مؤتمر اقتراحات وافكار من اجل تحسين تنفيذ الادارة للقرارات القضائية
المنظم الجمعية اللبنانية لفلسفة القانون
المكان بيت المحامي
التاريخ 24/9/2010
الموضوع حضور ومناقشة
24/09/2010
خلفيات العمالة لاسرائيل في لبنان وتداعياتها
خلفيات العمالة لاسرائيل في لبنان وتداعياتها
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في موقع الشرق الأوسط 17/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
مفارقة العمالة لاسرائيل في لبنان انها باتت وجهة نظر، في بلد تمكنت مقاومته من تسجيل سابقة في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي وهي اجبار قوات الاحتلال على الانسحاب عنوة من اراض احتلتها لربع قرن تقريبا.علاوة على ذلك ثمة من تعدى المعقول والمقبول عادة في الحياة السياسية اللبنانية ليعبر عن آراء ومواقف غير مسبوقة تجاه اسرائيل.
في الواقع تعتبر العمالة في مطلق بلد قضية من الصعب او من المستحيل تبريرها او ايجاد الاعذار التخفيفية لها. وفي مطلق الأحوال ثمة اجماع على ضخامة السلوك الذي يؤدي الى احكام تصل الى الاعدام دون معارضة تذكر حتى في الدول التي تتغنى بالديموقراطية وحقوق الانسان والإعراض عن تنفيذ احكام الاعدامات.واذا كانت طبيعة الأمور ترتدي هذه الحدة في النظرة والتعامل مع مثل تلك القضايا في معظم دول العالم،فهل ثمة ما يبرر ان تكون الأمور مختلفة في لبنان مثلا.في الواقع يمكن تسجيل العديد من الملاحظات والمفارقات في هذا السياق ومن بينها:
- لقد بلغ عدد المعلن عن اكتشاف عمالتهم لاسرائيل في لبنان مؤخرا الى 154 عميلا،وهم بطبيعة الحال ينتمون الى طوائف ومذاهب مختلفة،كما هم من مناطق لبنانية متعددة،علاوة على النوعية والشرائح الاجتماعية التي ينتمون اليها.فمثلا بينهم المدنيون كما العسكريون،كذلك البيئات المتواضعة كما الميسورة،وفيهم المختص ذات التعليم العالي كما شبه الامي.باختصار مروحة متنوعة من العملاء تتناسب مع طبيعة العمل الذي يمكن ان يوكل اليهم.
- ثمة قسم منهم سبق وتعامل مع اسرائيل علنا ومباشرة عبر الميليشيات التي انشأتها اسرائيل في اعقاب احتلالها لجنوب لبنان بعد العام 1978،ومنهم من حكم عليه بأحكام تخفيفية جدا بعد انسحاب اسرائيل في العام 2000 ونفذت محكوميتهم وعادوا الى التعامل مع اسرائيل.
- ان النسبة التي كشف عنها حتى الآن هي نسبة كبيرة مقارنة بتعداد الشعب اللبناني،وهي بطيعة الأمر نسبة مقلقة، لها دلالاتها وابعادها التي ينبغي التدقيق فيها وبأسبابها وسبل معالجتها.
- ان الاعمال التي نفذتها هذه الشبكات افرادا ومجموعات ادت الى المسِّ بشكل مباشر في العديد من مواقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية، وبالتالي تعتبر نوعية الأعمال المطلوبة من هؤلاء العملاء اعمالا حساسة جدا تشمل قضايا ومسائل وأمور ليست امنية عسكرية بالضرورة متعلقة فقط بالمقاومة اللبنانية مثلا.
- ان التدقيق بصنف العملاء ذات الطبيعة التكنولوجية المعلوماتية وما كلفوا به عمليا،يظهر قدرة اسرائيل على كشف الواقع اللبناني بمختلف جوانبه والتحكم به بنسب لافتة تستطيع من خلاله مسك الكثير من مفاصل الحياة السياسية والامنية والمالية والاقتصادية اللبنانية،باختصار بات لبنان مكشوفا بشكل شبه كامل لاسرائيل.
- وغريب المفارقات ما يتم التداول به تأويلا وتصريحا، وبشكل واضح وملتبس احيانا،من ان ثمة فئة من وزن اصحاب الحل والعقد متورطون بالعمالة،والملفت في هذا الموضوع بالذات انه يُستعمل في كثير من الحالات كمسائل للابتزاز السياسي بين الأطراف السياسية اللبنانية،او في مجال المقايضة في تمرير بعض الملفات ذات الطبيعة الوازنة.
- والأغرب والأنكى في هذا المجال،تصريح احد نواب حزب الكتائب اللبنانيةعلنا بأن حزبه قد تعامل واستفاد من اسرائيل في مواجهة سوريا في لبنان، ورغم ان مثل هذه االمعلومات لا تعتبر من نوع افشاء الأسرار في لبنان الا انها ارتدت طابع التحدي وهي سابقة في الحياة السياسية اللبنانية التي يُصرح بها نائب في الندوة البرلمانية بهذا الوضوح،ما يمكن ان يشكل منعطفا في طريقة مقاربة الأمور في لبنان مستقبلا اذا مر الأمر مرور الكرام. وهنا من المفيد الاشارة الى ان الحصانة البرلمانية لا يمكن الاعتداد بها لملاحقة النائب على مثل تلك التصريحات،باعتبارها ليست موضوع تصريحات سياسية بقدر ما هي مواقف تشكل عملا عدائيا ضد الامن الوطني اللبناني التي تصل احكامه في قانون العقوبات اللبناني الى الاعدام.
- ان خصوصية الواقع اللبناني تعطي قضية العمالة ابعادا خاصة في لبنان من الصعب تجاوزها والقفز فوقها.فلبنان مثلا هو في حالة حرب عمليا مع اسرائيل اولا، كما ان ثمة بعض الاراضي التي لا زالت اسرئيل تحتلها (مزارع شبعا وتلال كقرشوبا) ثانيا،كما ان عقيدة قواته المسلحة تعتبر اسرائيل دولة عدوة،علاوة على وجود القوة الوازنة للمقاومة في مواجهة اسرائيل بخلاف كل دول الطوق الجغرافي لفلسطين المحتلة. وفوق ذلك كله ثمة نصوص قانونية واضحة جدا لا لبس فيها تحدد العدو من الصديق كما تحدد العقوبات المفترضة لكل جريمة ترتكب.
- ان الاحداث التي مر بها لبنان منذ النصف الأول لعقد السبعينيات من القرن الماضي، اسَّس لبيئة اجتماعية هشة قابلة للاختراق بسهولة نظرا لتداخل الكثير من العوامل الخارجية وتأثيراتها في الواقع الداخلي اللبناني وبخاصة في ما سُميَّ لاحقا بالبيئات الحاضنة للعملاء،وهي ليست بالضرورة بيئات ذات بعد طائفي او مذهبي كما يحاول البعض الترويج له او تظهيره كثابت في التركيبة الطائفية في لبنان.
صحيح ان لبنان مرَّ في ظروف محلية واقليمية ودولية معقدة جدا ما ارخى بتداعيات قاسية على السلوك الاجتماعي في لبنان،الا ان ذلك لا يمكن ان يكون سببا او عاملا من عوامل الظروف التخفيفية للعمالة لمصلحة اسرائيل،كما انه لا يجوز التعامل مع هذه الظاهرة التي يُفترض ان تكون عابرة في الحياة السياسية اللبنانية على انها حالة طبيعية او مألوفة او يمكن التعايش معها.
طبعا ثمة ما يشبه الاسترخاء السلوكي لدى بعض صِغار النفوس ممن تعاملوا مع اسرائيل سابقا وعادوا وجددوا علاقاتهم معها بعد انسحابها عام 2000،لكن ذلك مرده الى خطأ فادح وقعت فيه السلطات اللبنانية ليست بالضرورة القضائية لوحدها،ومفادها الأحكام التخفيفية الشديدة التي استفاد منها جميع من حوكموا في الفترة التي اعقبت الانسحاب الاسرائيلي،حتى باتت المحاكمات مجالا للتندر بين اللبنانيين،على قاعدة ان الذين حكوما بجرائم العمالة والتنكيل والقتل حُكِموا لأشهر فقط وفي سجون من خمسة نجوم العيش فيها كان اسهل وأريح من شظف العيش خارجها .
وحتى لا تصبح العمالة في لبنان وجهة نظر غير خاضعة للمسائلة والمحاكمة كما يفترض منطق الأمور،ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة يشدة وقسوة متناهية وعلى قاعدة تطبيف العقوبات الفسوى لجرم العمالة التي ينبغي ان تسود فيها حالات احكام الاعدام ويشطل متسارع ودون ابطاء او مراعاة لظرف ما او لحالات محددة كما هو شائع.
ان البحث عن الاسباب والاعذار التخفيفية في هذا المجال لن ينتج سوى المزيد من حالات الاسترخاء السلوكي لدى بعض الافراد، وبالتالي التمادي في الغي والعمالة ،وبالتالي ان تشديد العقوبات هو حل واقعي لردع من تخوّله نفسه الانزلاق الى هذا الدرك الخطير.في جنوب لبنان لم يحصل ضربة كف لأي عميل بعد العام 2000 وترك الأمر للقضاء اللبناني، فيما المقاومة الفرنسية اعدمت ميدانيا آلاف العملاء في الشوارع دون محاكمة،فهل ثمة عبرة يمكن ان تتخذ من هذه الوقائع؟
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في موقع الشرق الأوسط 17/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
مفارقة العمالة لاسرائيل في لبنان انها باتت وجهة نظر، في بلد تمكنت مقاومته من تسجيل سابقة في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي وهي اجبار قوات الاحتلال على الانسحاب عنوة من اراض احتلتها لربع قرن تقريبا.علاوة على ذلك ثمة من تعدى المعقول والمقبول عادة في الحياة السياسية اللبنانية ليعبر عن آراء ومواقف غير مسبوقة تجاه اسرائيل.
في الواقع تعتبر العمالة في مطلق بلد قضية من الصعب او من المستحيل تبريرها او ايجاد الاعذار التخفيفية لها. وفي مطلق الأحوال ثمة اجماع على ضخامة السلوك الذي يؤدي الى احكام تصل الى الاعدام دون معارضة تذكر حتى في الدول التي تتغنى بالديموقراطية وحقوق الانسان والإعراض عن تنفيذ احكام الاعدامات.واذا كانت طبيعة الأمور ترتدي هذه الحدة في النظرة والتعامل مع مثل تلك القضايا في معظم دول العالم،فهل ثمة ما يبرر ان تكون الأمور مختلفة في لبنان مثلا.في الواقع يمكن تسجيل العديد من الملاحظات والمفارقات في هذا السياق ومن بينها:
- لقد بلغ عدد المعلن عن اكتشاف عمالتهم لاسرائيل في لبنان مؤخرا الى 154 عميلا،وهم بطبيعة الحال ينتمون الى طوائف ومذاهب مختلفة،كما هم من مناطق لبنانية متعددة،علاوة على النوعية والشرائح الاجتماعية التي ينتمون اليها.فمثلا بينهم المدنيون كما العسكريون،كذلك البيئات المتواضعة كما الميسورة،وفيهم المختص ذات التعليم العالي كما شبه الامي.باختصار مروحة متنوعة من العملاء تتناسب مع طبيعة العمل الذي يمكن ان يوكل اليهم.
- ثمة قسم منهم سبق وتعامل مع اسرائيل علنا ومباشرة عبر الميليشيات التي انشأتها اسرائيل في اعقاب احتلالها لجنوب لبنان بعد العام 1978،ومنهم من حكم عليه بأحكام تخفيفية جدا بعد انسحاب اسرائيل في العام 2000 ونفذت محكوميتهم وعادوا الى التعامل مع اسرائيل.
- ان النسبة التي كشف عنها حتى الآن هي نسبة كبيرة مقارنة بتعداد الشعب اللبناني،وهي بطيعة الأمر نسبة مقلقة، لها دلالاتها وابعادها التي ينبغي التدقيق فيها وبأسبابها وسبل معالجتها.
- ان الاعمال التي نفذتها هذه الشبكات افرادا ومجموعات ادت الى المسِّ بشكل مباشر في العديد من مواقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية، وبالتالي تعتبر نوعية الأعمال المطلوبة من هؤلاء العملاء اعمالا حساسة جدا تشمل قضايا ومسائل وأمور ليست امنية عسكرية بالضرورة متعلقة فقط بالمقاومة اللبنانية مثلا.
- ان التدقيق بصنف العملاء ذات الطبيعة التكنولوجية المعلوماتية وما كلفوا به عمليا،يظهر قدرة اسرائيل على كشف الواقع اللبناني بمختلف جوانبه والتحكم به بنسب لافتة تستطيع من خلاله مسك الكثير من مفاصل الحياة السياسية والامنية والمالية والاقتصادية اللبنانية،باختصار بات لبنان مكشوفا بشكل شبه كامل لاسرائيل.
- وغريب المفارقات ما يتم التداول به تأويلا وتصريحا، وبشكل واضح وملتبس احيانا،من ان ثمة فئة من وزن اصحاب الحل والعقد متورطون بالعمالة،والملفت في هذا الموضوع بالذات انه يُستعمل في كثير من الحالات كمسائل للابتزاز السياسي بين الأطراف السياسية اللبنانية،او في مجال المقايضة في تمرير بعض الملفات ذات الطبيعة الوازنة.
- والأغرب والأنكى في هذا المجال،تصريح احد نواب حزب الكتائب اللبنانيةعلنا بأن حزبه قد تعامل واستفاد من اسرائيل في مواجهة سوريا في لبنان، ورغم ان مثل هذه االمعلومات لا تعتبر من نوع افشاء الأسرار في لبنان الا انها ارتدت طابع التحدي وهي سابقة في الحياة السياسية اللبنانية التي يُصرح بها نائب في الندوة البرلمانية بهذا الوضوح،ما يمكن ان يشكل منعطفا في طريقة مقاربة الأمور في لبنان مستقبلا اذا مر الأمر مرور الكرام. وهنا من المفيد الاشارة الى ان الحصانة البرلمانية لا يمكن الاعتداد بها لملاحقة النائب على مثل تلك التصريحات،باعتبارها ليست موضوع تصريحات سياسية بقدر ما هي مواقف تشكل عملا عدائيا ضد الامن الوطني اللبناني التي تصل احكامه في قانون العقوبات اللبناني الى الاعدام.
- ان خصوصية الواقع اللبناني تعطي قضية العمالة ابعادا خاصة في لبنان من الصعب تجاوزها والقفز فوقها.فلبنان مثلا هو في حالة حرب عمليا مع اسرائيل اولا، كما ان ثمة بعض الاراضي التي لا زالت اسرئيل تحتلها (مزارع شبعا وتلال كقرشوبا) ثانيا،كما ان عقيدة قواته المسلحة تعتبر اسرائيل دولة عدوة،علاوة على وجود القوة الوازنة للمقاومة في مواجهة اسرائيل بخلاف كل دول الطوق الجغرافي لفلسطين المحتلة. وفوق ذلك كله ثمة نصوص قانونية واضحة جدا لا لبس فيها تحدد العدو من الصديق كما تحدد العقوبات المفترضة لكل جريمة ترتكب.
- ان الاحداث التي مر بها لبنان منذ النصف الأول لعقد السبعينيات من القرن الماضي، اسَّس لبيئة اجتماعية هشة قابلة للاختراق بسهولة نظرا لتداخل الكثير من العوامل الخارجية وتأثيراتها في الواقع الداخلي اللبناني وبخاصة في ما سُميَّ لاحقا بالبيئات الحاضنة للعملاء،وهي ليست بالضرورة بيئات ذات بعد طائفي او مذهبي كما يحاول البعض الترويج له او تظهيره كثابت في التركيبة الطائفية في لبنان.
صحيح ان لبنان مرَّ في ظروف محلية واقليمية ودولية معقدة جدا ما ارخى بتداعيات قاسية على السلوك الاجتماعي في لبنان،الا ان ذلك لا يمكن ان يكون سببا او عاملا من عوامل الظروف التخفيفية للعمالة لمصلحة اسرائيل،كما انه لا يجوز التعامل مع هذه الظاهرة التي يُفترض ان تكون عابرة في الحياة السياسية اللبنانية على انها حالة طبيعية او مألوفة او يمكن التعايش معها.
طبعا ثمة ما يشبه الاسترخاء السلوكي لدى بعض صِغار النفوس ممن تعاملوا مع اسرائيل سابقا وعادوا وجددوا علاقاتهم معها بعد انسحابها عام 2000،لكن ذلك مرده الى خطأ فادح وقعت فيه السلطات اللبنانية ليست بالضرورة القضائية لوحدها،ومفادها الأحكام التخفيفية الشديدة التي استفاد منها جميع من حوكموا في الفترة التي اعقبت الانسحاب الاسرائيلي،حتى باتت المحاكمات مجالا للتندر بين اللبنانيين،على قاعدة ان الذين حكوما بجرائم العمالة والتنكيل والقتل حُكِموا لأشهر فقط وفي سجون من خمسة نجوم العيش فيها كان اسهل وأريح من شظف العيش خارجها .
وحتى لا تصبح العمالة في لبنان وجهة نظر غير خاضعة للمسائلة والمحاكمة كما يفترض منطق الأمور،ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة يشدة وقسوة متناهية وعلى قاعدة تطبيف العقوبات الفسوى لجرم العمالة التي ينبغي ان تسود فيها حالات احكام الاعدام ويشطل متسارع ودون ابطاء او مراعاة لظرف ما او لحالات محددة كما هو شائع.
ان البحث عن الاسباب والاعذار التخفيفية في هذا المجال لن ينتج سوى المزيد من حالات الاسترخاء السلوكي لدى بعض الافراد، وبالتالي التمادي في الغي والعمالة ،وبالتالي ان تشديد العقوبات هو حل واقعي لردع من تخوّله نفسه الانزلاق الى هذا الدرك الخطير.في جنوب لبنان لم يحصل ضربة كف لأي عميل بعد العام 2000 وترك الأمر للقضاء اللبناني، فيما المقاومة الفرنسية اعدمت ميدانيا آلاف العملاء في الشوارع دون محاكمة،فهل ثمة عبرة يمكن ان تتخذ من هذه الوقائع؟
الاتراك يراجعون والعرب يتراجعون
الاتراك يراجعون والعرب يتراجعون
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com
طبيعية هي المتغيرات التي يمكن ان تطرأ على حياة الأمم والدول،لكنه من غير الطبيعي ان تبقى الأمم والدول على نمط معين بذاته دون حراك فعلي نحو التغيير والتطوير.وان كان ثمة شروط ينبغي توفرها لأي عملية تغييرية،فإن العمل على تكوين الظروف الملائمة لتكوين واطلاق هذه الشروط ،يعتبر شرطا ضروريا ولازما من الشروط الذاتية والموضوعية في حياة الأمم والشعوب.فهل تمكن الأتراك من ذلك وبالتالي انطلاقهم في عمليات االمراجعة والتغيير؟وفي المقابل ماذا عن العرب وتراجعهم عن الكثير من قضاياهم المصيرية؟
لقد تمكّن الأتراك من اجتياز مفصل تاريخي في حياة الدولة العلمانية التي ارسى اسسها ومعالمها كمال اتاتورك،عبر الاستفتاء الأخير الذي وضع حدا من حيث المبدأ للكثير من المسائل ،وبخاصة دستور 1982 الذي فصّل الحياة السياسية التركية على مقاسات محددة لشرائح عسكرية وقضائية بعينها.وبصرف النظر عن تقييم تلك المرحلة وصفاتها ومكوناتها، فإن امر الانتقال من مرحلة الى مرحلة اخرى يعتبر تحديا كبيرا لصانعي السياسات التركية في هذه المرحلة بالذات وبخاصة حزب العدالة والتنمية.
طبعا ثمة شروط ومكونات ذاتية وموضوعية توفرت لعمليات المراجعة والاطلاق في الحياة السياسية التركية،وبصرف النظر عن كيفية الاستفادة من هذه التجربة من عدمها بالنسبة للعرب، ثمة اسباب ينبغي التوقف عندها في الحياة السياسية للدول العربية إن لجهة القضايا التي تحيط بهم وينبغي التفتيش عن حل لها،ام لجهة الأسباب الحقيقية لمجمل الإخفاقات التي وقعوا ويقعون فيها.
من بين الاخفاقات المدمرة التي واجهت العرب الصراع العربي الاسرائيلي الذي لم يضاهيه صراعا في التاريخ لجهة الوقت او الآليات او المسارات، ورغم ذلك لا زال العرب يقدمون المزيد من التنازلات والتراجعات عن المواقف المرة تلو الاخرى.لقد بدأ العرب بشعارات ربما كانت تشكل الحد الأدنى من مكونات الذاكرة الجماعية للعرب،وابسطه عدم الاعتراف بقيام دولة اسرائيل 1948.ومن ثم الانتقال الى شعار لا مفاوضات لا صلح لا اعتراف بعد حرب 1967، ومن بعدها السلام الدائم والشامل والكامل مقابل الارض ووفقا لقرارات الشرعية الدولية ...،سلسلة من التراجاعات التي تبدو لا نهاية لها ،بل تؤسس لسلسلة نوعية أخرى من التراجعات غير المسبوقة في مسار المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المباشرة الجارية حاليا،ان لجهة المستوطنات او الحدود او عودة اللاجئين والقدس وغيرها الكثير من التفايل التي لا تقل خطورة عن القضايا الاساسية.
وليس من باب جلد الذات، القول ان ثمة اسبابا ذاتية في مكونات المجتمع العربي باتت من المؤثرات الاساسية في تكوين وصناعة القرار السياسي الذي يبدو في مجمل مساراته تراجعيا وانحداريا وبشكل من الصعب السيطرة عليه او الحد من تداعياته وآثاره.كما انه من السهل علينا القاء اللوم على الغير، وملاحظة مظاهر باتت من ثوابتنا الانتقادية لجهة الغوص في اوهام المؤامرات رغم صحتها في احيان كثيرة.
اننا كمجتمع عربي مدني يلزمنا الكثير لإعادة تكوين واقع نقدي جديد هدفه اعادة تكوين بيئة فكرية موضوعية علمية تحاكي الكثير من المتغيرات التي تحيط بنا،وتعمل اولا على الحد من تأثيراتها السلبية ان وجدت،والعمل على مواجهة ما يضر بنا منها ثانيا،والاستفادة من بعض مكوناتها ثالثا. علاوة على عدم الركون بشكل دائم الى سلبية ما نواجه به دائما وابدا.
لقد هُزمت السلطنة العثمانية في حروبها الأخيرة وأعيدت جغرافيتها السياسية بما يتناسب مع حجمها الحقيقي.لكن كمال اتاتورك اعاد بناء تركيا الحديثة على قاعدة اعادة الحلم العثماني بثوب علماني يحاكي مستجدات قرن كانت بدايته وخيمة على العرب كما منتصفه وأواخره.واليوم يعيد الاتراك بقيادة حزب العدالة والتنمية قراءة الدور الداخلي والخارجي المفترض لتركيا في الألفية الثالثة التي تزدحم بالأعاصير السياسية والعسكرية المدمرة.
اين العرب اليوم من عمليات المراجعة المفترضة لكل تلك التراجعات التي قدموها او اجبروا على تقديمها،وهل بالأحرى نحن العرب قادرون على اعادة مراجعة شاملة لمجمل الوضع الذي نحن فيه؟ طبعا العملية مطلوبة وملحة بل تعتبر شرطا ضروريا ولازما للتغيير الحقيقي المفترض البدء به. ثمة مئات بل آلاف المشاريع والرؤى والبرامج التي طرحت من غير بيئة تغييرية ،لكن العبرة في تحقيق المراجعة والتغيير. مئات الأحزاب والحركات وهيئات المجتمع المدني ظهرت في مجمل البلدان العربية،بعضها تمكن من الوصول الى السلطة وسرعان ما تراجع عن التزاماته وشعارته،وبعضها الآخر استمر في السلطة لعقود عدة متواصلة،رغم ذهاب الناس الذين اوصلوهم الى السلطة.اليوم يحكمنا زعماء وقادة اوصلناهم بأنفسنا وتملص غالبيتهم من التزاماتهم؛وغدا يأتي اولادهم ويحكمون اولادنا،وبعدهم احفادهم وأحفادنا،سلسلة من التراجعات المدمرة التي لها اول وليس لها آخر.
حُكمنا من العثمانيين خمسة قرون وألقينا وزرا كبيرا على تلك الحقبة لتبرير تخلفنا عن ركب التطور والتطوير،واليوم ربما ثمة فرصة لمراجعة التجربة التركية علَّ وعسى نتعلم شيئا منها، فهل سيظل العرب قابعون في مسلسلات التراجع ؟ ام سيقدمون على مراجعة موضوعية ولو لمرة واحدة واستثنائية؟
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
www.drkhalilhussein.blogspot.com
طبيعية هي المتغيرات التي يمكن ان تطرأ على حياة الأمم والدول،لكنه من غير الطبيعي ان تبقى الأمم والدول على نمط معين بذاته دون حراك فعلي نحو التغيير والتطوير.وان كان ثمة شروط ينبغي توفرها لأي عملية تغييرية،فإن العمل على تكوين الظروف الملائمة لتكوين واطلاق هذه الشروط ،يعتبر شرطا ضروريا ولازما من الشروط الذاتية والموضوعية في حياة الأمم والشعوب.فهل تمكن الأتراك من ذلك وبالتالي انطلاقهم في عمليات االمراجعة والتغيير؟وفي المقابل ماذا عن العرب وتراجعهم عن الكثير من قضاياهم المصيرية؟
لقد تمكّن الأتراك من اجتياز مفصل تاريخي في حياة الدولة العلمانية التي ارسى اسسها ومعالمها كمال اتاتورك،عبر الاستفتاء الأخير الذي وضع حدا من حيث المبدأ للكثير من المسائل ،وبخاصة دستور 1982 الذي فصّل الحياة السياسية التركية على مقاسات محددة لشرائح عسكرية وقضائية بعينها.وبصرف النظر عن تقييم تلك المرحلة وصفاتها ومكوناتها، فإن امر الانتقال من مرحلة الى مرحلة اخرى يعتبر تحديا كبيرا لصانعي السياسات التركية في هذه المرحلة بالذات وبخاصة حزب العدالة والتنمية.
طبعا ثمة شروط ومكونات ذاتية وموضوعية توفرت لعمليات المراجعة والاطلاق في الحياة السياسية التركية،وبصرف النظر عن كيفية الاستفادة من هذه التجربة من عدمها بالنسبة للعرب، ثمة اسباب ينبغي التوقف عندها في الحياة السياسية للدول العربية إن لجهة القضايا التي تحيط بهم وينبغي التفتيش عن حل لها،ام لجهة الأسباب الحقيقية لمجمل الإخفاقات التي وقعوا ويقعون فيها.
من بين الاخفاقات المدمرة التي واجهت العرب الصراع العربي الاسرائيلي الذي لم يضاهيه صراعا في التاريخ لجهة الوقت او الآليات او المسارات، ورغم ذلك لا زال العرب يقدمون المزيد من التنازلات والتراجعات عن المواقف المرة تلو الاخرى.لقد بدأ العرب بشعارات ربما كانت تشكل الحد الأدنى من مكونات الذاكرة الجماعية للعرب،وابسطه عدم الاعتراف بقيام دولة اسرائيل 1948.ومن ثم الانتقال الى شعار لا مفاوضات لا صلح لا اعتراف بعد حرب 1967، ومن بعدها السلام الدائم والشامل والكامل مقابل الارض ووفقا لقرارات الشرعية الدولية ...،سلسلة من التراجاعات التي تبدو لا نهاية لها ،بل تؤسس لسلسلة نوعية أخرى من التراجعات غير المسبوقة في مسار المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المباشرة الجارية حاليا،ان لجهة المستوطنات او الحدود او عودة اللاجئين والقدس وغيرها الكثير من التفايل التي لا تقل خطورة عن القضايا الاساسية.
وليس من باب جلد الذات، القول ان ثمة اسبابا ذاتية في مكونات المجتمع العربي باتت من المؤثرات الاساسية في تكوين وصناعة القرار السياسي الذي يبدو في مجمل مساراته تراجعيا وانحداريا وبشكل من الصعب السيطرة عليه او الحد من تداعياته وآثاره.كما انه من السهل علينا القاء اللوم على الغير، وملاحظة مظاهر باتت من ثوابتنا الانتقادية لجهة الغوص في اوهام المؤامرات رغم صحتها في احيان كثيرة.
اننا كمجتمع عربي مدني يلزمنا الكثير لإعادة تكوين واقع نقدي جديد هدفه اعادة تكوين بيئة فكرية موضوعية علمية تحاكي الكثير من المتغيرات التي تحيط بنا،وتعمل اولا على الحد من تأثيراتها السلبية ان وجدت،والعمل على مواجهة ما يضر بنا منها ثانيا،والاستفادة من بعض مكوناتها ثالثا. علاوة على عدم الركون بشكل دائم الى سلبية ما نواجه به دائما وابدا.
