اوروبا والهجرة غير المعلنة
د.خليل حسين
صحيفة الخليج الاماراتية 17-9-2015
عانى العالم مراراً وتكراراً موجات الهجرة القسرية، وإن تعددت عناوينها وتوصيفاتها القانونية، تبقى هذه القضية تقض مضاجع العديد من الدول بفعل تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية وحتى الإنسانية بالمفهوم العريض، لكل من الدول الطاردة أو المستقبلة. وإن كانت الحروب ومآسيها تشكل السبب الأكبر للهجرة، فإن ثمة عناوين فرعية كثيرة تنضوي تحتها بفعل نوعية المهاجرين لجهة المناطق التي ينطلقون منها، أو لجهة الدول التي يستقرون فيها، وفي الواقع مهما تمكنت الدول من حماية نفسها بأطر قانونية وشبكة أمان إقليمية، تبقى تداعيات القضية أكبر من أن تستوعب بأقل الخسائر الممكنة، ويأتي في طليعة ذلك الاتحاد الأوروبي بدوله ال 28، التي كافح بعضها في الماضي واليوم مجتمعة، محاولة استيعاب الهجرة التي تكاد أن تكون منظمة لكن بشكل غير معلن.
تغرق اليوم أوروبا بمئات آلاف المهاجرين غير الشرعيين، تحت مسمى اللجوء لدواع إنسانية، وهي ناجمة عن الحرب ، خاصة في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان وغيرها، وهي بالتأكيد ستتزايد بعدما تم التفكير اقتصادياً بهذه الظاهرة على ما يبدو في الكواليس المغلقة للاقتصاد الأوروبي. فمن المعروف أن لقب القارة العجوز التي أطلق على أوروبا في القرن الماضي، ما زالت تحتفظ به من دون منازع حقيقي، ذلك بالنظر للهرم العمري الذي تأخذه المؤشرات إلى مستويات مخيفة، فمعدل الوفيات هو الأقل في العالم كما هو معدل الولادات، وفي الوقت نفسه يسجل في أوروبا أعلى معدلات متوسط العمر عالمياً، ما سيجعل هذه القارة كما يتوقع البعض في العام 2030 قارة ليست عجوزاً، وإنما مقعدة بفعل النقص الحاد في الأيدي العاملة، واختلال البنى الاجتماعية الاقتصادية ، وهو المقرر الأول في حياة الشعوب والدول وازدهارها.
فقبل ستة أشهر، طالب وزير الداخلية الألماني طوماس ميزير، بضرورة العمل على رفع أعداد الكفاءات المهاجرة إلى ألمانيا عبر الترويج والدعاية للحوافز التي يمكن أن تقدم، وألمانيا ترى نفسها اليوم أمام فرصة مناسبة وقوية لاستيعاب هؤلاء المهاجرين سريعاً في سوق العمل ومن دون الحاجة إلى الدعاية والترويج، في ظل واقع العمالة الصعب في أوروبا الذي يفرض نفسه، إذ تتوقع مؤسسة (بروغنوس) نقصاً في العاملين في جميع قطاعات الاقتصاد الألماني يُقَدّر 1.8 مليون شخص في العام 2020، و3.9 مليون في العام 2040، وذلك إذا لم تحصل تبدلات ديموغرافية. ويبدو هنا النموذج الألماني هو التعبير الأمثل عن خلفية التفكير الأوروبي وتطلعه إلى فوائد الهجرة إلى أوروبا التي تعاني ضائقة الأيدي العاملة. فالرقم المرعب المتداول عن حاجات أوروبا للأيدي العاملة يصل إلى ثلاثة عشر مليون مهاجر سنوياً تعويضاً لنسبة المسنين الأوروبيين المحالين إلى التقاعد، فيما النسبة المنخفضة للولادات بين الأوروبيين تثير الرعب في أوساط الباحثين في الديموغرافيا.
ثمة انتباه وتيقظ كبيران في أوساط خبراء الاقتصاد الأوروبيين ومنظمات التنمية والتعاون الاقتصادي، إذ تتم المتابعة الدقيقة لقوافل اللاجئين، وبخاصة فئة الشباب التي تشكل النسبة الكبرى بينهم. وهو بالتحديد ما يحتاج إليه أرباب العمل الذين لم يتأخروا في إرسال خبرائهم لتقصي الكفاءات والخبرات الممكن العثور عليها في تجمعات اللاجئين، وهي بالتأكيد ستكون أقل كلفة من مثيلاتها الأوروبية.
ينقل عن أرباب عمل ألمان قولهم إنهم يطالبون السلطات بتسهيل الإجراءات أمام اللاجئ الكفؤ وتقديم الخدمات السريعة كتعليم اللغة الألمانية على وجه السرعة، وربما لا يكون تعلم اللغة شرطاً إلزامياً. يذكر أن وزارة التوظيف والشؤون الاجتماعية خففت في نهاية يوليو /تموز الماضي من الشروط الموضوعة بهدف تسهيل التدريب في المؤسسات الألمانية، وبالتالي تسهيل الدمج الاقتصادي والاجتماعي.
ربما تكون العقبة الأساسية في تلك الهجرات الكبيرة إذا جاز التعبير، الانقسام الذي تعيشه أوروبا بخصوص التعامل مع القضية، فمن المنتظر أن يتبلور بوضوح أثر موجات الهجرة في المجتمعات الأوروبية. فظاهرة الدفاع عن سياسة التساهل مع اللاجئين توسعت في الفترة الأخيرة، لكن الاعتداءات التي تعرض لها المهاجرون في ألمانيا، أعادت التذكير بالخطر المتمثل بالمتطرفين اليمينيين الذين حسّنوا مواقعهم في الانتخابات الأخيرة في كل من وفرنسا وبريطانيا، وهم بالتالي لن يظلوا متفرجين على ما أسموه الابتلاع البطيء لمجتمعاتهم. ففي فرنسا أشار استطلاع للرأي إلى أن أكثر من نصف الفرنسيين، يرفضون استقبال المهاجرين في بلادهم.
هذه النسبة خاضعة للارتفاع إذا ازداد ضغط اللاجئين وسط الانقسام العارم حول أحجام وطرق الاستيعاب الجارية حالياً في الاتحاد الأوروبي.
في المحصلة ثمة هجرة تكاد تكون جماعية، سببها الحرب أولاً، ومن ثم الفقر والتهميش ثانياً، وتصاعد النزاعات من دون حل دولي ثالثاً، في المقابل، ثمة من يفكر في عقلية المال والاقتصاد في الجهة المقابلة وهو أمر طبيعي في مجتمعات نيو ليبرالية، يتحكم فيها العرض والطلب، فهل سيتحول هؤلاء اللاجئون أو معظمهم إلى آلات في أدوات الإنتاج الأوروبية ، كما حدث في أواسط القرن التاسع عشر خلال النهضة الصناعية؟ مع فوارق الوقائع والظروف والنوعيات. ثمة صورة متطابقة ترسم في أفق الاتحاد الأوروبي.
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/3830b5f7-e3b3-4e17-93a0-8137861dc7b7#sthash.fEfvpixq.dpuf