بين كيوتو وكوبنهاغن أغنياء يقررون وفقراء يتوهمون
د.خليل حسين
استعاذ العلاقات والمنظمات الدولي في الجامعة اللبنانية
لم تمنح الأرض سن الرشد البيئي بعد ثماني عشرة سنة على قمتها في ريو ديجينيرو ،بل ظلت أسيرة ظلم الأغنياء كما الفقراء من الدول،فضاقت ذرعا بالإنسان واستغلاله المفرط واليوم تهدده بالزوال كما هددها بالفناء.بالأمس كانت كيوتو واليوم كوبنهاغن وغدا بون،فما الذي نفذ بالأمس؟وما هي وعود الغد؟
ثلاثة عشر يوما تفاوضت فيها 192 دولة حول السبل الكفيلة بحل مشكلة الاحتباس الحراري للأرض،غير أن نتائجها كانت كارثية وفقا لمجموعة الـ 77 التي تضم 130 دولة،فوصفت اتفاقية كوبنهاغن غير الملزمة"بمحرقة الغاز الأوروبية" و "دعوة لإفريقيا للتوقيع على معاهدة انتحارية".فقياسا على الآمال التي علقت على المؤتمرات الأربعة عشرة السابقة تعتبر توصيات الاتفاقية متواضعة جدا،واعتمدت أسلوب ترحيل المشاكل إلى قمة بون بعد ستة اشهر فما الذي سيتغير في هذه المدة القصيرة؟
وبصرف النظر عن نوعية التوصيات والنتائج،ثمة ملاحظات يمكن إبرازها ليس بهدف التخفيف من الانتقادات الموجهة للاتفاقية أو لتحسين شروط التفاوض المقبلة،بقدر ما هي ملاحظات موضوعية لكي لا تكون الآمال القادمة بأسوأ حال من السابقة.
أولا، لم يكن يتوقع أكثر من ذلك في ظل وجود تكتلات سياسية ومحاور اقتصادية وصناعية متباينة الأهداف والمصالح،(الدول المتقدمة, الدول النامية, الدول الصغيرة, الدول العربية) تختلف توجهاتها وآراؤها ومصالحها الاقتصادية، فمن غير المنطق أن ننتظر نتائج مرضية للجميع في ظل وجود إشكالات موجودة عمليا قبل القمة متعلقة باتفاق كيوتو.وثانيا، ثمة مشاورات ومبادرات جرت في المؤتمر بين كل من أمريكا والصين والهند، تمحورت حول نية تلك الدول في تخفيض انبعاثاتها الضارة إلى النصف بحلول العام 2050، وكذلك الالتزام ابتداء من العام 2016 بخفض درجة حرارة جو الأرض بمعدل درجة ونصف مئوية.وثالثا،لا تعتبر قمة كوبنهاغن سوى حلقة من حلقات المفاوضات بهدف التوصل إلى اتفاق أممي مكتوب، سيصاغ في شكل ميثاق دولي مكتوب يحل محل اتفاقية كيوتو بشأن الحد من الانبعاثات الحرارية، وستستكمل خلال مؤتمر جديد حول المناخ تستضيفه مدينة بون الألمانية.ورابعا،ثمة تعهدات مالية من الدول الكبرى بمنح الدول النامية مبلغ 30 مليار دولار للأعوام الثلاثة المقبلة، إذ أن تلك الأموال المقدمة إلى الدول الفقيرة ليست منحة كما يظن البعض؛ بل ستؤخذ في نهاية المطاف من ميزانيات المساعدات الحالية، ما يقلص الزيادة الصافية في المبالغ التي سيتم تحويلها.
إن المقاربة السالفة الذكر لا تعدو كونها تمنيات وتوصيات وآمال،من الصعب صرفها في السياسة والاقتصاد والمال،طالما أن اتفاقية كوبنهاغن استندت أيضا إلى قاعدة كيوتو التي تضمنت مجموعتين من الالتزامات المحددة تحقيقاً للمبادئ العامة التي أقرتها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ،وتتضمن المجموعة الأولى الالتزامات التي تتكفل بها جميع الأطراف المتعاقدة ، في حين تختص المجموعة الثانية بمجموعة الالتزامات التي تتحملها الدول المتقدمة حيال الدول النامية . وفيما يختص التزامات المجموعة الأولى فيمكن القول أن البروتوكول ألزم الدول الموقعة عليه بقائمة محددة من الالتزامات لا يتم التفرقة فيها بين الدول المتقدمة والدول النامية ، فهي التزامات مشتركة تتكفل بتنفيذها كافة الأطراف المتعاقدة . هذه الالتزامات هي قيام 38 دولة متقدمة بتخفيض انبعاث الغازات بنسب تختلف من دولة لأخرى ، على أن يجرى هذا التخفيض خلال فترة زمنيه محددة بدأت في عام 2008 وتستمر حتى عام 2012 . وبلغت نسبة التخفيض المقررة في حالة الاتحاد الأوروبي 8% أقل من مستوى عام1990 ، في حين بلغت النسبة في الولايات المتحدة واليابان 7% و 6% على التوالي . أما الالتزامات التي تحتويها المجموعة الثانية ، فهي التي تتعهد بها الدول المتقدمة وحدها ، في مواجهه الدول النامية لمساعدتها على الالتزام بالأحكام الواردة في اتفاقية الأمم المتحدة ، وتشجيعها على التعاون الفعال في إطار المنظومة الدولية لحماية البيئة. ويمكن تحديد هذه الالتزامات في النقاط التالية : تعهد الدول المتقدمة بتمويل وتسهيل أنشطة نقل التكنولوجيا. تعهد الدول المتقدمة بدعم جهود الدول النامية في مجال مواجهة الآثار السلبية للتغير المناخي والتأقلم معها. التعاون المشترك مع الدول النامية في " آلية التنمية النظيفة " والتي تُعد إحدى أهم الآليات التي حددها اتفاق كيوتو والذي تابعت به اتفاقية كوبنهاغن.