لقد هُزمت السلطنة العثمانية في حروبها الأخيرة وأعيدت جغرافيتها السياسية بما يتناسب مع حجمها الحقيقي.لكن كمال اتاتورك اعاد بناء تركيا الحديثة على قاعدة اعادة الحلم العثماني بثوب علماني يحاكي مستجدات قرن كانت بدايته وخيمة على العرب كما منتصفه وأواخره.واليوم يعيد الاتراك بقيادة حزب العدالة والتنمية قراءة الدور الداخلي والخارجي المفترض لتركيا في الألفية الثالثة التي تزدحم بالأعاصير السياسية والعسكرية المدمرة.
اين العرب اليوم من عمليات المراجعة المفترضة لكل تلك التراجعات التي قدموها او اجبروا على تقديمها،وهل بالأحرى نحن العرب قادرون على اعادة مراجعة شاملة لمجمل الوضع الذي نحن فيه؟ طبعا العملية مطلوبة وملحة بل تعتبر شرطا ضروريا ولازما للتغيير الحقيقي المفترض البدء به. ثمة مئات بل آلاف المشاريع والرؤى والبرامج التي طرحت من غير بيئة تغييرية ،لكن العبرة في تحقيق المراجعة والتغيير. مئات الأحزاب والحركات وهيئات المجتمع المدني ظهرت في مجمل البلدان العربية،بعضها تمكن من الوصول الى السلطة وسرعان ما تراجع عن التزاماته وشعارته،وبعضها الآخر استمر في السلطة لعقود عدة متواصلة،رغم ذهاب الناس الذين اوصلوهم الى السلطة.اليوم يحكمنا زعماء وقادة اوصلناهم بأنفسنا وتملص غالبيتهم من التزاماتهم؛وغدا يأتي اولادهم ويحكمون اولادنا،وبعدهم احفادهم وأحفادنا،سلسلة من التراجعات المدمرة التي لها اول وليس لها آخر.
حُكمنا من العثمانيين خمسة قرون وألقينا وزرا كبيرا على تلك الحقبة لتبرير تخلفنا عن ركب التطور والتطوير،واليوم ربما ثمة فرصة لمراجعة التجربة التركية علَّ وعسى نتعلم شيئا منها، فهل سيظل العرب قابعون في مسلسلات التراجع ؟ ام سيقدمون على مراجعة موضوعية ولو لمرة واحدة واستثنائية؟
17/09/2010
شاهد الزور في قانون العقوبات اللبناني
شاهد الزور في قانون العقوبات اللبناني
د.خليل حسين
أوجبت قوانين اصول المحاكمات الجزائية في جميع الدول العربية، تحليف شهود اليمين قبل الإدلاء بأقوالهم أمام الجهات القضائية المختلفة، ومن بين هذه القوانين قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني، حيث أوجبت المادة (87) من القانون على قاضي التحقيق ان يحلّف الشاهد اليمين الآتية «أقسم بالله العظيم بأن أشهد بالحق كل الحق ولا شيء غير الحق» وكذلك أوجبت المادة (181) من ذات القانون على القاضي المنفرد في اجراءات المحاكمة والتثبت من أدلة الدعوى ان لا يستمع إلى الشاهد الذي يرى فائدة من سماعه إلا بعد تحليفه اليمين الآتي «أقسم بالله العظيم بأن أشهد الحق ولا شيء غير الحق» وفي هذا المعنى جاء نص المادة (248) من القانون نفسه ليلزم محكمة الجنايات بأن لا تسمع إلى الشهود إلا بعد تحليفهم اليمين القانونية. وقد يفهم للوهلة الأولى مما تقدم بأن الإدلاء بالأقوال امام قضاة التحقيق والمحاكم لا يصدق عليها وصف الشهادة ما لم تكن مسبوقة بحلف اليمين، إلا إذا تم السماح قانوناً للشخص بالإدلاء بأقواله من دون حلف اليمين، وتطبيقاً لهذا نصت المادة (91) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني على ما يلي: " يستمع قاضي التحقيق إلى القاصرين الذين لم يتموا الثامنة عشرة من عمرهم على سبيل المعلومات، إذا كان القاصر الذي يتجاوز الخامسة عشرة من عمره قد حلف اليمين القانونية فلا تكون إفادته باطلة ولا يلاحق بجريمة شهادة الزور، يمنع من الشهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته وأصهاره الذين هم من درجة الأخوة وزوجته ولو بعد الطلاق والمخبرون الذين يمنحهم القانون مكافأة مالية على الاخبار، لقاضي التحقيق ان يستمع إلى كل من هؤلاء على سبيل المعلومات، كما نصت المادة (248) من ذات القانون كما سبق ان ذكرنا، يتعين على رئيس محكمة الجنايات سماع الشهود بعد تحليفهم اليمين ما لم يعترض احد الفرقاء في الدعوى على سماع بعضهم لسبب قانوني فيقرر صرف النظر عنه أو سماعه على سبيل المعلومات...الخ". هذا من ناحية ضرورة تحليف الشاهد اليمين القانونية قبل الإدلاء بشهادته. ولكن هل هناك تلازم بين حلف اليمين في قوانين اصول المحاكمات الجزائية وبين قيام جريمة شهادة الزور في قوانين العقوبات المختلفة، على نحو لا تقوم هذه الجريمة من دون حلف الشاهد لليمين؟ لا بد من القول بأن التشريعات الجزائية في العالم لم تتواضع على ذلك، فمن اعتبر شهادة الزور جريمة ضد الذين اشترط ان تكون الشهادة قد أديت بعد حلف اليمين، فلفظ او حلف اليمين في ذاته ينطوي على معنى ديني، يقوم على الاعتقاد بأن من يحنث في يمينه، يتعرض لغضب الله ونقمته، ومن اعتبرها جريمة ضد العدل لم يشترط حلف اليمين، وإنما اعتبر حلف اليمين مجرد ظرف مشدد.
ويترتب على اشتراط حلف اليمين لقيام الجريمة، ان الشاهد الذي يسمع بغير يمين سهوا من قاضي التحقيق او المحكمة، او إذا سمع على سبيل الاستدلال لأنه لم يبلغ سن الرابعة أو الخامســة عشـرة او الثامنة عشرة من عمره على اختلاف في القوانين فيما بينها، او لأنه محكوم عليه بعقوبة جنائيـة وتعمد الكذب في أقواله، أفلت من عقوبة شهادة الزور، مع ان أقواله تؤثر في أذهان القضاة، حيث يصح ان تبنى عليها الأحكام ولو خالفت الشهادات التي أديت في نفس الدعوى بيمين، وهو وضع مؤسف على ما لاحظه المرحوم الاستاذ أحمد أمين، اول شارح لقـانون العقوبات المصري، واقترح علاجاً لذلك، احتذاء حذو التشريعات الأجنبية الايطالية والبلجــيكية التي جعلت الفعل من دون حلف اليمين ضمن افعال شهادة الزور، مع جعل العقوبة مخففة. فهل اعتبر المشرع الجزائي اللبناني الحنث باليمين جريمة ضد الدين ام جريمة ضد العدل؟ ان الإجابة على هذا السؤال تقتضي الوقوف على نص المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني في مقام تحديدها لتجريم شهادة الزور في قولها: «من شهد امام سلطة قضائية او قضاء عسكري او إداري فجزم بالباطل او أنكر الحق او كتم بعض او كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات. إذا أديت شهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي او محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر.
وإذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام او بعقوبة مؤبدة فلا تنقص الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن إبلاغها إلى خمس عشرة سنة، إذا كان قد استمع من دون حلف اليمين خفض نصف العقوبة.
مما تقدم فإننا نخلص إلى ان قانون العقوبات اللبناني يعتبر الشخص شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين القانونية استناداً إلى الحجج التالية:
ـ إن المشرع الجزائي لم يشترط صراحة او ضمناً في المادة (408) من قانون العقوبات التي تجرّم شهادة الزور ان يكون الشخص قد حلف اليمين أمام السلطات القضائية او ما في حكمها من السلطات الأخرى، وإنما يكفي ان يكون قد جزم بالباطل او أنكر الحقيقة كلياً او جزئياً.
ـ إن المادة (408/2) من قانون العقوبات اللبناني كانت صريحة في الفقرة الأخيرة منها على اعتبار الشاهد الذي يحنث بيمينه شاهد زور، ويعاقب على هذا الأساس، حتى ولو لم يحلف اليمين لأي سبب، فالنص جاء مطلقاً والقاعدة ان المطلق يجري على إطلاقه ما لم يتم تقييده. وبمعنى آخر فإن المشرع الجزائي اللبناني لم يقيد قيام جرم شهادة الزور بأي قيد كحلف اليمين، وكل ما في الأمر انه خفض العقوبة إلى النصف في حالة عدم حلف اليمين، أي انه اعترف له بعذر قانوني مخفف من دون ان ينفي قيام شهادة الزور علماً بأن المادة (82) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني قد أشارت إلى بعض حالات سماع بعض الشهود من دون حلف اليمين في قولها «لا تقبل مبدئياً شهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته ومن هم في درجتهم عن طريق المصاهرة والزوج والزوجة حتى بعد الطلاق، يمكن للقاضي سماع شهادة أي من هؤلاء إذا لم يعترض عليها المدعي الشخصي او المدعى عليه ولا تكون باطلة شهادة هؤلاء، غير ان اعتراض احدهما على سماعهم لا يمنع القاضي من ان يسمع على سبيل المعلومات. لا تقبل شهادة القاصر الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره الا على سبيل المعلومات.ولا يسمع من كان دون السابعة من عمره الا على سبيل المعلومات وبقرار مطلق.
ـ ويتصل بما تقدم ان المشرع الجزائي اللبناني قد أبقى على هذا الشخص صفة شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين ـ والفرض ـ لأسباب قانونية، غاية ما في هذا الأمر انه خفض العقوبة عليه إلى النصف، ألا يعتبر من لا يحلف اليمين لأسباب غير قانونية مرتكباً لجريمة شهادة الزور.
4ـ لم يعلق المشرع الجزائي اللبناني قيام جرم شهادة الزور والعقاب عليه على اقتناع السلطة القضائية بما ورد في هذه الشهادة والحكم بالاستناد إليها، حيث يتم العقاب وحتى ولو لم تقتنع المحاكم بها او تستند إليها في احكامها، وانما تسلم بقيامها وفرض العقاب عليها حتى ولو لم يترتب عليها الحكم بالإدانة ما دام ان العدالة قد تأذت، وبعبارة أخرى ما دام ان الضرر الذي لحق المشتكى عليه كان ناجماً عن عدم تحقيق العدالة، وكلما كان المساس بالعدالة أجسم والضرر أشد تبعاً لذلك، كلما كانت العقوبة هي الأخرى أشد وأغلظ، مما يدل على ان الهدف من حلف اليمين هو تحقيق العدل ومنع وقوع الضرر، وما نقول به جسدته المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني.
وبعبارة أخرى اعتبر عدم حلف اليمين عذراً قانونياً مخففاً، في حين يعتبر حلفه اليمين مع الحنث به جرماً تقوم به شهادة الزور لمساسه بالعدالة متى توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة (408) من قانون العقوبات من باب أولى، وأما الضرر فيشكل ظرفاً مشدداً كأثر المساس بالعدالة.
ان اشـتراط حلــف اليمين والحــنث به لقيام جريمة الزور ـ مـن قبل البعض ـ على الرغـم من عدم النــص عليـه في المادة (408) من قانون العقوبات، هـو في نـظرنا اضافة وتطلباً لشـرط لم يتطلـبه القانون، وربما نجم عن فهم مخالف لذيل نـص المادة (408) من قانون العقوبـات الذي يعترف بقيام شهادة الزور على الرغـم من عدم حلـف اليـمين مع فرض العقـاب المخفـف، اي يكـون ناجـماً عن فهم بمفهوم المخالفة بأن الفـقرات الاولى من المادة (408) تفتـرض حلف اليمين وفرض العقاب المشدد في حال الحـنث به، وهو امر لا يجوز قبوله او الموافقـة عليه لاســباب عدة، اهمها انه لا مجال للاحكام الافـتراضية او التخيلية او الاعتباريه في قانون العقوبات، فمجــال هـذه الاحكام هـو القــانون الخــاص، اي القـانون المدني او التجاري، هذا بالاضـافة الى ان مـؤدى الطــرائق الاصــولية فــي التفــسير تتـمثل في انه «اذا اراد الشــارع قــال وان ابى سكت»، ويلاحظ انه سكت عن تطلب حلف اليمين في النص القانوني المذكور باعلاه .
لا بد من التفرقة بين الدور الذي تؤديه الشهــادة في قانون اصول المــحاكمات الجـزائية وقانون العقوبات، فاذا كان مقتضى عدم حلف اليمين من قبل الشــخص في قضـية ما يؤدي الى بطلانها وعدم الاعـتداد بها كدليل تستند اليه المحكمة في الاثبـات او النـفي في قانون اصول المحاكمات الجزائــية، فـان مقتضى الحنث باليمين في قانون العقوبات ما دام انه كذب امام احـدى السلطـات القضائية عـن علـم مـنه بأنـه يكـذب وتمثل هـذا الكذب اما بجزمه بالباطل او بانكار الحـق او كتمه كلياً او جزئياً لما يعرف عن وقائع القضـية، هو تعرضه للعقاب بجـرم الزور، لـكن هذا لا يعني ولا يجب ان يعـني ان عدم حلـفه يميـنا لاي سبب يجعله بمنأى عن العقـاب، وان كان العقاب مخففاً كما بينا قـبل لحظات بموجب المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني، وبعبارة اخيرة فعدم حلف اليمـين في قانون اصول المحاكمات الجزائيــة يرتب بطلان الشهادة، بينما الحنث باليمين في قانون العقوبات يعرضه للعقاب بجـرم شــهادة الزور، فالجزاء في قانون الاصول لعدم حلف الشهادة هو جزاء شكلي يتــمثل بالبطلان، في حين ان الجزاء للحنث باليمين في قانون العقوبات جزاء موضوعي يتمثل في فرض العقاب .
} ان الاحكام القضائية التي توجب حلف اليمين لقيام شهادة الزور، انما تستند الى تشريعات لا تتضــمن نصاً كنص المادة (408) من قانون العقــوبات اللــبناني الذي يجّرم شاهــد الزور حـتى لـو لـم يحــلف اليــمين، وان كان عدم حـلفه للــيمين يشكـل عذراً قانونياً مخففا للعقاب، وخلاصة هذه الجزئية ان حلف اليـمين او عدم حلف اليمين ليس حاسماً في قيام جريمة شهادة الزور .
هذا في ما يتعلق بالنقطة الاولى من الجدل الذي يدور بين الاوساط السياسية اللبنانـية، اما النقــطة الثانية فتتعلق بما اذا كان القضاء اللبناني مختصاً بالتحقيق مع هؤلاء الشهــود ومحاكمتهم ام لا.
لا نتردد في الاجابة عن هذا السؤال بالايجاب، ما دام هــؤلاء الشــهود قد ارتكبوا جريمتــهم هــذه ـ في حال ثبوتها ـ على الارض اللبنانية، فقــانون العقوبات اللبناني دون غيره هو القانون الواجب التطبيق على الارض اللبــنانية سـنداً لمبدأ الصلاحية الاقليمـية الذي نصت عليه المادة (15) من قانون العـقوبات اللبناني في قولها «تطبق الشريعة اللبنانية على جميع الجرائم المقترفة في الارض اللبنـانية»، ثم حددت هذه المادة متى تعـد الجــريمة مقترفه على الارض اللبنانية في البندين (1)و(2) من هذه المادة في قولها «تعد الجريمة مرتكبة على هذه الارض اذا تم احد العناصر التي تؤلف الجريمة او فعل من افعال جريمة غير متجــزئة او فعل اشتراك اصلي او فرعي او اذا حصلت النتيجة في هذه الارض او كان متوقفاً حصولها فيه ».
وحيث انه من الثابت ان هؤلاء الشهود قد ادلوا بشهاداتهم الكاذبة امام لجان التحقيق الدولية على الارض اللبنانية، فانهم يكونون قد ارتكــبوا جرائمهم على هذه الارض، ويكون القضاء اللبناني هو الذي ينعقد له اختصاص النظر في هذه الجرائم، وذلك بغض النظر عن جنسية مرتكبيها سواء اكانو لبنانيين ام عربا ام يحملون جنسيات اخرى. ولا يرد عـلى هذا القــول بانهم لم يدلوا باقوالهم امام القضاء اللبنـاني، فلــيس هذا مهماً انما المهم وفقـاً لنص المــادة (15) المنوه عنها باعلاه انهم ارتكبوا جرائمهم على الارض اللبنانية بغض النظر عن الجهة التي ادلوا باقوالهم الكاذبة امامها، فلا يصح ان تكون شهاداتهم امام هذه الجهة مانعـة من محاكمتهم او مفضية عليهم حصــانة قضائية تحول دون محاكمتـهم ووسيـلة لهم من الافــلات من العقاب، ذلك انه لا يجوز ان يفلت مجرم من العقاب وفقاً لقواعد القانون الوطني او الدولي، خاصة وقد اعلنت المحكمة الجنائية ذات الطابع الدولي عدم اختصاصها في التحقيق معهم ومحاكمتهم .
كما انه يبـقى من حـق القضاء اللبناني النظر او البحـث في امكانية قيـام هذا الجرم حتى لو لم يثــبت وقـوع هذا الجـرم او عـدم وقـوعـه الا بعد اجراء المحاكمة، اذ تفـترض قـوانين العقوبات ان الحقيقة بخصوص وقوع الجريمة من عدمها قد لا تظهر الا بعد المحــاكمة النــهائية، وليس ادل على ذلك ما نصت عليه المادة (304) من قانون الاجراءات الجنائية المصري في قولها «اذا كــانت الواقعة غير ثابتة او كان القــانون لا يعــاقب علـيها، تحكم المحـكمة ببـراءة المتهم ويفرج عنه ان كان محبوساً من اجل هذه الواقعة وحدها، اما اذا كانت الواقعة ثابتة وتكون فعلاً معاقبا عليه، تقضي المحكمة بالعقوبة المقررة في القانون».
واخيراً فإننا نستمد الدفـع لرأينا هذا من مبادئ القانون الجنائي الدولي المتمثلة في ما اشار اليه النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيث نصت ديباجــته والمــادة الاولى منه انها مكملة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنـية، بمعـنى ان القــضاء الجنائي الوطنـي هو الاصل، وان القـضاء الجنائي الدولي هو الاستــثناء او الاحتياط، فما لم يثبت ان القــضاء الجـنائي الوطـني غير راغب او عاجز عن تحقـيق العدالة الجنائية، فإن القضاء الوطني هو المختص حتى بالنسبة للجرائم الدولية المنصوص عليها في النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
وعلـيه فـما دام الامــر واضــحاً لهـذا الحد فإن القضاء الجنائي اللبــناني هو المختص اصلاً في كل ما لا يختص به القضاء الجنائي الدولي او القضاء الجنائي ذو الطابع الدولي .
فإعلان المحــكمة الجــنائية ذات الطابع الدولي التي تم انشاؤها للنظر في قضيه اغتيال رفيق الحــريري بانها غــير مختصة بالنظر في جــرائم الــزور، إما لان النظام الاساسـي للمحكــمة لم يتضمن نصاً بهذا الخصوص او لاي سبب آخر يتعلق بها، يعني ارتداداً للأصل الذي يتمثل في ان القضاء الجنائي اللبناني هو المختص بالنظر في هذه القضية .
فلا عدل بغير حق، ولا حق بغير حقيقة، ولا حقيقة بغير تحقيق، تحقيق في كل ما يمكن ان يوصّل الى الحقيقة الموضوعية المجردة.
د.خليل حسين
أوجبت قوانين اصول المحاكمات الجزائية في جميع الدول العربية، تحليف شهود اليمين قبل الإدلاء بأقوالهم أمام الجهات القضائية المختلفة، ومن بين هذه القوانين قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني، حيث أوجبت المادة (87) من القانون على قاضي التحقيق ان يحلّف الشاهد اليمين الآتية «أقسم بالله العظيم بأن أشهد بالحق كل الحق ولا شيء غير الحق» وكذلك أوجبت المادة (181) من ذات القانون على القاضي المنفرد في اجراءات المحاكمة والتثبت من أدلة الدعوى ان لا يستمع إلى الشاهد الذي يرى فائدة من سماعه إلا بعد تحليفه اليمين الآتي «أقسم بالله العظيم بأن أشهد الحق ولا شيء غير الحق» وفي هذا المعنى جاء نص المادة (248) من القانون نفسه ليلزم محكمة الجنايات بأن لا تسمع إلى الشهود إلا بعد تحليفهم اليمين القانونية. وقد يفهم للوهلة الأولى مما تقدم بأن الإدلاء بالأقوال امام قضاة التحقيق والمحاكم لا يصدق عليها وصف الشهادة ما لم تكن مسبوقة بحلف اليمين، إلا إذا تم السماح قانوناً للشخص بالإدلاء بأقواله من دون حلف اليمين، وتطبيقاً لهذا نصت المادة (91) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني على ما يلي: " يستمع قاضي التحقيق إلى القاصرين الذين لم يتموا الثامنة عشرة من عمرهم على سبيل المعلومات، إذا كان القاصر الذي يتجاوز الخامسة عشرة من عمره قد حلف اليمين القانونية فلا تكون إفادته باطلة ولا يلاحق بجريمة شهادة الزور، يمنع من الشهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته وأصهاره الذين هم من درجة الأخوة وزوجته ولو بعد الطلاق والمخبرون الذين يمنحهم القانون مكافأة مالية على الاخبار، لقاضي التحقيق ان يستمع إلى كل من هؤلاء على سبيل المعلومات، كما نصت المادة (248) من ذات القانون كما سبق ان ذكرنا، يتعين على رئيس محكمة الجنايات سماع الشهود بعد تحليفهم اليمين ما لم يعترض احد الفرقاء في الدعوى على سماع بعضهم لسبب قانوني فيقرر صرف النظر عنه أو سماعه على سبيل المعلومات...الخ". هذا من ناحية ضرورة تحليف الشاهد اليمين القانونية قبل الإدلاء بشهادته. ولكن هل هناك تلازم بين حلف اليمين في قوانين اصول المحاكمات الجزائية وبين قيام جريمة شهادة الزور في قوانين العقوبات المختلفة، على نحو لا تقوم هذه الجريمة من دون حلف الشاهد لليمين؟ لا بد من القول بأن التشريعات الجزائية في العالم لم تتواضع على ذلك، فمن اعتبر شهادة الزور جريمة ضد الذين اشترط ان تكون الشهادة قد أديت بعد حلف اليمين، فلفظ او حلف اليمين في ذاته ينطوي على معنى ديني، يقوم على الاعتقاد بأن من يحنث في يمينه، يتعرض لغضب الله ونقمته، ومن اعتبرها جريمة ضد العدل لم يشترط حلف اليمين، وإنما اعتبر حلف اليمين مجرد ظرف مشدد.
ويترتب على اشتراط حلف اليمين لقيام الجريمة، ان الشاهد الذي يسمع بغير يمين سهوا من قاضي التحقيق او المحكمة، او إذا سمع على سبيل الاستدلال لأنه لم يبلغ سن الرابعة أو الخامســة عشـرة او الثامنة عشرة من عمره على اختلاف في القوانين فيما بينها، او لأنه محكوم عليه بعقوبة جنائيـة وتعمد الكذب في أقواله، أفلت من عقوبة شهادة الزور، مع ان أقواله تؤثر في أذهان القضاة، حيث يصح ان تبنى عليها الأحكام ولو خالفت الشهادات التي أديت في نفس الدعوى بيمين، وهو وضع مؤسف على ما لاحظه المرحوم الاستاذ أحمد أمين، اول شارح لقـانون العقوبات المصري، واقترح علاجاً لذلك، احتذاء حذو التشريعات الأجنبية الايطالية والبلجــيكية التي جعلت الفعل من دون حلف اليمين ضمن افعال شهادة الزور، مع جعل العقوبة مخففة. فهل اعتبر المشرع الجزائي اللبناني الحنث باليمين جريمة ضد الدين ام جريمة ضد العدل؟ ان الإجابة على هذا السؤال تقتضي الوقوف على نص المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني في مقام تحديدها لتجريم شهادة الزور في قولها: «من شهد امام سلطة قضائية او قضاء عسكري او إداري فجزم بالباطل او أنكر الحق او كتم بعض او كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات. إذا أديت شهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي او محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر.
وإذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام او بعقوبة مؤبدة فلا تنقص الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن إبلاغها إلى خمس عشرة سنة، إذا كان قد استمع من دون حلف اليمين خفض نصف العقوبة.
مما تقدم فإننا نخلص إلى ان قانون العقوبات اللبناني يعتبر الشخص شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين القانونية استناداً إلى الحجج التالية:
ـ إن المشرع الجزائي لم يشترط صراحة او ضمناً في المادة (408) من قانون العقوبات التي تجرّم شهادة الزور ان يكون الشخص قد حلف اليمين أمام السلطات القضائية او ما في حكمها من السلطات الأخرى، وإنما يكفي ان يكون قد جزم بالباطل او أنكر الحقيقة كلياً او جزئياً.
ـ إن المادة (408/2) من قانون العقوبات اللبناني كانت صريحة في الفقرة الأخيرة منها على اعتبار الشاهد الذي يحنث بيمينه شاهد زور، ويعاقب على هذا الأساس، حتى ولو لم يحلف اليمين لأي سبب، فالنص جاء مطلقاً والقاعدة ان المطلق يجري على إطلاقه ما لم يتم تقييده. وبمعنى آخر فإن المشرع الجزائي اللبناني لم يقيد قيام جرم شهادة الزور بأي قيد كحلف اليمين، وكل ما في الأمر انه خفض العقوبة إلى النصف في حالة عدم حلف اليمين، أي انه اعترف له بعذر قانوني مخفف من دون ان ينفي قيام شهادة الزور علماً بأن المادة (82) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني قد أشارت إلى بعض حالات سماع بعض الشهود من دون حلف اليمين في قولها «لا تقبل مبدئياً شهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته ومن هم في درجتهم عن طريق المصاهرة والزوج والزوجة حتى بعد الطلاق، يمكن للقاضي سماع شهادة أي من هؤلاء إذا لم يعترض عليها المدعي الشخصي او المدعى عليه ولا تكون باطلة شهادة هؤلاء، غير ان اعتراض احدهما على سماعهم لا يمنع القاضي من ان يسمع على سبيل المعلومات. لا تقبل شهادة القاصر الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره الا على سبيل المعلومات.ولا يسمع من كان دون السابعة من عمره الا على سبيل المعلومات وبقرار مطلق.
ـ ويتصل بما تقدم ان المشرع الجزائي اللبناني قد أبقى على هذا الشخص صفة شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين ـ والفرض ـ لأسباب قانونية، غاية ما في هذا الأمر انه خفض العقوبة عليه إلى النصف، ألا يعتبر من لا يحلف اليمين لأسباب غير قانونية مرتكباً لجريمة شهادة الزور.
4ـ لم يعلق المشرع الجزائي اللبناني قيام جرم شهادة الزور والعقاب عليه على اقتناع السلطة القضائية بما ورد في هذه الشهادة والحكم بالاستناد إليها، حيث يتم العقاب وحتى ولو لم تقتنع المحاكم بها او تستند إليها في احكامها، وانما تسلم بقيامها وفرض العقاب عليها حتى ولو لم يترتب عليها الحكم بالإدانة ما دام ان العدالة قد تأذت، وبعبارة أخرى ما دام ان الضرر الذي لحق المشتكى عليه كان ناجماً عن عدم تحقيق العدالة، وكلما كان المساس بالعدالة أجسم والضرر أشد تبعاً لذلك، كلما كانت العقوبة هي الأخرى أشد وأغلظ، مما يدل على ان الهدف من حلف اليمين هو تحقيق العدل ومنع وقوع الضرر، وما نقول به جسدته المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني.
وبعبارة أخرى اعتبر عدم حلف اليمين عذراً قانونياً مخففاً، في حين يعتبر حلفه اليمين مع الحنث به جرماً تقوم به شهادة الزور لمساسه بالعدالة متى توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة (408) من قانون العقوبات من باب أولى، وأما الضرر فيشكل ظرفاً مشدداً كأثر المساس بالعدالة.
ان اشـتراط حلــف اليمين والحــنث به لقيام جريمة الزور ـ مـن قبل البعض ـ على الرغـم من عدم النــص عليـه في المادة (408) من قانون العقوبات، هـو في نـظرنا اضافة وتطلباً لشـرط لم يتطلـبه القانون، وربما نجم عن فهم مخالف لذيل نـص المادة (408) من قانون العقوبـات الذي يعترف بقيام شهادة الزور على الرغـم من عدم حلـف اليـمين مع فرض العقـاب المخفـف، اي يكـون ناجـماً عن فهم بمفهوم المخالفة بأن الفـقرات الاولى من المادة (408) تفتـرض حلف اليمين وفرض العقاب المشدد في حال الحـنث به، وهو امر لا يجوز قبوله او الموافقـة عليه لاســباب عدة، اهمها انه لا مجال للاحكام الافـتراضية او التخيلية او الاعتباريه في قانون العقوبات، فمجــال هـذه الاحكام هـو القــانون الخــاص، اي القـانون المدني او التجاري، هذا بالاضـافة الى ان مـؤدى الطــرائق الاصــولية فــي التفــسير تتـمثل في انه «اذا اراد الشــارع قــال وان ابى سكت»، ويلاحظ انه سكت عن تطلب حلف اليمين في النص القانوني المذكور باعلاه .
