هل ستعيد الفرنكوفونية أمجاد فرنسا الضائعة؟
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com
ثمة العديد من التجارب الإقليمية والدولية ظهرت في العقود الماضية ،والتي هدفت بشكل أو بآخر إلى تعويم ادوار إمبراطوريات سادت ثم بادت.فكانت تجربة الكومنولث البريطاني والكومنولث الروسي، وبينهما الفرنكوفونية، التي جهدت فرنسا منذ إنشائها إلى تظهير الثقافة الفرنسية وحضارتها كإطار جامع للعديد من الدول والشعوب التي كانت يوما تحت احتلالها أو وصايتها أو انتدابها.فهل نجحت فرنسا في هذه المحاولات ؟وما هو الجديد التي أتت به القمة الثالثة عشرة؟.
في إطار عمل المنظمات ذات الطابع الإقليمي أو العالمي، ثمة مصاعب كبيرة لتقريب ذات البيّن،فعشرات المنظمات أطلقت وحلت ولم يذخر تاريخها بأمر يذكره التاريخ،وهذه المقاربات لا تعني بالضرورة تشاؤما مطلقا بقدر ما هو توصيف واقعي لعلاقات شهدتها هذه المنظمات ومن بينها منظمة الفرنكوفونية.
أربعون عاما مضت على تأسيسها،حتى بلغ عضويتها 53 دولة إي ما يقارب ربع دول العالم، ورغم هذا العدد الكبير نسبيا،لم يبلغ عدد المتكلمين اللغة الفرنسية أكثر من 220 مليون نسمة،من بينهم 65 مليون فرنسي.وغريب المفارقات في هذا التعداد،ان ثمة تقارير تفيد ان نصف سكان فرنسا يستعملون اللغة الانكليزية بدلا من الفرنسية في يومياتهم المعتادة،فهل هذه الإحصاءات تفيد أحد ى أهداف وغايات المنظمة؟
واقعا ان التعويل على قضايا رومانسية اذا جاز التعبير في العلاقات السياسية الدولية يعتبر ضربا غير قابل للصرف السياسي في مواقع النظام الدولي التي حلمت به فرنسا وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.وإذ حاولت الاجتهاد في هذا الإطار وفشلت عموما،فكان لها كلام آخر يعوّض عليها بعض الفشل الذي ظهر في مشروع الاتحاد المتوسطي على سبيل المثال لا الحصر.
وبصرف النظر عن حجم النجاحات والفشل،تبقى القمة الأخيرة بمثابة إعادة التذكير بالوجود ولو من باب شعارات سياسية واقتصادية غالبا لم يكن لها نهايات سعيدة.فالحوكمة والأمن في الدول الأفريقية هي محاولات على جدول أعمال تكرر أكثر من مرة ولم يظهر فيه أو بعده نتائج مستمرة وقابلة للحياة،ذلك ليس بفعل عدم الرغبة بقدر ما هو متعلق بعدم القدرة. ففرنسا بمختلف توجهاتها السياسية في مختلف العهود الرئاسية المتعاقبة لم تتمكن من تجاوز الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من القضايا الدولية ذات الفعل الوازن في الحياة السياسية الدولية، وثمة العديد من ظرفاء العلاقات الدولية ،أطلقوا على الحراك الفرنسي حراكا مشاغبا،الذي لم يقدم أو يؤخر في القضايا ذات الصلة بالموازين الدولية.
لقد أتت القمة في ظروف دولية استثنائية من الصعب القفز فوقها بتوصيات تكررت في الأدبيات السياسية الفرنكوفونية منذ أربعين عاما. وتركت محاولات التنفيذ لآليات ووسائل وطرق غير قابلة للوصول إلى مكان محدد.
