قمة الثمانية ولغة الأرقام
د.خليل حسين
أستاذ المنظمات الدولية في الجامعة اللبنانية
المدقق في مؤتمرات قمة الثمانية الكبار السنوية،وآخرها في لاكويلا، لا يستلزم الجهد الكثير ليستنتج سياسة ترحيل المشاكل والوعود الفضفاضة في ثنايا سطور بياناتها الختامية.فمن أبرز المواضيع في جدول أعمالها، الأزمة الرأسمالية، والمناخ العالمي، وحظر انتشار الأسلحة، إضافة إلى موروث السنوات الماضية كحرب أفغانستان، وبرنامج إيران النووي، والقضية الفلسطينية، علاوة على عناوين من الدرجة الثانية في أولويات قمة الكبار رغم أهميتها، كالتعامل مع كوريا الشمالية، ومكافحة القرصنة البحرية، ومكافحة كوارث الفقر والجوع.
فأقصى ما تم التوصل إليه بشأن الأزمة الرأسمالية الإعراب عن الاعتقاد بأن الأزمة على وشك الانتهاء،لكن من دون أن يعلم أحدا متى، كما تم رفض إجراءات الحماية التجارية بعد هبوط حجم التجارة العالمية بسبب الأزمة. والواقع أن سياسات الحماية مستمرة في الدول الصناعية تجاه النامية، وتحدثت القمة عن عزمها زيادة صلاحيات منظمة التجارة العالمية، والوصول عبر ما يسمى "جولة الدوحة" إلى اتفاقية عالمية جديدة، بعد تعثر المفاوضات، وأملت الاعتماد على الوفاق الاقتصادي فيما بينها ومن ذلك احتمال فتح أبواب المنظمة أمام عضوية روسيا بعد رأب الصدع بين موسكو وواشنطن، واحتمال التلاقي على حل وسط بين الولايات المتحدة الأمريكية والهند.
لقد تفاءلت القمة بقرب نهاية الأزمة بالاعتماد على الأرقام الخاصة بزيادة حجم الطلبات على الشركات الصناعية، وعلى تنبؤات صندوق النقد لكن الواقع مختلف، فالمصارف المالية استعادت مواقعها المهيمنة اقتصاديا بالاعتماد على تعويم مئات المليارات فيها، قبل أن تعود إلى أداء دورها وفق النهج الرأسمالي على صعيد تمويل الشركات، فرغم ما حصلت عليه من أموال بأرقام خيالية، مع تخفيض الفوائد من جانب المصارف المركزية، لا يزال حجم ما يصل من ذلك إلى الهياكل الإنتاجية الاقتصادية متدنيا كثيرا، ومن الصعب انتعاش اقتصاديات الدول المعنية دون الحصول على قروض جديدة من المصارف المالية. وبذلك تظل أسباب الأزمة الرأسمالية كامنة في المنهج والوسائل.
وبالمقارنة ما الذي حصل بناء على وعد القمة السابقة بتخصيص ستين مليار دولار لدعم الدول الفقيرة وبخاصة في إفريقية؟.. لم يصل التنفيذ إلى الثلث وجاء الآن وعد جديد. وما الذي حصل مع وعد العام 2005 بزيادة المساعدات الإنمائية سنويا حتى تبلغ سبعة في الألف فقط من الناتج الإجمالي العام في الدول الصناعية، وتكرر الوعد من جديد. وما الذي تم تنفيذه من وعود قمم الألفية التي بدأت بهدف تخفيض عدد فقراء العالم إلى نصف ما كان عليه عام 2000، قبل حلول عام 2015؟. مضى ثلثا الفترة وازداد العدد بنسبة الربع بدلا من التناقص.
وما الذي جرى تنفيذه من وعود متتالية بشأن مكافحة الأوبئة العديدة، بما فيها تلك التي خصصت لها مؤتمرات دولية كوباء نقص المناعة؟. ولا يزال أكثر من 80 في المائة من المصابين لا يحصلون على الأدوية التي أمكن تصنيعها واستخدامها في الدول الغربية. ويموت سنويا أكثر من تسعة ملايين طفل دون الخامسة بإصابات قابلة للعلاج، منهم 74 ألفا أثناء الأيام الثلاثة لانعقاد قمة الكبار في إيطاليا؟!.