لا بد من التفرقة بين الدور الذي تؤديه الشهــادة في قانون اصول المــحاكمات الجـزائية وقانون العقوبات، فاذا كان مقتضى عدم حلف اليمين من قبل الشــخص في قضـية ما يؤدي الى بطلانها وعدم الاعـتداد بها كدليل تستند اليه المحكمة في الاثبـات او النـفي في قانون اصول المحاكمات الجزائــية، فـان مقتضى الحنث باليمين في قانون العقوبات ما دام انه كذب امام احـدى السلطـات القضائية عـن علـم مـنه بأنـه يكـذب وتمثل هـذا الكذب اما بجزمه بالباطل او بانكار الحـق او كتمه كلياً او جزئياً لما يعرف عن وقائع القضـية، هو تعرضه للعقاب بجـرم الزور، لـكن هذا لا يعني ولا يجب ان يعـني ان عدم حلـفه يميـنا لاي سبب يجعله بمنأى عن العقـاب، وان كان العقاب مخففاً كما بينا قـبل لحظات بموجب المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني، وبعبارة اخيرة فعدم حلف اليمـين في قانون اصول المحاكمات الجزائيــة يرتب بطلان الشهادة، بينما الحنث باليمين في قانون العقوبات يعرضه للعقاب بجـرم شــهادة الزور، فالجزاء في قانون الاصول لعدم حلف الشهادة هو جزاء شكلي يتــمثل بالبطلان، في حين ان الجزاء للحنث باليمين في قانون العقوبات جزاء موضوعي يتمثل في فرض العقاب .
} ان الاحكام القضائية التي توجب حلف اليمين لقيام شهادة الزور، انما تستند الى تشريعات لا تتضــمن نصاً كنص المادة (408) من قانون العقــوبات اللــبناني الذي يجّرم شاهــد الزور حـتى لـو لـم يحــلف اليــمين، وان كان عدم حـلفه للــيمين يشكـل عذراً قانونياً مخففا للعقاب، وخلاصة هذه الجزئية ان حلف اليـمين او عدم حلف اليمين ليس حاسماً في قيام جريمة شهادة الزور .
هذا في ما يتعلق بالنقطة الاولى من الجدل الذي يدور بين الاوساط السياسية اللبنانـية، اما النقــطة الثانية فتتعلق بما اذا كان القضاء اللبناني مختصاً بالتحقيق مع هؤلاء الشهــود ومحاكمتهم ام لا.
لا نتردد في الاجابة عن هذا السؤال بالايجاب، ما دام هــؤلاء الشــهود قد ارتكبوا جريمتــهم هــذه ـ في حال ثبوتها ـ على الارض اللبنانية، فقــانون العقوبات اللبناني دون غيره هو القانون الواجب التطبيق على الارض اللبــنانية سـنداً لمبدأ الصلاحية الاقليمـية الذي نصت عليه المادة (15) من قانون العـقوبات اللبناني في قولها «تطبق الشريعة اللبنانية على جميع الجرائم المقترفة في الارض اللبنـانية»، ثم حددت هذه المادة متى تعـد الجــريمة مقترفه على الارض اللبنانية في البندين (1)و(2) من هذه المادة في قولها «تعد الجريمة مرتكبة على هذه الارض اذا تم احد العناصر التي تؤلف الجريمة او فعل من افعال جريمة غير متجــزئة او فعل اشتراك اصلي او فرعي او اذا حصلت النتيجة في هذه الارض او كان متوقفاً حصولها فيه ».
وحيث انه من الثابت ان هؤلاء الشهود قد ادلوا بشهاداتهم الكاذبة امام لجان التحقيق الدولية على الارض اللبنانية، فانهم يكونون قد ارتكــبوا جرائمهم على هذه الارض، ويكون القضاء اللبناني هو الذي ينعقد له اختصاص النظر في هذه الجرائم، وذلك بغض النظر عن جنسية مرتكبيها سواء اكانو لبنانيين ام عربا ام يحملون جنسيات اخرى. ولا يرد عـلى هذا القــول بانهم لم يدلوا باقوالهم امام القضاء اللبنـاني، فلــيس هذا مهماً انما المهم وفقـاً لنص المــادة (15) المنوه عنها باعلاه انهم ارتكبوا جرائمهم على الارض اللبنانية بغض النظر عن الجهة التي ادلوا باقوالهم الكاذبة امامها، فلا يصح ان تكون شهاداتهم امام هذه الجهة مانعـة من محاكمتهم او مفضية عليهم حصــانة قضائية تحول دون محاكمتـهم ووسيـلة لهم من الافــلات من العقاب، ذلك انه لا يجوز ان يفلت مجرم من العقاب وفقاً لقواعد القانون الوطني او الدولي، خاصة وقد اعلنت المحكمة الجنائية ذات الطابع الدولي عدم اختصاصها في التحقيق معهم ومحاكمتهم .
كما انه يبـقى من حـق القضاء اللبناني النظر او البحـث في امكانية قيـام هذا الجرم حتى لو لم يثــبت وقـوع هذا الجـرم او عـدم وقـوعـه الا بعد اجراء المحاكمة، اذ تفـترض قـوانين العقوبات ان الحقيقة بخصوص وقوع الجريمة من عدمها قد لا تظهر الا بعد المحــاكمة النــهائية، وليس ادل على ذلك ما نصت عليه المادة (304) من قانون الاجراءات الجنائية المصري في قولها «اذا كــانت الواقعة غير ثابتة او كان القــانون لا يعــاقب علـيها، تحكم المحـكمة ببـراءة المتهم ويفرج عنه ان كان محبوساً من اجل هذه الواقعة وحدها، اما اذا كانت الواقعة ثابتة وتكون فعلاً معاقبا عليه، تقضي المحكمة بالعقوبة المقررة في القانون».
واخيراً فإننا نستمد الدفـع لرأينا هذا من مبادئ القانون الجنائي الدولي المتمثلة في ما اشار اليه النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيث نصت ديباجــته والمــادة الاولى منه انها مكملة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنـية، بمعـنى ان القــضاء الجنائي الوطنـي هو الاصل، وان القـضاء الجنائي الدولي هو الاستــثناء او الاحتياط، فما لم يثبت ان القــضاء الجـنائي الوطـني غير راغب او عاجز عن تحقـيق العدالة الجنائية، فإن القضاء الوطني هو المختص حتى بالنسبة للجرائم الدولية المنصوص عليها في النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
وعلـيه فـما دام الامــر واضــحاً لهـذا الحد فإن القضاء الجنائي اللبــناني هو المختص اصلاً في كل ما لا يختص به القضاء الجنائي الدولي او القضاء الجنائي ذو الطابع الدولي .
فإعلان المحــكمة الجــنائية ذات الطابع الدولي التي تم انشاؤها للنظر في قضيه اغتيال رفيق الحــريري بانها غــير مختصة بالنظر في جــرائم الــزور، إما لان النظام الاساسـي للمحكــمة لم يتضمن نصاً بهذا الخصوص او لاي سبب آخر يتعلق بها، يعني ارتداداً للأصل الذي يتمثل في ان القضاء الجنائي اللبناني هو المختص بالنظر في هذه القضية .
فلا عدل بغير حق، ولا حق بغير حقيقة، ولا حقيقة بغير تحقيق، تحقيق في كل ما يمكن ان يوصّل الى الحقيقة الموضوعية المجردة.
التسميات:
الدراسات القانونية,
محاكم دولية
خلفيات العمالة لاسرائيل في لبنان وتداعياتها
خلفيات العمالة لاسرائيل في لبنان وتداعياتها
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في موقع الشرق الأوسط 17/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
مفارقة العمالة لاسرائيل في لبنان انها باتت وجهة نظر، في بلد تمكنت مقاومته من تسجيل سابقة في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي وهي اجبار قوات الاحتلال على الانسحاب عنوة من اراض احتلتها لربع قرن تقريبا.علاوة على ذلك ثمة من تعدى المعقول والمقبول عادة في الحياة السياسية اللبنانية ليعبر عن آراء ومواقف غير مسبوقة تجاه اسرائيل.
في الواقع تعتبر العمالة في مطلق بلد قضية من الصعب او من المستحيل تبريرها او ايجاد الاعذار التخفيفية لها. وفي مطلق الأحوال ثمة اجماع على ضخامة السلوك الذي يؤدي الى احكام تصل الى الاعدام دون معارضة تذكر حتى في الدول التي تتغنى بالديموقراطية وحقوق الانسان والإعراض عن تنفيذ احكام الاعدامات.واذا كانت طبيعة الأمور ترتدي هذه الحدة في النظرة والتعامل مع مثل تلك القضايا في معظم دول العالم،فهل ثمة ما يبرر ان تكون الأمور مختلفة في لبنان مثلا.في الواقع يمكن تسجيل العديد من الملاحظات والمفارقات في هذا السياق ومن بينها:
- لقد بلغ عدد المعلن عن اكتشاف عمالتهم لاسرائيل في لبنان مؤخرا الى 154 عميلا،وهم بطبيعة الحال ينتمون الى طوائف ومذاهب مختلفة،كما هم من مناطق لبنانية متعددة،علاوة على النوعية والشرائح الاجتماعية التي ينتمون اليها.فمثلا بينهم المدنيون كما العسكريون،كذلك البيئات المتواضعة كما الميسورة،وفيهم المختص ذات التعليم العالي كما شبه الامي.باختصار مروحة متنوعة من العملاء تتناسب مع طبيعة العمل الذي يمكن ان يوكل اليهم.
- ثمة قسم منهم سبق وتعامل مع اسرائيل علنا ومباشرة عبر الميليشيات التي انشأتها اسرائيل في اعقاب احتلالها لجنوب لبنان بعد العام 1978،ومنهم من حكم عليه بأحكام تخفيفية جدا بعد انسحاب اسرائيل في العام 2000 ونفذت محكوميتهم وعادوا الى التعامل مع اسرائيل.
- ان النسبة التي كشف عنها حتى الآن هي نسبة كبيرة مقارنة بتعداد الشعب اللبناني،وهي بطيعة الأمر نسبة مقلقة، لها دلالاتها وابعادها التي ينبغي التدقيق فيها وبأسبابها وسبل معالجتها.
- ان الاعمال التي نفذتها هذه الشبكات افرادا ومجموعات ادت الى المسِّ بشكل مباشر في العديد من مواقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية، وبالتالي تعتبر نوعية الأعمال المطلوبة من هؤلاء العملاء اعمالا حساسة جدا تشمل قضايا ومسائل وأمور ليست امنية عسكرية بالضرورة متعلقة فقط بالمقاومة اللبنانية مثلا.
- ان التدقيق بصنف العملاء ذات الطبيعة التكنولوجية المعلوماتية وما كلفوا به عمليا،يظهر قدرة اسرائيل على كشف الواقع اللبناني بمختلف جوانبه والتحكم به بنسب لافتة تستطيع من خلاله مسك الكثير من مفاصل الحياة السياسية والامنية والمالية والاقتصادية اللبنانية،باختصار بات لبنان مكشوفا بشكل شبه كامل لاسرائيل.
- وغريب المفارقات ما يتم التداول به تأويلا وتصريحا، وبشكل واضح وملتبس احيانا،من ان ثمة فئة من وزن اصحاب الحل والعقد متورطون بالعمالة،والملفت في هذا الموضوع بالذات انه يُستعمل في كثير من الحالات كمسائل للابتزاز السياسي بين الأطراف السياسية اللبنانية،او في مجال المقايضة في تمرير بعض الملفات ذات الطبيعة الوازنة.
- والأغرب والأنكى في هذا المجال،تصريح احد نواب حزب الكتائب اللبنانيةعلنا بأن حزبه قد تعامل واستفاد من اسرائيل في مواجهة سوريا في لبنان، ورغم ان مثل هذه االمعلومات لا تعتبر من نوع افشاء الأسرار في لبنان الا انها ارتدت طابع التحدي وهي سابقة في الحياة السياسية اللبنانية التي يُصرح بها نائب في الندوة البرلمانية بهذا الوضوح،ما يمكن ان يشكل منعطفا في طريقة مقاربة الأمور في لبنان مستقبلا اذا مر الأمر مرور الكرام. وهنا من المفيد الاشارة الى ان الحصانة البرلمانية لا يمكن الاعتداد بها لملاحقة النائب على مثل تلك التصريحات،باعتبارها ليست موضوع تصريحات سياسية بقدر ما هي مواقف تشكل عملا عدائيا ضد الامن الوطني اللبناني التي تصل احكامه في قانون العقوبات اللبناني الى الاعدام.
- ان خصوصية الواقع اللبناني تعطي قضية العمالة ابعادا خاصة في لبنان من الصعب تجاوزها والقفز فوقها.فلبنان مثلا هو في حالة حرب عمليا مع اسرائيل اولا، كما ان ثمة بعض الاراضي التي لا زالت اسرئيل تحتلها (مزارع شبعا وتلال كقرشوبا) ثانيا،كما ان عقيدة قواته المسلحة تعتبر اسرائيل دولة عدوة،علاوة على وجود القوة الوازنة للمقاومة في مواجهة اسرائيل بخلاف كل دول الطوق الجغرافي لفلسطين المحتلة. وفوق ذلك كله ثمة نصوص قانونية واضحة جدا لا لبس فيها تحدد العدو من الصديق كما تحدد العقوبات المفترضة لكل جريمة ترتكب.
- ان الاحداث التي مر بها لبنان منذ النصف الأول لعقد السبعينيات من القرن الماضي، اسَّس لبيئة اجتماعية هشة قابلة للاختراق بسهولة نظرا لتداخل الكثير من العوامل الخارجية وتأثيراتها في الواقع الداخلي اللبناني وبخاصة في ما سُميَّ لاحقا بالبيئات الحاضنة للعملاء،وهي ليست بالضرورة بيئات ذات بعد طائفي او مذهبي كما يحاول البعض الترويج له او تظهيره كثابت في التركيبة الطائفية في لبنان.
صحيح ان لبنان مرَّ في ظروف محلية واقليمية ودولية معقدة جدا ما ارخى بتداعيات قاسية على السلوك الاجتماعي في لبنان،الا ان ذلك لا يمكن ان يكون سببا او عاملا من عوامل الظروف التخفيفية للعمالة لمصلحة اسرائيل،كما انه لا يجوز التعامل مع هذه الظاهرة التي يُفترض ان تكون عابرة في الحياة السياسية اللبنانية على انها حالة طبيعية او مألوفة او يمكن التعايش معها.
طبعا ثمة ما يشبه الاسترخاء السلوكي لدى بعض صِغار النفوس ممن تعاملوا مع اسرائيل سابقا وعادوا وجددوا علاقاتهم معها بعد انسحابها عام 2000،لكن ذلك مرده الى خطأ فادح وقعت فيه السلطات اللبنانية ليست بالضرورة القضائية لوحدها،ومفادها الأحكام التخفيفية الشديدة التي استفاد منها جميع من حوكموا في الفترة التي اعقبت الانسحاب الاسرائيلي،حتى باتت المحاكمات مجالا للتندر بين اللبنانيين،على قاعدة ان الذين حكوما بجرائم العمالة والتنكيل والقتل حُكِموا لأشهر فقط وفي سجون من خمسة نجوم العيش فيها كان اسهل وأريح من شظف العيش خارجها .
وحتى لا تصبح العمالة في لبنان وجهة نظر غير خاضعة للمسائلة والمحاكمة كما يفترض منطق الأمور،ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة يشدة وقسوة متناهية وعلى قاعدة تطبيف العقوبات الفسوى لجرم العمالة التي ينبغي ان تسود فيها حالات احكام الاعدام ويشطل متسارع ودون ابطاء او مراعاة لظرف ما او لحالات محددة كما هو شائع.
ان البحث عن الاسباب والاعذار التخفيفية في هذا المجال لن ينتج سوى المزيد من حالات الاسترخاء السلوكي لدى بعض الافراد، وبالتالي التمادي في الغي والعمالة ،وبالتالي ان تشديد العقوبات هو حل واقعي لردع من تخوّله نفسه الانزلاق الى هذا الدرك الخطير.في جنوب لبنان لم يحصل ضربة كف لأي عميل بعد العام 2000 وترك الأمر للقضاء اللبناني، فيما المقاومة الفرنسية اعدمت ميدانيا آلاف العملاء في الشوارع دون محاكمة،فهل ثمة عبرة يمكن ان تتخذ من هذه الوقائع؟
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في موقع الشرق الأوسط 17/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
مفارقة العمالة لاسرائيل في لبنان انها باتت وجهة نظر، في بلد تمكنت مقاومته من تسجيل سابقة في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي وهي اجبار قوات الاحتلال على الانسحاب عنوة من اراض احتلتها لربع قرن تقريبا.علاوة على ذلك ثمة من تعدى المعقول والمقبول عادة في الحياة السياسية اللبنانية ليعبر عن آراء ومواقف غير مسبوقة تجاه اسرائيل.
في الواقع تعتبر العمالة في مطلق بلد قضية من الصعب او من المستحيل تبريرها او ايجاد الاعذار التخفيفية لها. وفي مطلق الأحوال ثمة اجماع على ضخامة السلوك الذي يؤدي الى احكام تصل الى الاعدام دون معارضة تذكر حتى في الدول التي تتغنى بالديموقراطية وحقوق الانسان والإعراض عن تنفيذ احكام الاعدامات.واذا كانت طبيعة الأمور ترتدي هذه الحدة في النظرة والتعامل مع مثل تلك القضايا في معظم دول العالم،فهل ثمة ما يبرر ان تكون الأمور مختلفة في لبنان مثلا.في الواقع يمكن تسجيل العديد من الملاحظات والمفارقات في هذا السياق ومن بينها:
- لقد بلغ عدد المعلن عن اكتشاف عمالتهم لاسرائيل في لبنان مؤخرا الى 154 عميلا،وهم بطبيعة الحال ينتمون الى طوائف ومذاهب مختلفة،كما هم من مناطق لبنانية متعددة،علاوة على النوعية والشرائح الاجتماعية التي ينتمون اليها.فمثلا بينهم المدنيون كما العسكريون،كذلك البيئات المتواضعة كما الميسورة،وفيهم المختص ذات التعليم العالي كما شبه الامي.باختصار مروحة متنوعة من العملاء تتناسب مع طبيعة العمل الذي يمكن ان يوكل اليهم.
- ثمة قسم منهم سبق وتعامل مع اسرائيل علنا ومباشرة عبر الميليشيات التي انشأتها اسرائيل في اعقاب احتلالها لجنوب لبنان بعد العام 1978،ومنهم من حكم عليه بأحكام تخفيفية جدا بعد انسحاب اسرائيل في العام 2000 ونفذت محكوميتهم وعادوا الى التعامل مع اسرائيل.
- ان النسبة التي كشف عنها حتى الآن هي نسبة كبيرة مقارنة بتعداد الشعب اللبناني،وهي بطيعة الأمر نسبة مقلقة، لها دلالاتها وابعادها التي ينبغي التدقيق فيها وبأسبابها وسبل معالجتها.
- ان الاعمال التي نفذتها هذه الشبكات افرادا ومجموعات ادت الى المسِّ بشكل مباشر في العديد من مواقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية، وبالتالي تعتبر نوعية الأعمال المطلوبة من هؤلاء العملاء اعمالا حساسة جدا تشمل قضايا ومسائل وأمور ليست امنية عسكرية بالضرورة متعلقة فقط بالمقاومة اللبنانية مثلا.
- ان التدقيق بصنف العملاء ذات الطبيعة التكنولوجية المعلوماتية وما كلفوا به عمليا،يظهر قدرة اسرائيل على كشف الواقع اللبناني بمختلف جوانبه والتحكم به بنسب لافتة تستطيع من خلاله مسك الكثير من مفاصل الحياة السياسية والامنية والمالية والاقتصادية اللبنانية،باختصار بات لبنان مكشوفا بشكل شبه كامل لاسرائيل.
- وغريب المفارقات ما يتم التداول به تأويلا وتصريحا، وبشكل واضح وملتبس احيانا،من ان ثمة فئة من وزن اصحاب الحل والعقد متورطون بالعمالة،والملفت في هذا الموضوع بالذات انه يُستعمل في كثير من الحالات كمسائل للابتزاز السياسي بين الأطراف السياسية اللبنانية،او في مجال المقايضة في تمرير بعض الملفات ذات الطبيعة الوازنة.
- والأغرب والأنكى في هذا المجال،تصريح احد نواب حزب الكتائب اللبنانيةعلنا بأن حزبه قد تعامل واستفاد من اسرائيل في مواجهة سوريا في لبنان، ورغم ان مثل هذه االمعلومات لا تعتبر من نوع افشاء الأسرار في لبنان الا انها ارتدت طابع التحدي وهي سابقة في الحياة السياسية اللبنانية التي يُصرح بها نائب في الندوة البرلمانية بهذا الوضوح،ما يمكن ان يشكل منعطفا في طريقة مقاربة الأمور في لبنان مستقبلا اذا مر الأمر مرور الكرام. وهنا من المفيد الاشارة الى ان الحصانة البرلمانية لا يمكن الاعتداد بها لملاحقة النائب على مثل تلك التصريحات،باعتبارها ليست موضوع تصريحات سياسية بقدر ما هي مواقف تشكل عملا عدائيا ضد الامن الوطني اللبناني التي تصل احكامه في قانون العقوبات اللبناني الى الاعدام.
- ان خصوصية الواقع اللبناني تعطي قضية العمالة ابعادا خاصة في لبنان من الصعب تجاوزها والقفز فوقها.فلبنان مثلا هو في حالة حرب عمليا مع اسرائيل اولا، كما ان ثمة بعض الاراضي التي لا زالت اسرئيل تحتلها (مزارع شبعا وتلال كقرشوبا) ثانيا،كما ان عقيدة قواته المسلحة تعتبر اسرائيل دولة عدوة،علاوة على وجود القوة الوازنة للمقاومة في مواجهة اسرائيل بخلاف كل دول الطوق الجغرافي لفلسطين المحتلة. وفوق ذلك كله ثمة نصوص قانونية واضحة جدا لا لبس فيها تحدد العدو من الصديق كما تحدد العقوبات المفترضة لكل جريمة ترتكب.
- ان الاحداث التي مر بها لبنان منذ النصف الأول لعقد السبعينيات من القرن الماضي، اسَّس لبيئة اجتماعية هشة قابلة للاختراق بسهولة نظرا لتداخل الكثير من العوامل الخارجية وتأثيراتها في الواقع الداخلي اللبناني وبخاصة في ما سُميَّ لاحقا بالبيئات الحاضنة للعملاء،وهي ليست بالضرورة بيئات ذات بعد طائفي او مذهبي كما يحاول البعض الترويج له او تظهيره كثابت في التركيبة الطائفية في لبنان.
صحيح ان لبنان مرَّ في ظروف محلية واقليمية ودولية معقدة جدا ما ارخى بتداعيات قاسية على السلوك الاجتماعي في لبنان،الا ان ذلك لا يمكن ان يكون سببا او عاملا من عوامل الظروف التخفيفية للعمالة لمصلحة اسرائيل،كما انه لا يجوز التعامل مع هذه الظاهرة التي يُفترض ان تكون عابرة في الحياة السياسية اللبنانية على انها حالة طبيعية او مألوفة او يمكن التعايش معها.
طبعا ثمة ما يشبه الاسترخاء السلوكي لدى بعض صِغار النفوس ممن تعاملوا مع اسرائيل سابقا وعادوا وجددوا علاقاتهم معها بعد انسحابها عام 2000،لكن ذلك مرده الى خطأ فادح وقعت فيه السلطات اللبنانية ليست بالضرورة القضائية لوحدها،ومفادها الأحكام التخفيفية الشديدة التي استفاد منها جميع من حوكموا في الفترة التي اعقبت الانسحاب الاسرائيلي،حتى باتت المحاكمات مجالا للتندر بين اللبنانيين،على قاعدة ان الذين حكوما بجرائم العمالة والتنكيل والقتل حُكِموا لأشهر فقط وفي سجون من خمسة نجوم العيش فيها كان اسهل وأريح من شظف العيش خارجها .
وحتى لا تصبح العمالة في لبنان وجهة نظر غير خاضعة للمسائلة والمحاكمة كما يفترض منطق الأمور،ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة يشدة وقسوة متناهية وعلى قاعدة تطبيف العقوبات الفسوى لجرم العمالة التي ينبغي ان تسود فيها حالات احكام الاعدام ويشطل متسارع ودون ابطاء او مراعاة لظرف ما او لحالات محددة كما هو شائع.
ان البحث عن الاسباب والاعذار التخفيفية في هذا المجال لن ينتج سوى المزيد من حالات الاسترخاء السلوكي لدى بعض الافراد، وبالتالي التمادي في الغي والعمالة ،وبالتالي ان تشديد العقوبات هو حل واقعي لردع من تخوّله نفسه الانزلاق الى هذا الدرك الخطير.في جنوب لبنان لم يحصل ضربة كف لأي عميل بعد العام 2000 وترك الأمر للقضاء اللبناني، فيما المقاومة الفرنسية اعدمت ميدانيا آلاف العملاء في الشوارع دون محاكمة،فهل ثمة عبرة يمكن ان تتخذ من هذه الوقائع؟
التسميات:
الصراع العربي الاسرائيلي,
قضايا عربية,
قضايا لبنانية
06/09/2010
مخارج التعديل الدستوري في أزمة لبنان الراهنة
مخارج التعديل الدستوري في أزمة لبنان الراهنة
د.خليل حسين
غريب المفارقات في الحياة السياسية والدستورية في لبنان دوام الاختلاف حول القضية نفسها في معرض كل انتخابات رئاسية لبنانية وما يتعلق بها في غالب الأحيان من تعديل للدستور أو بمعنى آخر إيجاد المخارج الدستورية والقانونية لتتلاءم مع واقع محدد بعينه إن لجهة الشخص أو الظروف التي تحيط بلبنان. والمفارقة الأشد غرابة في ذلك أن المادة (49) المتعلقة بانتخاب الرئيس قد عدلت سبع مرات في خلال انتخابات تمت لعشر رؤساء تعاقبوا على حكم لبنان،والمفارقة العجيبة الغريبة أن الباب الثالث في الدستور اللبناني المتعلق بانتخاب الرئيس وكيفية تعديل الدستور ليس له عنوان بخلاف الأبواب الخمسة الأخرى التي تحمل عناوين محددة.وفي ظل هذا الواقع المعقد حاليا في لبنان من يقوم بالتعديل الدستوري وكيف؟ وما هي المخارج القانونية المتاحة لذلك؟
ثمة جهتان أساسيتان أناط بهما الدستور لتعديل الدستور نفسه،الأولى رئيس الجمهورية عبر الحكومة في نص المادة (76) التي تقول" يمكن إعادة النظر في الدستور بناءً على اقتراح رئيس الجمهورية فتقدم الحكومة مشروع القانون إلى مجلس النواب" .وكذلك لمجلس النواب عبر المادة (77) التي تنص على " يحق لمجلس النواب في خلال عقد عادي وبناء على اقتراح عشرة من أعضائه على الأقل أن يبدي اقتراحه بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانونا بإعادة النظر في الدستور.
على أن المواد والمسائل التي يتناولها الاقتراح يجب تحديدها وذكرها بصورة واضحة، فيبلغ رئيس المجلس ذلك الاقتراح إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون في شأنه، فإذا وافقت الحكومة المجلس على اقتراحه بأكثرية الثلثين وجب عليها أن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر وإذا لم توافق فعليها أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية، فإذا أصر المجلس عليه بأكثرية ثلاثة أرباع مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً، فلرئيس الجمهورية حينئذ أما إجابة المجلس إلى رغبته أو الطلب من مجلس الوزراء حله وإجراء انتخابات جديدة في خلال ثلاثة اشهر، فإذا أصر المجلس الجديد على وجوب التعديل وجب على الحكومة الانصياع وطرح مشروع التعديل في مدة أربعة اشهر."
وبالنظر إلى ما سبق لجهة صاحب الاختصاص في التعديل يمكن إبراز العديد من الملاحظات حول هذا الواقع من بينها:
- إن الحكومة هي من تعد مشروع التعديل بصرف النظر عن الجهة المطالبة به إن كان رئيس الجمهورية أو المجلس النيابي،وفي الحالة القائمة ثمة جهة واحدة هي المجلس النيابي التي يمكنها البدء في تحريك آلية التعديل عبر تبني عشرة نواب اقتراح القانون وموافقة المجلس على الاقتراح بثلثي أعضائه الذين يؤلفونه قانونا،ذلك في معرض شغور سدة الرئاسة الحالية.
