المفاوضت الفلسطينية "الاسرائيلية" بين العروض والإعراض
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في جريدة الخليج الاماراتية 4-5-2010
كرَّر وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الاخير، المواقف نفسها بدعم اطلاق مفاوضات "اسرائيلية" فلسطينية على قاعدة محدودية الزمن لمدة اربعة اشهر، مضى منهما شهران،تخللهما جولات المبعوث الامريكي للسلام جورج متشل والتي لم تفلح ببناء منصة اطلاق المفاوضات بفعل المواقف "الاسرائيلية" من قضية الاستيطان وكان آخرها مشروع بناء 1600 وحدة سكنية في القدس.فهل ان الشهرين الباقيين كافيين للوصول الى مشروع ما،في وقت لم يتمكن الطرفان خلال عقدين من الزمن التوصّل الى بيئة قابلة للحياة؟
وبصرف النظر عن محدودية الزمن قصرا او طولا،فإن نجاح المفاوضات او فشلها مرهون بعوامل كثيرة تتعلق بالاستراتيحية المتبعة،الأمر الذي تجيده "اسرائيل" بل تحترفه بوجه العرب والفلسطينيين ، فماذا ايضا عن هذه الاستراتيجية وهل سيتمكن الفلسطينيون هذه المرة التفلت منها عبر عدم تقديم التنازلات،ام ستكرر "اسرائيل" نفس التجارب المتبعة وتجبر الطرف الآخر على تقديم ما تسعى اليه؟
اعتادت "اسرائيل" الذهاب الى المفاوضات متسلحة بجملة عوامل رئيسة توفر لها ظروف القوة المعنوية والمادية ومن بينها، تفوّق واضح في موازين القوى لمصلحتها،يقابله وهن وعجز عربي واسلامي، نفوذ صهيوني في الولايات المتحدة والدول ذات الوزن في النظام الاقليمي والدولي، يقابله غياب استراتيجية واضحة للعرب والفلسطينيين حول مفاوضات التسوية وبدائلها الممكنة.
لقد اعتمدت "اسرائيل" في عمليات التفاوض مع الفلسطينيين والعرب استراتيجيات مختلفة، تمكنت من خلالها تهشيم اضلع السلام ومستلزمات بقائه،دون تقديم شيء يذكر،ومن أبرز هذه الاستراتيجيات التفاوضية:
- محاولة "اسرائيل" الدائمة ابقاء عملية التفاوض مستمرة،وعدم الوصول بها الى طرق مسدودة تؤدي بالعرب والفلسطينيين التخلي عن خيار التفاوض واللجوء الى اساليب أخرى كالمقاومة مثلا.يرافقها كلام معسول عن السلام والرفاهية في وقت تكرِّس "اسرائيل" امرا واقعا بين الحين والآخر.
- عدم تقديم اي مقترح او مشروع رسمي خلال المفاوضات،وترك اطلاقها والتعبير عنها لمسؤولين غير رسميين، وبالتالي عدم التزامها بأي شرط مسبق،باستثناء تقديم لاءات معروفه،كعدم عودة اللاجئين او العودة الى حدود ما قبل 1967،القدس عاصمة ابدية لـ "اسرائيل" ولا لعودة القسم الشرقي منها للفلسطينيين،علاوة على عدم ازالة المستوطنات في الضفة،لكن بنعم لسلطة فلسطينية منزوعة السلاح؛.باختصار جملة لاءات وجملة مبادرات. فهي دائمة التحدّث عما ترفضه فيما لا تلتزم بما تقبله.
- تحترف "اسرائيل" الاستماع الى المبادرات العربية، فترحِّب بها وتأخذ ما يفيدها وتتجاهل ما ترفضه وتتطالب بالمزيد من التنازلات، بكلام آخر، اجاد العرب تقديم المبادرات غير المدروسة ومنها فرصة الأشهر الأربع الحالية، فيما تتلقف "اسرائيل" المبادرات لا لحل القضايا بقدر ما هو ادارة المفاوضات وكسب المزيد من الوقت. قامت منظمة التحرير على قاعدة تحرير كامل فلسطين،وحجمت طموحها في العام 1968 الى اقامة دولة ديموقراطية تجمع العرب واليهود،ثم تبنّت النقاط العشر في العام 1974 باقامة الدولة الفلسطينية على اي جزء تحرره او تنسحب منه "اسرائيل"، ثم قبلت في العام 1988 بقرار تقسيم فلسطين والقرار 242،وصولا الى مؤتمر مدريد 1991 واتفاقات اوسولو 1993. ترافق مع تراجع عربي من ازالة اسرائيل الى محو آثار النكسة مرورا بقبول مشروع روجرز 1970 وصولا الى مبادرة قمة بيروت 2002.
