دبلوماسية الجنائز والعلاقات اللبنانية السورية
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
ثمة فريق من اللبنانيين اختلف مع سوريا ووصل الأمر بهم إلى الخصام والعداء،ذلك على خلفيات وقواعد متعددة ومتنوعة،لكن اللافت أن جميع اللبنانيين بمن فيهم من ناصب العداء لدمشق، استغل أي مناسبة لتصحيح أوضاعه وعلاقاته في أول بارقة أو منعطف سياسي يُشتم منه أن لسوريا دور ما في المنطقة.
واليوم يعيد التاريخ نفسه، ولو بظروف مأساوية حزينة بالنسبة لسوريا ولرئيسها بشار الأسد، فوفاة شقيق الرئيس السوري مجد،سيشكل مناسبة هامة للكثيرين من اللبنانيين لإعادة وصل ما انقطع إن كان بالسياسة أو غيرها.ففي الأمس القريب وتحديدا في العام 1994 ذهب العديد من القيادات اللبنانية إلى بلدة القرداحة السورية لتقديم واجب العزاء للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بوفاة نجله باسل،فكانت مناسبة ذات طابع سياسي بأكثر من كونها واجب تعزية، وكرّت السبحة السياسية ليصل الأمر ببعض القيادات التي عُرفت بتطرف مواقفها تجاه دمشق، إلى إنشاء تحالفات جديدة أوصلتها إلى مراكز السلطة في لبنان،لكن سرعان ما عادت وانقلبت في أول ضغط غربي على دمشق،فكان وصول المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض فرصة ذهبية للعديد ممن قبلوا بالدور السوري في لبنان على مضض لإعادة النظر بمواقفهم،إلى أن وصل الأمر إلى ذروته بعد صدور القرار الدولي 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري،وخروج القوات السورية من لبنان.
طبعا في لبنان الآن ثمة أجواء تصالحية عريضة المقام والمقال، بين أطراف تقاتلوا بالكلام والسلاح، وتمكنت هذه المصالحات مؤخرا من تركيب بيئة تصالحية لبعضهم مع دمشق،ولم يبق سوى القليل القليل منهم غير مهيأ نفسيا لإعادة وصل ما انقطع، لكن بالتأكيد بعضهم لن يترك هذه المناسبة لتسجيل موقف يمكن أن يصرف بالسياسة لاحقا،سيما وأن دبلوماسية الجنائز رغم قلتها أسست وتؤسس في الحياة السياسية العربية واللبنانية أيضا مجالا رحبا للسياسيين للتأمل السياسي وإعادة النظر بمواقفها وتحالفاتها.
وغريب المفارقات اللبنانية،أن جميع اللبنانيين متيقنون من زيارات بعض قيادات 14 آذار إلى دمشق ،إلا أن الأمر بالنسبة إليهم سيتم بعد إيجاد المخارج السياسية لذلك إذا جاز التعبير،فسفرة إلى عاصمة عربية قبل دمشق،أو اتصال هاتفي يمكن أن يفسر أن وجهة دمشق ليست أولوية وليست بالضرورة مرجعا سياسيا لهذا الزعيم أو ذاك،أما اليوم فالجميع يمكن زيارة دمشق دون خجل أو وجل من مواقفه السابقة،ويمكن البناء على هذه الزيارة لمواقف سياسية تعتبر مسبقة الدفع له ولغيره.
ربما لا يحتاج اللبنانيون أو غيرهم لحدوث ما لا يسر القلوب،لغيّروا أو يبدلوا،يكفي قراءة موضوعية لتاريخ لبنان السياسي وعلاقاته العربية والدولية ليتيقنوا من أن مصلحة لبنان تكمن أولا وأخيرا في علاقات لا نقول مميزة أو غيرها من المصطلحات التي تزعج البعض وتنفِّر البعض الآخر،علاقات طبيعية كعلاقات أي دولة بأخرى،على قاعدة حفظ المصالح الإستراتيجية والتكتية المتبادلة.
واليوم كما الأمس، ربما تكون الفرصة أكثر من مناسبة لإعادة القراءة المتأنية لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات اللبنانية السورية بعد زيارة الرئيس سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط لسوريا،باعتبارها ستؤسس لفهم أدق وأعمق للكثير من القضايا التي ينبغي أن تتقاطع مصلحة البلدين عليها.
ثمة العديد من المحطات السياسية وحتى العسكرية بين البلدين في تاريخهما المعاصر،وكانت العلاقات سرعان ما تعود إلى طبيعتها ولو بعد افتراق كبير. ففي عز الافتراق إبان الموقف الرسمي اللبناني من العمل الفدائي في لبنان في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي،وصولا إلى مرحلة اتفاق 17 أيار 1983،مرورا بحرب التحرير 1989 ،وانتهاءً بالخروج السوري من لبنان، جميعها مراحل شكلت علامات فارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين لكن المشترك بين جميعها حاجة البلدين إلى دوام الاتصال والتواصل على قواعد سياسية تراعي هواجس ومصالح الطرفين،لذا كانت المناسبات غير السياسية غاليا ما تستغل لإعادة النظر من غير طرف لبناني.
اليوم تمر المنطقة بظروف دقيقة،وربما تكون عصيبة لجهة تحديد الخيارات والمواقف من القضايا المفصلية في حياة الكيانات السياسية لدول المنطقة؛وطبيعي ليست بكثيرة أو واسعة،بل هي محدودة،بل الخوض فيها دقيق جدا ويخضع لحسابات كثيرة بغالبيتها ليست مرنة أو قابلة للتبديل والتغيير،ومن هنا تكمن أهمية وضرورة التواصل السوري اللبناني على قواعد وأسس مختلفة عما سبقها.
ما وصل بين البلدين خلال السنوات الأربع الماضية يمكن أن يسجل في إطار السوابق التي من الصعب تكرارها،نظرا لحجم الاتهامات والخطابات التي وصلت إلى حدود غير مسبوقة في الخطاب السياسي المتعارف عليه،حيث اختلط السياسي بالشخصي،ووصلت الأمور بالبعض إلى حد الخروج على اللياقات الدبلوماسية والسياسية الواجب توفرها في التعاطي مع الآخرين.
ربما يتطابق المثل القائل ،مصائب قوم عند قوم فوائد، مع نتائج وآثار وتداعيات دبلوماسية الجنائز في العلاقات اللبنانية السورية،فكما حدث في العام 1994 سوف يتكرر الآن،لكن العبرة لا تكمن في التكرار بل بالاستفادة واخذ العبر ،فلا يستلزم الأمر المناسبات بمختلف أنواعها لإعادة إصلاح ما انكسر أو وصل ما انقطع،بقدر أن تكون القراءات موضوعية.ربما قدر سوريا وشعبها أن يفقدا دائما أعزائهم ليكونوا قربانا لعلاقات سورية لبنانية ينبغي أن لا تنتظر الأتراح لتبني عليها الأفراح.