- ثمة جهة أخرى مختلف عليها وهي الحكومة التي يعتبر البعض أن صلاحيات رئيس الجمهورية انتقلت إلى الحكومة وفقا لمنطوق المادة (62) " في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء".وفي حال صحة هذا التوصيف القانوني ثمة من يقول إن الصلاحيات الإجرائية للرئيس هي ملك له ولا يمكن وكالتها إلى الحكومة.
- إضافة إلى ذلك ثمة عقبة أخرى تظهر في نص دستوري آخر في المادة 75 "إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالا في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر" وعليه في هذه الحالة بنظر البعض أن المجلس لا يمكنه مناقشة أي تعديل دستوري قبل انتخاب رئيس جديد.
- وإزاء هذا الواقع السالف الذكر ثمة مشكلة في آلية التعديل التي تتيح انتخاب أي شخص يتولى منصبا عاما وفقا لتوصيف الفقرة الثالثة من المادة (49).فما هي المخارج التي يمكن اللجوء إليها عمليا.
رغم أن الدستور اللبناني يعتبر من الدساتير غير المرنة لجهة آليات التعديل الواجب إتباعها ، إلا انه من الناحية العملية يمكن النظر إلى الموضوع من زوايا متعددة ومنها، أن الدستور مهما بلغت درجة جموده يبقى كتابا قابلا للنظر فيه في حال توافقت الأطراف اللبنانية عليه،بمعنى أن مناسبة التعديل الحالي وأزمته ليست دستورية بالمعنى الدستوري بقدر ما هي أزمة سياسية وطنية مرتبطة بقضايا يمكن أن تكون من بينها قضايا دستورية .وعليه فإن الاتفاق السياسي أو بالا حرى تأمين شبه الإجماع على الأسباب الحقيقية للنزاع بين اللبنانيين كفيل بتذليل العقبات الدستورية الظاهر في الدستور.ففي الأساس لو كان ثمة اتفاق لما كان هناك مبررا لتعديل الدستور ولهدف محدد بعينه.
وإذا كان الموضوع يبدو من الوجهة السياسية بهذا الشكل فكيف يمكن إيجاد المخارج القانونية والدستورية في حال الإجماع؟.
إن الاستناد إلى المادة (75) باعتبار المجلس النيابي هيئة انتخابية لا اشتراعية يمكن تذليل عقبتها في مقاربتها للمادة (78) التي تنص على" إذا طرح على المجلس مشروع يتعلق بتعديل الدستور يجب عليه أن يثابر على المناقشة حتى التصويت عليه قبل أي عمل آخر". على أنه لا يمكنه أن يجري مناقشة أو أن يصوت إلا على المواد والمسائل المحددة بصورة واضحة في المشروع الذي يكون قدم له". في هذه الحالة جاء نص المادة بلغة الوجوب أي عدم ترك الخيار له ولتقرير ما يمكن أن يفعله،فمناقشة تعديل الدستور المطروح عليه يجب "المثابرة" أي المتابعة حتى الوصول إلى "التصويت قبل أي عمل آخر".وعليه إذا كانت ثمة جلسة للانتخاب محددة بتاريخ معين،فيمكن بالتالي تحديد جلسة أخرى قبل جلسة الانتخاب لإجراء مناقشة مشروع التعديل ولا يمكن للمجلس في هذه الحال القيام بأي عمل قبل إنجاز التعديل وبالتالي الوصول إلى جلسة الانتخاب وفقا لما هو مقررا سلفا.
أما الجهة الأخرى من الآلية المتعلقة بإعداد المشروع وهي الحكومة فيمكن حلها عبر مسارين على سبيل المثال:
- إذا كانت المعارضة تصرُّ على عدم شرعية الحكومة فان المخرج يمكن أن يكون بطريق غير مباشر عبر انطلاق الآلية عبر مجلس النواب باقتراح عشرة أعضاء من فريقي الموالاة والمعارضة مناصفة،وعبر مشاركة الفريقين لتأمين أغلبية تصويت ثلثي أعضاء المجلس،فتنطلق الآلية ويكون عبر الآلية قد سدت بطريق غير مباشر ثغرة عدم الاعتراف بشرعية الحكومة دون الإعلان عن ذلك تصريحا .
- المسار أو المخرج الثاني تقديم الحكومة استقالتها وتبقى في حال تصريف الأعمال فتتساوى في التكييف القانوني مع الوزراء المستقيلين قبلا ،فتلجأ إلى الطلب من نفسها تعديل الدستور وتعد مشروعه وتقدمه إلى مجلس النواب ليقره.وإذا كانت إحدى الانتقادات التي يمكن أن توجه لهذا المخرج على إن الحكومة في حال تصريف الأعمال لا يخولها العرف والقانون القيام بعمل فارق كتعديل الدستور مثلا، فان نظرية الظروف الاستثنائية هي المخرج باعتبار أن البلاد في وضع يسمح للحكومة اللجوء للمحظورات في حال الضرورات،على قاعدة استمرارية المؤسسات والمرافق العامة.كما ثمة أمر آخر يمكن إتباعه ومتعلق بالمعارضة نفسها عبر عودة الوزراء المستقيلين أو بعضهم للحكومة لتأمين الصفة الشرعية من وجهة نظر المعارضة،فتعد مشروع التعديل وتحيله للمجلس وفي كل الأحوال ستعتبر مستقيلة بعد إقرار التعديل وانتخاب الرئيس وفي هذه الحالة إذا توفرت الإرادة يمكن إتمامها بساعات معدودة إن لم يكن أقل.
إن بلدا كلبنان يمكن أن يشكل سوابق قانونية ودستورية وسياسية في كل لحظة من لحظات تاريخه السياسي،وربما البعض يعيب عليه هذه الميزة التي تبدو غريبة في كل المقاييس، لكن الخيار بين الموت والحياة سيفضل الثانية ولو بكلفة تبدو مربكة لجهة الصدقية السياسية التي تفتقرها مجتمعاتنا بشكل عام.
د.خليل حسين
غريب المفارقات في الحياة السياسية والدستورية في لبنان دوام الاختلاف حول القضية نفسها في معرض كل انتخابات رئاسية لبنانية وما يتعلق بها في غالب الأحيان من تعديل للدستور أو بمعنى آخر إيجاد المخارج الدستورية والقانونية لتتلاءم مع واقع محدد بعينه إن لجهة الشخص أو الظروف التي تحيط بلبنان. والمفارقة الأشد غرابة في ذلك أن المادة (49) المتعلقة بانتخاب الرئيس قد عدلت سبع مرات في خلال انتخابات تمت لعشر رؤساء تعاقبوا على حكم لبنان،والمفارقة العجيبة الغريبة أن الباب الثالث في الدستور اللبناني المتعلق بانتخاب الرئيس وكيفية تعديل الدستور ليس له عنوان بخلاف الأبواب الخمسة الأخرى التي تحمل عناوين محددة.وفي ظل هذا الواقع المعقد حاليا في لبنان من يقوم بالتعديل الدستوري وكيف؟ وما هي المخارج القانونية المتاحة لذلك؟
ثمة جهتان أساسيتان أناط بهما الدستور لتعديل الدستور نفسه،الأولى رئيس الجمهورية عبر الحكومة في نص المادة (76) التي تقول" يمكن إعادة النظر في الدستور بناءً على اقتراح رئيس الجمهورية فتقدم الحكومة مشروع القانون إلى مجلس النواب" .وكذلك لمجلس النواب عبر المادة (77) التي تنص على " يحق لمجلس النواب في خلال عقد عادي وبناء على اقتراح عشرة من أعضائه على الأقل أن يبدي اقتراحه بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانونا بإعادة النظر في الدستور.
على أن المواد والمسائل التي يتناولها الاقتراح يجب تحديدها وذكرها بصورة واضحة، فيبلغ رئيس المجلس ذلك الاقتراح إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون في شأنه، فإذا وافقت الحكومة المجلس على اقتراحه بأكثرية الثلثين وجب عليها أن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر وإذا لم توافق فعليها أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية، فإذا أصر المجلس عليه بأكثرية ثلاثة أرباع مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً، فلرئيس الجمهورية حينئذ أما إجابة المجلس إلى رغبته أو الطلب من مجلس الوزراء حله وإجراء انتخابات جديدة في خلال ثلاثة اشهر، فإذا أصر المجلس الجديد على وجوب التعديل وجب على الحكومة الانصياع وطرح مشروع التعديل في مدة أربعة اشهر."
وبالنظر إلى ما سبق لجهة صاحب الاختصاص في التعديل يمكن إبراز العديد من الملاحظات حول هذا الواقع من بينها:
- إن الحكومة هي من تعد مشروع التعديل بصرف النظر عن الجهة المطالبة به إن كان رئيس الجمهورية أو المجلس النيابي،وفي الحالة القائمة ثمة جهة واحدة هي المجلس النيابي التي يمكنها البدء في تحريك آلية التعديل عبر تبني عشرة نواب اقتراح القانون وموافقة المجلس على الاقتراح بثلثي أعضائه الذين يؤلفونه قانونا،ذلك في معرض شغور سدة الرئاسة الحالية.
- ثمة جهة أخرى مختلف عليها وهي الحكومة التي يعتبر البعض أن صلاحيات رئيس الجمهورية انتقلت إلى الحكومة وفقا لمنطوق المادة (62) " في حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء".وفي حال صحة هذا التوصيف القانوني ثمة من يقول إن الصلاحيات الإجرائية للرئيس هي ملك له ولا يمكن وكالتها إلى الحكومة.
- إضافة إلى ذلك ثمة عقبة أخرى تظهر في نص دستوري آخر في المادة 75 "إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالا في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر" وعليه في هذه الحالة بنظر البعض أن المجلس لا يمكنه مناقشة أي تعديل دستوري قبل انتخاب رئيس جديد.
- وإزاء هذا الواقع السالف الذكر ثمة مشكلة في آلية التعديل التي تتيح انتخاب أي شخص يتولى منصبا عاما وفقا لتوصيف الفقرة الثالثة من المادة (49).فما هي المخارج التي يمكن اللجوء إليها عمليا.
رغم أن الدستور اللبناني يعتبر من الدساتير غير المرنة لجهة آليات التعديل الواجب إتباعها ، إلا انه من الناحية العملية يمكن النظر إلى الموضوع من زوايا متعددة ومنها، أن الدستور مهما بلغت درجة جموده يبقى كتابا قابلا للنظر فيه في حال توافقت الأطراف اللبنانية عليه،بمعنى أن مناسبة التعديل الحالي وأزمته ليست دستورية بالمعنى الدستوري بقدر ما هي أزمة سياسية وطنية مرتبطة بقضايا يمكن أن تكون من بينها قضايا دستورية .وعليه فإن الاتفاق السياسي أو بالا حرى تأمين شبه الإجماع على الأسباب الحقيقية للنزاع بين اللبنانيين كفيل بتذليل العقبات الدستورية الظاهر في الدستور.ففي الأساس لو كان ثمة اتفاق لما كان هناك مبررا لتعديل الدستور ولهدف محدد بعينه.
وإذا كان الموضوع يبدو من الوجهة السياسية بهذا الشكل فكيف يمكن إيجاد المخارج القانونية والدستورية في حال الإجماع؟.
إن الاستناد إلى المادة (75) باعتبار المجلس النيابي هيئة انتخابية لا اشتراعية يمكن تذليل عقبتها في مقاربتها للمادة (78) التي تنص على" إذا طرح على المجلس مشروع يتعلق بتعديل الدستور يجب عليه أن يثابر على المناقشة حتى التصويت عليه قبل أي عمل آخر". على أنه لا يمكنه أن يجري مناقشة أو أن يصوت إلا على المواد والمسائل المحددة بصورة واضحة في المشروع الذي يكون قدم له". في هذه الحالة جاء نص المادة بلغة الوجوب أي عدم ترك الخيار له ولتقرير ما يمكن أن يفعله،فمناقشة تعديل الدستور المطروح عليه يجب "المثابرة" أي المتابعة حتى الوصول إلى "التصويت قبل أي عمل آخر".وعليه إذا كانت ثمة جلسة للانتخاب محددة بتاريخ معين،فيمكن بالتالي تحديد جلسة أخرى قبل جلسة الانتخاب لإجراء مناقشة مشروع التعديل ولا يمكن للمجلس في هذه الحال القيام بأي عمل قبل إنجاز التعديل وبالتالي الوصول إلى جلسة الانتخاب وفقا لما هو مقررا سلفا.
أما الجهة الأخرى من الآلية المتعلقة بإعداد المشروع وهي الحكومة فيمكن حلها عبر مسارين على سبيل المثال:
- إذا كانت المعارضة تصرُّ على عدم شرعية الحكومة فان المخرج يمكن أن يكون بطريق غير مباشر عبر انطلاق الآلية عبر مجلس النواب باقتراح عشرة أعضاء من فريقي الموالاة والمعارضة مناصفة،وعبر مشاركة الفريقين لتأمين أغلبية تصويت ثلثي أعضاء المجلس،فتنطلق الآلية ويكون عبر الآلية قد سدت بطريق غير مباشر ثغرة عدم الاعتراف بشرعية الحكومة دون الإعلان عن ذلك تصريحا .
- المسار أو المخرج الثاني تقديم الحكومة استقالتها وتبقى في حال تصريف الأعمال فتتساوى في التكييف القانوني مع الوزراء المستقيلين قبلا ،فتلجأ إلى الطلب من نفسها تعديل الدستور وتعد مشروعه وتقدمه إلى مجلس النواب ليقره.وإذا كانت إحدى الانتقادات التي يمكن أن توجه لهذا المخرج على إن الحكومة في حال تصريف الأعمال لا يخولها العرف والقانون القيام بعمل فارق كتعديل الدستور مثلا، فان نظرية الظروف الاستثنائية هي المخرج باعتبار أن البلاد في وضع يسمح للحكومة اللجوء للمحظورات في حال الضرورات،على قاعدة استمرارية المؤسسات والمرافق العامة.كما ثمة أمر آخر يمكن إتباعه ومتعلق بالمعارضة نفسها عبر عودة الوزراء المستقيلين أو بعضهم للحكومة لتأمين الصفة الشرعية من وجهة نظر المعارضة،فتعد مشروع التعديل وتحيله للمجلس وفي كل الأحوال ستعتبر مستقيلة بعد إقرار التعديل وانتخاب الرئيس وفي هذه الحالة إذا توفرت الإرادة يمكن إتمامها بساعات معدودة إن لم يكن أقل.
إن بلدا كلبنان يمكن أن يشكل سوابق قانونية ودستورية وسياسية في كل لحظة من لحظات تاريخه السياسي،وربما البعض يعيب عليه هذه الميزة التي تبدو غريبة في كل المقاييس، لكن الخيار بين الموت والحياة سيفضل الثانية ولو بكلفة تبدو مربكة لجهة الصدقية السياسية التي تفتقرها مجتمعاتنا بشكل عام.
الأغلبية الواجب توافرها في انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان
الأغلبية الواجب توافرها في انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان
د.خليل حسين
تنص المادة (49) من الدستور على أن يكون انتخاب رئيس الجمهورية بأغلبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، فهل المقصود بهذه الأغلبية أغلبية أصوات الحاضرين أم أغلبية مجموع الأعضاء الذي يتألف منهم المجلس؟
لم توضح المادة (49) بشكل صريح هذا الامر وبالتالي لم تبين المقصود بالأغلبية هل هي أغلبية الحاضرين أم أغلبية أعضاء المجلس جميعاً،فاذا كان عدد اعضاء مجلس النواب 128. فان انتخاب رئيس الجمهورية في الدورة الأولى وفقا لتوافر غالبية ثلثي الأعضاء الحاضرين وكان عدد الحاضرين 65 عضواً على أساس أن انعقاد المجلس يكون صحيحاً بتوافر هذا العدد فإن ثلثي أصوات الحاضرين يكون 44 صوتاً، أما إذا كان بنيغي توافر ثلثي أصوات الحاضرين فإنه يجب أن يحصل رئيس الجمهورية على 86 صوتاً وهي أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً.
أن الأغلبية المطلوبة تبعاً للمادة (49) هي غالبية أعضاء المجلس جميعاً ومن ثم يستلزم انتخاب رئيس الجمهورية توافر ثلثي الأعضاء الذي يتألف منهم المجلس قانونا.للقرائن التالية:
- لقد وضع الدستور في المادة (34) نصاباً عادياً لقانونية اجتماع المجلس وهو النصاب الذي يتألف من أكثرية عدد أعضائه، وتتألف هذه الأكثرية من النصف زائد واحد. كما حدد أكثرية عادية قانونية للقرارات هي أكثرية الأصوات الممثلة بالحاضرين الذين يؤلفون الأكثرية القانونية.
- اضافة الى الأكثرية العادية لحظ الدستور حالات أوجب فيها توافر غالبيات كبرى تفوقها إما لخطورة الموضوع وتأثيره في النظام وفي مصير البلاد وأما دعم الموضوع بقوة كافية لتأمين استمرار النظام وقيام التوازن بين السلطات ولا يتحقق القصد من ذلك إلا إذا انبثقت هذه الغالبية الاستثنائية من مجموع ممثلي الشعب لا من اكثريتهم العادية والقول بعكسه لا يؤدي إلى الغرض المنشود لأن أكثرية ثلثي الأصوات فيه قد لا تزيد بضعة أصوات عن الأكثرية العادية. - لقد اعتمد الدستور اللبناني النظام البرلماني الذي يقوم على فصل السلطات وعلى انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب وأن عبارة "غالبية الثلثين من مجلس النواب" الواردة في النص لا تفيد المرجع الذي يعود إليه حق الانتخاب بقدر ما تعني أصل النصاب الذي يجب توافره للانتخاب ولو كان أمرها ينحصر بالمرجع الصالح للانتخاب لجاءت العبارة بالصيغة التي تفيده كما يأتي:"ينتخب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب بالاقتراع السري بغالبية ثلثي الأصوات".
- استند من قال بأنه لا يعتبر إلا بالأكثرية العادية إلى المقارنة بين المادة (49) وبين المواد (60) و(70) و (77) و (79) من الدستور من جهة وإلى النص الفني لهذه المادة من جهة ثانية في حين أن المعنى الذي يبدو متوافقاً مع روح الدستور هو أن هذا النصاب إنما يتناول مجموع أعضاء مجلس النواب.
أ. المواد (60) و(70) و (77) و (79) من الدستور:
- تنص الفقرة الثانية من المادة 60 من الدستور العائدة للقواعد المتبعة في كيفية اتهام رئيس الجمهورية بخرق الدستور والخيانة العظمى بأن يتخذ مجلس النواب قراره بالعدد "بغالبية ثلثي مجموع أعضائه".
كما أن المادة (70) المتعلقة بكيفية اتهام الوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو إخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم تنص على أنه لا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا "بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس".
وفي القواعد المنصوص في الفقرة (ب) من الفصل الثالث العائد لتعديل الدستور قضت المادة (77) بوجوب إصدار اقتراح مجلس النواب بتعديل الدستور بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء التي يتألف منها المجلس قانوناً".
وفي المرة الثانية وبعد إعادة مشروع التعديل إلى المجلس إذا لم توافق عليه الحكومة وإن أصر المجلس على مشروعه وجب عليه أن يصدره عندئذ بأكثرية ثلاثة أرباع من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً".
كما أن المادة (79) الواردة في الفقرة (ت) المتعلقة "بأعمال مجلس النواب" قد نصت على انه يجب أن تتألف الأكثرية المطلوبة في حال طرح مشروع يتعلق بتعديل الدستور – من قبل الحكومة- "من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً ليصح التئام المجلس مع الإضافة انه يجب أن يكون التصويت بالغالبية نفسها.
يبدو الاختلاف في هذه النصوص الأربعة في صياغتها ففي حين أن المادتين (60) و (70) تنصان على أغلبية تتألف من مجموع أعضاء مجلس النواب كما تنص المادتان (77) و(79) الأخيرتان بأنه يقتضي أن تتم أكثرية الثلثين والثلاثة أرباع ومن مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً أو "ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً".فبين الفئتين من النصوص الأربعة اختلاف إذن في أشكالها.كما أن الاختلاف وقع بين هاتين الفئتين من النصوص، كذلك قد وقع بينها وبين نص المادة (49) من الدستور.
أن المادة (49) بدلاً من أن تستعمل إحدى الصيغ الواردة في المواد (60)و (70) و (77) و(79) قد اتبعت طريقة أخرى للدلالة على أن النصاب هو في مجموع النواب بنصها على غالبية الثلثين "من مجلس النواب أي من أعضائه كافة".فيتضح إذن أن جميع هذه النصوص قد ارتدت أشكالا مختلفة للتعبير عن قاعدة واحدة هي أن الأكثرية في الأحوال التي وصفتها لا يكتمل إلا بالنسبة إلى مجلس النواب بجميع أعضائه.
ب. النص الفرنسي للمادة (49) من الدستور.
ثمة من أخذ بالاختلاف الواقع بين النص العربي للمادة (49) وبين نصها الفرنسي السابق إذ أن النص الفرنسي قد نظم الاقتراع بأكثرية الثلثين من أصوات suffrage مجلس النواب بينما جاء القول في النص العربي بأن هذا الانتخاب يتم بغالبية الثلثين من مجلس النواب وبعد أن أصبحت اللغة العربية لغة لبنان الرسمية الوحيدة المادة (11) من الدستور اللبناني فيكون النص العربي للمادة (49) النص المعوّل عليه وحده دون النص الفرنسي الذي أصبح لاغياً.
- لتفسير القوانين تفسيراً موضوعياً، قواعد علمية أصبحت شائعة في القانونين الخاص والعام ومنه القانون الدستوري.
استندت الطريقة القديمة في تفسير القوانين أولاً على ما يحتويه النص من العناصر اللغوية والقانونية وإذا أشكل عليهم فهمه وتعذر تطبيقه لجأوا عندئذ إلى الأعمال التحضيرية أو التمهيدية لهذا القانون من تقارير موضوعة قبل صدوره لأجل إصداره ومناقشات برلمانية أو غير برلمانية قد تقدمته.وفي هذه الأعمال التحضيرية كان يتحرى المفسرون عن قصد المشترع عندما اعتزم وضع هذا القانون، وعن الغاية لكل حكم من أحكامه.
وكان لا بد لهذه الطريقة الشكلية الضيقة من أن تؤدى إما إلى الأشكال في معرفة تلك المقاصد لأن المشترع لم يلحظها وإما إلى إعسار في تكييفها وبالتالي في تطبيق القانون الذي ينطوي عليها لأن الزمن قد تطور وأن حالاً جديداً قد ظهر.وبالتالي يبدو القانون غير متوافق مع مقتضيات الزمن وغير متجاوب مع حاجات المجتمع.
ولذلك تحول رجال القانون منذ أوائل هذا القرن إلى طريقة علمية كانت أنجع وأخصب من الأولى تتلخص باعتبار القانون مؤسسة institution اجتماعية أضحت مستقلة عن أصولها التاريخية ولا سيما عن الأسباب التي دعت الشارع إلى وضعها، وهي تحيا حياتها الذاتية فتقوم بوظيفتها الاجتماعية الجوهرية في المجتمع الذي يحيط بها، فتلبي حاجاته وتقدم له ما تتطلبه مشكلاته من حلول ملائمة.
وبما أن الغاية من القانون هي خدمة المجتمع وتذليل متناقضاته فإن الطريقة الواجب إتباعها لإدراك هذه الغاية لم تكن في التعلق تعلقاً شكلياً بعيداً عن الوقائع الاجتماعية بأسباب القانون الأولى التي دفعت إلى إصداره وإنما باستنباط تفسير له يتوخى المجتهد في اعتماده إحقاق الحق وتحكيم العدل والوجدان في إطار المصلحة العامة العليا".
ولتفسير المادة (49) على ضوء تلك القواعد فإنه ينبغي اولا التذكير بما نصت عليه المادة (75) من ذات الدستور من:"أن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية".
هذا النص وحده كافٍ لإزاحة المادة (34) من الدستور عن التطبيق في مجال المادة (49) لأن المادة (34) مرتبطة بقيام المجلس بوظيفته التشريعية في حين أن المادة (49) ترسم له كيفية توليه وظيفته الإضافية وهي انتخاب رئيس الجمهورية المستقلة دستورياً ومنطقياً عن وظيفته التشريعية.
- وقد فرضت المادة (49) صراحة أكثرية خاصة من مجلس النواب بحيث تكون الأغلبية المفروضة للدورة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية الثلثين من هذه الأكثرية أي من عدد أعضاء مجلس النواب.وقد أشار النص بعد ذلك إلى أنه يكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، ولا بد هنا من تطبيق ذات الحكم قياساً واعتبار الأكثرية في الدورات التي تلي مؤلفة من مجلس النواب أيضاً لأن المنطق لا يستسيغ الاختلاف في القاعدة العائدة لحالة دستورية متعاقبة بقيت واحدة في جوهرها.وبعد، فهل من المعقول بل من المصلحة الوطنية أن يأتي رئيس الجمهورية منتخباً بنتيجة اقتراع جاء على أساس النصاب العادي لا شك بأن سيكون معبراً عن إرادة نفر من النواب وممثلاً بالتالي لأقلية من الشعب؟
إن عملية انتخاب رئيس الجمهورية هي من العمليات الأساسية في حياة لبنان لأن الدستور قد أراد أن يكون رئيس الجمهورية رئيساً للدولة وليس لفئة معينة من الناس وبنزعه عن كل مسؤولية برلمانية قد رفعه إلى مصاف الحكم الأعلى لتوحيد كلمة الوطن بين عناصره وأحزابه كافة.
ولأنه شعر بوصية هذه اللحظة التي يتم فيها اختيار الرئيس الأعلى فإن الدستور قد أحاط هذه المهمة بسياج من التدابير الواقية:
- كتحويل المجلس النيابي إلى هيئة انتخابية خصيصاً لهذه الغاية المادة (75).
- وذلك مع وجوب الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر (المادة ذاتها).
- وفرض أجراء هذا الانتخاب في مدد قصيرة المادتان (73 و74).
أن الأكثرية مقررة لانتخاب رئيس الجمهورية هي أكثرية ثلثي مجموع أعضاء المجلس لا ثلثي الأعضاء الحاضرين.
- إن هذا الرأي هو الرأي الأصوب باعتباره يتفق مع النص ومع الغاية من وجوب توافر أكثرية كبيرة في انتخاب الرئيس ليأتي تمثيله للبلاد سنداً للغالبية الكبرى من الشعب".
- أن النص العربي للمادة (49) وهو النص الذي يفيد في معناه أن الغالبية المشترطة تتم بغالبية مجموع عدد أعضاء المجلس ذلك أن هذه المادة قد أوردت عبارة (من مجلس النواب) وهي تفيد في معناها المجلس كهيئة كاملة أي مجموع أعضاء هذا المجلس.
وعليه أن الأكثرية المطلوبة هي ثلثي عدد النواب لأن الغاية من النص هي توافر أكثرية كبيرة في انتخاب رئيس الجمهورية لأن في ذلك تدعيماً لسلطة الرئيس التي أرادها الدستور قوية ومعتد بها.كما بستبعد الأخذ بالنصاب العادي في الانتخابات الرئاسية مما يشكله من مخالفة للمبادئ والأسس التي قام عليها الدستور.كما إن المعنى الأكثر توافقاً مع روح الدستور هو أن هذا النصاب إنما يتناول مجموع أعضاء مجلس النواب الذي يؤلفونه قانوناً أي مجموع عدد النواب الأحياء.
د.خليل حسين
تنص المادة (49) من الدستور على أن يكون انتخاب رئيس الجمهورية بأغلبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، فهل المقصود بهذه الأغلبية أغلبية أصوات الحاضرين أم أغلبية مجموع الأعضاء الذي يتألف منهم المجلس؟
لم توضح المادة (49) بشكل صريح هذا الامر وبالتالي لم تبين المقصود بالأغلبية هل هي أغلبية الحاضرين أم أغلبية أعضاء المجلس جميعاً،فاذا كان عدد اعضاء مجلس النواب 128. فان انتخاب رئيس الجمهورية في الدورة الأولى وفقا لتوافر غالبية ثلثي الأعضاء الحاضرين وكان عدد الحاضرين 65 عضواً على أساس أن انعقاد المجلس يكون صحيحاً بتوافر هذا العدد فإن ثلثي أصوات الحاضرين يكون 44 صوتاً، أما إذا كان بنيغي توافر ثلثي أصوات الحاضرين فإنه يجب أن يحصل رئيس الجمهورية على 86 صوتاً وهي أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً.
أن الأغلبية المطلوبة تبعاً للمادة (49) هي غالبية أعضاء المجلس جميعاً ومن ثم يستلزم انتخاب رئيس الجمهورية توافر ثلثي الأعضاء الذي يتألف منهم المجلس قانونا.للقرائن التالية:
- لقد وضع الدستور في المادة (34) نصاباً عادياً لقانونية اجتماع المجلس وهو النصاب الذي يتألف من أكثرية عدد أعضائه، وتتألف هذه الأكثرية من النصف زائد واحد. كما حدد أكثرية عادية قانونية للقرارات هي أكثرية الأصوات الممثلة بالحاضرين الذين يؤلفون الأكثرية القانونية.