وفي مقارنة سريعة بين المجموعتين من الالتزامات فإنه يمكن الاستنتاج بأن الاتفاق وضع مسؤولية تنفيذ العبء الأكبر من الالتزامات على عاتق الدول المتقدمة ، إذ يلزمها البروتوكول بتقديم كافة صور الدعم المالي والفني اللازم لإعانة الدول النامية على تنفيذ الالتزامات الناشئة عن السياسات الدولية المشتركة لحماية البيئة. يُضاف إلى ذلك أن هذا الاتفاق ألزم الدول المتقدمة دون الدول النامية بالعمل على انتهاج السياسات اللازمة لتخفيض انبعاث الغازات الدفيئة بنسب محددة وفقاً لجدول زمني معين.
لكن النصوص والاتفاقات شيء والتنفيذ شيء آخر،فلا الوعود تحققت ولا الآمال قد نُفذت وظلت حبرا على ورق،فالدول النامية خشت من أن أي التزامات تفرض عليها في مجال حماية البيئة سوف تحد من قدراتها وحرية حركتها على تنفيذ مشروعات التنمية ، خاصة في المرحلة المبكرة من مراحل النمو . يضاف إلى ذلك أن الدول النامية لا شأن لها فيما يخص ظاهرة انبعاث الغازات الدفيئة ، حيث أنها قد حدثت بفعل درجات التصنيع المتقدمة التي وصلت إليها الدول المتقدمة خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي . بل أكثر من ذلك فإن الدول النامية ترى في نفسها ضحية سياسات التصنيع الخاطئة التي اتبعتها الدول المتقدمة ، وعرضتها لمصير مشئوم في حالة ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية ، إذ لا تملك الموارد المالية والتقنية التي تعينها على مواجهة سلبيات هذه الظاهرة.
ولتفادي هذه الانتقادات المسندة بالحجج والقرائن،وعدت الدول الغنية بـالمساعدات أو "الرشوة المالية" إذا جاز التعبير،وهي غالبا لن تفي بها،بسبب الأوضاع المالية والاقتصادية الحرجة التي تمر بها،وهنا يثار التساؤل حول هذه المساعدات وكيف يمكن توصيفها ، فهل تلك المساعدات الموعودة هي في صورة مساعدات حقيقية مباشرة، أم تعتبرها جزءا من المنح المالية التي تقدمها تلك الدول بالفعل للدول الفقيرة، وما ستفعله هو إعادة تسميتها فقط؟ إن تلك التعهدات تأتي بشكل أدبي من الدول الغنية للفقيرة، وليست ملزمة قانونيا، وما يحسب للقمة أن تتعهد الدول الكبرى بتقديم مساعدات مالية للدول الفقيرة في ظل وجود أزمة مالية طاحنة، ووجود تيارات وتوجهات مناهضة تتشكك في جدوى التغير المناخي وتورط الأنشطة البشرية في تفاقم تلك الظاهرة، ومن ثم لا تؤمن بتقديم أي تعهدات مالية من الدول الكبرى للفقيرة في هذا الشأن.
ربما لن يمر وقت طويل حتى تشعر الدول كبيرها وصغيرها،فقيرها وغنيها،أن المشكلة باتت أكبر منها ومن وعودها،وهنا ينبغي البحث عن حلول أخرى على قاعدة اقتناع الإنسان بوجوب الاستثمار الهادف والواعي لخيرات الأرض ،قبل أن تبتلعه بعدما أمعن في بلع خيراتها دون خجل أو وجل من جشعه وطمعه،لكن أيصرف هذا القول في السياسات الدولية حيث المصالح لا الجمعيات الخيرية والكاريتاس!