الأزمة المالية العالمية وتداعياتها الجيو سياسية
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رغم الغموض المتعلق بشكل النظام الدولي في المرحلة القادمة، فإن الأزمة المالية ستسرّع من تحوّل النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب؛ فتلك الأزمة تعمل على تعميق الدور الاقتصادي للصين وغيرهاعالمياً، من خلال ما تمتلكه من احتياطيات ضخمة، وهو ما يعطيها نفوذاً واضحا فيما يتعلق بتشكيل مستقبل المشهد الاقتصادي العالمي.
ومع احتدام الأزمة المالية يثور تساؤل رئيسي مفاده: هل ستسرع الأزمة الاقتصادية من انهيار الولايات المتحدة اقتصادياً، بصورة أسرع مما هو متوقع ؟ أم أن الأزمة المالية ستكون فرصة مواتية للولايات المتحدة لتعود بصورة أكثر قوة مما كانت عليه خلال السنوات الماضية؟.
تشير السوابق التاريخية إلى نجاح الولايات المتحدة في التعامل مع الأزمات، لاسيما الاقتصادية التي واجهتها خلال تاريخها مقارنة بمثيلاتها من القوى الأخرى.فمثلا خرجت الولايات المتحدة من أزمة النفط خلال سبعينيات القرن الماضي بسرعة، مقارنة بمثيلاتها من القوى الأوروبية واليابان التي كانت أكثر اعتمادا على النفط. كما تمتلك الولايات المتحدة مقومات الخروج من أزماتها، ولديها القدرة على إعادة اختراع نفسها. وقد لا تكون الأزمات عائقا أمام الولايات المتحدة، بل قد تكون سببا في عودتها أكثر قوة، وذلك وفق مقولة "التدمير المبدع ". الأمر الذي ميَّز الولايات المتحدة في الماضي، وما قد يساعدها على الخروج من أزمتها الحالية.لكن في الوقت ذاته ستعاني الولايات المتحدة من تراجع صورتها عالمياً، بسبب سياساتها الشرق أوسطية وحربها على الإرهاب ،وكذلك باعتبارها مصدر هذه الأزمة، فضلا عن انعدام الثقة بين الولايات المتحدة والاقتصادات الناشئة ، وهو ما يظهر بصورة واضحة في العلاقات الأمريكية ـ الصينية التي توصف بـ "الزواج غير السعيد".
ويشير حجم الحوافز المالية الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة تعتمد في واقع الأمر على امتيازات قد لا تكون موجودة في كثير من الأحيان، وأنها تبني سياساتها الخارجية وموقعها العسكري على تلك الامتيازات، فمثلا انخفاض الدولار من شأنه أن يصعِّب من تحقيق التوازن بين طموح الولايات المتحدة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، وارتفاع التكاليف المالية لتحقيق هذه الأهداف.ومن المتوقع أن يترتب على الأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد العالمي أمرين رئيسيين:
- إن القضايا الاقتصادية ستحتل أولويات السياسات العليا للدول، حيث تشير السوابق التاريخية، إلى أن التغيرات في البيئة الاقتصادية والمالية العالمية تستلزم تحوّلاً في تفكير السياسة الخارجية، ومن الصعوبة بمكان إيجاد خط فاصل بين الاقتصاد والسياسة الخارجية، أي أن القضايا الاقتصادية والمالية أصبحت من السياسات العليا للدول وبات من الصعوبة إيجاد خطوط وهمية بين الاقتصاد والسياسة الخارجية.وعلى سبيل المثال، دعت البرازيل، بعد أيام من قمة العشرين في واشنطن والاتفاق على الامتناع عن فرض حواجز جديدة على الاستثمارات الجديدة أو التجارة، إلى رفع التعريفات المشتركة على مجموعة من السلع، كما أحكمت الصين ربط العملة بالدولار، وأعلنت عن مرحلة جديدة من خفض ضرائب على الصادرات، في حين زادت روسيا التعريفات على الواردات.