- اضافة الى الأكثرية العادية لحظ الدستور حالات أوجب فيها توافر غالبيات كبرى تفوقها إما لخطورة الموضوع وتأثيره في النظام وفي مصير البلاد وأما دعم الموضوع بقوة كافية لتأمين استمرار النظام وقيام التوازن بين السلطات ولا يتحقق القصد من ذلك إلا إذا انبثقت هذه الغالبية الاستثنائية من مجموع ممثلي الشعب لا من اكثريتهم العادية والقول بعكسه لا يؤدي إلى الغرض المنشود لأن أكثرية ثلثي الأصوات فيه قد لا تزيد بضعة أصوات عن الأكثرية العادية. - لقد اعتمد الدستور اللبناني النظام البرلماني الذي يقوم على فصل السلطات وعلى انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب وأن عبارة "غالبية الثلثين من مجلس النواب" الواردة في النص لا تفيد المرجع الذي يعود إليه حق الانتخاب بقدر ما تعني أصل النصاب الذي يجب توافره للانتخاب ولو كان أمرها ينحصر بالمرجع الصالح للانتخاب لجاءت العبارة بالصيغة التي تفيده كما يأتي:"ينتخب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب بالاقتراع السري بغالبية ثلثي الأصوات".
- استند من قال بأنه لا يعتبر إلا بالأكثرية العادية إلى المقارنة بين المادة (49) وبين المواد (60) و(70) و (77) و (79) من الدستور من جهة وإلى النص الفني لهذه المادة من جهة ثانية في حين أن المعنى الذي يبدو متوافقاً مع روح الدستور هو أن هذا النصاب إنما يتناول مجموع أعضاء مجلس النواب.
أ. المواد (60) و(70) و (77) و (79) من الدستور:
- تنص الفقرة الثانية من المادة 60 من الدستور العائدة للقواعد المتبعة في كيفية اتهام رئيس الجمهورية بخرق الدستور والخيانة العظمى بأن يتخذ مجلس النواب قراره بالعدد "بغالبية ثلثي مجموع أعضائه".
كما أن المادة (70) المتعلقة بكيفية اتهام الوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو إخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم تنص على أنه لا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا "بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس".
وفي القواعد المنصوص في الفقرة (ب) من الفصل الثالث العائد لتعديل الدستور قضت المادة (77) بوجوب إصدار اقتراح مجلس النواب بتعديل الدستور بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء التي يتألف منها المجلس قانوناً".
وفي المرة الثانية وبعد إعادة مشروع التعديل إلى المجلس إذا لم توافق عليه الحكومة وإن أصر المجلس على مشروعه وجب عليه أن يصدره عندئذ بأكثرية ثلاثة أرباع من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً".
كما أن المادة (79) الواردة في الفقرة (ت) المتعلقة "بأعمال مجلس النواب" قد نصت على انه يجب أن تتألف الأكثرية المطلوبة في حال طرح مشروع يتعلق بتعديل الدستور – من قبل الحكومة- "من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً ليصح التئام المجلس مع الإضافة انه يجب أن يكون التصويت بالغالبية نفسها.
يبدو الاختلاف في هذه النصوص الأربعة في صياغتها ففي حين أن المادتين (60) و (70) تنصان على أغلبية تتألف من مجموع أعضاء مجلس النواب كما تنص المادتان (77) و(79) الأخيرتان بأنه يقتضي أن تتم أكثرية الثلثين والثلاثة أرباع ومن مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً أو "ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً".فبين الفئتين من النصوص الأربعة اختلاف إذن في أشكالها.كما أن الاختلاف وقع بين هاتين الفئتين من النصوص، كذلك قد وقع بينها وبين نص المادة (49) من الدستور.
أن المادة (49) بدلاً من أن تستعمل إحدى الصيغ الواردة في المواد (60)و (70) و (77) و(79) قد اتبعت طريقة أخرى للدلالة على أن النصاب هو في مجموع النواب بنصها على غالبية الثلثين "من مجلس النواب أي من أعضائه كافة".فيتضح إذن أن جميع هذه النصوص قد ارتدت أشكالا مختلفة للتعبير عن قاعدة واحدة هي أن الأكثرية في الأحوال التي وصفتها لا يكتمل إلا بالنسبة إلى مجلس النواب بجميع أعضائه.
ب. النص الفرنسي للمادة (49) من الدستور.
ثمة من أخذ بالاختلاف الواقع بين النص العربي للمادة (49) وبين نصها الفرنسي السابق إذ أن النص الفرنسي قد نظم الاقتراع بأكثرية الثلثين من أصوات suffrage مجلس النواب بينما جاء القول في النص العربي بأن هذا الانتخاب يتم بغالبية الثلثين من مجلس النواب وبعد أن أصبحت اللغة العربية لغة لبنان الرسمية الوحيدة المادة (11) من الدستور اللبناني فيكون النص العربي للمادة (49) النص المعوّل عليه وحده دون النص الفرنسي الذي أصبح لاغياً.
- لتفسير القوانين تفسيراً موضوعياً، قواعد علمية أصبحت شائعة في القانونين الخاص والعام ومنه القانون الدستوري.
استندت الطريقة القديمة في تفسير القوانين أولاً على ما يحتويه النص من العناصر اللغوية والقانونية وإذا أشكل عليهم فهمه وتعذر تطبيقه لجأوا عندئذ إلى الأعمال التحضيرية أو التمهيدية لهذا القانون من تقارير موضوعة قبل صدوره لأجل إصداره ومناقشات برلمانية أو غير برلمانية قد تقدمته.وفي هذه الأعمال التحضيرية كان يتحرى المفسرون عن قصد المشترع عندما اعتزم وضع هذا القانون، وعن الغاية لكل حكم من أحكامه.
وكان لا بد لهذه الطريقة الشكلية الضيقة من أن تؤدى إما إلى الأشكال في معرفة تلك المقاصد لأن المشترع لم يلحظها وإما إلى إعسار في تكييفها وبالتالي في تطبيق القانون الذي ينطوي عليها لأن الزمن قد تطور وأن حالاً جديداً قد ظهر.وبالتالي يبدو القانون غير متوافق مع مقتضيات الزمن وغير متجاوب مع حاجات المجتمع.
ولذلك تحول رجال القانون منذ أوائل هذا القرن إلى طريقة علمية كانت أنجع وأخصب من الأولى تتلخص باعتبار القانون مؤسسة institution اجتماعية أضحت مستقلة عن أصولها التاريخية ولا سيما عن الأسباب التي دعت الشارع إلى وضعها، وهي تحيا حياتها الذاتية فتقوم بوظيفتها الاجتماعية الجوهرية في المجتمع الذي يحيط بها، فتلبي حاجاته وتقدم له ما تتطلبه مشكلاته من حلول ملائمة.
وبما أن الغاية من القانون هي خدمة المجتمع وتذليل متناقضاته فإن الطريقة الواجب إتباعها لإدراك هذه الغاية لم تكن في التعلق تعلقاً شكلياً بعيداً عن الوقائع الاجتماعية بأسباب القانون الأولى التي دفعت إلى إصداره وإنما باستنباط تفسير له يتوخى المجتهد في اعتماده إحقاق الحق وتحكيم العدل والوجدان في إطار المصلحة العامة العليا".
ولتفسير المادة (49) على ضوء تلك القواعد فإنه ينبغي اولا التذكير بما نصت عليه المادة (75) من ذات الدستور من:"أن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية".
هذا النص وحده كافٍ لإزاحة المادة (34) من الدستور عن التطبيق في مجال المادة (49) لأن المادة (34) مرتبطة بقيام المجلس بوظيفته التشريعية في حين أن المادة (49) ترسم له كيفية توليه وظيفته الإضافية وهي انتخاب رئيس الجمهورية المستقلة دستورياً ومنطقياً عن وظيفته التشريعية.
- وقد فرضت المادة (49) صراحة أكثرية خاصة من مجلس النواب بحيث تكون الأغلبية المفروضة للدورة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية الثلثين من هذه الأكثرية أي من عدد أعضاء مجلس النواب.وقد أشار النص بعد ذلك إلى أنه يكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، ولا بد هنا من تطبيق ذات الحكم قياساً واعتبار الأكثرية في الدورات التي تلي مؤلفة من مجلس النواب أيضاً لأن المنطق لا يستسيغ الاختلاف في القاعدة العائدة لحالة دستورية متعاقبة بقيت واحدة في جوهرها.وبعد، فهل من المعقول بل من المصلحة الوطنية أن يأتي رئيس الجمهورية منتخباً بنتيجة اقتراع جاء على أساس النصاب العادي لا شك بأن سيكون معبراً عن إرادة نفر من النواب وممثلاً بالتالي لأقلية من الشعب؟
إن عملية انتخاب رئيس الجمهورية هي من العمليات الأساسية في حياة لبنان لأن الدستور قد أراد أن يكون رئيس الجمهورية رئيساً للدولة وليس لفئة معينة من الناس وبنزعه عن كل مسؤولية برلمانية قد رفعه إلى مصاف الحكم الأعلى لتوحيد كلمة الوطن بين عناصره وأحزابه كافة.
ولأنه شعر بوصية هذه اللحظة التي يتم فيها اختيار الرئيس الأعلى فإن الدستور قد أحاط هذه المهمة بسياج من التدابير الواقية:
- كتحويل المجلس النيابي إلى هيئة انتخابية خصيصاً لهذه الغاية المادة (75).
- وذلك مع وجوب الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر (المادة ذاتها).
- وفرض أجراء هذا الانتخاب في مدد قصيرة المادتان (73 و74).
أن الأكثرية مقررة لانتخاب رئيس الجمهورية هي أكثرية ثلثي مجموع أعضاء المجلس لا ثلثي الأعضاء الحاضرين.
- إن هذا الرأي هو الرأي الأصوب باعتباره يتفق مع النص ومع الغاية من وجوب توافر أكثرية كبيرة في انتخاب الرئيس ليأتي تمثيله للبلاد سنداً للغالبية الكبرى من الشعب".
- أن النص العربي للمادة (49) وهو النص الذي يفيد في معناه أن الغالبية المشترطة تتم بغالبية مجموع عدد أعضاء المجلس ذلك أن هذه المادة قد أوردت عبارة (من مجلس النواب) وهي تفيد في معناها المجلس كهيئة كاملة أي مجموع أعضاء هذا المجلس.
وعليه أن الأكثرية المطلوبة هي ثلثي عدد النواب لأن الغاية من النص هي توافر أكثرية كبيرة في انتخاب رئيس الجمهورية لأن في ذلك تدعيماً لسلطة الرئيس التي أرادها الدستور قوية ومعتد بها.كما بستبعد الأخذ بالنصاب العادي في الانتخابات الرئاسية مما يشكله من مخالفة للمبادئ والأسس التي قام عليها الدستور.كما إن المعنى الأكثر توافقاً مع روح الدستور هو أن هذا النصاب إنما يتناول مجموع أعضاء مجلس النواب الذي يؤلفونه قانوناً أي مجموع عدد النواب الأحياء.
التسميات:
دراسات دستورية,
قضايا لبنانية
25 ايلول : لبنان يبحث عن نصاب في دستور غامض
25 ايلول : لبنان يبحث عن نصاب في دستور غامض
د.خليل حسين
يدخل لبنان رسمياً في 25 أيلول (سبتمبر) الجاري مرحلة الاستحقاق الرئاسي لانتخاب رئيس يخلف الرئيس الحالي إميل لحود.وعلى الرغم من إعلان رئيس المجلس النيابي نبيه بري ، أن جلسة انتخاب الرئيس ستعقد في اليوم الأول من المهلة الدستورية، فإن تأكيده أن لا جلسة من دون حضور ثلثي عدد النواب، يفاقم الجدل بين فريقي الأكثرية والمعارضة حول النصاب القانوني لعقد الجلسة. ففي حين يرى فريق الأكثرية إمكان إجراء انتخابات بحضور نصف عدد النواب زائداً واحداً وأن المادة 49 من الدستور لا تحدد النصاب بثلثي النواب (إذ تنص على أن يحصل المرشح في الدورة الأولى على أصوات ثلثي نواب المجلس وعلى النصف زائداً واحداً في الدورة الثانية ليصبح رئيساً منتخباً)، يرى فريق المعارضة استحالة حصول هذا الأمر، متذرعاً بجلستي الانتخاب عامي 1982 و1976 عندما تأجل عقدها ساعات في كل مرة لتأمين نصاب الثلثين، وانتخابات العام 1988 التي لم تعقد لعدم تأمين النصاب.
ثمة أزمات كثيرة شهدتها ولادات الرؤساء اللبنانيين من انتخاب الرئيس سليمان فرنجية قبل الحرب الأهلية (1970) حتى الرئيس لحود، التي جاءت كلها متعثرة، إما بسبب التدخلات الخارجية أو بسبب الاقتتال الداخلي والاحتلال الإسرائيلي أو كل هذه العوامل معا.فمنذ العام 1970 حتى 2007، مرت الانتخابات الرئاسية بمراحل كثيرة: حوادث مفتعلة لمنع النواب من الحضور وتطيير النصاب، خطط سرية للاتفاق على مكان انتخاب آمن بعيداً من مرمى نيران أحد المتضررين من انتخاب رئيس جديد، وتعديلات تمارس على الدستور اللبناني لمصلحة أشخاص صاروا رؤساء.
لقد شهدت جلسة انتخاب الرئيس سليمان فرنجية في 17 آب (أغسطس) 1970 ولادة ما سميَّ بأزمة الثلثين. ففي تلك الجلسة، حضر جميع النواب الذين كان يتشكل منهم المجلس (99 نائباً) . حاز إلياس سركيس 45 صوتاً، في مقابل 38 لفرنجية. غير أن واحداً من المرشحين لم يحصد الثلثين. انتقل المرشحان الى دورة ثانية ألغيت بدورها، بسبب وجود ورقة إضافية على عدد النواب الـ 99. في الدورة الثالثة فاز فرنجية بـ 50 صوتاً، أي بفارق صوت واحد وبنسبة النصف زائد واحد.
بعد عامين من بدء ولاية فرنجية انتُخب المجلس النيابي الأخير قبل اندلاع الحرب الأهلية، تألف المجلس من 99 نائباً، وكان يجدد له تلقائياً كل أربع سنوات بسبب تعذر إجراء انتخابات نيابية جديدة في ظروف الحرب. وتفاقمت الأوضاع الأمنية وتناقص عدد النواب لأسباب عدة، وصار عدد النواب الكافي لتأمين نصاب الثلثين يتأرجح بين جلسة وأخرى.
في 22 أيلول 1976، وبعد شهور على انطلاقة الحرب، حل موعد انتهاء ولاية فرنجية. وسبقت ذلك وساطات أقنعته بتعديل المادة 73 من الدستور، بهدف إجراء انتخابات مبكرة عن المهلة الأصلية في الدستور. وفي 10 نيسان (ابريل) صوّت المجلس على التعديل، ليجتمع مجلس النواب في 8 أيار (مايو) 1976، في ظل تدهور أمني عنيف وظروف أمنية صعبة في مقره المؤقت في قصر منصور لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وأصرَّ رئيس المجلس آنذاك كامل الأسعد على حضور ثلثي عدد النواب، أي 66 نائباً للشروع في الاقتراع.فانتظر رئيس المجلس 3 ساعات حتى تمكن 67 نائباً من الوصول تحت القصف وأعمال القنص. ونال إلياس سركيس، المرشح الوحيد، 63 صوتاً ووجدت خمس أوراق بيض. هنا أيضاً لم يحصل أي من المرشحين على أصوات الثلثين من الدورة الأولى، فجرت عملية اقتراع ثانية. ونال سركيس 66 صوتاً، أعلن بعدها الأسعد فوزه بالرئاسة. في أيلول 1982 أنهى سركيس ولايته وسط اجتياح إسرائيلي لنصف الأراضي اللبنانية.
وفي 19 آب 1982 دعا الأسعد الى جلسة انتخاب في قصر منصور. في تلك الفترة، كان توفي قتلاً أو لأسباب طبيعية خمسة نواب وصار المجلس مؤلفاً من 94 نائباً. في هذه الجلسة عادت أزمة نصاب الثلثين مرة جديدة، واحتسب المجلس استناداً الى فتوى جورج فيديل نصاب المجلس بعدد النوات الأحياء. وتقرر بالنتيجة نصاب ثلثي النواب الأحياء بـ 62 نائباً.
في تلك الجلسة، لم تفلح الضغوط التي مورست على النواب في تأمين حضور 62 نائباً، فأعلن الأسعد موعداً جديداً هو 23 آب، ونقل مكان الانعقاد الى المدرسة الحربية في ثكنة الفياضية لأسباب أمنية. وكانت المنطقة ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي.
في 23 آب 1982، موعد الجلسة الجديدة، كان يؤتى بالنواب من منازلهم لتأمين نصاب الثلثين. وبعد تأخر عقد الجلسة ساعتين ونصف الساعة حضر 62 نائباً، من أصل 94. بعد اكتمال النصاب، انتخب بشير الجميل رئيساً بـ 57 صوتاً، ووجدت في الصندوق خمس أوراق بيضاء. وفي 14 أيلول وقبل تسلمه مهماته بتسعة أيام، أودت عبوة ناسفة بحياة الرئيس المنتخب في الأشرفية.
بعد أسبوع واحد على الاغتيال في 21 أيلول 1982 اجتمع المجلس النيابي وانتخب شقيقه أمين الجميل رئيساً بأكثرية 77 صوتاً في مقابل 3 أوراق بيضاء، في ما بدا شبه إجماع. وفي 22 أيلول 1988، انتهت ولايته بعد إحداث أول فراغ دستوري مر به لبنان، إذ ظل سليم الحص يمارس مهماته رئيساً للحكومة، فيما ظل قائد الجيش ميشال عون في قصر بعبدا رئيساً لحكومة عسكرية من وزيرين ضابطين في الجيش.
وفي ظل أزمة الفراغ التي كانت تلوح في الأفق، حدد رئيس المجلس آنذاك، حسين الحسيني موعد جلسة انتخاب الرئيس في 18 آب 1988، وترشح سليمان فرنجية الى المنصب. في موعد الجلسة، مورست تهديدات على النواب لمنعهم من تأمين نصاب الثلثين الذي صار 53 نائباً. في ذلك اليوم وصل الى المجلس النيابي 38 نائباً فقط. ولم يتأمن النصاب، فرفعت الجلسة الى موعد آخر.عاد الحسيني وحدد 22 أيلول، قبل يوم واحد من انتهاء ولاية الجميل، موعداً لانتخاب رئيس جديد، في مقر المجلس القديم في ساحة النجمة، إلا أن النواب المسيحيين رفضوا الحضور وأصروا على قصر منصور. وتعطلت جلسة 22 أيلول، بسبب عدم تأمين نصاب الثلثين.
بعد نحو سنة من الفراغ الدستوري، أبصر اتفاق الطائف النور. شعر عون بالارتباك ودعا حكومته الى الاجتماع وعقد لقاءات مع حلفائه. آنذاك، بدأ المجلس النيابي التحضير لانتخاب الرئيس، وصار نصاب الثلثين 48 نائباً (من أصل 72 نائباً يتشكل منهم المجلس)، وهو الأدنى منذ بدء الحرب. وظلت عقدة المكان قائمة خوفاً من التعطيل، إذ ان عون كان رفع سقف تهديداته للنواب.
اتخذ رئيس المجلس تحضيرات سرية، وتبلغ النواب بأن يجتمعوا في منزل رئيس المجلس حسين الحسيني، ليتوجهوا الى مطار القليعات في الشمال من طريق البقاع، على أن يصل النواب الى القليعات عبر دمشق. وهكذا حصل. في تلك الجلسة حضر 58 نائباً، أي أكثر من الثلثين. وفي الدورة الأولى، نال رينيه معوض 35 صوتاً، في مقابل 16 صوتاً لجورج سعادة و5 أصوات الياس الهراوي وورقتين بيضاوين، ولم يحرز أي منهم ثلثي الأصوات. في الدورة الثانية انتخب معوض بأكثرية 52 صوتاً، وست أوراق بيضاء، بعدما انسحب له سعادة والهراوي، وكان انسحب قبلاً مخايل الضاهر وسليمان فرنجية.
وبعد 17 يوماً على انتخابه وفي يوم عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) اغتيل معوض، وبدا للوهلة الأولى أن لبنان يسير في اتجاه فراغ آخر.وبعد ساعات من اغتيال معوض، وجّه الرئيس الحسيني دعوة لانتخاب رئيس جديد. عقدت الجلسة في فندق «بارك أوتيل» في شتورا، وحضر النواب. عند الثامنة من مساء 24 تشرين الثاني 1989 انتخب الياس الهراوي رئيساً بـ47 صوتاً من أصل 52 نائباً شاركوا في الجلسة. ولم يترشح أحد ضده.
مفارقتان اخريتان جرتا لمناسبة تعديل الدستور الاولى عام 1995 عدلت المادة 49 من الدستور اللبناني التي تحدد ولاية الرئيس بست سنوات. ومددت ولاية الهراوي 3 سنوات أخرى، حتى 24 تشرين الثاني 1998.
وعلى رغم أن التعديل للهراوي نص على أنه «لمرة واحدة وبصورة استثنائية»، فإن تعديلاً جديداً ما لبث أن أطل عام 1998 و «لمرة واحدة استثنائية»، مجيزاً انتخاب رئيس الجمهورية من موظفي الفئة الأولى، فانتخب قائد الجيش إميل لحود رئيساً في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1998 بإجماع النواب الـ 118 الحاضرين، وبغياب 10 نواب. وبعد ستة أعوام، أي عام 2004 عدل الدستور مرة جديدة و «لمرة واحدة استثنائية»، ومدد للحود ثلاث سنوات إضافية في ظل معارضة شديدة.
في 24 تشرين الثاني تنتهي ولاية لحود، وقبلها بعشرة أيام تنتهي المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للبلاد. وحتى ذلك الحين، تبقى المراهنة على العرف السائد في لبنان، بأن تسوية انتخاب رئيس جديد تتم عادة في ربع الساعة الأخير.
ثمة مفارقات كثيرة ومتنوعة في الحياة السياسية اللبنانسة المتعلقة بانتخابات الرئاسة الاولى،ابرزها ان نادرا ما قرر اللبنانيون وحدهم رئيسهم،بل ظل موضع تفاهم وتجاذب اقليمي ودولي،اضافة ان كل محطة من محطاتها كانت مناسبة لتفجير أزمات وطنية حادة وصلت في بعضها الى حروب اهلية،فهل تكررت هذه المفارقات في 25 ايلول ،ان ما يبدو حتى الآن ان هذا التاريخ كان "بروفا اولية لما يمكن ان يؤكد المفارقات السالفة الذكر!
د.خليل حسين
يدخل لبنان رسمياً في 25 أيلول (سبتمبر) الجاري مرحلة الاستحقاق الرئاسي لانتخاب رئيس يخلف الرئيس الحالي إميل لحود.وعلى الرغم من إعلان رئيس المجلس النيابي نبيه بري ، أن جلسة انتخاب الرئيس ستعقد في اليوم الأول من المهلة الدستورية، فإن تأكيده أن لا جلسة من دون حضور ثلثي عدد النواب، يفاقم الجدل بين فريقي الأكثرية والمعارضة حول النصاب القانوني لعقد الجلسة. ففي حين يرى فريق الأكثرية إمكان إجراء انتخابات بحضور نصف عدد النواب زائداً واحداً وأن المادة 49 من الدستور لا تحدد النصاب بثلثي النواب (إذ تنص على أن يحصل المرشح في الدورة الأولى على أصوات ثلثي نواب المجلس وعلى النصف زائداً واحداً في الدورة الثانية ليصبح رئيساً منتخباً)، يرى فريق المعارضة استحالة حصول هذا الأمر، متذرعاً بجلستي الانتخاب عامي 1982 و1976 عندما تأجل عقدها ساعات في كل مرة لتأمين نصاب الثلثين، وانتخابات العام 1988 التي لم تعقد لعدم تأمين النصاب.
ثمة أزمات كثيرة شهدتها ولادات الرؤساء اللبنانيين من انتخاب الرئيس سليمان فرنجية قبل الحرب الأهلية (1970) حتى الرئيس لحود، التي جاءت كلها متعثرة، إما بسبب التدخلات الخارجية أو بسبب الاقتتال الداخلي والاحتلال الإسرائيلي أو كل هذه العوامل معا.فمنذ العام 1970 حتى 2007، مرت الانتخابات الرئاسية بمراحل كثيرة: حوادث مفتعلة لمنع النواب من الحضور وتطيير النصاب، خطط سرية للاتفاق على مكان انتخاب آمن بعيداً من مرمى نيران أحد المتضررين من انتخاب رئيس جديد، وتعديلات تمارس على الدستور اللبناني لمصلحة أشخاص صاروا رؤساء.
لقد شهدت جلسة انتخاب الرئيس سليمان فرنجية في 17 آب (أغسطس) 1970 ولادة ما سميَّ بأزمة الثلثين. ففي تلك الجلسة، حضر جميع النواب الذين كان يتشكل منهم المجلس (99 نائباً) . حاز إلياس سركيس 45 صوتاً، في مقابل 38 لفرنجية. غير أن واحداً من المرشحين لم يحصد الثلثين. انتقل المرشحان الى دورة ثانية ألغيت بدورها، بسبب وجود ورقة إضافية على عدد النواب الـ 99. في الدورة الثالثة فاز فرنجية بـ 50 صوتاً، أي بفارق صوت واحد وبنسبة النصف زائد واحد.
بعد عامين من بدء ولاية فرنجية انتُخب المجلس النيابي الأخير قبل اندلاع الحرب الأهلية، تألف المجلس من 99 نائباً، وكان يجدد له تلقائياً كل أربع سنوات بسبب تعذر إجراء انتخابات نيابية جديدة في ظروف الحرب. وتفاقمت الأوضاع الأمنية وتناقص عدد النواب لأسباب عدة، وصار عدد النواب الكافي لتأمين نصاب الثلثين يتأرجح بين جلسة وأخرى.
في 22 أيلول 1976، وبعد شهور على انطلاقة الحرب، حل موعد انتهاء ولاية فرنجية. وسبقت ذلك وساطات أقنعته بتعديل المادة 73 من الدستور، بهدف إجراء انتخابات مبكرة عن المهلة الأصلية في الدستور. وفي 10 نيسان (ابريل) صوّت المجلس على التعديل، ليجتمع مجلس النواب في 8 أيار (مايو) 1976، في ظل تدهور أمني عنيف وظروف أمنية صعبة في مقره المؤقت في قصر منصور لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وأصرَّ رئيس المجلس آنذاك كامل الأسعد على حضور ثلثي عدد النواب، أي 66 نائباً للشروع في الاقتراع.فانتظر رئيس المجلس 3 ساعات حتى تمكن 67 نائباً من الوصول تحت القصف وأعمال القنص. ونال إلياس سركيس، المرشح الوحيد، 63 صوتاً ووجدت خمس أوراق بيض. هنا أيضاً لم يحصل أي من المرشحين على أصوات الثلثين من الدورة الأولى، فجرت عملية اقتراع ثانية. ونال سركيس 66 صوتاً، أعلن بعدها الأسعد فوزه بالرئاسة. في أيلول 1982 أنهى سركيس ولايته وسط اجتياح إسرائيلي لنصف الأراضي اللبنانية.
وفي 19 آب 1982 دعا الأسعد الى جلسة انتخاب في قصر منصور. في تلك الفترة، كان توفي قتلاً أو لأسباب طبيعية خمسة نواب وصار المجلس مؤلفاً من 94 نائباً. في هذه الجلسة عادت أزمة نصاب الثلثين مرة جديدة، واحتسب المجلس استناداً الى فتوى جورج فيديل نصاب المجلس بعدد النوات الأحياء. وتقرر بالنتيجة نصاب ثلثي النواب الأحياء بـ 62 نائباً.
في تلك الجلسة، لم تفلح الضغوط التي مورست على النواب في تأمين حضور 62 نائباً، فأعلن الأسعد موعداً جديداً هو 23 آب، ونقل مكان الانعقاد الى المدرسة الحربية في ثكنة الفياضية لأسباب أمنية. وكانت المنطقة ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي.
في 23 آب 1982، موعد الجلسة الجديدة، كان يؤتى بالنواب من منازلهم لتأمين نصاب الثلثين. وبعد تأخر عقد الجلسة ساعتين ونصف الساعة حضر 62 نائباً، من أصل 94. بعد اكتمال النصاب، انتخب بشير الجميل رئيساً بـ 57 صوتاً، ووجدت في الصندوق خمس أوراق بيضاء. وفي 14 أيلول وقبل تسلمه مهماته بتسعة أيام، أودت عبوة ناسفة بحياة الرئيس المنتخب في الأشرفية.
