استئناف المفاوضات أم المستوطنات؟
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
بيروت:28/9/2010
ثلاث جولات من المفاوضات المباشرة بدأها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي لم يتمكنا في خلالها التوصل إلى مشروع اتفاق حول تمديد تجميد عمليات بناء المستوطنات،رغم معرفة الطرفان،إن هذه العقبة تشكل الموضوع الأساس لفرط عقد المفاوضات وفي أحسن الأحوال استمرارها وسط معمعة إسرائيلية يجرى خلالها تكريس أمر واقع مفاده استمرار المفاوضات والاستيطان في وقت واحد.
من الواضح إن إسرائيل لم تنتظر ساعة واحدة للبدء في إطلاق عمليات البناء،بل انطلقت بها في رمزية خاصة لجهة المكان والزمان،حجر أساس لمدرسة دينية في الخليل على أنقاض مدرسة إسلامية،وكأن في الأمر منازلة دينية حضارية ثقافية فيها من التحدي ما يجعل المراقب اشد عصبية في قراءة المواقف والتصرف،وفي إي حال ليست هي المرة الأولى ولن تكون الأخيرة،فتاريخ الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية له صولات وجولات تمتد في التاريخ إلى حقبة القرون الوسطى وبالتحديد إلى القرن السادس عشر،وصولا إلى الحيثيات الخاصة في العقد الأول من الألفية الثانية.
والاستيطان في عمليات التفاوض الإسرائيلي مع الفلسطينيين له مناهجه وآلياته الخاصة، بحيث أصبح هذا الملف جزءا رئيسا من عمليات التفاوض المعلنة والمبطنة منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991،بل عمدت إسرائيل إلى وضع آليات وشروط محددة يصعب اختراقها أو تمييعها في مختلف عمليات التفاوض التي جرت بين الطرفين،والمضحك المبكي في هذا الأمر،إن إسرائيل كانت تتمسك بإطلاق عمليات الاستيطان وعدم المسِّ بها أو التعرض لها في موازاة إصرارها على المفاوضات دون شروط مسبقة وبخاصة عدم التطرق إلى موضوع الاستيطان.
والمفارقة الأغرب في هذا الموضوع، ما يتم استعماله من مصطلحات محددة،فمثلا بدل توقيف عمليات الاستيطان، أو إعادة النظر يبعضها أو هدم وإزالة غير القانوني منها بحسب التوصيف الإسرائيلي نفسه،يتم إطلاق مصطلحات تفاوضية تزيد تداعيات البناء والاستيطان، فمثلا تجميد عمليات الاستيطان بدل العمل على وقفها النهائي. والأنكى من كل ذلك يلهث المفاوض الفلسطيني على محاولة إقناع الطرف الإسرائيلي بقبول تمديد التجميد لأشهر قليلة بهدف إقناع الآخرين إن ثمة تقدما حصل في عمليات التفاوض وآلياتها وبالتالي تأمين الغطاء السياسي العربي لعمليات التفاوض المباشرة كما تصور فيها الأمور،وكأن الأطراف العربية الأخرى قادرة على المنع أو حتى التأثير في مصير ومسار هذه المفاوضات في الأساس.
وفي واقع الأمر يعتبر الاستيطان ركنا أساسيا في الايدولوجيا الصهيونية وفلسفة بناء الدولة اليهودية في فلسطين،وبالتالي لا غرابة بالموقف الإسرائيلي الداعي بشكل مستمر إلى عمليات فصل التفاوض عن عمليات الاستيطان والبناء.وفي حقيقة الأمر من وجهة النظر الإسرائيلية يعتبر الاستيطان عصبا رئيسا في حياة الدولة الصهيونية واستمرارها، وبالتالي من الطبيعي إن يتشدد المفاوض الإسرائيلي في هذا الملف تحديدا،وعدم تقديم إي تنازل ولو كان تكتيا.
إن آخر ابتكارات رئيس الوزراء الإسرائيلي،بنيامين نتنياهو، في هذا المجال الدعوة إلى فصل مسار التفاوض عن مسار الاستيطان،بمعنى إن لا ضررا في متابعة المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين دون تقديم تأكيدات أو مواقف أو الوعد بتمديد تجميد عمليات البناء،وعليه إن إستراتيجية نتنياهو الحالية هي كأسلافه،مزيد من الإصغاء للطرف الآخر دون تقديم شيء يذكر،تكريس أمر واقع والانتقال إلى ملفات اشد تعقيدا وتشعبا بحيث يستسلم الطرف الفلسطيني للطروح الإسرائيلية السابقة،وبالتالي إجبار الطرف الفلسطيني على قبول شرط التفاوض على المسائل التي كان يرفضها والتي كان يعتبرها من مسلمات التفاوض المفترضة بينه وبين الإسرائيلي.
لقد تكللت جهود الصهيونية ومن ورائها القوى الاستعمارية بالنجاح عندما تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948 على 77% من مساحة فلسطين التاريخية، وتمكنت إسرائيل في حينها من طرد معظم السكان الفلسطينيين بعدما ارتكبت المذابح والمجازر ودمرت القرى والمدن الفلسطينية، وشُرِدَ الفلسطينيون كلاجئين في البلاد العربية ، وفي المقابل فتحت أبواب الهجرة اليهودية ليتدفق الكثير من اليهود من مختلف أنحاء العالم، واستمر هذا الوضع حتى حرب الخامس من حزيران عام 1967، والتي كانت من أهم نتائجها استكمال سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية بعد احتلالها للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وبذلك سنحت فرصة جديدة لإسرائيل لمتابعة مخططات تهويد فلسطين، التي بدأت في القرن التاسع عشر.
في العام 1972 أطلق النائب الصهيوني يشعياهو بن فورت شعارا جذابا للحركة الصهيونية هو: "إن الحقيقة هي لا صهيونية بدون استيطان، ولا دولة يهودية بدون إخلاء العرب ومصادرة أراضي وتسييجها". فالاستيطان الإسرائيلي يعتبر الجانب العملي للفكر الاستراتيجي الصهيوني الذي انتهج فلسفة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، بحجج ودعاوي دينية وتاريخية مزيفة، وترويج مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
إن التدقيق في سير المفاوضات ومصيرها،يثبت إن إسرائيل كانت الطرف الوحيد المستفيد من متابعتها ، تفاوض وتكرس امرأ واقعا، تجبر الطرف الآخر على تمني الحصول على ما كان يرفضه، دخل الفلسطينيون المفاوضات المباشرة وهم يقنعون نفسهم بأن لا شروط مسبقة، بعد ثلاث جولات شكلية تمكن نتنياهو من إطلاق شعار استمرار المفاوضات والاستيطان بشكل متزامن بصرف النظر عن صراخ الطرف الآخر.