- زيادة الصراعات عالميا؛ فمع تزايد عدد القوى الدولية وزيادة التداخل والتشابك في علاقاتها وتزايد فرص التبادل بينها، ثمَّة عواقب غير متوقعة مع شعور بانعدام الأمن، إذ تتزايد الصراعات في بيئة اقتصادية غير مستقرة، وما حدث لأوروبا الوسطى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وكذلك ما حدث لعصبة الأمم ليس ببعيد حدوثه في القرن الحادي والعشرين.
إضافة إلى ذلك ستؤدي الأزمة الاقتصادية إلى تراجع الوجود الأمريكي العسكري في الشرق الأوسط، مع سعي دول المنطقة إلى امتلاك تكنولوجيا نووية، ما قد يدفع إلى ترتيبات أمنية جديدة قي المنطقة ، الأمر الذي سيزيد من عدم الاستقرار ، والذي يدفع الكثير من الدول إلى تبني سياسات استباقية تعتمد الهجومية وليس الدفاعية.كما أنه من المحتمل حدوث صراعات على الموارد الاقتصادية لاسيما الطاقة والمياه في مناطق الندرة المائية، التي ترتبط شرعية النظام السياسي واستقراره في كثير من الدول بتوافر تلك الموارد، وقد تكون هذه الصراعات ذات طابع محلي أو بين القوى الدولية.
كما أن المستقبل لن يختلف كثيرا عن الماضي في كثير من النواحي، إذ أن النظام الدولي سيتجه نحو مزيد من توزيع القوة والسلطة الحاصل منذ عقدين، بناء على ظهور فاعلين دوليين جدد، وتفاقم العجز المؤسسي، وتزايد نمو التكتلات الإقليمية، وزيادة قوة الفاعلين من غير الدول.كما لن يؤدي تعدد الجهات الفاعلة على المسرح الدولي إلى تعزيز استقرار النظام الدولي عن طريق ملء الفراغ الذي خلفته مؤسسات وقوى الحرب العالمية الثانية، ولكنها قد تؤدي إلى تزايد تفتت وشلل التعاون الدولي.
ونظرا لتنامي القوة الاقتصادية والجيو سياسية للقوى الصاعدة؛ فإنها ستتمتع بدرجة من الحرية فيما يتعلق بتعديل سياساتها الخارجية والاقتصادية دون الاعتماد بشكل كامل على المعايير الغربية، فضلا عن تمتعها بحرية المناورة والسماح لقوى أخرى بتحمل العبء الرئيسي للتعامل مع كثير من القضايا الدولية كالتعامل مع الإرهاب وتغير المناخ وانتشار الأسلحة النووية وأمن الطاقة.
كما لا يتوقع أن تكون المنظمات الدولية القائمة قادرة على التعامل مع المهام الجديدة لهذا النظام الجديد، حيث تتسم حركتها بالجمود وعدم القدرة على مواجهة المتغيرات في العضوية وزيادة الموارد.وفي المقابل سيزداد دور المنظمات غير الحكومية، إلا انه من المستبعد أن تتمكن من إحداث تغيير في ظل غياب الجهود والتنسيق مع المنظمات متعددة الأطراف والحكومات، علاوة على أنه سيكون من الصعب التعامل مع التحديات عبر الوطنية في ظل اختلاف الآراء وصعوبة التوصل إلى اتفاق لحلول المشكلات.
كما ستدفع الأزمة المالية والركود المستمر باتجاه تجزئة النظام الدولي، مع تزايد خطر الصراعات ، فالقوى الصاعدة (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) تبدو جاهزة لتحدّي النظام الدولي، كما فعلت ألمانيا واليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ثمة تلازم وعلاقة طردية بين عالم المال والاقتصاد من جهة وطبيعة النظام الدولي عبر مختلف حقبات السياسات الدولية،وكما أسلفنا ربما تعبر الأزمة المالية الحالية بالنظام العالمي القائم إلى ضفة أخرى فيه اختلاف الشكل وتماثل المضمون،غير أن حركة التاريخ وتبدّل أدوات الصراع ووسائله وأهدافه سيظهِر يوما أطرا جديدة مختلفة شكلا ومضمونا.
