرقت ثلاثة أيام؛ تم في خلالها الترتيب لمجموعة من اللقاءات التشاورية السنوية بين زعماء الدوليتين، والاتفاق على عدد من اللجان المشتركة بين أطقم وزارية من الجانبين الإسرائيلي والألماني أكثر من مرة خلال العام الواحد، الأمر الذي يصل بدرجة العلاقات بين برلين وتل أبيب إلى مستوى التي تربط بين عواصم البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وفي نفس السياق، قامت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" بزيارة إلى إسرائيل هي الأولى من نوعها في آذار 2008، استمرت ثلاثة أيام، أعربت "ميركل" خلالها عن تضامنها الكامل مع إسرائيل في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها، رغم الجدل الواسع الذي أثارته هذه الزيارة غير المسبوقة في الأوساط السياسية والفكرية الإسرائيلية؛ على قاعدة ما يربط إسرائيل بألمانيا تراث من الكراهية والعداء ، الذي من الصعب توقع تجاوزه.
ويمكن القول إن تطور العلاقات الألمانية – الإسرائيلية إلى هذا الحد، يأتي في إطار إدراك كل من تل أبيب وبرلين بأن ثمة حدودًا معينة للسياسة الألمانية في الشرق الأوسط، لا تنجم فقط عن العلاقة الخاصة مع إسرائيل، بل أيضًا عن الدور النسبي الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط مقارنة مع دور الولايات المتحدة، الأمر الذي يدفع الطرفين الألماني والإسرائيلي لمحاولة الارتقاء بهذه العلاقات لتفعيلها وتطويعها في اتجاه خدمة المصالح المشتركة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
التحول الآخر جرى في العلاقات مع بولندا التي لا تختلف كثيرا عن ألمانيا، بالنسبة لإسرائيل لجهة التراث العدائي الذي يربطها بها، على خلفية ما يعرف بـتمرد غيتو وارسو وهو تمرد منظمة يهودية بولندية مسلحة في 28 تموز 1942، ويعد من أكثر الأحداث التاريخية ذات التأثير السلبي على العلاقات بين كل من وارسو وتل أبيب؛ إذ أنه يُذكر بأحداث "الهولوكوست" النازية.
رغم ذلك، شهد شهر نيسان 2008 مجموعة من الزيارات الرسمية بين مسؤولين بولنديين وإسرائيليين على مستوى القمة، فقد قام "دونالد تاسك" رئيس الوزراء البولندي بزيارة تل أبيب التي وصفت بأنها "زيارة جديدة وتؤذن ببداية مرحلة جديدة أكثر ثراءً في العلاقات بين البلدين، وتؤشر إلى رغبة مشتركة في تجاوز الماضي وبناء مستقبل مشترك، احتفالا بالذكرى الستين لقيام إسرائيل، ذلك رغم أن التاريخ شكل غالبًا لعنة بالنسبة إلى البولنديين واليهود"، في حين قام الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بزيارة للعاصمة وارسو خلال الشهر نفسه ، أعرب خلالها عن أمله في تجاوز الماضي وتدشين علاقات قوية مع بولندا.
وفيما يتعلق بالظروف والخلفيات المحيطة بهذا التحسّن الطارئ على العلاقات البولندية - الإسرائيلية، فيأتي على رأسها تنامي التعاون العسكري بين الدولتين مؤخرا، فمنذ العام 1994 وقعت إسرائيل وبولندا على اتفاق تعاون أمني وعسكري، تبعه العام 2003 عقد وارسو صفقة عسكرية مع إسرائيل تقدر بحوالي 260 مليون دولار، اشترت بموجبها صواريخ مضادة للدبابات ؛ لتدعيم قدرات الجيش البولندي، كما أعربت بولندا أكثر من مرة عن رغبتها الشديدة في الاستعانة بخبرات سلاح الجو الإسرائيلي لتدريب الطيارين البولنديين.
كما يأتي موضوع تعويض اليهود عن ممتلكاتهم التي فقدوها في بولندا، كأحد أهم الدوافع الإسرائيلية تحديدا لتطويرالعلاقة مع بولندا، ذلك في إطار سعي إسرائيل الدائم للحصول على أكبر المكاسب المادية الممكنة جراء ما تعتبره الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا، على غرار ما تحصل عليه من تعويضات مالية ألمانية حتى الآن.ولا شك أن هذا التحسن في العلاقات مع بولندا وألمانيا يؤشر على تصميم إسرائيل تحسين علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة مع تلك الدول التي يربطها بها تاريخ من العداء، بشكل يؤشر على وجود تحول في السياسيات الخارجية الإسرائيلية بشكل عام وتجاه أوروبا بشكل خاص.