بعد أسبوع واحد على الاغتيال في 21 أيلول 1982 اجتمع المجلس النيابي وانتخب شقيقه أمين الجميل رئيساً بأكثرية 77 صوتاً في مقابل 3 أوراق بيضاء، في ما بدا شبه إجماع. وفي 22 أيلول 1988، انتهت ولايته بعد إحداث أول فراغ دستوري مر به لبنان، إذ ظل سليم الحص يمارس مهماته رئيساً للحكومة، فيما ظل قائد الجيش ميشال عون في قصر بعبدا رئيساً لحكومة عسكرية من وزيرين ضابطين في الجيش.
وفي ظل أزمة الفراغ التي كانت تلوح في الأفق، حدد رئيس المجلس آنذاك، حسين الحسيني موعد جلسة انتخاب الرئيس في 18 آب 1988، وترشح سليمان فرنجية الى المنصب. في موعد الجلسة، مورست تهديدات على النواب لمنعهم من تأمين نصاب الثلثين الذي صار 53 نائباً. في ذلك اليوم وصل الى المجلس النيابي 38 نائباً فقط. ولم يتأمن النصاب، فرفعت الجلسة الى موعد آخر.عاد الحسيني وحدد 22 أيلول، قبل يوم واحد من انتهاء ولاية الجميل، موعداً لانتخاب رئيس جديد، في مقر المجلس القديم في ساحة النجمة، إلا أن النواب المسيحيين رفضوا الحضور وأصروا على قصر منصور. وتعطلت جلسة 22 أيلول، بسبب عدم تأمين نصاب الثلثين.
بعد نحو سنة من الفراغ الدستوري، أبصر اتفاق الطائف النور. شعر عون بالارتباك ودعا حكومته الى الاجتماع وعقد لقاءات مع حلفائه. آنذاك، بدأ المجلس النيابي التحضير لانتخاب الرئيس، وصار نصاب الثلثين 48 نائباً (من أصل 72 نائباً يتشكل منهم المجلس)، وهو الأدنى منذ بدء الحرب. وظلت عقدة المكان قائمة خوفاً من التعطيل، إذ ان عون كان رفع سقف تهديداته للنواب.
اتخذ رئيس المجلس تحضيرات سرية، وتبلغ النواب بأن يجتمعوا في منزل رئيس المجلس حسين الحسيني، ليتوجهوا الى مطار القليعات في الشمال من طريق البقاع، على أن يصل النواب الى القليعات عبر دمشق. وهكذا حصل. في تلك الجلسة حضر 58 نائباً، أي أكثر من الثلثين. وفي الدورة الأولى، نال رينيه معوض 35 صوتاً، في مقابل 16 صوتاً لجورج سعادة و5 أصوات الياس الهراوي وورقتين بيضاوين، ولم يحرز أي منهم ثلثي الأصوات. في الدورة الثانية انتخب معوض بأكثرية 52 صوتاً، وست أوراق بيضاء، بعدما انسحب له سعادة والهراوي، وكان انسحب قبلاً مخايل الضاهر وسليمان فرنجية.
وبعد 17 يوماً على انتخابه وفي يوم عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) اغتيل معوض، وبدا للوهلة الأولى أن لبنان يسير في اتجاه فراغ آخر.وبعد ساعات من اغتيال معوض، وجّه الرئيس الحسيني دعوة لانتخاب رئيس جديد. عقدت الجلسة في فندق «بارك أوتيل» في شتورا، وحضر النواب. عند الثامنة من مساء 24 تشرين الثاني 1989 انتخب الياس الهراوي رئيساً بـ47 صوتاً من أصل 52 نائباً شاركوا في الجلسة. ولم يترشح أحد ضده.
مفارقتان اخريتان جرتا لمناسبة تعديل الدستور الاولى عام 1995 عدلت المادة 49 من الدستور اللبناني التي تحدد ولاية الرئيس بست سنوات. ومددت ولاية الهراوي 3 سنوات أخرى، حتى 24 تشرين الثاني 1998.
وعلى رغم أن التعديل للهراوي نص على أنه «لمرة واحدة وبصورة استثنائية»، فإن تعديلاً جديداً ما لبث أن أطل عام 1998 و «لمرة واحدة استثنائية»، مجيزاً انتخاب رئيس الجمهورية من موظفي الفئة الأولى، فانتخب قائد الجيش إميل لحود رئيساً في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1998 بإجماع النواب الـ 118 الحاضرين، وبغياب 10 نواب. وبعد ستة أعوام، أي عام 2004 عدل الدستور مرة جديدة و «لمرة واحدة استثنائية»، ومدد للحود ثلاث سنوات إضافية في ظل معارضة شديدة.
في 24 تشرين الثاني تنتهي ولاية لحود، وقبلها بعشرة أيام تنتهي المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للبلاد. وحتى ذلك الحين، تبقى المراهنة على العرف السائد في لبنان، بأن تسوية انتخاب رئيس جديد تتم عادة في ربع الساعة الأخير.
ثمة مفارقات كثيرة ومتنوعة في الحياة السياسية اللبنانسة المتعلقة بانتخابات الرئاسة الاولى،ابرزها ان نادرا ما قرر اللبنانيون وحدهم رئيسهم،بل ظل موضع تفاهم وتجاذب اقليمي ودولي،اضافة ان كل محطة من محطاتها كانت مناسبة لتفجير أزمات وطنية حادة وصلت في بعضها الى حروب اهلية،فهل تكررت هذه المفارقات في 25 ايلول ،ان ما يبدو حتى الآن ان هذا التاريخ كان "بروفا اولية لما يمكن ان يؤكد المفارقات السالفة الذكر!
التسميات:
دراسات دستورية,
قضايا لبنانية
الدستور ونظام الحكم في لبنان
الدستور ونظام الحكم في لبنان:
دراسة مقارنة لعهدي الجمهوريتين
غني عن سرد الوقائع والاحداث التي ظهرت في لبنان حول النظام السياسي – الدستوري فيه، حيث امتزجت مختلف اسباب النزاعات العقائدية والسياسية، الاجتماعية والاقتصادية؛ ورغم ان عدم الاتفاق حول الاسباب الحقيقية لهذه النزاعات بين الاطراف اللبنانية، الا ان تحولات كبرى قد ظهرت مؤخرا، لا سيما في النصف الثاني من السبعينيات، اذ برزت بعض ملامح الاتفاق والنقاط المشتركة في اسباب بعض الازمات، وقد تجلت في اشارة معظم الاطراف، الى ان النظام السياسي – الدستوري الذي اتبع، كان احد الاسباب الداخلية الوجيهة لمختلف الازمات.
لقد اعطت غالبية الاطراف اللبنانية، اسلامية كانت ام مسيحية، تقليدية محافظة ام تقدمية تغييرية، اشارات صريحة بأن دستور 1926 وميثاق 1943 ، لم يعودا صالحين كصيغ لادارة شؤون لبنان، نظرا للتحولات العميقة التي طرأت على بنية المجتمع اللبناني في جوانبه المختلفة. ورغم ذلك التوافق، فإن الوصول لصيغة تسسوية لطبيعة والية النظام الدستوري في لبنان لم يكن أمرا سهلا. فقد جرت محاولات عديدة لصياغة جديدة لهذا النظام، ان لجهة الحكم، او الاطراف الحزبية الموالية او المعارضة، او غيرها من المؤسسات السياسية – الاجتماعية، الا ان مجمل هذه المشاريع لم تر النور لسبب او لآخر، اذ كانت الازمات الوطنية سرعان ما تتحول الى صراعات حادة تغلق الباب امام أي تسوية ممكنة؛ بل كان كل مشروع بحد ذاته يشكل سببا الى الانتقال لمرحلة أشد عنفا من المراحل التي سبقته؛ وبدلا من ان يكون حلا يصبح مع الوقت أزمة بتداخلاته مع قضايا اخرى لا تتعلق بالنظام السياسي – الدستوري.
أولا : نظام الحكم في الجمهورية الاولى
رغم ان كل عهد رئاسي تعاقب على الحكم في لبنان، اختاررموزا سياسية معينة لمباشرة الحكم، ان كان على مستوى رئاسة الحكومة او الوزراء ؛ ورغم ان كل عهد رئاسي طبع ولايته بسمات عامة ميَّزته عن غيره ببعض الجوانب، فإن جميع تلك العهود ارتكزت في الاساس على مصدرين ثابتين لممارسة الحكم: الاول دستور 1926 وتعديلاته عام 1943، والميثاق الوطني او صيغة 1943 .
غير ان هذين المصدرين لممارسة السلطة، لم يكونا في الواقع مصدرين جامدين لجهة تأويل الصلاحيات بين اطراف الحكم، خصوصا بالنسبة للمصدر الثاني (الميثاق). اذ ان هذا الاخير لعب دورا بارزا في تليين آلية الحكم والتعاون بين رأسي السلطة التنفيذية ( رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة). وتأكيدا على ذلك فقد تمسّك مؤيدو الميثاق ومعارضوه بضرورة الرجوع اليه في الحالات التي لجأ فيها الحكم على مستوى رئاسة الجمهورية الى التطبيق الحرفي للدستور ، باعتبار ان كلا المصدرين ( الدستور والميثاق) هما مكملان لبعضهما البعض من حيث الممارسة العملية للسلطة؛ وان عدم المجاراة او التوفيق بينهما يمكن ان يؤدي الى ازمات حكومية ، ان لم تتطور الى ازمات وطنية حادة، فما هي الخلفيات الدستورية لهذه الازمات؟.
ان احد الاسباب الرئيسة الكامنة وراء دوام اشكالية ممارسة السلطة في لبنان، كانت عدم التوازن بين الصلاحيات وما يترتب عليها من مسؤوليات في كل موقع من مواقع السلطة في النظام السياسي – الدستوري.
فرغم ان النظام الدستوري في لبنان صنَّف نفسه على انه نظام برلماني، فإن ممارسة الحكم فيه، هي اقرب الى النظام الرئاسي منه الى البرلماني، او حتى النظام المختلط الذي يدمج بين الاثنين. فصلاحيات رئيس الجمهورية كما نص عليها الدستور، هي صلاحيات واسعة جدا، بحيث يدير مفاصل الحكم بدقة ويخضع لسلطته وحتى لمشيئته كل شاردة وواردة في الدولة، فيما لا يخضعه الدستور لأي مسؤولية، عدا خرقه للدستور او الخيانة العظمى، وحتى الامران الاخيران، وان ادين بهما، فإن آليات تنفيذهما غير متوافرة، لعدم وجود القانون الذي يرعى تلك المسائل .
وفيما رئيس الوزراء الذي يتحمل مسؤولية ممارسة الحكم بمختلف جوانبها، لم يشر الدستور اليه، الا في مادة وحيدة هي المادة (66) وبشكل عرضي، عند اشارتها الى ان رئيس الوزراء يلقي بيان الحكومة امام المجلس النيابي او يقوم أي وزير آخر بهذه المهمة. وفي الواقع، فإن رئيس الوزراء قد مارس الحكم مع رئيس الجمهورية بموجب اعراف دستورية، عن طريق بعض المظاهر منها :
- ان المادة (53) من الدستور تولي رئيس الجمهورية الحق في تعيين الوزراء وتسمية من بينهم رئيسا، بينما في الواقع ، كان رئيس الجمهورية يكلف احدى الشخصيات ( الاسلامية – السنية) بتشكيل الوزارة عبر اختيار الوزراء وعرض اسمائهم على رئيس الجمهورية.
- المادة (53) التي توجب توقيع الوزير المختص على أي مرسوم يصدر عن رئيس الجمهورية، وفي الواقع ايضا، كان رئيس الوزراء يوقع على المراسيم بصفته رئيسا للوزراء وليس بصفة وزير مختص ، رغم ان ليس في الدستور نص يوجب ذلك.
- لقد مارس رئيس الوزراء الحكم بموجب العرف الدستوري، لذلك ظلت مظاهر الازمات الدستورية في لبنان عرضة للظهور عند اختلاف رأسي السلطة التنفيذية؛ وخاصة عندما يكون في الرئاسة الاولى اشخاص ميالون بطبعهم الى الهيمنة والتفرّد ، وعندما يشاركهم في الحكم رؤساء وزراء يتم اختيارهم على اسس عدم مراعاة تمثيلهم الشعبي، او كفاءاتهم السياسية العالية التي يفرضها موقع رئيس الوزراء في آلية الحكم.
باختصار يعود عمق الازمات الدستورية في لبنان على صعيد ممارسة الحكم في الجمهورية الاولى، لعدة اعنبارات سلبية تتعلق بنص الدستور وممارسته وابرزها:
- عدم تحديد مسؤولية رئيس الجمهورية بشكل متوازن مع صلاحياته .
- عدم اعتماد النظام الرئاسي بشكل صريح اذا كان المقصود النظام الرئاسي، او عدم حصر صلاحية رئيس الجمهورية في حدود " الحكم" اذا كان المقصود النظام البرلماني.
- عدم تحديد صلاحيات الوزراء ومسؤولياتهم بشكل دقيق ومتوازن .
- عدم تطبيق المواد المتعلقة باتهام رئيس الجمهورية والوزراء ومحاكمتهم وتعيين المجلس الاعلى.
- عدم تحديد صلاحيات رئيس الوزراء بشكل متوازن مع مسؤولياته.
ثانيا : نظام الحكم في الجمهورية الثانية
وفقا لبعض البنود المعدّلة في الدستور ، التزم لبنان مرة اخرى بالنظام البرلماني الديمقراطي . وظهر ذلك في ديباجة الدستور، لاسيما الفقرات (ج) و (د) و (هـ) :" فلبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية" و " الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة" و " النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها".
اذن، من الناحية النظرية على الاقل، اعتمد الدستور مبادىء النظام البرلماني؛ فهل جاءت النصوص العامة في الدستور مكملة لذلك؟ أم أتت في اشكال مغايرة؟. ثم هل ان النصوص قد أمَّنت السبيل العام لممارسة السلطة بشكل يؤمن التعاون والتوازن أم لا؟. واذا كان التوازن قد تمَّ على الصعيد النظري ، فما هي العوامل المؤثرة ففي اختلال صيغة التعاون بين المؤسسات الدستورية ورئاساتها؟.
ان التدقيق في الصلاحيات الدستورية لكل من الرئاسات الثلاث ومؤسساتها، تعطي فكرة واضحة عن امكانية التوازن المتوافرة وعن امكانية التعاون فيما بينها، كما ان مقاربة هذه الصلاحيات مع الصلاحيات المناطة بها سابقا قبل تعديل الدستور، يمكن ان تساعد على تلمّس العوامل المؤثرة في التعاون.
1– السلطة التنفيذية
انيطت السلطة التنفيذية في لبنان وفقا لنص المادة (17) من الدستور المعدل، بمجلس الوزراء بعدما كانت مناطة برئيس الجمهورية ويعاونه فيها الوزراء. وبذلك يكون الدستور قد قوض من حيث " الشكل" من صلاحيات رئيس الجمهورية، واعتبر مجلس الوزراء الذي من المفترض ان يمثل مختلف التيارات السياسية والطائفية في المجتمع اللبناني، هو المؤتمن على ادارة البلاد وحماية مصالحها الحيوية.
بيد ان اسناد السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء مجتمعا ليس مطلقا. فهناك مواد ونصوص تتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، تحد من آلية ممارسة هذه السلطة من قبل المجلس، ويمكن ان تنزع عنه الى حد بعيد صفة " الاناطة" التي تعني ضرورة التحكّم في آلية ممارسة السلطة بشكل دقيق. أي بعبارة اخرى، رغم ان الحدود مرسومة لصلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور، فقد اعطته مجالا وهامشا واسعين للتحرك في الاتجاه الذي يريد، وبالتالي التأثير بشكل او بآخر في ممارسة مجلس الوزراء لسلطته.
أ- صلاحيات رئيس الجمهورية: بعيدا عن بعض المواد والنصوص الدستورية المعدّلة التي أبقت في جانب منها على صلاحياته وقيَّدت بعضها الآخر، فإن عددا من الفقرات الواردة في المادة (53) تعطي لرئيس الجمهورية قدرة على التحكّم في مسار ممارسة السلطة الاجرائية.
فالفقرة الاولى من المادة (53) تجيز له ان يترأس جلسات مجلس الوزراء ، وعندما يشاء ، ورغم وضع الشرط للحضور عدم التصويت، فإن عدم تحديد الحالات للحضور، وابقاءها خاضعة لمشيئته ، تعني ابقاء شراكته كاملة في السلطة التنفيذية، وهذا ما اكدته الفقرات اللاحقة من نفس المادة.
فالفقرة (11) تجيز له عرض " أي أمر من الامور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الاعمال" الامر الذي يجعله مشاركا اساسيا في ترتيب الاولويات المطروحة للمناقشة والبت في مجلس الوزراء. اضافة الى امكانية "الطرح" من خارج جدول الاعمال، وكونه يرأس اجتماع المجلس، فهو بحكم الضرورة يدير الجلسة، وبالتالي يملك القدرة على الاخذ والرد في المواضيع المطروحة، وبالتالي المساهمة في تعجيل او تأخير تقريرها على جدول اعمال مجلس الوزراء.
أما الفقرة (12) من المادة (53) نفسها، فتعطيه الحق في دعوة " مجلس الوزراء استثنائيا، كلما رأى ذلك ضروريا" وعلى الرغم من ربط هذا الحق " بالاتفاق مع رئيس الحكومة" فإن عدم تحديد – ولو بشكل عام – الحالات الضرورية للاجتماعات الاستثنائية لمجلس الوزراء، تعطيه خيارات واسعة واستنسابية في تحديد الضرورات التي توجب الدعوة لانعقاد مجلس الوزراء.
ان الفقرات الثلاث السالفة الذكر، وان ربطت بقيود معينة، كعدم حق التصويت، او موافقة رئيس الحكومة او غيرها، تفسح المجال لتكريس اعراف دستورية لاحقة، تصبح بقوة القانون اذا ما تواترت بالممارسة والقبول، الامر الذي سيتسبب ببعض التشابك في الصلاحيات بين الرئاستين الاولى والثالثة .
ب- صلاحيات رئيس مجلس الوزراء: أُعتبر رئيس مجلس الوزراء في تركيبة الحكم اللبناني الشريك المسلم الى جانب رئيس الجمهورية بخصوص ممارسة السلطة الاجرائية. وكما اسلفنا، فإن ممارسته لصلاحياتهّ تمّت بنصوص مكتوبة، ذلك لعدم ذكر دستور 1926 وتعديلاته (عدا الاخير) لأي صلاحية مباشرة وواضحة سوى المادة (66) التي ذكرت عرضا، انه يلقي ببيان حكومته امام المجلس النيابي لنيل الثقة، وحتى ان المادة نفسها، لم تحصر هذه المهمة، بل يمكن ان يقوم بها أي وزير في التشكيلة المقترحة.
ان الوضعية الدستورية التي احاطت برئيس مجلس الوزراء، كانت احد الاسباب المباشرة لاختلال صيغة التوازن في الحكم التي سادت مختلف الحقبات الحكومية التي مارست الحكم مع رئيس الجمهورية ، والتي غالبا ما اظهرت فتورا في العلاقة بين رأسي السلطة التنقيذية عند نشوء أي ازمة حكومية او وطنية، الامر الذي دفع بالاطراف المساندة لرئيس الوزراء الى المطالبة بالمزيد من الصلاحيات الدستورية لاعادة التوازن الذي يعاني خللا واضحا في الاساس.فهل اتت التعديلات الدستورية الاخيرة، موافقة لتطلعات المنادين بتوسيع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ام لا؟
في الواقع، ان التدقيق في المادة (64) من الدستور المعدّل وفقراتها الثماني ، التي خصصت لصلاحيات رئيس مجلس الوزراء، تظهر بعض الصلاحيات في الشكل، وبنفس المستوى الذي قُيّدت فيه شكلا صلاحيات رئيس الجمهورية ، اضافة الى ان الصلاحيات المذكورة في نفس المادة تكرس صلاحياته بنص مكتوب بعدما مارسها عرفا.
فرئيس مجلس الوزراء ، عرفته المادة (64) على انه " رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها، ويعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يصنعها مجلس الوزراء". اذا بموجب نص هذه الفقرة، فإن رئيس مجلس الوزراء هو حكما رئيس الحكومة الذي يمثل مجلس الوزراء ويتكلم باسمه، أي بعبارة اخرى، ان رئيس الحكومة هو المسؤول عن سياسة الحكومة تعبيرا وتنفيذا، وهذا الحق وفق نص المادة (64) هو حصرا به ، وليس في أي شخص اخر سواه.
لقد حددت الفقرة الاولى من المادة (64) انه " يرأس مجلس الوزراء " في حال عدم حضور رئيس الجمهورية، وفي ذلك نص مكتوب آخر يحدد مهامه. اذ ان رئيس الحكومة كان في السابق يرأس " مجلسا وزاريا" في حال عدم حضور رئيس الجمهورية، ولا يسمى " مجلس الوزراء" ما يعني ان رئيس الحكومة يرأس مجلس الوزراء ويسمى قانونا ، اجتماعا لـ " مجلس الوزراء" وليس اجتماعا لـ " مجلس وزاري" وتكمن اهمية التفريق في هذه الحالة ؛ ان مجلس الوزراء، هو مؤسسة دستورية لها شخصيتها الدستورية والقانونية بمعزل عن رئاسة الجمهورية، الامر الذي لم يكن واضحا في دستور 1943 .
ووفقا للفقرة ( 2 ) من نفس المادة، فهو الذي يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية على مرسوم التعيين، وفي الواقع مارس رئيس الوزراء هذه المهمة عرفا في السابق، بخلاف ما نص عليه الدستور قبل التعديل الذي اناط مهمة تعيين الوزراء وتسمية رئيس من بينهم، برئيس الجمهورية.
ان الامر اللافت في هذه الفقرة اضافة الى وضوحها بنص مكتوب لصالح رئيس مجلس الوزراء، فإن تحديد مهلة تقديم بيانها الوزاري امام مجلس النواب لنيل الثقة بثلاثين يوما، تقطع الطريق على أي عملية للتسويف او المماطلة التي كانت سائدة في بعض العهود الرئاسية ، كما ان تحديد ممارسة عملها بعد نيل الثقة امر طبيعي في النظام البرلماني، الا ان مدى ممارسة صلاحياتها بعد " استقالتها او اعتبارها مستقيلة الا بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال" فتعتبر محاولة التفاف على أي خطوة يمكن ان تحدث من قبل رئيس الحكومة، باعتبار ان الامثلة على ذلك متعددة في تاريخ لبنان الدستوري، لا سيما في الفترات التي رأس فيها الرئيس رشيد كرامي الحكومة، كنموذج المقاطعة في العام 1969 مع الرئيس شارل حلو، ورئاسته للحكومة في أواخر عهد الرئيس سليمان فرنجيه، وكذلك مع الرئيس أمين الجميل في العام 1986 ومقاطعته وتفديم استقالة حكومته، وبقائه فيما بعد ممارسا مهامه الدستورية حتى اغتياله".
ج- مجلس الوزراء: يمكن القول ان محور ممارسة السلطة الاجرائية في لبنان باتت مناطة بمجلس الوزراء مجتمعا وفقا لبعض النصوص الدستورية المعدلة. فبعدما كانت هذه المهام يمارسها رئيس الجمهورية في السابق وفقا للمادة (17) ويعاونه الوزراء؛ بات مجلس الوزراء هو الذي يتولى السلطة مباشرة في جميع المجالات تقريرا وتنفيذا.
فالفقرات (1) و(2) و(3) و (4) من المادة (65) تعطي مختلف أوجه النشاطات العامة التي يمكن لمجلس الوزراء ممارستها، كاخضاع القوات المسلحة لسلطته، ووضع السياسة العامة للدولة، ووضع مشاريع القوانين، والمراسيم التنظيمية، وتعيين موظفي الدولة وصرفهم وقبول استقالتهم.
- ان الامر اللافت بخصوص مجلس الوزراء، هو تحديد صلاحياته بشكل واضح واناطة السلطة التنفيذية به. فرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، رغم تمتعهما بصلاحيات معينة، باتا مقيدين الى حد ما في ممارسة صلاحياتهما بموافقة مجلس الوزراء، الامر الذي يجعل مجلس الوزراء – ولو على الصعيد النظري – الاداة المركزية لهيكلية الدولة، اذا ما استبعدت بعض العوامل المؤثرة في اضعاف دوره بين المواقع الدستورية الاخرى.
- مظهر اّخر لتمييز مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية في ممارسة مهامه بمعزل عن الرئاسات الاخرى ، اجتماعه في مقر خاص، اضافة الى تحديد اّلية انعقاد جلساته، كنصاب، الثلثين، ومبدأ التصويت على القرارات اذا تعذر التوافق عليها، معطوفة على حصر المواضيع الاساسية التي تحتاج الى موافقة ثلثي اعضاء مجلس الوزراء .
- ان المادة (69) قد قطعت الطريق امام أي تأويل لاعتبار الحكومة مستقيلة، فقد حصرت الحالات التي تعتبر فيها مستقيلة: في استقالة رئيسها، وفقدان ثلث عدد اعضائها، بوفاة رئيسها، عند بدء ولاية رئيس الجمهورية، عند بدء ولاية مجلس النواب، ونزع ثقة المجلس النيابي عنها في حالتين، اما بطلب من مجلس النواب، او عند طرحها الثقة بنفسها .
2 – السلطة التشريعية:
رغم ان السلطة التشريعية في عهد الجمهورية الاولى قد عانت الكثير، ويعود ذلك الى الضغوط التي مورست عليها من قبل السلطة التنفيذية في احيان كثيرة، اضافة الى تشرذم الجسم النيابي، وافتقاره في الاساس لأصول اللعبة البرلمانية وآلياتها، كالكتل البرلمانية الفاعلة على سبيل المثال . فإنها تظل افضل حالا من السلطة التنفيذية، ولو بشكل نسبي عند النظر الى ممارسة النشاطات والاداء والنتائج.
غير ان التعديلات الدستورية فيما خص السلطة التشريعية، لم تعطها تحرراً كاملاً وانفصالاً تامين عن السلطة التنفيذية (وهذا أمر طبيعي في النظام البرلماني)، إلا انه يمكن ملاحظة الفرق بين الوضعين (السابق واللاحق للتعديل عبر تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية بشكل نسبي يسمح للسلطة التشريعية في حال أحسن استعمال النصوص، بممارسة أعمالها بمعزل عن الضغوط التي كانت تُمارس عليها. على أن هذه الإمكانية في التحرك، ليس مردها الى تعديلات طالت الجسم النيابي مجتمعاً، بل تعود في جوهرها إلى تقوية موقع رئيس المجلس النيابي الذي يكون من الناحية النظرية رئيس الأغلبية النيابية الموالية له.
إن أحد مظاهر تقوية موقع رئيس المجلس النيابي، انتخابه لمدة ولاية المجلس، أي اربع سنوات وفقاً للفقرة الأولى من المادة (44). وبذلك يكون رئيس المجلس قد تمكن من التحرك في مجال سلطاته التشريعية بهامش أوسع وأكبر لعدم اضطراره إلى مسايرة باقي المواقع الدستورية في نظام الحكم. ففي السابق كان رئيس المجلس النيابي ينتخب مع أعضاء هيئة مكتب المجلس لمدة عام واحد، الأمر الذي جعله مضطراً للتصرف ضمن اعتبارات كثيرة لتمكنه من إعادة انتخابه مرة أخرى ولمتابعة نهجه التشريعي.
على أن هذا الوضع الجديد الذي اكتسبه رئيس المجلس النيابي ليس مطلقاً، فقد حدّت منه الفقرة الأخيرة من نفس المادة، إذ أفسحت المجال لأعضاء المجلس إعادة النظر في موقعه عبر نزع الثقة عنه وعن نائبه بناء على طلب من ثلثي أعضاء مجلس النواب، وبعد عريضة يوقعها عشرة منهم.
بيد أن نزع الثقة عن الرئيس ونائبه قد حددت بشرطين أساسيين: الأول بعد مرور سنتين على انتخابهما، وهي فترة كافية ومعقولة لإثبات قدرته في ممارسة السلطة، وكذلك في تحديد وتنفيذ النهج التشريعي الذي يتبناه. أما الثاني فيتعلق في عدد الأعضاء الذين يطلبون نزع الثقة، وفي ذلك، قد ساوى الدستور بين نزع الثقة عن الرئيس ونائبه وبين تعديل الدستور نفسه. إذ ان الدستور قد لحظ هذه الأغلبية وآلية تنفيذها في نزع الثقة وتعديل الدستور، الأمر الذي يصعب توفره إذا لم تكن الأسباب الموجبة له أسباباً جوهرية وتتعلق بالقضايا الوطنية ذات الشأن.
مظهر آخر لتقوية موقع رئيس المجلس النيابي، يظهر في إلزامية اطلاعه على الاستشارات التي يجريها رئيس الجمهورية في معرض استشاراته لتكليف رئيس الحكومة بتشكيل الوزارة وفقاً للفقرة الثانية من المادة (53). فبعدما كان رئيس الجمهورية يكلّف أحد الشخصيات بتشكيل الحكومة وفقاً لاستشارات نيابية غالباً ما كانت شكلية، باتت الاستشارات ملزمة لرئيس الجمهورية وملزمه له باطلاع رئيس المجلس عليها، أي بعبارة أخرى، لقد اصبح رئيس المجلس النيابي شريكاً فعلياً لرئيس الجمهورية في آلية التكليف، الأمر الذي ساعد إلى حد كبير في توطيد العلاقة بين رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب من جهة وأعضاء المجلس النيابي الذين أبدوا رغبتهم في تكليفه من جهة أخرى.
