مفاوضات بغداد النووية وأبعادها
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
غريب المفارقات في برامج دول الشرق الأوسط النووية انقلابها رأسا على عقب في ظروفها ومكانها وأبعادها.ففي ثمانينات القرن الماضي وبالتحديد في العام 1981 شكَّل ضرب مفاعل تموز العراقي من قبل إسرائيل ضربة قاسمة للطموحات العراقية والعربية في امتلاك برامج غير تقليدية،وكما كانت إسرائيل المستفيد الأول، كذلك كانت طهران آنذاك حيث كانت الحرب العراقية - الإيرانية في أشدها.
اليوم ربما انقلبت الموازين والمفاهيم وحتى التحالفات،وبرزت معطيات جديدة في ظاهرها إعادة تعويم ادوار لدول،بينما في حقيقة الأمر هو مسلسل من محاولات الاستفادة من مواقع وأماكن لإعادة ترتيب إدارة أزمات متشعبة ومتنوعة في غير اتجاه من دول المنطقة.
بداية اعتبرت إيران نقل مفاوضات البرنامج النووي إلى اسطنبول مكسبا تكتيا في إدارة الأزمة مع الغرب، وسلفة سياسية مدفوعة الثمن لأنقرة في محاولة لتمرير استحقاقات مهمة في المنطقة من بينها انسحاب القوات الأمريكية من العراق. واليوم تمكنت طهران أيضا من نقل المفاوضات من اسطنبول إلى بغداد في إشارة لافتة لإعادة تموضع تفاوضي جديد بصرف النظر عن فعاليته في تحقيق مكاسب جوهرية في أساس ملف التفاوض.
فالمكان رغم ما يعنيه من دلالات رمزية، فقد تخطته طهران بلقاءات محورية مع وكالة الطاقة الذرية في غير مكان ومنها مؤخرا فيينا، وسعت من خلال ذلك، تأمين بيئة مناسبة لاستمرار المفاوضات من دون اللجوء بالضرورة لتقديم تنازلات جوهرية يريدها الغرب عاجلا أم آجلا. ففي سلة المفاوضات التي سبقت نقلها إلى اسطنبول، تمكّنت طهران من تمرير التخصيب بمستوى العشرين في المئة رغم الصياح والصراخ الغربي، وتمكّنت في اسطنبول من إعادة أصوات المفاوضين الستة إلى لهجات ومستويات دبلوماسية معهودة،فكيف سيكون الأمر في بغداد وما هي أبعاده وانعكاساته؟
في المبدأ ثمة ما يشبه اتفاق المبادئ غير المعلن بين الجانبين الإيراني والغربي وبالتحديد الأمريكي، لكن السمة الظاهرة فيه توقيت المضي به لأسباب انتخابية أمريكية وإيرانية معا.فالطرفان لهما مصلحة بالتوصّل إلى بيئة اتفاقية مقبولة ولو مؤجلة.من جانبها واشنطن ستحاول الاقتناع بأن من حق طهران امتلاك برنامج نووي سلمي بضمانات دولية ومن بينها روسية قاعدتها،قبول الغرب بمواصلة إيران تخصيب اليورانيوم على أراضها فقط بنسبة خمسة بالمئة وهو المستوى المطلوب لبرامج الأبحاث المدنية،مقابل تعهد إيران التوقف عن تخصيب العشرين بالمئة وإخراج الكميات المخصبة سابقا من هذا المستوى إلى خارج إيران،إضافة إلى إغلاق مفاعل قم النووي تحت الأرض كما يؤكد الغرب على ذلك . في مقابل ذلك ستحاول طهران الغوص في ملف رفع العقوبات عنها وبخاصة الموضوعة على المصرف المركزي،وقطاع النفط وهو أمر استراتيجي بعدما بدأت العقوبات تلامس المستويات الحرجة للاقتصاد الإيراني.
