العلاقات الدولية
النظرية والواقع - الأشخص والقضايا
المؤلف الدكتور خليل حسين
الناشر منشورات الحلبي الحقوقية
الطبعة الأولى 2011
تعتبر العلاقات بين الجماعات البشرية ظاهرة قديمة، برزت وترسّخت مع ظهور التجمّعات البشرية التي اضطرّت، بهدف الحفاظ على بقائها وتأمين حاجاتها، إلى التعامل مع غيرها من التكتلات। كما أنَّ هذه العلاقات تطوَّرت منذ الأزمنة القديمة ومرَّت بأدوار مختلفة، وإن كان بعض المؤرّخين الأوروبيين يرون أنها ظلت على حالها وحافظت على سماتها وخطوطها القديمة حتى انعقاد مؤتمر وستفاليا في العام
ولمّا كانت القوة لا تزال الأساس في تحديد إطار استراتيجيات الدول، كما المحرك لأنماط العلاقات الخارجية وتقرير طبيعة أهداف سياساتها، فإن الأقوى كان وما زال يستغل القوة لفرض مصالحه على الآخرين من دون اعتبار لمصالحهم، وبغضّ النظر عمّا يسببه من أضرار للمصالح؛ من هنا كانت فلسفة "الحق للقوة" هي السائدة في المجتمع الدولي منذ القديم وحتى اليوم، وعلى الرغم من النظريات المثالية الحالمة، فإن القوة هي الواقع في التعامل الدولي، أما الأخلاقيات فتقع في مكان ما بينهما.
انطلاقاً من هذا الواقع ونتيجة الحروب التي لم تتوقف عبر التاريخ، قام منظرو السياسة الدولية بوضع النظريات لإقامة السلام العالمي، ونظام الأمن الجماعي لردع المعتدي ، بهدف تمكين المجتمع الدولي من العيش بسلام وكرامة، وفق مبادئ وأسس تلتزم باحترامها الدول كافة، وعلى قدم المساواة كبيرها وصغيرها، فهل تحقق ذلك فعلاً؟
يعتبر منظرو السياسة الدولية، أنَّ اعلي منافع البشرية وتقدمها يوجد في سيادة القانون: القانون الدولي، والقانون الخاص، وضرورة تطبيق القوانين التي اتفق عليها، ولكن الواقع التطبيقي، والممارسة الفعلية في العلاقات الدولية يسمح بطرح التساؤل: أي قانون؟ وقانون من؟ فالقانون ليس شيئاً مجرداً، كما لا يمكن فهمه بمعزل عن مكوِّناته السياسية التي أوجدته، ولا عن المصالح السياسية والاقتصادية التي يخدمها، ذلك أن القوانين الدولية والتنظيم الدولي، والنظام الدولي المنبثق عنها، إنما هو تعبير عن إرادة ورغبات ومصالح القوى التي صاغت هذا القانون، ووضعت قواعده وهو يعمل في الحقيقة وبنسبة كبيرة من الواقع لخدمتها وتحقيق أهدافها.
لقد مرَّ النظام العالمي بالعديد من التحوّلات المتداخلة خلال العصور المختلفة، التي قسّمها علماء التاريخ إلى ثلاثة عصور رئيسة: العصر القديم والعصور الوسطى والعصر الحديث ،حيث تدرّجت ملامح النظام العالمي من الأنظمة القبلية إلى الأنظمة الإمبراطورية ثم ظهور الدويلات والوحدات السياسية وصولا إلى الدولة القومية في العصر الحديث التي اسست للعلاقات الدولية وما يتفرع عنها من قضايا ومسائل جديرة بالمتابعة.
لقد أدى التطور الهائل الذي شهدته المجتمعات البشرية ودولها، الى نشوء علم قائم بذاته يعنى بالعلاقات الدولية،وان اختلف بعض المنظرين حول اسس هذا العلم ومناهجه وارتباطه بالعلوم الأخرى،فثمة اجماع على ان العلاقات الدولية باتت علما مستقلا يُدرس في الجامعات وتعقد له مؤتمرات وندوات في المحافل الدولية والإقليمية.