ثالثاً : الطائفية السياسية
رغم أن المادة (95) المعدلة في دستور 1926 قد لحظت التوزيع الطائفي للوظائف، وبتشكيل الوزارة "بصورة مؤقتة" فقد ظلت تتحكم بدقة في مسار الحكم والحكومات منذ الاستقلال دون الإخلال بها ولو بأشكال غير مباشرة، بل ان الأمر تعدّى صفة "المؤقت" إلى صفة "الدائم" مع إبراز "نظام الكوتا" المغلق للطوائف حفاظاً على أشكال التوازن الشكلي في ممارسة الوظيفة العامة والحكم على السواء .
فلبنان بتركيبته الاجتماعية ـ الطائفية التي احتوت على ثماني عشرة طائفة معترف بها رسمياً، لها أنظمة أحوالها الشخصية وحقوقها وامتيازاتها تجعل من النظام السياسي ـ الدستوري اللبناني، نظاماً له بعد خاص لجهة علاقة الطائفية السياسية بممارسة الحكم. فالطائفية تغلغلت في أسس النظام وتكرّست به في أشكال دستورية وقانونية وعرفية". وأعطته ابعاداً إضافية لجهة المجموعات الاجتماعية التي عاشت فيه ومارست الحكم من خلال مؤسساته .
غير أن الأمر اللافت في ذلك، أن غالبية الطوائف اللبنانية وأحزابها وتياراتها السياسية، طالبت ولا تزال تطالب بإلغاء الطائفية السياسية، فيما مطالبها وممارستها العملية، دلّت ولا تزال تدل على التمسك بها وعدم التخلي عنها حتى في أسلوب الطرح لإلغائها. فمجمل مشاريع الإصلاح السياسي التي ظهرت حتى من بعض الفئات السياسية غير الطائفية، طمعت بمطالب طائفية بحتة. مثلاً ينص أحد البرامج بتاريخ 19/8/1975 على إلغاء الطائفية السياسية، بينما في البند الثالث منه على "تحقيق التوازن" وبيان آخر في 9/3/1984 يقول من "المستحسن عدم إلغاء أي فئة من الإسهام في المشاركة في إطار الحوار الوطني" بينما ينص البند الثاني على إلغاء الطائفية السياسية. وورقة عمل مشتركة قدمت الى مؤتمر الحوار الوطني في لوزان بتاريخ 20/3/1984 "إلغاء الطائفية الوظيفية على كل المستويات" بينما يضيف البيان، يعتمد هذا المبدأ فور تسوية أوضاع الطوائف المغبونة .
مشروعان آخران لم يريا النور، وقد هدفا إلى إعادة النظر في أسلوب المشاركة في الحكم، وهما الوثيقة الدستورية عام 1976، والاتفاق الثلاثي عام 1985، وكلاهما كرسا الطائفية السياسية. الأول عبر توزيع الرئاسات الثلاث بشكل طائفي وبنص مكتوب بعدما كان الأمر مكرساً عرفا، إضافة الى التساوي في عدد أعضاء المجلس النيابي. اما الثاني وإن لم يُشر إلى توزيع الرئاسات، فقد انشأ مجلساً للشيوخ على أن يُعطى للطائفة الدرزية، ولحظ تشكيل مجلس وزاري ووزراء دولة، إرضاء لبعض الطوائف.
مشاريع الإصلاح في مجملها، كانت محاولات من قبل الطوائف أو الأطراف السياسيين التي تمثلها لتثبيت مواقعها في مراكز الحكم، إضافة إلى أنها كرَّست الطائفية في جوهر مشاريعها. فهل اتت التعديلات الدستورية مغايرة للوضع السابق؟ أم حاولت التوفيق بين الالغاء والتمسك بها، عبر التدرج في إلغاء الطائفية السياسية؟
ان التدقيق في المادة (95) المعدلة وفقاً لنص وثيقة الوفاق الوطني، تظهر الرغبة في إلغاء الطائفية السياسية، إلا أنها ربطت بقضايا أخرى لا تقل تعقيداً عنها، بحيث أصبحت مسألة عامة دون أطر محددة لإلغائها من حيث الزمان على الأقل.
فإلغاء الطائفية وفقاً للفقرة الأول من نفس المادة، أعطت حق الالغاء لمجلس النواب "المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين" وعدا عن كون التوزيع الطائفي للمجلس، فان انتخاب أعضاء المجلس قد أسند في الأساس إلى قانون الانتخاب" الذي وزَّع المقاعد النيابية على أساس طائفي "كالتساوي" و"نسبياً بين المناطق" و"نسبياً بين الفئتين" إضافة الى اعتماد "المحافظة كدائرة انتخابية" .
لقد ارتبط الغاء الطائفية السياسية بالمجلس النيابي عبر "خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية" دون لحظ الأطر العامة "لاقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية" المناطة بالهيئة التي ستقدمها الى مجلسي النواب والوزراء.
إضافة الى هذه العموميات في الفقرة الأولى، فإن المرحلة الانتقالية التي أبرزتها المادة نفسها في الفقرتين (أ) و (ب) تظهر التمسك ببعض جوانب التوزيع الطائفي. فالفقرة (أ) أعطت الطوائف حق تمثيلها في الوزارة "بصورة عادلة" أما الفقرة (ب) فقد ألغت الطائفية في الوظيفة العامة في جميع المجالات باستثناء وظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها "دون تخصيص أية وظيفة لأي طائفة"
فرغم تخصيص الفئة الأولى لجهة مراعاة التوزيع الطائفي فيها، فإن الإيجابية الوحيدة التي ظهرت فيها، هي عدم حصر بعض المراكز ببعض الطوائف، على أن اعتماد الكفاءة ولو على الصعيد النظري تبقى إحدى الوسائل لسد بعض أنواع الخلل التي تنشأ في المؤسسات في غالب الأحيان.
ورغم ان هدف الإصلاحات السياسية في الأساس هو إلغاء الطائفية السياسية التي عُدل على أساسها الدستور، فإن نصاً آخر في الدستور يمكن أن يظهر بعض الوجوه في طائفية النظام. فالمادة (22) نصت: "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدث مجلسا للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية" . فظاهر النص هو وعد غير محدد بإلغاء الطائفية وبطريق غير مباشر، عبر انتخاب المجلس على أساس غير طائفي، لكن العلة تكمن في الفقرة المكملة لهذا الوعد، وهي استحداث مجلس الشيوخ سيضم مختلف العائلات الروحية، بمعنى أن هذه المادة أتت لتطمئن الطوائف اللبنانية إلى تمثيلها "العادل" في مؤسسة دستورية أنيطت بها قضايا مصيرية، دون تحديدها أو حصرها أو تعريفها .
إن مجلس الشيوخ كمؤسسة دستورية، ظل في غالب الأحيان، مخرجاً لتمثيل الاثنيات العرقية والقوميات والطوائف في الدول التي تتألف شعوبها من أصول غير متجانسة، بيد ان الأمر في لبنان إن تشابه في تلك الحالة (لجهة التعددية الطائفية) فإن إنشاء مجلس للشيوخ من الممكن ان يزيد في تعقيد القضايا الدستورية في لبنان، خصوصاً إذا لم يتم الاتفاق فيما بعد على صلاحياته بشكل دقيق، وعلى طرق تعامله مع السلطات الأخرى، إضافة إلى كون الغاية التي سينشأ من أجلها (وهي تمثيل الطوائف) تتناقض في الأساس مع مبدأ إلغاء الطائفية السياسية.
رابعاً : إيجابيات وسلبيات التعديلات الدستورية
ان ممارسة الحكم في أي دولة وفقاً لتقاليدها وأعرافها وقوانينها ودستورها، هي بالدرجة الأولى عملية تطورية وغير ثابتة. بمعنى أن أعرق الدساتير التي تبنّتها بعض الأنظمة المتطورة في العالم، لم تصل الى مرحلة الرقي والاستقرار، إلا بعد فترات متعاقبة من الزمن، إذ ان الأنظمة الرئاسية أو البرلمانية أو المختطة قد عانت الكثير من السلبيات قبل ان تستقر في ممارساتها الدستورية في الأنظمة التي تبنتها، وبالتالي فإن التعديلات الدستورية في لبنان، وإن كانت غير واسعة في الأساس، فإن وجودها على غير الوجه الأكمل، لا يعني عدم وجود الايجابيات فيها والتي يمكن أن تسهم مستقبلاً في تطوير الوضع الدستوري وبالتالي ممارسة الحكم بطرق مثلى.
أما الايجابيات التي تبرز في الدستور لجهة السلطة التشريعية فأبرزها:
ـ اعتماد النظام الديموقراطي البرلماني.
ـ إقرار مبدأ استقلالية السلطة التشريعية.
ـ إقرار مبدأ التوكيل العام الشامل.
ـ انتخاب المجلس النيابي بالاقتراع العام المباشر من قبل جميع المواطنين.
ـ أخضاع الأعمال التشريعية لمجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين وهذا ما تم مؤخراً.
ـ تقوية موقع رئاسة المجلس النيابي بموازاة السلطة التنفيذية.
أما لجهة السلبيات فمنها:
ـ اغتصاب السلطة التنفيذية لحق المجلس النيابي عن طريق "مشاريع القوانين المعجلة".
ـ امكانية إشراك غير المجلس النيابي في الأمور التشريعية بطرق غير مباشرة، إذا ما حددت صلاحيات مجلس الشيوخ لاحقاً لهذه الجهة.
أما لجهة السلطة التنفيذية فيمكن تسجيل الإيجابيات التالية:
ـ تحديد صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ومسؤولياته بنص مكتوب.
ـ إناطة السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء، وتحديد آلية ممارسته لسلطته، والحالات التي يكف عنها.
ـ شبه التوازن الظاهر بين صلاحيات ومسؤوليات كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء.
ـ إخضاع بعض اعمال رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء لموافقة مجلس الوزراء.
خامساً : مستقبل النظام السياسي الدستوري في لبنان
إن مراقبة الظروف التي أحاطت بلبنان ومجتمعه في الوصول الى صيغة النظام الحالية، تظهر ان التسوية القائمة حالياً عبر وثيقة الوفاق الوطني والتعديلات الدستورية التي جرت على أساسها، كانت مخرجاً لكل الأطراف التي انخرطت في الحرب الأهلية. وإن كانت لا تلبي طموحات البعض، فهي لم تغضب غالبيتهم، أي بعبارة اخرى، إن النظام القائم حالياً، أعطى الحد الأدنى من السقف الأعلى الذي رفعته بعض الأطراف، كما راعى ظروف ومتطلبات كل فئة من أجل وضعها بموازاة الفئات الأخرى دون هيمنة فئة على فئة.
فإن أُخذ من صلاحيات رئيس الجمهورية، فإنها لم تعط لرئيس مجلس الوزراء، بل حولت الى مجلس الوزراء. وإن أسندت بعض الصلاحيات لرئيس مجلس الوزراء، فقد أُسند له ما كان يمارسه عرفاً. وإن مارس رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بعض الصلاحيات، فقد اخضعت لموافقة مجلس الوزراء، وإن أبقت الجسم النيابي كما هو، فقد تميّز رئيس السلطة التشريعية بموقعه عبر مشاركته في آلية تعيين رئيس مجلس الوزراء.
فالتعديلات الدستورية والأسس التي قامت عليها، والتي أبرزت توزيع بعض الصلاحيات وإبراز رئاساتها، يمكن القول إن آلية التعاون المرسومة فيما بينها، يمكن أن تؤدي الى ظهور مؤسسات دستورية قائمة بذاتها بمعزل عن أشخاص رئاساتها. الأمر الذي افتقره لبنان من استقلاله. فالسمة العامة للدول المتطورة واستقرارها هو ارتكازها على بنية مؤسساتية في مزاولة اعمالها الأمر الذي يخفف من أهمية الشخص الذاتية، ويجيرها لحساب المؤسسة التي يتولى رئاستها.
على ان هذه التعديلات والنصوص القانونية التي يمكن أن تكتمل في المستقبل، لا تفي بالغرض المطلوب إذا لم تكن إرادة العيش المشترك موجودة بين فئاته. وإرادة العيش هذه يمكن تكريسها وتقويتها عبر تقوية المؤسسات، سياسية كانت أم إجتماعية ـ إقتصادية، لتؤدي دورها الصحيح في عملية انصهار المجتمع، وهنا من الصعب إغفال دور القيمين على المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الإنتقالية ( غير المحددة ) التي لحظتها تسوية الطائف.
فنظام الحكم في مطلق دولة، لا تحدده قواعده القانونية، ولا أصوله الدستورية وحدها، بل تلعب اعتبارات كثيرة في مجال استمراره واستقراره، منها الأشخاص القيمون على الحكم فيه، ومنها واقعية السياسة المعتمدة منهم، ومنها تجاوب الشعب مع حكامه. فمجمل الاعتبارات سالفة الذكر يمكن ان تحدد مستقبل النظام في لبنان، فكلما ارتفعت مستويات ارتقائها نحو الأمثل، كلما كُتب للنظام السياسي ـ الدستوري في لبنان : إمكانية تطويره واستمراره، كلما انخفضت ستزيد إمكانية انفجاره من جديد وبالتالي دفع الضريبة مجدداً للوصول الى تسوية أخرى.
صحيح ان هناك اعتبارات خارجية كثيرة ساهمت بعض الأحيان في استقرار النظام السياسي ـ الدستوري اللبناني أو تفجيره، إلا ان هذه الاعتبارات لا يمكن أن تفعل فعلها لو أنها لم تجد ظروف نجاحها متوافرة في الداخل. من هنا يمكن القول ان تحصين الوضع الداخلي للبنان، على صعيد المؤسسات بمختلف أوجه نشاطاتها يمكن أن يضع لبنان بمنأى عن بعض التدخلات الخارجية مع بعض ازماته الداخلية.
دراسة مقارنة لعهدي الجمهوريتين
غني عن سرد الوقائع والاحداث التي ظهرت في لبنان حول النظام السياسي – الدستوري فيه، حيث امتزجت مختلف اسباب النزاعات العقائدية والسياسية، الاجتماعية والاقتصادية؛ ورغم ان عدم الاتفاق حول الاسباب الحقيقية لهذه النزاعات بين الاطراف اللبنانية، الا ان تحولات كبرى قد ظهرت مؤخرا، لا سيما في النصف الثاني من السبعينيات، اذ برزت بعض ملامح الاتفاق والنقاط المشتركة في اسباب بعض الازمات، وقد تجلت في اشارة معظم الاطراف، الى ان النظام السياسي – الدستوري الذي اتبع، كان احد الاسباب الداخلية الوجيهة لمختلف الازمات.
لقد اعطت غالبية الاطراف اللبنانية، اسلامية كانت ام مسيحية، تقليدية محافظة ام تقدمية تغييرية، اشارات صريحة بأن دستور 1926 وميثاق 1943 ، لم يعودا صالحين كصيغ لادارة شؤون لبنان، نظرا للتحولات العميقة التي طرأت على بنية المجتمع اللبناني في جوانبه المختلفة. ورغم ذلك التوافق، فإن الوصول لصيغة تسسوية لطبيعة والية النظام الدستوري في لبنان لم يكن أمرا سهلا. فقد جرت محاولات عديدة لصياغة جديدة لهذا النظام، ان لجهة الحكم، او الاطراف الحزبية الموالية او المعارضة، او غيرها من المؤسسات السياسية – الاجتماعية، الا ان مجمل هذه المشاريع لم تر النور لسبب او لآخر، اذ كانت الازمات الوطنية سرعان ما تتحول الى صراعات حادة تغلق الباب امام أي تسوية ممكنة؛ بل كان كل مشروع بحد ذاته يشكل سببا الى الانتقال لمرحلة أشد عنفا من المراحل التي سبقته؛ وبدلا من ان يكون حلا يصبح مع الوقت أزمة بتداخلاته مع قضايا اخرى لا تتعلق بالنظام السياسي – الدستوري.
أولا : نظام الحكم في الجمهورية الاولى
رغم ان كل عهد رئاسي تعاقب على الحكم في لبنان، اختاررموزا سياسية معينة لمباشرة الحكم، ان كان على مستوى رئاسة الحكومة او الوزراء ؛ ورغم ان كل عهد رئاسي طبع ولايته بسمات عامة ميَّزته عن غيره ببعض الجوانب، فإن جميع تلك العهود ارتكزت في الاساس على مصدرين ثابتين لممارسة الحكم: الاول دستور 1926 وتعديلاته عام 1943، والميثاق الوطني او صيغة 1943 .
غير ان هذين المصدرين لممارسة السلطة، لم يكونا في الواقع مصدرين جامدين لجهة تأويل الصلاحيات بين اطراف الحكم، خصوصا بالنسبة للمصدر الثاني (الميثاق). اذ ان هذا الاخير لعب دورا بارزا في تليين آلية الحكم والتعاون بين رأسي السلطة التنفيذية ( رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة). وتأكيدا على ذلك فقد تمسّك مؤيدو الميثاق ومعارضوه بضرورة الرجوع اليه في الحالات التي لجأ فيها الحكم على مستوى رئاسة الجمهورية الى التطبيق الحرفي للدستور ، باعتبار ان كلا المصدرين ( الدستور والميثاق) هما مكملان لبعضهما البعض من حيث الممارسة العملية للسلطة؛ وان عدم المجاراة او التوفيق بينهما يمكن ان يؤدي الى ازمات حكومية ، ان لم تتطور الى ازمات وطنية حادة، فما هي الخلفيات الدستورية لهذه الازمات؟.
ان احد الاسباب الرئيسة الكامنة وراء دوام اشكالية ممارسة السلطة في لبنان، كانت عدم التوازن بين الصلاحيات وما يترتب عليها من مسؤوليات في كل موقع من مواقع السلطة في النظام السياسي – الدستوري.
فرغم ان النظام الدستوري في لبنان صنَّف نفسه على انه نظام برلماني، فإن ممارسة الحكم فيه، هي اقرب الى النظام الرئاسي منه الى البرلماني، او حتى النظام المختلط الذي يدمج بين الاثنين. فصلاحيات رئيس الجمهورية كما نص عليها الدستور، هي صلاحيات واسعة جدا، بحيث يدير مفاصل الحكم بدقة ويخضع لسلطته وحتى لمشيئته كل شاردة وواردة في الدولة، فيما لا يخضعه الدستور لأي مسؤولية، عدا خرقه للدستور او الخيانة العظمى، وحتى الامران الاخيران، وان ادين بهما، فإن آليات تنفيذهما غير متوافرة، لعدم وجود القانون الذي يرعى تلك المسائل .
وفيما رئيس الوزراء الذي يتحمل مسؤولية ممارسة الحكم بمختلف جوانبها، لم يشر الدستور اليه، الا في مادة وحيدة هي المادة (66) وبشكل عرضي، عند اشارتها الى ان رئيس الوزراء يلقي بيان الحكومة امام المجلس النيابي او يقوم أي وزير آخر بهذه المهمة. وفي الواقع، فإن رئيس الوزراء قد مارس الحكم مع رئيس الجمهورية بموجب اعراف دستورية، عن طريق بعض المظاهر منها :
- ان المادة (53) من الدستور تولي رئيس الجمهورية الحق في تعيين الوزراء وتسمية من بينهم رئيسا، بينما في الواقع ، كان رئيس الجمهورية يكلف احدى الشخصيات ( الاسلامية – السنية) بتشكيل الوزارة عبر اختيار الوزراء وعرض اسمائهم على رئيس الجمهورية.
- المادة (53) التي توجب توقيع الوزير المختص على أي مرسوم يصدر عن رئيس الجمهورية، وفي الواقع ايضا، كان رئيس الوزراء يوقع على المراسيم بصفته رئيسا للوزراء وليس بصفة وزير مختص ، رغم ان ليس في الدستور نص يوجب ذلك.
- لقد مارس رئيس الوزراء الحكم بموجب العرف الدستوري، لذلك ظلت مظاهر الازمات الدستورية في لبنان عرضة للظهور عند اختلاف رأسي السلطة التنفيذية؛ وخاصة عندما يكون في الرئاسة الاولى اشخاص ميالون بطبعهم الى الهيمنة والتفرّد ، وعندما يشاركهم في الحكم رؤساء وزراء يتم اختيارهم على اسس عدم مراعاة تمثيلهم الشعبي، او كفاءاتهم السياسية العالية التي يفرضها موقع رئيس الوزراء في آلية الحكم.
باختصار يعود عمق الازمات الدستورية في لبنان على صعيد ممارسة الحكم في الجمهورية الاولى، لعدة اعنبارات سلبية تتعلق بنص الدستور وممارسته وابرزها:
- عدم تحديد مسؤولية رئيس الجمهورية بشكل متوازن مع صلاحياته .
- عدم اعتماد النظام الرئاسي بشكل صريح اذا كان المقصود النظام الرئاسي، او عدم حصر صلاحية رئيس الجمهورية في حدود " الحكم" اذا كان المقصود النظام البرلماني.
- عدم تحديد صلاحيات الوزراء ومسؤولياتهم بشكل دقيق ومتوازن .
- عدم تطبيق المواد المتعلقة باتهام رئيس الجمهورية والوزراء ومحاكمتهم وتعيين المجلس الاعلى.
- عدم تحديد صلاحيات رئيس الوزراء بشكل متوازن مع مسؤولياته.
ثانيا : نظام الحكم في الجمهورية الثانية
وفقا لبعض البنود المعدّلة في الدستور ، التزم لبنان مرة اخرى بالنظام البرلماني الديمقراطي . وظهر ذلك في ديباجة الدستور، لاسيما الفقرات (ج) و (د) و (هـ) :" فلبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية" و " الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة" و " النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها".
اذن، من الناحية النظرية على الاقل، اعتمد الدستور مبادىء النظام البرلماني؛ فهل جاءت النصوص العامة في الدستور مكملة لذلك؟ أم أتت في اشكال مغايرة؟. ثم هل ان النصوص قد أمَّنت السبيل العام لممارسة السلطة بشكل يؤمن التعاون والتوازن أم لا؟. واذا كان التوازن قد تمَّ على الصعيد النظري ، فما هي العوامل المؤثرة ففي اختلال صيغة التعاون بين المؤسسات الدستورية ورئاساتها؟.
ان التدقيق في الصلاحيات الدستورية لكل من الرئاسات الثلاث ومؤسساتها، تعطي فكرة واضحة عن امكانية التوازن المتوافرة وعن امكانية التعاون فيما بينها، كما ان مقاربة هذه الصلاحيات مع الصلاحيات المناطة بها سابقا قبل تعديل الدستور، يمكن ان تساعد على تلمّس العوامل المؤثرة في التعاون.
1– السلطة التنفيذية
انيطت السلطة التنفيذية في لبنان وفقا لنص المادة (17) من الدستور المعدل، بمجلس الوزراء بعدما كانت مناطة برئيس الجمهورية ويعاونه فيها الوزراء. وبذلك يكون الدستور قد قوض من حيث " الشكل" من صلاحيات رئيس الجمهورية، واعتبر مجلس الوزراء الذي من المفترض ان يمثل مختلف التيارات السياسية والطائفية في المجتمع اللبناني، هو المؤتمن على ادارة البلاد وحماية مصالحها الحيوية.
بيد ان اسناد السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء مجتمعا ليس مطلقا. فهناك مواد ونصوص تتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، تحد من آلية ممارسة هذه السلطة من قبل المجلس، ويمكن ان تنزع عنه الى حد بعيد صفة " الاناطة" التي تعني ضرورة التحكّم في آلية ممارسة السلطة بشكل دقيق. أي بعبارة اخرى، رغم ان الحدود مرسومة لصلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور، فقد اعطته مجالا وهامشا واسعين للتحرك في الاتجاه الذي يريد، وبالتالي التأثير بشكل او بآخر في ممارسة مجلس الوزراء لسلطته.
أ- صلاحيات رئيس الجمهورية: بعيدا عن بعض المواد والنصوص الدستورية المعدّلة التي أبقت في جانب منها على صلاحياته وقيَّدت بعضها الآخر، فإن عددا من الفقرات الواردة في المادة (53) تعطي لرئيس الجمهورية قدرة على التحكّم في مسار ممارسة السلطة الاجرائية.
فالفقرة الاولى من المادة (53) تجيز له ان يترأس جلسات مجلس الوزراء ، وعندما يشاء ، ورغم وضع الشرط للحضور عدم التصويت، فإن عدم تحديد الحالات للحضور، وابقاءها خاضعة لمشيئته ، تعني ابقاء شراكته كاملة في السلطة التنفيذية، وهذا ما اكدته الفقرات اللاحقة من نفس المادة.
فالفقرة (11) تجيز له عرض " أي أمر من الامور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الاعمال" الامر الذي يجعله مشاركا اساسيا في ترتيب الاولويات المطروحة للمناقشة والبت في مجلس الوزراء. اضافة الى امكانية "الطرح" من خارج جدول الاعمال، وكونه يرأس اجتماع المجلس، فهو بحكم الضرورة يدير الجلسة، وبالتالي يملك القدرة على الاخذ والرد في المواضيع المطروحة، وبالتالي المساهمة في تعجيل او تأخير تقريرها على جدول اعمال مجلس الوزراء.
أما الفقرة (12) من المادة (53) نفسها، فتعطيه الحق في دعوة " مجلس الوزراء استثنائيا، كلما رأى ذلك ضروريا" وعلى الرغم من ربط هذا الحق " بالاتفاق مع رئيس الحكومة" فإن عدم تحديد – ولو بشكل عام – الحالات الضرورية للاجتماعات الاستثنائية لمجلس الوزراء، تعطيه خيارات واسعة واستنسابية في تحديد الضرورات التي توجب الدعوة لانعقاد مجلس الوزراء.
ان الفقرات الثلاث السالفة الذكر، وان ربطت بقيود معينة، كعدم حق التصويت، او موافقة رئيس الحكومة او غيرها، تفسح المجال لتكريس اعراف دستورية لاحقة، تصبح بقوة القانون اذا ما تواترت بالممارسة والقبول، الامر الذي سيتسبب ببعض التشابك في الصلاحيات بين الرئاستين الاولى والثالثة .
ب- صلاحيات رئيس مجلس الوزراء: أُعتبر رئيس مجلس الوزراء في تركيبة الحكم اللبناني الشريك المسلم الى جانب رئيس الجمهورية بخصوص ممارسة السلطة الاجرائية. وكما اسلفنا، فإن ممارسته لصلاحياتهّ تمّت بنصوص مكتوبة، ذلك لعدم ذكر دستور 1926 وتعديلاته (عدا الاخير) لأي صلاحية مباشرة وواضحة سوى المادة (66) التي ذكرت عرضا، انه يلقي ببيان حكومته امام المجلس النيابي لنيل الثقة، وحتى ان المادة نفسها، لم تحصر هذه المهمة، بل يمكن ان يقوم بها أي وزير في التشكيلة المقترحة.
ان الوضعية الدستورية التي احاطت برئيس مجلس الوزراء، كانت احد الاسباب المباشرة لاختلال صيغة التوازن في الحكم التي سادت مختلف الحقبات الحكومية التي مارست الحكم مع رئيس الجمهورية ، والتي غالبا ما اظهرت فتورا في العلاقة بين رأسي السلطة التنقيذية عند نشوء أي ازمة حكومية او وطنية، الامر الذي دفع بالاطراف المساندة لرئيس الوزراء الى المطالبة بالمزيد من الصلاحيات الدستورية لاعادة التوازن الذي يعاني خللا واضحا في الاساس.فهل اتت التعديلات الدستورية الاخيرة، موافقة لتطلعات المنادين بتوسيع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ام لا؟
في الواقع، ان التدقيق في المادة (64) من الدستور المعدّل وفقراتها الثماني ، التي خصصت لصلاحيات رئيس مجلس الوزراء، تظهر بعض الصلاحيات في الشكل، وبنفس المستوى الذي قُيّدت فيه شكلا صلاحيات رئيس الجمهورية ، اضافة الى ان الصلاحيات المذكورة في نفس المادة تكرس صلاحياته بنص مكتوب بعدما مارسها عرفا.
فرئيس مجلس الوزراء ، عرفته المادة (64) على انه " رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها، ويعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يصنعها مجلس الوزراء". اذا بموجب نص هذه الفقرة، فإن رئيس مجلس الوزراء هو حكما رئيس الحكومة الذي يمثل مجلس الوزراء ويتكلم باسمه، أي بعبارة اخرى، ان رئيس الحكومة هو المسؤول عن سياسة الحكومة تعبيرا وتنفيذا، وهذا الحق وفق نص المادة (64) هو حصرا به ، وليس في أي شخص اخر سواه.