لقد استهلك ملف البرنامج النووي الإيراني عقدا ونيف من الزمن،تخلله أحداث مفصلية في الشرق الأوسط، بعضها استثمر بشكل جيد من كل الأطراف المعنية به وبخاصة طهران، وبعضها الآخر كانت متلقية لتلك الأحداث ونتائجها وكانت تداعياتها سلبية عليها، وفي كلتا الحالتين كان العرب في موضع رد الفعل لا الفعل الذي يحمي أمنهم وموقعهم بين أمم قطعت أشواطا لافتة في تكريس مواقعهم على الخريطة السياسية الشرق الأوسطية.
ربما مفاوضات بغداد ستعطي عودة رمزية للعراق في أجندات المفاوضات الإقليمية، لكن هذه العودة ليست مؤثرة في المفاوضات نفسها، باعتبار ان واقع العراق الحالي لا يعدو كونه لاعبا إقليميا ثانويا بين فاعلين إقليميين أقوياء كتركيا وإيران، بل ان استعمال موقع بغداد في المفاوضات لا يمكن وصفه إلا في إطار عملية الشد والجذب بين طهران وأنقرة حول سياسات واستراتيجيات من بينها العراق نفسه.
علاوة على ذلك، وبصرف النظر عن النتائج المحتملة لتلك الجولة من المفاوضات،ثمة العامل الإسرائيلي الذي لا يزال يرقب بحذر شديد ويده على الزناد،فهل ستنتظر إسرائيل كثيرا لتطلق الرصاصة الأولى؟ لقد عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إقناع واشنطن بعدم جدوى المفاوضات لحل مثل تلك الملفات التي تعتبره خطرا كيانيا عليها، والمتتبع للسلوك الإسرائيلي خلال الفترة الماضية يوحي بأن شيئا ما يُحضر في الخفاء، فهل الائتلاف الحالي الحاكم في تل ابيب يعطي الانطباع بأنها تقف مكتوفة الأيدي؟ ان التدقيق في بواطن الأمور الحكومية الإسرائيلية وخباياها،يظهر عكس ذلك فهل يشكل الوقت المستقطع من عمر الانتخابات الرئاسية الأمريكية مناسبة لقلب طاولات المفاوضات السابقة واللاحقة؟!
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
غريب المفارقات في برامج دول الشرق الأوسط النووية انقلابها رأسا على عقب في ظروفها ومكانها وأبعادها.ففي ثمانينات القرن الماضي وبالتحديد في العام 1981 شكَّل ضرب مفاعل تموز العراقي من قبل إسرائيل ضربة قاسمة للطموحات العراقية والعربية في امتلاك برامج غير تقليدية،وكما كانت إسرائيل المستفيد الأول، كذلك كانت طهران آنذاك حيث كانت الحرب العراقية - الإيرانية في أشدها.
اليوم ربما انقلبت الموازين والمفاهيم وحتى التحالفات،وبرزت معطيات جديدة في ظاهرها إعادة تعويم ادوار لدول،بينما في حقيقة الأمر هو مسلسل من محاولات الاستفادة من مواقع وأماكن لإعادة ترتيب إدارة أزمات متشعبة ومتنوعة في غير اتجاه من دول المنطقة.
بداية اعتبرت إيران نقل مفاوضات البرنامج النووي إلى اسطنبول مكسبا تكتيا في إدارة الأزمة مع الغرب، وسلفة سياسية مدفوعة الثمن لأنقرة في محاولة لتمرير استحقاقات مهمة في المنطقة من بينها انسحاب القوات الأمريكية من العراق. واليوم تمكنت طهران أيضا من نقل المفاوضات من اسطنبول إلى بغداد في إشارة لافتة لإعادة تموضع تفاوضي جديد بصرف النظر عن فعاليته في تحقيق مكاسب جوهرية في أساس ملف التفاوض.