فكيف يمكن تحقيق مطلب الدول الأفريقية بتمثيلها في مقعد دائم في مجلس الأمن باعتبارها تضم 27 بالمئة من تعداد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ولا تملك سوى ثلاثة مقاعد غير دائمة في المجلس. فهل التعداد هو المقياس أم الفعالية،ام القدرة على التنفيذ طبعا أسئلة كثيرة توجّه إلى فرنسا صاحبة المصلحة الأولى والأخيرة في إبراز دور الفرنكوفونية ومن يدور في فلكها.
جانب آخر في حراك القمة وفعالياتها والمتعلق بالإرهاب ومكافحته مثلا ، كيف يمكن مساعدة هذه الدول وبخاصة الأفريقية في هذا المجال، هل عبر المساعدات التنموية والاقتصادية التي تعتبر البيئة الفعّالة للقضاء على بؤر الإرهاب؟ أم عبر ترك هذه الشعوب تقرر مصيرها فعلا وهو مدخل أساسي في الذاكرة الجماعية لهذه الشعوب؟في كلا الحالتين، ثمة إهمال وفي أحسن الأحوال وعود ووعود لم ينفذ منها شيئا.
عنوان برّاق آخر متعلق بالبيئة وظروف الحد من تداعياتها السلبية وبخاصة في الدول الأفريقية، ألم تكن القارة السمراء مرتعا للتجارب الفرنسية وغيرها من الدول ومكانا ملائما ومناسبا للنفايات الدولية عبر عقود مضت؟ كيف يمكن حل هذه القضايا الشائكة ؟هل بالتوصيات والبيانات أم بالتمويل المناسب الذي يحل آثار المشكلات أولا ومن ثم الإقلاع عن المشاريع ثانيا؟!.
سوف تترأس فرنسا الشهر المقبل الحراك السياسي لمجموعة العشرين ،المجموعة التي لها القول والفصل في المسائل الدولية ومن بينها المالية والاقتصادية، فأين موقع الدول الفرنكوفونية في هذا التجمع؟ هل سيكون كما سبق من اجتماعاتها وتوصياتها مجرد وعود غير قابلة للتطبيق؟. مليارات الدولارات رصدت حبرا على ورق لمساعدة الكثير من التجمعات الإقليمية من بينها الفرنكوفونية ، ينبغي على فرنسا قراءة موقعها الدولي بشكل مختلف أو على الأقل معرفة ماذا تريد وكيف يمكن ان تصل إلى ماذا تريد.
وبالعودة إلى لغة الصالونات والمنتديات الدبلوماسية اللغة الفرنسية، هل مصادفة ان نصف الفرنسيين باتوا غير مهتمين بلغتهم ؟ ولماذا هذا التراجع الهائل بين تعداد متكلميها؟ اللغة الفرنسية تمتلك من الرشاقة والسلاسة التي تغري كل مثقف وباحث ورجل فكر وسياسة، لكن المشكلة لا تكمن في طبيعة اللغة نفسها بقدر ما تكمن في قوة الدولة التي تمثلها. ربما تكون النصيحة السياسية باتت قدرا من الماضي بالنسبة للفرنسيين ومنظمتهم التي باتت لا تسمن ولا تغني عن جوع بالنسبة لدولها وأيضا لمن يتابع شؤونها وهمومها.
أربعون عاما في بيئة العلاقات الدولية كافية للحكم على مسار معين، فهل ستحال الفرنكوفونية على التقاعد قريبا؟ أم ان قدرها ان تبقى كذلك؟ ثمة محاولات فرنسية رديفة تعمل عليها ومن بينها الاتحاد من اجل المتوسط،السؤال الأهم الذي يطرح نفسه،هل سيلقى الاتحاد مصير الفرنكوفونية لاحقا؟ أم ان لفرنسا قراءة أخرى في ذلك؟ القراءة المختلفة شرط ضروري ولازم للتغيير، لكن العزم والقدرة على التنفيذ تظلان من بين أبواب النجاح الذي لا يُفتح دائما للدول المترددة!