- تشجع "اسرائيل" سياسة المفاوضات غير الرسمية مع الفلسطينيين بهدف انجاز تفاهمات معينة والبناء عليها،كما حدث في العام 1995 بين يوسي بيلين ومحمود عباس،وما انتهى اليه الوضع من تنازلات فلسطينية قاسية لجهة الارض والمستوطنات والقدس كما في وثيقة جنيف 2003. وبالتلي ان المراقبة الدقيقة لسير المفاوضات تبرز وكأن "اسرائيل" انتهت من قضية اللاجئين والمستوطنات والارض المنزوعة السلاح،وهي ستفاوض الآن على قضية القدس.
- نجحت "اسرائيل" في فصل المسارات العربية التفاوضية،بعددما سحبت مصر والاردن والفلسطينيين،وهي تحاول الآن مع كل من لبنان وسوريا،بهدف اضعاف الموقف العربي وتفتيت مواقفه وتقزيم قواه،وهذا ما تم استغلاله الى اقسى الحدود مع الجانب الفلطسيني في اتفاق اوسلو على سبيل المثال، حيث لا التزامات محددة لا لجهة الزمن ولا الاطار ولا المرجعيات.
- سعي "اسرائيل" لعدم تدخل اي طرف في المفاوضات اذ لم يكن لجانبها،كالأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي وغيرها،ما يؤدي الاستفراد بالمفاوض الفلسطيني واجباره على تقديم التنازلات المجانية.
- اللجوء الى شراء الوقت للتهرب من استحقاقات تم البحث بها،فلا مواعيد مقدسة عند "اسرائيل"، والعمل بالعودة الى الوراء لأتفه الاسباب ،والتنصل من ادنى الالتزامات ان وجدت، فاستحقاق الدولة الفلسطينية عام 1988 تم تجاوزه بمواعيد عدة، كما تنفيذ خارطة الطريق التي أملت بالدولة الفلسطينية العام 2005.
- اجادت "اسرائيل" تجزأة القضايا والغوص في تفاصيلها اثناء المفاوضات ، بحيث باتت هذه الاخيرة آلية يصعب التحرك فيها او الخروج منها، كمثال شبكة الاتفاقات التي نسجتها "اسرائيل" بين الاعوام 1993 و 1999 ، كاتفاقات القاهرة، وطابا، وواي ريفر، وشرم الشيخ. فمن غزة - أريحا أولاً، إلى تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق "أ"، و"ب"، و"ج"، والوضع الخاص بمدينة الخليل، وعمل المسارات الخاصة بالمستعمرات والقدس واللاجئين والحدود.
ان التدقيق في كل تلك المفاصل التفاوضية وآلياتها وما جاء فيها وما ترتب عليها،تظهر ان حفلة التفاوض غير المباشرة بين "اسرائيل" والفلسطينيين ليست بالمشجعة قياسا على السوابق السالفة الذكر، فالشهران المتبقيان ليسا كافيين لانجاز ما عجز عنهما عقدان منصرمان من المفاوضات بين الطرفين،كما ان الوعود الامريكية ووساطتها ليست بالمشجعة بالنظر لما تسرّب من اتفاق ضمني امريكي على اطلاق المفاوضات غير المباشرة بوعود هلامية ربما يكون الهدف القادم جمع الطرفين مباشرة بالشروط التي ترتئيها اسرائيل،وفي حال الفشل ثمة هروب اسرائيلي معتاد نحو مزيد من الاعتداءات وربما غزة بالانتظار.
بالمحصلة، عروض عربية بالجملة والمفرق،يقابله إعراض واعتراض اسرائيلي على الكثير فيها وعليها، وتبقى سيرة المفاوضات وسريتها عاملان محفزان للعروض والإعراض، لكل اسبابه وفرضياته وحساباته،لكن ما يجمع الاثنان على طاولة المفاوضات ان ثمة خاسر عربي وفلسطيني ورابح اسرائيلي دائم.