فالمكان رغم ما يعنيه من دلالات رمزية، فقد تخطته طهران بلقاءات محورية مع وكالة الطاقة الذرية في غير مكان ومنها مؤخرا فيينا، وسعت من خلال ذلك، تأمين بيئة مناسبة لاستمرار المفاوضات من دون اللجوء بالضرورة لتقديم تنازلات جوهرية يريدها الغرب عاجلا أم آجلا. ففي سلة المفاوضات التي سبقت نقلها إلى اسطنبول، تمكّنت طهران من تمرير التخصيب بمستوى العشرين في المئة رغم الصياح والصراخ الغربي، وتمكّنت في اسطنبول من إعادة أصوات المفاوضين الستة إلى لهجات ومستويات دبلوماسية معهودة،فكيف سيكون الأمر في بغداد وما هي أبعاده وانعكاساته؟
في المبدأ ثمة ما يشبه اتفاق المبادئ غير المعلن بين الجانبين الإيراني والغربي وبالتحديد الأمريكي، لكن السمة الظاهرة فيه توقيت المضي به لأسباب انتخابية أمريكية وإيرانية معا.فالطرفان لهما مصلحة بالتوصّل إلى بيئة اتفاقية مقبولة ولو مؤجلة.من جانبها واشنطن ستحاول الاقتناع بأن من حق طهران امتلاك برنامج نووي سلمي بضمانات دولية ومن بينها روسية قاعدتها،قبول الغرب بمواصلة إيران تخصيب اليورانيوم على أراضها فقط بنسبة خمسة بالمئة وهو المستوى المطلوب لبرامج الأبحاث المدنية،مقابل تعهد إيران التوقف عن تخصيب العشرين بالمئة وإخراج الكميات المخصبة سابقا من هذا المستوى إلى خارج إيران،إضافة إلى إغلاق مفاعل قم النووي تحت الأرض كما يؤكد الغرب على ذلك . في مقابل ذلك ستحاول طهران الغوص في ملف رفع العقوبات عنها وبخاصة الموضوعة على المصرف المركزي،وقطاع النفط وهو أمر استراتيجي بعدما بدأت العقوبات تلامس المستويات الحرجة للاقتصاد الإيراني.
لقد استهلك ملف البرنامج النووي الإيراني عقدا ونيف من الزمن،تخلله أحداث مفصلية في الشرق الأوسط، بعضها استثمر بشكل جيد من كل الأطراف المعنية به وبخاصة طهران، وبعضها الآخر كانت متلقية لتلك الأحداث ونتائجها وكانت تداعياتها سلبية عليها، وفي كلتا الحالتين كان العرب في موضع رد الفعل لا الفعل الذي يحمي أمنهم وموقعهم بين أمم قطعت أشواطا لافتة في تكريس مواقعهم على الخريطة السياسية الشرق الأوسطية.
ربما مفاوضات بغداد ستعطي عودة رمزية للعراق في أجندات المفاوضات الإقليمية، لكن هذه العودة ليست مؤثرة في المفاوضات نفسها، باعتبار ان واقع العراق الحالي لا يعدو كونه لاعبا إقليميا ثانويا بين فاعلين إقليميين أقوياء كتركيا وإيران، بل ان استعمال موقع بغداد في المفاوضات لا يمكن وصفه إلا في إطار عملية الشد والجذب بين طهران وأنقرة حول سياسات واستراتيجيات من بينها العراق نفسه.
علاوة على ذلك، وبصرف النظر عن النتائج المحتملة لتلك الجولة من المفاوضات،ثمة العامل الإسرائيلي الذي لا يزال يرقب بحذر شديد ويده على الزناد،فهل ستنتظر إسرائيل كثيرا لتطلق الرصاصة الأولى؟ لقد عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إقناع واشنطن بعدم جدوى المفاوضات لحل مثل تلك الملفات التي تعتبره خطرا كيانيا عليها، والمتتبع للسلوك الإسرائيلي خلال الفترة الماضية يوحي بأن شيئا ما يُحضر في الخفاء، فهل الائتلاف الحالي الحاكم في تل ابيب يعطي الانطباع بأنها تقف مكتوفة الأيدي؟ ان التدقيق في بواطن الأمور الحكومية الإسرائيلية وخباياها،يظهر عكس ذلك فهل يشكل الوقت المستقطع من عمر الانتخابات الرئاسية الأمريكية مناسبة لقلب طاولات المفاوضات السابقة واللاحقة؟!