كما طرح في القمة شعار "الأمن الغذائي". وعاد الكل إلى بلده ليعالج ميزانيته التي بلغت مخصصات التسلح فيها مجتمعة ألفي مليار دولار ، ليس لإنقاذ ضحايا الفقر والاستغلال ، والحصيلة القتل اليومي في أفغانستان والعرق وفلسطين .كما انتقلت قضية الدرع الصاروخي لتصبح بدورها نقطة بين نقاط أخرى في ملف خفض جزئي لمخزون الأسلحة النووية الأمريكية والروسية، مع ازدياد عبء النفقات عليها نتيجة الأزمة المالية، مع الحفاظ في النهاية على ما يكفي لدمار الأرض والبشرية مرات عديدة.
أما التعامل مع الملف الإيراني فيعتبر النموذج الأمثل لتحديد ما يعنيه الإعلان المتكرر عن كل قمة من قمم الثمانية ، بصدد حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل. فإذا تم عقد المعاهدة الروسية- الأمريكية الجديدة بالفعل قبل نهاية عام 2009، سيكون الملف النووي الإيراني في مقدمة ما تتخلى موسكو عنه للمشاركة في التعامل الغربي معه بأسلوب المساومات المباشرة مع إيران، على نفوذ إقليمي في مقابل أقلمة أظافر برامج التسلح.
وفي مقدمة ما اعتبر نجاحا ما تحقق من اتفاق للوقاية من كوارث التلوث الصناعي للمناخ العالمي. وجوهر الاتفاق تبني الهدف البعيد الذي حدده الخبراء في دراسات مستفيضة على مدى الأعوام الماضية. فاستمرار انبعاث الغازات السامة بالمعدلات الحالية، يعني ارتفاع وسطي لحرارة الأرض في عام 2050 بما يعادل درجتين مئويتين بالمقارنة مع ما كان هذا الوسطي عليه قبل انطلاق ثورة التصنيع قبل حوالي قرن ونصف القرن، فآنذاك ستبلغ الكوارث المرتبطة بتلوث المناخ مداها وتبدأ تدريجيا قبل عام 2050 بطبيعة الحال وقد بدأ بعضها بالفعل فتذوب طبقات جليدية، وترتفع مياه المحيطات، وتختفي جزر وأراضٍ وتزداد نسبة الزلازل والبراكين والفيضانات
أما السؤال عن التنفيذ العملي فما يزال مفتوحا، إذ لا تزال الدول الصناعية مختلفة فيما بينها لجهة حجم التزامها باتخاذ إجراءات تقنية في الإنتاج الصناعي كافية لخفض معدل انبعاث الغازات السامة، ومن ذلك مثلا أن الدول الأوروبية التزمت وبغض النظر عن درجة التطبيق بما يعادل نسبة 30 في المائة عام 2020 بالمقارنة مع حجم تلك الغازات عام 1990 الذي يعتبر مقياسا لما بعده، بينما طرحت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة بعد امتناعها عن ذلك لأكثر من عشرة أعوام مضت على اتفاقية كيوتو، استعدادها لتخفيض يبلغ معدله 50 في المائة، ولكن مقارنة مع ما كان عليه انبعاث الغازات السامة بخاصة ثاني أكسيد الكربون من مصانعها وسياراتها وأبنيتها ومنتجاتها عام 2000، وعند التأمل فيما يعنيه ذلك، تكون الحصيلة أن يقتصر التخفيض إلى ما يجعل حجم تلك الغازات عام 2020 في حدود ما كان عليه عام 1990، وليس بنسبة ما، ولو متدنية بالمقارنة مع نسبة 30 في المائة في أوروبا.
ثمة وضوح كبير في سياسة ترحيل المشاكل وتكرار الوعود عام بعد عام،الأزمات تتفاعل والخناق يشتد على الدول النامية، والصراعات تتوالد والسلاح يتزايد ، والتلوث يضرب بيئة الأرض أينما كان،قمم تعقد ومقترحات وقرارات وتوصيات لا نهاية لها،ونحن لا زلنا ننتظر القمة القادمة على أمل الوعود الجديدة التي لن تكون أحسن حالا عن التي سبقتها.