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رغم الغموض المتعلق بشكل النظام الدولي في المرحلة القادمة، فإن الأزمة المالية ستسرّع من تحوّل النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب؛ فتلك الأزمة تعمل على تعميق الدور الاقتصادي للصين وغيرهاعالمياً، من خلال ما تمتلكه من احتياطيات ضخمة، وهو ما يعطيها نفوذاً واضحا فيما يتعلق بتشكيل مستقبل المشهد الاقتصادي العالمي.
ومع احتدام الأزمة المالية يثور تساؤل رئيسي مفاده: هل ستسرع الأزمة الاقتصادية من انهيار الولايات المتحدة اقتصادياً، بصورة أسرع مما هو متوقع ؟ أم أن الأزمة المالية ستكون فرصة مواتية للولايات المتحدة لتعود بصورة أكثر قوة مما كانت عليه خلال السنوات الماضية؟.
تشير السوابق التاريخية إلى نجاح الولايات المتحدة في التعامل مع الأزمات، لاسيما الاقتصادية التي واجهتها خلال تاريخها مقارنة بمثيلاتها من القوى الأخرى.فمثلا خرجت الولايات المتحدة من أزمة النفط خلال سبعينيات القرن الماضي بسرعة، مقارنة بمثيلاتها من القوى الأوروبية واليابان التي كانت أكثر اعتمادا على النفط. كما تمتلك الولايات المتحدة مقومات الخروج من أزماتها، ولديها القدرة على إعادة اختراع نفسها. وقد لا تكون الأزمات عائقا أمام الولايات المتحدة، بل قد تكون سببا في عودتها أكثر قوة، وذلك وفق مقولة "التدمير المبدع ". الأمر الذي ميَّز الولايات المتحدة في الماضي، وما قد يساعدها على الخروج من أزمتها الحالية.لكن في الوقت ذاته ستعاني الولايات المتحدة من تراجع صورتها عالمياً، بسبب سياساتها الشرق أوسطية وحربها على الإرهاب ،وكذلك باعتبارها مصدر هذه الأزمة، فضلا عن انعدام الثقة بين الولايات المتحدة والاقتصادات الناشئة ، وهو ما يظهر بصورة واضحة في العلاقات الأمريكية ـ الصينية التي توصف بـ "الزواج غير السعيد".
ويشير حجم الحوافز المالية الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة تعتمد في واقع الأمر على امتيازات قد لا تكون موجودة في كثير من الأحيان، وأنها تبني سياساتها الخارجية وموقعها العسكري على تلك الامتيازات، فمثلا انخفاض الدولار من شأنه أن يصعِّب من تحقيق التوازن بين طموح الولايات المتحدة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، وارتفاع التكاليف المالية لتحقيق هذه الأهداف.ومن المتوقع أن يترتب على الأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد العالمي أمرين رئيسيين:
- إن القضايا الاقتصادية ستحتل أولويات السياسات العليا للدول، حيث تشير السوابق التاريخية، إلى أن التغيرات في البيئة الاقتصادية والمالية العالمية تستلزم تحوّلاً في تفكير السياسة الخارجية، ومن الصعوبة بمكان إيجاد خط فاصل بين الاقتصاد والسياسة الخارجية، أي أن القضايا الاقتصادية والمالية أصبحت من السياسات العليا للدول وبات من الصعوبة إيجاد خطوط وهمية بين الاقتصاد والسياسة الخارجية.وعلى سبيل المثال، دعت البرازيل، بعد أيام من قمة العشرين في واشنطن والاتفاق على الامتناع عن فرض حواجز جديدة على الاستثمارات الجديدة أو التجارة، إلى رفع التعريفات المشتركة على مجموعة من السلع، كما أحكمت الصين ربط العملة بالدولار، وأعلنت عن مرحلة جديدة من خفض ضرائب على الصادرات، في حين زادت روسيا التعريفات على الواردات.