ولم تقتصر العلاقات الدولية على أنها مجرد علم،بل تطوّر بها الأمر إلى لجوء منظريها لإنشاء مناهج ونظريات للكتابة فيها والتعليق على أحداثها والكتابة فيها.إذ برز العديد من المناهج والنظريات المتباينة في توجهاتها وأهدافها وغاياتها. وان كانت تتدرج ضمن مجموعتين رئيسيتين هما: مجموعة المناهج التقليدية، ومجموعة المناهج المعاصرة. ومن أشهر المناهج التقليدية، المنهج التاريخي، والمنهج القانوني، والمنهج الواقعي أو منهج سياسات القوة، ومنهج المصالح القومية.
يعلق المنهج التاريخي أهمية بارزة على تطور التاريخ الدبلوماسي، باعتبار أن للعلاقات الدولية في صورها المعاصرة امتدادات تاريخية ، كما يُنسب إلى هذا المنهج مزايا أخرى متنوعة منها ما يتمتع من قدرة على البحث عن الأسباب التي تكمن وراء نجاح أو إخفاق القادة في انتهاج سياسات خارجية معينة في ظروف دولية محددة. كما ان التاريخ يخدم وفقا لهذا المنهج، اختبار العلاقة التي تنشأ بين الأسباب والنتائج في السياسة الدولية، على قاعدة أن لكل موقف دولي طبيعته وخصائصه المتميّزة.
اما المنهج القانوني فيركّز على الاعتبارات القانونية والعوامل التي تحيط بعلاقات الدول ببعضها، ومن أمثلة ذلك: الالتزامات التي تنشأ بين الدول بموجب معاهدات أو اتفاقيات أو مواثيق دولية محددة تؤمن بها مصالحها المشتركة، أو تحديد عناصر المسؤولية عن التصرفات التي تلجأ إليها الدول وتمثل خرقًا لالتزاماتها التعاقدية، أو التمييز بين صور الاعتراف الدولي المختلفة وبالتحديد الاعتراف القانوني والاعتراف الواقعي، أو تقرير الوسائل المتبعة في تسوية المنازعات الدولية سليمًا، كأساليب الوساطة والتوفيق والتحكيم وتقصي الحقائق والمساعي الحميدة.
أما المنهج الواقعي فيستند إلى القوة باعتبارها القاعدة المحورية في العلاقات الدولية، وأنه إذا كانت صراعات القوة تغلف أحيانًا ببعض الشكليات القانونية أو المبررات الأخلاقية، فإن هذا الاخراج ينبغي ان لا يحرف النظر عن الحقيقة الأساسية التي تتحكم في توازن العلاقات الدولية برمتها. ومن الأسباب البارزة التي تقال في صدد الدفاع عن هذا المنهج، أنه يحاول تفسير السلوك الدولي تفسيرًا منطقيًّا عقلانيًّا بالاستناد إلى معطيات الأمر الدولي القائم وحقائقه الثابتة دون أن يتجاوزه إلى تصوّر العلاقات الدولية لجهة ما ينبغي أن تكون عليه على غرار ما يفعل المثاليون.
وفيما يتعلق بمنهج المصالح القومية، فإنه يعتبر أن السعي نحو تحقيق المصلحة القومية للدولة هو الهدف النهائي والمستمر لسياستها الخارجية. بمعنى آخر، إن المصلحة القومية تشكل عامل الارتكاز الأساسي في تخطيط السياسة الخارجية لأي دولة في العالم، كبيرة كانت أو صغيرة. وقد ظهرت مناهج مختلفة مساعدة أو أدوات تحليل مفيدة من حقول شتى كنظرية المباريات من المنهج الإحصائي، وتحليل النظم، وغيرها.