د.خليل حسين
أستاذ المنظمات الدولية في الجامعة اللبنانية
المدقق في مؤتمرات قمة الثمانية الكبار السنوية،وآخرها في لاكويلا، لا يستلزم الجهد الكثير ليستنتج سياسة ترحيل المشاكل والوعود الفضفاضة في ثنايا سطور بياناتها الختامية.فمن أبرز المواضيع في جدول أعمالها، الأزمة الرأسمالية، والمناخ العالمي، وحظر انتشار الأسلحة، إضافة إلى موروث السنوات الماضية كحرب أفغانستان، وبرنامج إيران النووي، والقضية الفلسطينية، علاوة على عناوين من الدرجة الثانية في أولويات قمة الكبار رغم أهميتها، كالتعامل مع كوريا الشمالية، ومكافحة القرصنة البحرية، ومكافحة كوارث الفقر والجوع.
فأقصى ما تم التوصل إليه بشأن الأزمة الرأسمالية الإعراب عن الاعتقاد بأن الأزمة على وشك الانتهاء،لكن من دون أن يعلم أحدا متى، كما تم رفض إجراءات الحماية التجارية بعد هبوط حجم التجارة العالمية بسبب الأزمة. والواقع أن سياسات الحماية مستمرة في الدول الصناعية تجاه النامية، وتحدثت القمة عن عزمها زيادة صلاحيات منظمة التجارة العالمية، والوصول عبر ما يسمى "جولة الدوحة" إلى اتفاقية عالمية جديدة، بعد تعثر المفاوضات، وأملت الاعتماد على الوفاق الاقتصادي فيما بينها ومن ذلك احتمال فتح أبواب المنظمة أمام عضوية روسيا بعد رأب الصدع بين موسكو وواشنطن، واحتمال التلاقي على حل وسط بين الولايات المتحدة الأمريكية والهند.
لقد تفاءلت القمة بقرب نهاية الأزمة بالاعتماد على الأرقام الخاصة بزيادة حجم الطلبات على الشركات الصناعية، وعلى تنبؤات صندوق النقد لكن الواقع مختلف، فالمصارف المالية استعادت مواقعها المهيمنة اقتصاديا بالاعتماد على تعويم مئات المليارات فيها، قبل أن تعود إلى أداء دورها وفق النهج الرأسمالي على صعيد تمويل الشركات، فرغم ما حصلت عليه من أموال بأرقام خيالية، مع تخفيض الفوائد من جانب المصارف المركزية، لا يزال حجم ما يصل من ذلك إلى الهياكل الإنتاجية الاقتصادية متدنيا كثيرا، ومن الصعب انتعاش اقتصاديات الدول المعنية دون الحصول على قروض جديدة من المصارف المالية. وبذلك تظل أسباب الأزمة الرأسمالية كامنة في المنهج والوسائل.
وبالمقارنة ما الذي حصل بناء على وعد القمة السابقة بتخصيص ستين مليار دولار لدعم الدول الفقيرة وبخاصة في إفريقية؟.. لم يصل التنفيذ إلى الثلث وجاء الآن وعد جديد. وما الذي حصل مع وعد العام 2005 بزيادة المساعدات الإنمائية سنويا حتى تبلغ سبعة في الألف فقط من الناتج الإجمالي العام في الدول الصناعية، وتكرر الوعد من جديد. وما الذي تم تنفيذه من وعود قمم الألفية التي بدأت بهدف تخفيض عدد فقراء العالم إلى نصف ما كان عليه عام 2000، قبل حلول عام 2015؟. مضى ثلثا الفترة وازداد العدد بنسبة الربع بدلا من التناقص.
وما الذي جرى تنفيذه من وعود متتالية بشأن مكافحة الأوبئة العديدة، بما فيها تلك التي خصصت لها مؤتمرات دولية كوباء نقص المناعة؟. ولا يزال أكثر من 80 في المائة من المصابين لا يحصلون على الأدوية التي أمكن تصنيعها واستخدامها في الدول الغربية. ويموت سنويا أكثر من تسعة ملايين طفل دون الخامسة بإصابات قابلة للعلاج، منهم 74 ألفا أثناء الأيام الثلاثة لانعقاد قمة الكبار في إيطاليا؟!.