- زيادة الصراعات عالميا؛ فمع تزايد عدد القوى الدولية وزيادة التداخل والتشابك في علاقاتها وتزايد فرص التبادل بينها، ثمَّة عواقب غير متوقعة مع شعور بانعدام الأمن، إذ تتزايد الصراعات في بيئة اقتصادية غير مستقرة، وما حدث لأوروبا الوسطى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وكذلك ما حدث لعصبة الأمم ليس ببعيد حدوثه في القرن الحادي والعشرين.
إضافة إلى ذلك ستؤدي الأزمة الاقتصادية إلى تراجع الوجود الأمريكي العسكري في الشرق الأوسط، مع سعي دول المنطقة إلى امتلاك تكنولوجيا نووية، ما قد يدفع إلى ترتيبات أمنية جديدة قي المنطقة ، الأمر الذي سيزيد من عدم الاستقرار ، والذي يدفع الكثير من الدول إلى تبني سياسات استباقية تعتمد الهجومية وليس الدفاعية.كما أنه من المحتمل حدوث صراعات على الموارد الاقتصادية لاسيما الطاقة والمياه في مناطق الندرة المائية، التي ترتبط شرعية النظام السياسي واستقراره في كثير من الدول بتوافر تلك الموارد، وقد تكون هذه الصراعات ذات طابع محلي أو بين القوى الدولية.
كما أن المستقبل لن يختلف كثيرا عن الماضي في كثير من النواحي، إذ أن النظام الدولي سيتجه نحو مزيد من توزيع القوة والسلطة الحاصل منذ عقدين، بناء على ظهور فاعلين دوليين جدد، وتفاقم العجز المؤسسي، وتزايد نمو التكتلات الإقليمية، وزيادة قوة الفاعلين من غير الدول.كما لن يؤدي تعدد الجهات الفاعلة على المسرح الدولي إلى تعزيز استقرار النظام الدولي عن طريق ملء الفراغ الذي خلفته مؤسسات وقوى الحرب العالمية الثانية، ولكنها قد تؤدي إلى تزايد تفتت وشلل التعاون الدولي.
ونظرا لتنامي القوة الاقتصادية والجيو سياسية للقوى الصاعدة؛ فإنها ستتمتع بدرجة من الحرية فيما يتعلق بتعديل سياساتها الخارجية والاقتصادية دون الاعتماد بشكل كامل على المعايير الغربية، فضلا عن تمتعها بحرية المناورة والسماح لقوى أخرى بتحمل العبء الرئيسي للتعامل مع كثير من القضايا الدولية كالتعامل مع الإرهاب وتغير المناخ وانتشار الأسلحة النووية وأمن الطاقة.
كما لا يتوقع أن تكون المنظمات الدولية القائمة قادرة على التعامل مع المهام الجديدة لهذا النظام الجديد، حيث تتسم حركتها بالجمود وعدم القدرة على مواجهة المتغيرات في العضوية وزيادة الموارد.وفي المقابل سيزداد دور المنظمات غير الحكومية، إلا انه من المستبعد أن تتمكن من إحداث تغيير في ظل غياب الجهود والتنسيق مع المنظمات متعددة الأطراف والحكومات، علاوة على أنه سيكون من الصعب التعامل مع التحديات عبر الوطنية في ظل اختلاف الآراء وصعوبة التوصل إلى اتفاق لحلول المشكلات.
كما ستدفع الأزمة المالية والركود المستمر باتجاه تجزئة النظام الدولي، مع تزايد خطر الصراعات ، فالقوى الصاعدة (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) تبدو جاهزة لتحدّي النظام الدولي، كما فعلت ألمانيا واليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ثمة تلازم وعلاقة طردية بين عالم المال والاقتصاد من جهة وطبيعة النظام الدولي عبر مختلف حقبات السياسات الدولية،وكما أسلفنا ربما تعبر الأزمة المالية الحالية بالنظام العالمي القائم إلى ضفة أخرى فيه اختلاف الشكل وتماثل المضمون،غير أن حركة التاريخ وتبدّل أدوات الصراع ووسائله وأهدافه سيظهِر يوما أطرا جديدة مختلفة شكلا ومضمونا.