عهد الحكومتين من لبنان إلى العراق
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
في الثالث والعشرين من أيلول العام 1988 انتهت ولاية الرئيس اللبناني أمين الجميل ، وفي الربع الساعة الأخير من ولايته أعلن عن تشكيل حكومة برئاسة قائد الجيش آنذاك ميشال عون، ذلك بمواجهة حكومة الرئيس سليم الحص، لم تنقض ساعات حتى استقال جميع الوزراء المسلمين في الحكومة الجديدة، وظلت الحكومتان تحكمان البلد حتى وُقع اتفاق الطائف برعاية أمريكية سعودية سورية بعدما أزيح الجنرال عون من قصر بعبدا عنوة إلى باريس. والمفارقة في هذه الوقائع التاريخية أن هزيمة الجنرال عون آنذاك اعتبرت هزيمة للرئيس العراقي آنذاك صدام حسين الذي رعى وموّل مشروعه. والمهم أيضا في هذه الوقائع نتائجها الكارثية من احتراب وتدمير وقتل كلف لبنان الكثير الكثير ماديا ومعنويا.
اليوم ما يجري في العراق هو مماثل تماما لما حدث في لبنان مع اختلاف بعض الظروف والوقائع، إلا أن النتيجة في المحصلة واحدة وهذا ما تشير إليه معظم المؤشرات والوقائع العراقية السياسية والأمنية والعسكرية السائدة حاليا. رئيس الحكومة نوري المالكي مصر على ترشحه لرئاسة الحكومة رغم الانقلاب السياسي الذي دبر ضده في كتلته البرلمانية والحزبية حيث لم يعد يملك الغالبية لإعادة ترشيحه ،في مواجهة حيدر العبادي. والأمور لا تقف عند هذا الحد ،بل شمل محاولة إعادة تركيب المشهد الداخلي خلط أوراق تفاهمات خارجية ورغم عدم وضوحها الدقيق، إلا أنها تعبر بمعظم جوانبها اتفاقا وتقاطعا مبدئيا حول إنهاء الدور السياسي لنور المالكي، مترافقا مع جولة التنازع على الأثمان السياسية والعسكرية للأطراف الإقليمية والدولية في ملفات ذات صلة بالأزمة العراقية كالأزمة السورية واللبنانية وملفات "داعش" وغيرها في المنطقة.
الولايات المتحدة الأمريكية نفضت يدها عمليا من نوري المالكي فيما بدا الموقف الإيراني غير ممانع لكن بشروط وأثمان، بينما اعتبر الأمر نصرا سعوديا. ترافقت هذه المواقف مع تحرك داخلي للمالكي تمثل بمظاهر أمنية وعسكرية وشعبية، ما يوحي استعداده للمضي قدما بالمواجهة رغم التحذيرات الأمريكية له، ما يعني أن بعض أطياف المجتمع العراقي تتحضر لمواجهات قوية تشي بحرب أهلية حتى ضمن الطائفة أو المذهب السياسي والديني الواحد ؛ وهو أمر توفرت له الظروف الذاتية والموضوعية في العراق منذ عقد من الزمن تقريبا ، وبات واقعا وخيارا لدى بعض الفئات في العراق ولو على حساب الكيان والمجتمع.
ربما عوامل التفجير الداخلي في العراق اليوم هي أسهل بكثير مما سبق، وإذا كان بالإمكان تفادي التفجير سابقا، فمعطيات اليوم مزدحمة في الواقع العراقي وهي قاب قوسين أو ادني من تفجير واسع يأتي على جميع المكونات السياسية والجغرافية العراقية. فتمدد "داعش" في غير منطقة عراقية وسورية، جعل منها واقعا مأساويا وابتزازيا في المشهد العراقي المشتعل أساسا، وبدلا من أن يكون هذا التمدد دافعا لخلط الأوراق ومواجهته داخليا بات عاملا مساعدا للتفجير الداخلي والخارجي.
ما جرى في لبنان قبل عقدين ونيف من الزمن عبر حكومتين متنافستين ، ربما سيتكرر وبقوة في المشهد العراقي، فالمسألة ليست بالضرورة مسألة دستورية كما يصورها نوري المالكي، ولا هي بعملية إعادة ترتيب سياسي لوضع ما، بقدر ما بات سياقا معتادا في المجتمعات العربية حاليا،بهدف المزيد من التمزيق والتفتيت والتفجير ،وكأنه بات أمرا مقضيا،.
ما يجري في العرق اليوم أيضا ليس مفصولا عن المشهد الإقليمي العام ، من إيران شرقا مرورا بسوريا وابنان وغزة ومصر وليبيا، باختصار مشهد دموي إرهابي لا أفق سياسي له، بل يشي بمجموعة من الصور الدموية التي ستركِب مشاهد خطرة على الجغرافيا السياسية لدول ومجتمعات وأنظمة أدت قسطها للعلا لقرن مضى، والمفارقة أن جميع فواعلها الداخليين منخرطون فيها وفق أجندات خارجية واضحة المعالم ، دون رغبة أو قدرة على الاستثمار الداخلي الايجابي فيها.
ربما المفارقة الأغرب في هذا المجال تبدو بما جرى في لبنان سابقا والعراق حاليا، عهد الحكومتين في لبنان استنفدت قوى الأطراف جميعا وأدت إلى اتفاق إقليمي دولي، رتّب الوضع اللبناني لعقد ونصف من الزمن (1990- 2005) ؛ فيما الواقع العراقي معاكس تماما ونتائجه ربما تكون كذلك، احتراب طائفي مذهبي يسانده ويسعره صراعات إقليمية ودولية، والأغرب أيضا في هذا السياق ما أشيع عن مشاريع تسويات جزئية في ملفات المنطقة، ومن بينها التسهيل لعزل نوري المالكي سياسيا في العراق، مقابل تسهيل انتخاب الجنرال ميشال عون رئيسا للجمهورية في لبنان، وكأن إعادة الفصل والوصل في جزئيات أزمة المنطقة ارتبط مجددا بين بيروت وبغداد ، عبر طهران والرياض!