كما طرح في القمة شعار "الأمن الغذائي". وعاد الكل إلى بلده ليعالج ميزانيته التي بلغت مخصصات التسلح فيها مجتمعة ألفي مليار دولار ، ليس لإنقاذ ضحايا الفقر والاستغلال ، والحصيلة القتل اليومي في أفغانستان والعرق وفلسطين .كما انتقلت قضية الدرع الصاروخي لتصبح بدورها نقطة بين نقاط أخرى في ملف خفض جزئي لمخزون الأسلحة النووية الأمريكية والروسية، مع ازدياد عبء النفقات عليها نتيجة الأزمة المالية، مع الحفاظ في النهاية على ما يكفي لدمار الأرض والبشرية مرات عديدة.
أما التعامل مع الملف الإيراني فيعتبر النموذج الأمثل لتحديد ما يعنيه الإعلان المتكرر عن كل قمة من قمم الثمانية ، بصدد حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل. فإذا تم عقد المعاهدة الروسية- الأمريكية الجديدة بالفعل قبل نهاية عام 2009، سيكون الملف النووي الإيراني في مقدمة ما تتخلى موسكو عنه للمشاركة في التعامل الغربي معه بأسلوب المساومات المباشرة مع إيران، على نفوذ إقليمي في مقابل أقلمة أظافر برامج التسلح.
وفي مقدمة ما اعتبر نجاحا ما تحقق من اتفاق للوقاية من كوارث التلوث الصناعي للمناخ العالمي. وجوهر الاتفاق تبني الهدف البعيد الذي حدده الخبراء في دراسات مستفيضة على مدى الأعوام الماضية. فاستمرار انبعاث الغازات السامة بالمعدلات الحالية، يعني ارتفاع وسطي لحرارة الأرض في عام 2050 بما يعادل درجتين مئويتين بالمقارنة مع ما كان هذا الوسطي عليه قبل انطلاق ثورة التصنيع قبل حوالي قرن ونصف القرن، فآنذاك ستبلغ الكوارث المرتبطة بتلوث المناخ مداها وتبدأ تدريجيا قبل عام 2050 بطبيعة الحال وقد بدأ بعضها بالفعل فتذوب طبقات جليدية، وترتفع مياه المحيطات، وتختفي جزر وأراضٍ وتزداد نسبة الزلازل والبراكين والفيضانات
أما السؤال عن التنفيذ العملي فما يزال مفتوحا، إذ لا تزال الدول الصناعية مختلفة فيما بينها لجهة حجم التزامها باتخاذ إجراءات تقنية في الإنتاج الصناعي كافية لخفض معدل انبعاث الغازات السامة، ومن ذلك مثلا أن الدول الأوروبية التزمت وبغض النظر عن درجة التطبيق بما يعادل نسبة 30 في المائة عام 2020 بالمقارنة مع حجم تلك الغازات عام 1990 الذي يعتبر مقياسا لما بعده، بينما طرحت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة بعد امتناعها عن ذلك لأكثر من عشرة أعوام مضت على اتفاقية كيوتو، استعدادها لتخفيض يبلغ معدله 50 في المائة، ولكن مقارنة مع ما كان عليه انبعاث الغازات السامة بخاصة ثاني أكسيد الكربون من مصانعها وسياراتها وأبنيتها ومنتجاتها عام 2000، وعند التأمل فيما يعنيه ذلك، تكون الحصيلة أن يقتصر التخفيض إلى ما يجعل حجم تلك الغازات عام 2020 في حدود ما كان عليه عام 1990، وليس بنسبة ما، ولو متدنية بالمقارنة مع نسبة 30 في المائة في أوروبا.
ثمة وضوح كبير في سياسة ترحيل المشاكل وتكرار الوعود عام بعد عام،الأزمات تتفاعل والخناق يشتد على الدول النامية، والصراعات تتوالد والسلاح يتزايد ، والتلوث يضرب بيئة الأرض أينما كان،قمم تعقد ومقترحات وقرارات وتوصيات لا نهاية لها،ونحن لا زلنا ننتظر القمة القادمة على أمل الوعود الجديدة التي لن تكون أحسن حالا عن التي سبقتها.