غزة بين العدوان والاستثمار
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في الخليج الامارايتة بتاريخ 13-7-2014
في تسعينيات القرن الماضي أطلق ،رئيس الوزراء الأسبق، اسحق رابين ، أمنية أن يستيقظ يوما ويرى البحر قد ابتلع قطاع غزة، وفي الواقع لم يتخلف أحدا من القادة الإسرائيليين عن هذه الأمنيات العنصرية ، التي كانت تظهر في جميع أسماء العمليات التي كانت تطلقها في بدء كل عدوان، ومنها الرصاص المسكوب، وآخرها الجرف الصامد ،وهي دلالات تخفي الكثير من صور العنصرية والشوفينية.
وبصرف النظر عن مسببات العدوان وأهدافه وتداعياته الإقليمية، ثمة العديد من المفارقات التي حكمت انطلاقة العدوان وكيفية المواجهة وبالتالي إمكانية النظر في نتائجه لاحقا. في الاعتداءات الموسعة السابقة ومن بينها العام 2008 – 2009 تمكنت المقاومة في غزة من مواجهة العدوان بأساليب تقليدية ، وطورت وسائلها في عدوان 2012 كماً ونوعاً، ما أعطى القوى الفلسطينية مزيدا من الثبات في مواجهة إسرائيل رغم الظروف العربية والإقليمية المحيطة ، الضاغطة على الوضع الفلسطيني.
اليوم بدأ العدوان بنية إسرائيلية متدحرجة نحو توسيع العمليات وتكثيفها، لكن المفاجأة وحتى السابقة، قيام القوى الفلسطينية بعمليات استباقية برا وبحرا ( قاعدة سيزكين) نحو أهداف عسكرية إسرائيلية تعتبر إستراتيجية وفقا للتصنيف العسكري، ما يعني أن المقاومة بدأت تكتيكا استراتيجيا مغايرا يمكن إعادة خلط الأوراق والتأثير على مجمل التفاهمات التي يمكن التوصل إليها لاحقا؛ وما يعزز هذا الانتقال النوعي في التعاطي مع مواجهة العدوان، استعمال صواريخ بعيدة المدى (M 302 ) أصابت تل أبيب والقدس، وحيفا والخضيرة للمرة الأولى ، وهي إشارة واضحة بأن التصعيد الإسرائيلي سيواجه بردود موجعة من الصعب أن تتحملها إسرائيل لأوقات مفتوحة وغير محدّدة.
وبصرف النظر عن حدود العدوان ونية طرفيه المباشرين في إدارة الأزمة الحالية، ثمة إمكانية لإعادة تموضع لأطراف عربية وغير عربية في استثمار الأزمة ومحاولة الاستفادة منها كل بحسب ما يريد ، وهذا ما اعتاد عليه الوضع إقليميا ودوليا وبخاصة في الاعتداءات الواسعة، حيث كانت الكثير من التوازنات والمعادلات وبالتالي المواقف يُعاد النظر فيها وفقا لنتائج المعركة وحجم كل طرف فيها.
ثمة مصلحة مصرية لإعادة تموضع سياسي جديد مع قطاع غزة بحكم الجغرافيا السياسية التي يرتبطان بها ، وهو أمر لا مفر منه بخاصة بعد المتغيرات المصرية الأخيرة. الأمر ينسحب أيضا ولو بصور مختلفة على كل من إيران وسوريا اللتان تفضلان أيضا الاستفادة من إدارة الأزمة للتخفيف من الضغوط اللتان تتعرضان لها في غير ملف وموقع.
بالمحصلة لن يُغرق البحر قطاع غزة كما تمنى رابين يوما، وبصرف النظر عما إذا تمكن رئيس الوزراء الحالي،بنيامين نتنياهو من إعادة غزة أربعين سنة للوراء أم لا، فإن المؤكد إن جملة تفاهمات سيتم التوصّل إليها بين الفلسطينيين وإسرائيل ، وهي في أحسن الأحوال ستتطابق مع ما توصل إليه الجانبان في تفاهمات سابقة، مع ملاحظة إعادة التموضع السياسي للقوى العربية والإقليمية في العديد من الملفات الفلسطينية.
ولا يغيب عن البال أصلا ، أن هدف إسرائيل الأول من إطلاق هذا الاعتداء على مصراعيه، هو ضرب المصالحة الفلسطينية الأخيرة، وهو ما يجب الحفاظ عليه كرد موجع على إسرائيل . إن إطلاق القوى الفلسطينية تسمية "البنيان المرصوص" على عملية مواجهة العدوان الإسرائيلي له من الدلالات الهامة لجهة الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية التي كانت ولا زلت هم إسرائيل الأول في ضربها وتشتيتها.
ثمة داعشية إسرائيلية واضحة ضد الشعب الفلسطيني ومؤسساته وقياداته، فأين حل الدولتين، وأين وقف بناء المستوطنات وأين وأين...، أسئلة كثيرة يطرحه عدوان إسرائيل الآن، في ظل صمت دولي مطبق، وفي ظل غياب وتمزق عربيين . يبدو أن تل أبيب عرفت كيف تقرأ أوضاع المنطقة لتنقض على فريستها في زمن الداعشية الذي بدأ ينهش ويبتلع دولنا ومجتمعاتنا! .