شهدت الدراسة العلمية للعلاقات الدولية عدة اتجاهات ساد كل منها مرحلة من مراحل تطور دراستها، وتبلورت التباينات بينها ، فإذا كانت صورة "سياسات القوة" قد عكست خبرة النصف الأول من القرن العشرين وحتى العقد السابع منه، فإن خبرة الربع الأخير من القرن الماضي قد أبرزت تغيرات هيكلية في السياسات الدولية ترتب عليها عدم ملاءمة دراستها من خلال منظور "سياسات القوة". من ثَمَّ ظهرت الحاجة إلى اتساع النظرة التحليلية التي تركِّز على الدول فقط، وعلى مفاهيم القوة والصراع أساسًا، نظرًا لبروز أدوار لفاعلين جدد من غير الدول، ولبروز أهمية موضوعات جديدة احدثت تحوّلاً في النظام الدولي المعاصر تحت تأثير قوى الاعتماد المتبادل الدولي ، فلقد اقتضت هذه الأوضاع الدولية المتطورة النظر للعالم باعتباره نظامًا من التفاعلات التي يلعب فيها فاعلون آخرون من غير الدول دورًا مهمًّا حول موضوعات سياسية واقتصادية جديدة تخلق عمليات جديدة تتجه بالنظام نحو نوع من التعاون والتكيّف وليس نحو العنف والصراع فقط. وهكذا فإن الاتجاهات الحديثة في دراسة العلاقات الدولية تناولت خصائص أساسية للسياسات الدولية المعاصرة من خلال ثلاثة محاور، الفاعلون الدوليون، نطاق وأولوية الموضوعات، العمليات الدولية.
لقد حاولنا في مؤلفنا هذا،الانطلاق في دراسة العلاقات الدولية، عبر سبعة أبواب،تضمنت عرضا شاملا ووافيا لمجمل الأسس المتعلقة بعلم العلاقات الدولية.ففي الباب الأول تم التطرق إلى نشأة العلاقات الدولية ونطاقها وعلاقتها بغيرها من العلوم علاوة على مناهج كتابتها.أما الباب الثاني فقد احتوى على نظريات العلاقات الدولية فتضمن تسعة فصول جمعت أسس النظريات من الواقعية إلى المثالية وما بينهما من مدارس ونظريات واتجاهات متنوعة،بحيث أعطى هذا الباب مروحة واسعة من النظريات التي تعبر عن غالبية من نظَّر وكتب في هذا المجال.أما الباب الرابع فقد خصصناه إلى اثر التحولات في نظريات الجغرافيا السياسية وأثرها في العلاقات الدولية ونظرياتها.فيما الباب الرابع عالج الأزمات الدولية وطرق وأساليب إدارتها. أما الباب الخامس فقد تضمن نظرية القوة وعلاقتها بالأحلاف الدولية وتوازناتها وصراعاتها،علاوة على التكتلات الدولية في حقبة الحرب الباردة،وما تلاها من فترة وفاق،ثم انهينا هذا الباب بتداعيات انهيار الاتحاد السوفيتي من خلال تفرّد الولايات المتحدة الامريكية بقيادة النظام العالمي ومستقبل هذه القيادة.ثم انتقلنا في الباب السادس إلى الإضاءة على الأشخاص الدولية الفاعلة في العلاقات الدولية كالدول والمنظمات الدولية والإقليمية،والشركات العابرة للقارات والأفراد.ثم انهينا هذا المؤلف بفصل سابع تناول ابرز القضايا الدولية كالعولمة والإرهاب والسيادة والبيئة وحوار الحضارات وحقوق الإنسان والهجرة غير الشرعية ونزع الأسلحة غير التقليدية.
لقد اتبعنا منهجا علميا أكاديميا بهدف إلقاء الضوء على قضايا أرّقت جفون المختصين لجهة توصيف العلاقات الدولية وتكييفها مع غيرها من العلوم،علاوة على إبراز ومقارنة أوجه الاختلاف والتباين في نظريات العلاقات الدولية، اضافة على معالجة بعض وقائع العلاقات الدولية وما نتج عنها،ذلك بأسلوب علمي موضوعي، يسهّل على المختص كما المهتم الاستفادة من هذا العمل المتواضع الذي استهلك جهدا غير قليل.