إن التحولات في السياسات الخارجية الإسرائيلية التي تترافق مع احتفالها بعقدها الستين، تحمل خلفيات واضحة تتلخص في محاولة إسرائيل خدمة مصالحها السياسية التكتية والإستراتيجية المستقبلية حتى لو كلفها ذلك تخطي عقبات تاريخية كانت تقف في طريق تحقيق ذلك، وفي ذلك الإطار جاء تطوير علاقاتها مع كل من ألمانيا وبولندا في الآونة الأخيرة، كمنطلق لتحسين علاقتها بشكل عام مع الاتحاد الأوروبي، والذي تهدف إسرائيل من ورائه إلى تحقيق عدد من الأهداف أبرزها:
- كسب جبهة أخرى في مواجهة إيران، عبر تطوير وتقوية العلاقات مع دول ذات تأثير فاعل في السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي كألمانيا والعمل على الاستفادة من ذلك للضغط على الاتحاد لاتخاذ إجراءات أكثر شدة وفعالية تجاه طهران، وتكثيف الضغط الاقتصادي والدبلوماسي على إيران لإرغامها على كبح برنامجها النووي؛ وخاصة أن إسرائيل ترى في ذلك فرصة جيدة لاستثمار مثل هذه العلاقات بشكل يأتي على حساب العلاقات التي تربط طهران بالاتحاد الأوروبي، على غرار ما نجحت في تحقيقه من خلال تقاربها مع الصين في الآونة الأخيرة، والذي برز بشكل واضح عقب زيارة الرئيس الصيني جيانغ زيمين لتل أبيب عام 2000، والذي أدى بدوره إلى تخفيض التعاون الصيني- الإيراني في المجال العسكري.
- العمل على تطويع الموقف الأوروبي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ إذ من المعروف أن ثمة حالة من الجدل المستمر بين الدوائر السياسية الإسرائيلية ونظيرتها الأوروبية فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى حدوث فتور ملحوظ في العلاقات بين تل أبيب والاتحاد، ينتج عنه بشكل غير مباشر زيادة الضغوط الدولية على نل أبيب في حال مبالغتها في ممارساتها الوحشية تجاه الشعب الفلسطيني، إضافة إلى حرص إسرائيل على الحفاظ على المقاطعة الأوروبية لحركات المقاومة وعلى رأسها حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني.
- تعزيز وتنمية التعاون الاقتصادي والعسكري بين أوروبا وإسرائيل، فمن المعروف أن إسرائيل تربطها علاقات اقتصادية وثيقة بالاتحاد الأوروبي منذ العام 1994، الذي شهد إعلان مجلس الاتحاد الأوروبي اعترافه بحق إسرائيل في التمتع بمكانة خاصة في الاتحاد على قاعدة الدولة الأكثر رعاية بحكم المستوى العالي للتطور الاقتصادي في إسرائيل، كما شهد العام 1995 توقيع الاتحاد الأوروبي وإسرائيل على "اتفاقية الشراكة"، التي جاءت لتحل مكان اتفاقية التعاون المبرمة بين إسرائيل والمجموعة الأوروبية سنة 1975. أما من الناحية العسكرية فثمة مجالات اهتمام مشتركة بما يتصل بتطوير وإقامة شبكات العلاقات الحيوية للتعاون الأمني مع دول أوروبا؛ فثمة عدة مجالات عمل ذات صلة بإنشاء أُطر التعاون الإسرائيلي - الأوروبي، سواء مع كل دولة أوروبية على حدة، أو في إطار شبكة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة.
في عقدها الستين تحاول إسرائيل تجديد شبابها بعلاقات دبلوماسية اقتصادية سياسية غير مسبوقة مع دوليتين كانتا حتى الأمس القريب تشكلان نموذجا فريدا للعداء بين الدول،ذلك يدل على حرفة في اقتناص المكاسب حتى من أعداء تقليديين،فأين نحن العرب من هذه السياسات المحترفة غي الذكرى الستين لنكبة فلسطين؟يبدو أننا لا زلنا نعيش على كوكب آخر!