لقد حددت الفقرة الاولى من المادة (64) انه " يرأس مجلس الوزراء " في حال عدم حضور رئيس الجمهورية، وفي ذلك نص مكتوب آخر يحدد مهامه. اذ ان رئيس الحكومة كان في السابق يرأس " مجلسا وزاريا" في حال عدم حضور رئيس الجمهورية، ولا يسمى " مجلس الوزراء" ما يعني ان رئيس الحكومة يرأس مجلس الوزراء ويسمى قانونا ، اجتماعا لـ " مجلس الوزراء" وليس اجتماعا لـ " مجلس وزاري" وتكمن اهمية التفريق في هذه الحالة ؛ ان مجلس الوزراء، هو مؤسسة دستورية لها شخصيتها الدستورية والقانونية بمعزل عن رئاسة الجمهورية، الامر الذي لم يكن واضحا في دستور 1943 .
ووفقا للفقرة ( 2 ) من نفس المادة، فهو الذي يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية على مرسوم التعيين، وفي الواقع مارس رئيس الوزراء هذه المهمة عرفا في السابق، بخلاف ما نص عليه الدستور قبل التعديل الذي اناط مهمة تعيين الوزراء وتسمية رئيس من بينهم، برئيس الجمهورية.
ان الامر اللافت في هذه الفقرة اضافة الى وضوحها بنص مكتوب لصالح رئيس مجلس الوزراء، فإن تحديد مهلة تقديم بيانها الوزاري امام مجلس النواب لنيل الثقة بثلاثين يوما، تقطع الطريق على أي عملية للتسويف او المماطلة التي كانت سائدة في بعض العهود الرئاسية ، كما ان تحديد ممارسة عملها بعد نيل الثقة امر طبيعي في النظام البرلماني، الا ان مدى ممارسة صلاحياتها بعد " استقالتها او اعتبارها مستقيلة الا بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال" فتعتبر محاولة التفاف على أي خطوة يمكن ان تحدث من قبل رئيس الحكومة، باعتبار ان الامثلة على ذلك متعددة في تاريخ لبنان الدستوري، لا سيما في الفترات التي رأس فيها الرئيس رشيد كرامي الحكومة، كنموذج المقاطعة في العام 1969 مع الرئيس شارل حلو، ورئاسته للحكومة في أواخر عهد الرئيس سليمان فرنجيه، وكذلك مع الرئيس أمين الجميل في العام 1986 ومقاطعته وتفديم استقالة حكومته، وبقائه فيما بعد ممارسا مهامه الدستورية حتى اغتياله".
ج- مجلس الوزراء: يمكن القول ان محور ممارسة السلطة الاجرائية في لبنان باتت مناطة بمجلس الوزراء مجتمعا وفقا لبعض النصوص الدستورية المعدلة. فبعدما كانت هذه المهام يمارسها رئيس الجمهورية في السابق وفقا للمادة (17) ويعاونه الوزراء؛ بات مجلس الوزراء هو الذي يتولى السلطة مباشرة في جميع المجالات تقريرا وتنفيذا.
فالفقرات (1) و(2) و(3) و (4) من المادة (65) تعطي مختلف أوجه النشاطات العامة التي يمكن لمجلس الوزراء ممارستها، كاخضاع القوات المسلحة لسلطته، ووضع السياسة العامة للدولة، ووضع مشاريع القوانين، والمراسيم التنظيمية، وتعيين موظفي الدولة وصرفهم وقبول استقالتهم.
- ان الامر اللافت بخصوص مجلس الوزراء، هو تحديد صلاحياته بشكل واضح واناطة السلطة التنفيذية به. فرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، رغم تمتعهما بصلاحيات معينة، باتا مقيدين الى حد ما في ممارسة صلاحياتهما بموافقة مجلس الوزراء، الامر الذي يجعل مجلس الوزراء – ولو على الصعيد النظري – الاداة المركزية لهيكلية الدولة، اذا ما استبعدت بعض العوامل المؤثرة في اضعاف دوره بين المواقع الدستورية الاخرى.
- مظهر اّخر لتمييز مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية في ممارسة مهامه بمعزل عن الرئاسات الاخرى ، اجتماعه في مقر خاص، اضافة الى تحديد اّلية انعقاد جلساته، كنصاب، الثلثين، ومبدأ التصويت على القرارات اذا تعذر التوافق عليها، معطوفة على حصر المواضيع الاساسية التي تحتاج الى موافقة ثلثي اعضاء مجلس الوزراء .
- ان المادة (69) قد قطعت الطريق امام أي تأويل لاعتبار الحكومة مستقيلة، فقد حصرت الحالات التي تعتبر فيها مستقيلة: في استقالة رئيسها، وفقدان ثلث عدد اعضائها، بوفاة رئيسها، عند بدء ولاية رئيس الجمهورية، عند بدء ولاية مجلس النواب، ونزع ثقة المجلس النيابي عنها في حالتين، اما بطلب من مجلس النواب، او عند طرحها الثقة بنفسها .
2 – السلطة التشريعية:
رغم ان السلطة التشريعية في عهد الجمهورية الاولى قد عانت الكثير، ويعود ذلك الى الضغوط التي مورست عليها من قبل السلطة التنفيذية في احيان كثيرة، اضافة الى تشرذم الجسم النيابي، وافتقاره في الاساس لأصول اللعبة البرلمانية وآلياتها، كالكتل البرلمانية الفاعلة على سبيل المثال . فإنها تظل افضل حالا من السلطة التنفيذية، ولو بشكل نسبي عند النظر الى ممارسة النشاطات والاداء والنتائج.
غير ان التعديلات الدستورية فيما خص السلطة التشريعية، لم تعطها تحرراً كاملاً وانفصالاً تامين عن السلطة التنفيذية (وهذا أمر طبيعي في النظام البرلماني)، إلا انه يمكن ملاحظة الفرق بين الوضعين (السابق واللاحق للتعديل عبر تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية بشكل نسبي يسمح للسلطة التشريعية في حال أحسن استعمال النصوص، بممارسة أعمالها بمعزل عن الضغوط التي كانت تُمارس عليها. على أن هذه الإمكانية في التحرك، ليس مردها الى تعديلات طالت الجسم النيابي مجتمعاً، بل تعود في جوهرها إلى تقوية موقع رئيس المجلس النيابي الذي يكون من الناحية النظرية رئيس الأغلبية النيابية الموالية له.
إن أحد مظاهر تقوية موقع رئيس المجلس النيابي، انتخابه لمدة ولاية المجلس، أي اربع سنوات وفقاً للفقرة الأولى من المادة (44). وبذلك يكون رئيس المجلس قد تمكن من التحرك في مجال سلطاته التشريعية بهامش أوسع وأكبر لعدم اضطراره إلى مسايرة باقي المواقع الدستورية في نظام الحكم. ففي السابق كان رئيس المجلس النيابي ينتخب مع أعضاء هيئة مكتب المجلس لمدة عام واحد، الأمر الذي جعله مضطراً للتصرف ضمن اعتبارات كثيرة لتمكنه من إعادة انتخابه مرة أخرى ولمتابعة نهجه التشريعي.
على أن هذا الوضع الجديد الذي اكتسبه رئيس المجلس النيابي ليس مطلقاً، فقد حدّت منه الفقرة الأخيرة من نفس المادة، إذ أفسحت المجال لأعضاء المجلس إعادة النظر في موقعه عبر نزع الثقة عنه وعن نائبه بناء على طلب من ثلثي أعضاء مجلس النواب، وبعد عريضة يوقعها عشرة منهم.
بيد أن نزع الثقة عن الرئيس ونائبه قد حددت بشرطين أساسيين: الأول بعد مرور سنتين على انتخابهما، وهي فترة كافية ومعقولة لإثبات قدرته في ممارسة السلطة، وكذلك في تحديد وتنفيذ النهج التشريعي الذي يتبناه. أما الثاني فيتعلق في عدد الأعضاء الذين يطلبون نزع الثقة، وفي ذلك، قد ساوى الدستور بين نزع الثقة عن الرئيس ونائبه وبين تعديل الدستور نفسه. إذ ان الدستور قد لحظ هذه الأغلبية وآلية تنفيذها في نزع الثقة وتعديل الدستور، الأمر الذي يصعب توفره إذا لم تكن الأسباب الموجبة له أسباباً جوهرية وتتعلق بالقضايا الوطنية ذات الشأن.
مظهر آخر لتقوية موقع رئيس المجلس النيابي، يظهر في إلزامية اطلاعه على الاستشارات التي يجريها رئيس الجمهورية في معرض استشاراته لتكليف رئيس الحكومة بتشكيل الوزارة وفقاً للفقرة الثانية من المادة (53). فبعدما كان رئيس الجمهورية يكلّف أحد الشخصيات بتشكيل الحكومة وفقاً لاستشارات نيابية غالباً ما كانت شكلية، باتت الاستشارات ملزمة لرئيس الجمهورية وملزمه له باطلاع رئيس المجلس عليها، أي بعبارة أخرى، لقد اصبح رئيس المجلس النيابي شريكاً فعلياً لرئيس الجمهورية في آلية التكليف، الأمر الذي ساعد إلى حد كبير في توطيد العلاقة بين رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب من جهة وأعضاء المجلس النيابي الذين أبدوا رغبتهم في تكليفه من جهة أخرى.
ثالثاً : الطائفية السياسية
رغم أن المادة (95) المعدلة في دستور 1926 قد لحظت التوزيع الطائفي للوظائف، وبتشكيل الوزارة "بصورة مؤقتة" فقد ظلت تتحكم بدقة في مسار الحكم والحكومات منذ الاستقلال دون الإخلال بها ولو بأشكال غير مباشرة، بل ان الأمر تعدّى صفة "المؤقت" إلى صفة "الدائم" مع إبراز "نظام الكوتا" المغلق للطوائف حفاظاً على أشكال التوازن الشكلي في ممارسة الوظيفة العامة والحكم على السواء .
فلبنان بتركيبته الاجتماعية ـ الطائفية التي احتوت على ثماني عشرة طائفة معترف بها رسمياً، لها أنظمة أحوالها الشخصية وحقوقها وامتيازاتها تجعل من النظام السياسي ـ الدستوري اللبناني، نظاماً له بعد خاص لجهة علاقة الطائفية السياسية بممارسة الحكم. فالطائفية تغلغلت في أسس النظام وتكرّست به في أشكال دستورية وقانونية وعرفية". وأعطته ابعاداً إضافية لجهة المجموعات الاجتماعية التي عاشت فيه ومارست الحكم من خلال مؤسساته .
غير أن الأمر اللافت في ذلك، أن غالبية الطوائف اللبنانية وأحزابها وتياراتها السياسية، طالبت ولا تزال تطالب بإلغاء الطائفية السياسية، فيما مطالبها وممارستها العملية، دلّت ولا تزال تدل على التمسك بها وعدم التخلي عنها حتى في أسلوب الطرح لإلغائها. فمجمل مشاريع الإصلاح السياسي التي ظهرت حتى من بعض الفئات السياسية غير الطائفية، طمعت بمطالب طائفية بحتة. مثلاً ينص أحد البرامج بتاريخ 19/8/1975 على إلغاء الطائفية السياسية، بينما في البند الثالث منه على "تحقيق التوازن" وبيان آخر في 9/3/1984 يقول من "المستحسن عدم إلغاء أي فئة من الإسهام في المشاركة في إطار الحوار الوطني" بينما ينص البند الثاني على إلغاء الطائفية السياسية. وورقة عمل مشتركة قدمت الى مؤتمر الحوار الوطني في لوزان بتاريخ 20/3/1984 "إلغاء الطائفية الوظيفية على كل المستويات" بينما يضيف البيان، يعتمد هذا المبدأ فور تسوية أوضاع الطوائف المغبونة .
مشروعان آخران لم يريا النور، وقد هدفا إلى إعادة النظر في أسلوب المشاركة في الحكم، وهما الوثيقة الدستورية عام 1976، والاتفاق الثلاثي عام 1985، وكلاهما كرسا الطائفية السياسية. الأول عبر توزيع الرئاسات الثلاث بشكل طائفي وبنص مكتوب بعدما كان الأمر مكرساً عرفا، إضافة الى التساوي في عدد أعضاء المجلس النيابي. اما الثاني وإن لم يُشر إلى توزيع الرئاسات، فقد انشأ مجلساً للشيوخ على أن يُعطى للطائفة الدرزية، ولحظ تشكيل مجلس وزاري ووزراء دولة، إرضاء لبعض الطوائف.
مشاريع الإصلاح في مجملها، كانت محاولات من قبل الطوائف أو الأطراف السياسيين التي تمثلها لتثبيت مواقعها في مراكز الحكم، إضافة إلى أنها كرَّست الطائفية في جوهر مشاريعها. فهل اتت التعديلات الدستورية مغايرة للوضع السابق؟ أم حاولت التوفيق بين الالغاء والتمسك بها، عبر التدرج في إلغاء الطائفية السياسية؟
ان التدقيق في المادة (95) المعدلة وفقاً لنص وثيقة الوفاق الوطني، تظهر الرغبة في إلغاء الطائفية السياسية، إلا أنها ربطت بقضايا أخرى لا تقل تعقيداً عنها، بحيث أصبحت مسألة عامة دون أطر محددة لإلغائها من حيث الزمان على الأقل.
فإلغاء الطائفية وفقاً للفقرة الأول من نفس المادة، أعطت حق الالغاء لمجلس النواب "المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين" وعدا عن كون التوزيع الطائفي للمجلس، فان انتخاب أعضاء المجلس قد أسند في الأساس إلى قانون الانتخاب" الذي وزَّع المقاعد النيابية على أساس طائفي "كالتساوي" و"نسبياً بين المناطق" و"نسبياً بين الفئتين" إضافة الى اعتماد "المحافظة كدائرة انتخابية" .
لقد ارتبط الغاء الطائفية السياسية بالمجلس النيابي عبر "خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية" دون لحظ الأطر العامة "لاقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية" المناطة بالهيئة التي ستقدمها الى مجلسي النواب والوزراء.
إضافة الى هذه العموميات في الفقرة الأولى، فإن المرحلة الانتقالية التي أبرزتها المادة نفسها في الفقرتين (أ) و (ب) تظهر التمسك ببعض جوانب التوزيع الطائفي. فالفقرة (أ) أعطت الطوائف حق تمثيلها في الوزارة "بصورة عادلة" أما الفقرة (ب) فقد ألغت الطائفية في الوظيفة العامة في جميع المجالات باستثناء وظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها "دون تخصيص أية وظيفة لأي طائفة"
فرغم تخصيص الفئة الأولى لجهة مراعاة التوزيع الطائفي فيها، فإن الإيجابية الوحيدة التي ظهرت فيها، هي عدم حصر بعض المراكز ببعض الطوائف، على أن اعتماد الكفاءة ولو على الصعيد النظري تبقى إحدى الوسائل لسد بعض أنواع الخلل التي تنشأ في المؤسسات في غالب الأحيان.
ورغم ان هدف الإصلاحات السياسية في الأساس هو إلغاء الطائفية السياسية التي عُدل على أساسها الدستور، فإن نصاً آخر في الدستور يمكن أن يظهر بعض الوجوه في طائفية النظام. فالمادة (22) نصت: "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدث مجلسا للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية" . فظاهر النص هو وعد غير محدد بإلغاء الطائفية وبطريق غير مباشر، عبر انتخاب المجلس على أساس غير طائفي، لكن العلة تكمن في الفقرة المكملة لهذا الوعد، وهي استحداث مجلس الشيوخ سيضم مختلف العائلات الروحية، بمعنى أن هذه المادة أتت لتطمئن الطوائف اللبنانية إلى تمثيلها "العادل" في مؤسسة دستورية أنيطت بها قضايا مصيرية، دون تحديدها أو حصرها أو تعريفها .
إن مجلس الشيوخ كمؤسسة دستورية، ظل في غالب الأحيان، مخرجاً لتمثيل الاثنيات العرقية والقوميات والطوائف في الدول التي تتألف شعوبها من أصول غير متجانسة، بيد ان الأمر في لبنان إن تشابه في تلك الحالة (لجهة التعددية الطائفية) فإن إنشاء مجلس للشيوخ من الممكن ان يزيد في تعقيد القضايا الدستورية في لبنان، خصوصاً إذا لم يتم الاتفاق فيما بعد على صلاحياته بشكل دقيق، وعلى طرق تعامله مع السلطات الأخرى، إضافة إلى كون الغاية التي سينشأ من أجلها (وهي تمثيل الطوائف) تتناقض في الأساس مع مبدأ إلغاء الطائفية السياسية.
رابعاً : إيجابيات وسلبيات التعديلات الدستورية
ان ممارسة الحكم في أي دولة وفقاً لتقاليدها وأعرافها وقوانينها ودستورها، هي بالدرجة الأولى عملية تطورية وغير ثابتة. بمعنى أن أعرق الدساتير التي تبنّتها بعض الأنظمة المتطورة في العالم، لم تصل الى مرحلة الرقي والاستقرار، إلا بعد فترات متعاقبة من الزمن، إذ ان الأنظمة الرئاسية أو البرلمانية أو المختطة قد عانت الكثير من السلبيات قبل ان تستقر في ممارساتها الدستورية في الأنظمة التي تبنتها، وبالتالي فإن التعديلات الدستورية في لبنان، وإن كانت غير واسعة في الأساس، فإن وجودها على غير الوجه الأكمل، لا يعني عدم وجود الايجابيات فيها والتي يمكن أن تسهم مستقبلاً في تطوير الوضع الدستوري وبالتالي ممارسة الحكم بطرق مثلى.
أما الايجابيات التي تبرز في الدستور لجهة السلطة التشريعية فأبرزها:
ـ اعتماد النظام الديموقراطي البرلماني.
ـ إقرار مبدأ استقلالية السلطة التشريعية.
ـ إقرار مبدأ التوكيل العام الشامل.
ـ انتخاب المجلس النيابي بالاقتراع العام المباشر من قبل جميع المواطنين.
ـ أخضاع الأعمال التشريعية لمجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين وهذا ما تم مؤخراً.
ـ تقوية موقع رئاسة المجلس النيابي بموازاة السلطة التنفيذية.
أما لجهة السلبيات فمنها:
ـ اغتصاب السلطة التنفيذية لحق المجلس النيابي عن طريق "مشاريع القوانين المعجلة".
ـ امكانية إشراك غير المجلس النيابي في الأمور التشريعية بطرق غير مباشرة، إذا ما حددت صلاحيات مجلس الشيوخ لاحقاً لهذه الجهة.
أما لجهة السلطة التنفيذية فيمكن تسجيل الإيجابيات التالية:
ـ تحديد صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ومسؤولياته بنص مكتوب.
ـ إناطة السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء، وتحديد آلية ممارسته لسلطته، والحالات التي يكف عنها.
ـ شبه التوازن الظاهر بين صلاحيات ومسؤوليات كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء.
ـ إخضاع بعض اعمال رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء لموافقة مجلس الوزراء.
خامساً : مستقبل النظام السياسي الدستوري في لبنان
إن مراقبة الظروف التي أحاطت بلبنان ومجتمعه في الوصول الى صيغة النظام الحالية، تظهر ان التسوية القائمة حالياً عبر وثيقة الوفاق الوطني والتعديلات الدستورية التي جرت على أساسها، كانت مخرجاً لكل الأطراف التي انخرطت في الحرب الأهلية. وإن كانت لا تلبي طموحات البعض، فهي لم تغضب غالبيتهم، أي بعبارة اخرى، إن النظام القائم حالياً، أعطى الحد الأدنى من السقف الأعلى الذي رفعته بعض الأطراف، كما راعى ظروف ومتطلبات كل فئة من أجل وضعها بموازاة الفئات الأخرى دون هيمنة فئة على فئة.
فإن أُخذ من صلاحيات رئيس الجمهورية، فإنها لم تعط لرئيس مجلس الوزراء، بل حولت الى مجلس الوزراء. وإن أسندت بعض الصلاحيات لرئيس مجلس الوزراء، فقد أُسند له ما كان يمارسه عرفاً. وإن مارس رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بعض الصلاحيات، فقد اخضعت لموافقة مجلس الوزراء، وإن أبقت الجسم النيابي كما هو، فقد تميّز رئيس السلطة التشريعية بموقعه عبر مشاركته في آلية تعيين رئيس مجلس الوزراء.
فالتعديلات الدستورية والأسس التي قامت عليها، والتي أبرزت توزيع بعض الصلاحيات وإبراز رئاساتها، يمكن القول إن آلية التعاون المرسومة فيما بينها، يمكن أن تؤدي الى ظهور مؤسسات دستورية قائمة بذاتها بمعزل عن أشخاص رئاساتها. الأمر الذي افتقره لبنان من استقلاله. فالسمة العامة للدول المتطورة واستقرارها هو ارتكازها على بنية مؤسساتية في مزاولة اعمالها الأمر الذي يخفف من أهمية الشخص الذاتية، ويجيرها لحساب المؤسسة التي يتولى رئاستها.
على ان هذه التعديلات والنصوص القانونية التي يمكن أن تكتمل في المستقبل، لا تفي بالغرض المطلوب إذا لم تكن إرادة العيش المشترك موجودة بين فئاته. وإرادة العيش هذه يمكن تكريسها وتقويتها عبر تقوية المؤسسات، سياسية كانت أم إجتماعية ـ إقتصادية، لتؤدي دورها الصحيح في عملية انصهار المجتمع، وهنا من الصعب إغفال دور القيمين على المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الإنتقالية ( غير المحددة ) التي لحظتها تسوية الطائف.
فنظام الحكم في مطلق دولة، لا تحدده قواعده القانونية، ولا أصوله الدستورية وحدها، بل تلعب اعتبارات كثيرة في مجال استمراره واستقراره، منها الأشخاص القيمون على الحكم فيه، ومنها واقعية السياسة المعتمدة منهم، ومنها تجاوب الشعب مع حكامه. فمجمل الاعتبارات سالفة الذكر يمكن ان تحدد مستقبل النظام في لبنان، فكلما ارتفعت مستويات ارتقائها نحو الأمثل، كلما كُتب للنظام السياسي ـ الدستوري في لبنان : إمكانية تطويره واستمراره، كلما انخفضت ستزيد إمكانية انفجاره من جديد وبالتالي دفع الضريبة مجدداً للوصول الى تسوية أخرى.
صحيح ان هناك اعتبارات خارجية كثيرة ساهمت بعض الأحيان في استقرار النظام السياسي ـ الدستوري اللبناني أو تفجيره، إلا ان هذه الاعتبارات لا يمكن أن تفعل فعلها لو أنها لم تجد ظروف نجاحها متوافرة في الداخل. من هنا يمكن القول ان تحصين الوضع الداخلي للبنان، على صعيد المؤسسات بمختلف أوجه نشاطاتها يمكن أن يضع لبنان بمنأى عن بعض التدخلات الخارجية مع بعض ازماته الداخلية.
التسميات:
دراسات دستورية,
قضايا لبنانية
05/09/2010
ماذا بعد اعادة التموضع الأمريكي في العراق؟
ماذا بعد اعادة التموضع الأمريكي في العراق؟
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت قي صحيفة الخليج الاماراتية 6/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
من السذاجة السياسية بمكان اعتبار احتلال العراق حدثا دوليا عابرا في تاريخ الصراعات الدولية والاحتلالات التي نجمت عنها.فالتدقيق في القضية يظهر ان الاحتلال جاء ضمن سياق إحكام القبض على منطقة تعني الكثير لواشنطن بشكل خاص كما الغرب بشكل عام.وليس بالمبالغة بمكان القول ،ان احداث 11 ايلول 2001 كانت بنظر المحافظين الجدد في اميركا وسيلة ومبررا في سياق تنفيذ مشروع الألفية الثالثة الهادف الى تركيز وتدعيم النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فماذا عن الانسحاب الامريكي؟ وما هو مصير العراق؟ وما هي تداعيات الانسحاب الاقليمية؟
وبصرف النظر عن التسمية ان كانت انسحابا، ام اعادة تموضع سياسي وعسكري في المنطقة وليس في العراق تحديدا،فالعملية لها دلالاتها الهامة التي ينبغي قراءاتها من وجهة نظر الربح والخسارة التي تكبدتها واشنطن في احتلالها المباشر للعراق مدة سبع سنوات ونصف.طبعا لم تخرج عن طيب خاطر وبارادة حرة،بل كان الخروج انعكاسا لوضع الرمال المتحركة التي زجت نفسها به،تماما كالعديد من الحالات التي وقعت بها ماضيا في غير منطقة من العالم.علاوة على ذلك النتائج التي تخيلت انها ستصل اليها لم تكن بحجم الخسائر المادية والمعنوية والبشرية التي تكبدتها،فحربها التي تشمل بداية افغانستان (2001) ومرورا بالعراق (2003) وانتهاءا بلبنان (2006)،كانت الأكثر كلفة في تاريخ الحروب العالمية،في مقابل تمنين النفس باماكانية احراز انتصارات وهمية تحت شعارات واهية تدرك تماما انها لم ولن تتمكن من تحقيق اي منها. فماذا فعلت ديموقراطية الدبابات الامريكية ومختلف اسلحتها في العراق؟ هل تمكنت من تطويره ونقله من ضفة الى أخرى؟ ام زادته بؤسا وفقرا ؟ألم يكن العراق يوما يلامس الوصول الى مصاف الدول الاقليمية الكبرى في الشرق الأوسط لا بفضل امكاناته وموارده فقط وانما ايضا بقدراته العلمية والعملية وان وّظِفت بطموحات خيالية احيانا؟. والى اين وصل شعبه ومؤسساته،الم تُشرذم فئاته وشرائحه الاجتماعية ويُدمر اقتصاده وتُفكك اوصاله؟ وماذا عن مستقبله وعلاقاته ودوره ؟ ربما اسئلة لا تعد ولا تحصى تثيرها عملية الانسحاب الامريكي من بلد يرقد على 120 مليار برميل من النفط بحسب التقديرات المؤكدة والموثقة.
ان التدقيق في الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تظهر ان ما اسمته انسحايا من العراق ،ليس الا اعادة تموضع سياسي – عسكري يهدف الى اعادة ترتيب اوراقها في المنطقة بدءا من شرق آسيا وانتهاءا بالمغرب العربي.فالولايات المتحدة هي بحاجة لاعادة توصيف وتكييف لمجمل اوضاعها ضمن الشرق الأوسط بخاصة ان الكثير من الاستحقاقات الامريكية الداخلية والخارجية ايضا بدأت تستنفد الوقت المتاح للرئيس باراك اوباما وادارته، ومن بينها الانتخابات الجزئية لمجلس الممثلين،علاوة على اطلاق المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المباشرة اضافة الى مشروع تجديد ولايته الثانية،علاوة على تعثر اوضاعها في افغنستان وما يتعلق بها من جغرافيا سياسية في وسط آسيا.
ومن المفارقات المأساوية ان يعتبر اعادة التموضع الامريكي بداية لحفلة تمزيق وتفتيت جديدين للعراق،اضافة الى اشتعال الوضع الداخلي بمزيد من التفجيرات وعمليات القتل الجماعي،في ظل فراغ سياسي مؤسساتي مخيف، ومن المؤسف ايضا ان يصل العراق يوما الى التحسّر على ايام الاحتلال الامريكي،بعدما وصل الى مرحلة التحسّر والتندّر ايضا على مرحلة حكم صدام حسين ابان الاحتلال الامريكي المباشر.
ان مصير العراق بعد اعادة التموضع السياسي والعسكري الامريكي،لا يقل خطورة عن الوضع السابق،باعتبار ان العراق سيكون مشرّع الابواب على احتمالات كثيرة من الصعب ان يواجهها منفردا .اذا ان غياب المؤسسات القوية الفاعلة سيتيح مزيدا من الفرص لحالات التآكل والنزاعات والصراعات القابلة للاشتعال في غير مكان وزمان عراقيين. وفي ظل هذا الواقع المأساوي سيكون بمقدور الولايات المتحدة ادارة ازمات العراق والمنطقة بشكل افضل بما تبقى لها من خمسين الف جندي داخل العراق، وأضعاف هذا العدد في القواعد الامريكية في الخليج وغيرها.
اما تداعيات اعادة التموضع اقليميا ،فالأمر يبدو اشد تعقيدا وخطرا على مجمل علاقات العراق بدول الجوار الجغرافي.وبصرف النظر عن اتاحة واشنطن لدول الجوار التدخل في الشؤون العراقية واستغلالها،فإن مصالح متقاطعة تبدو في الافق السياسي بين واشنطن والعديد من هذه الدول كل على طريقته وقدرته وامكاناته وارادته ونياته.
ثمة العديد من الملفات والقضايا والمسائل والطموحات التي تغرق بها العديد من دول المنطقة،بدءا من اسرائيل التي لها مصلحة مباشرة في رؤية العراق مفتتا ومصدعا ،خائر القوى غير قادر على مواجهة اي تحدٍ خارجي،اضافة الى البرنامج النووي الايراني،مرورا بحالات الضغوط احيانا والغزل السياسي احيانا على سوريا،معطوفا على الطموحات التركية، وصولا الى حالات الشد والجذب بين ما يسمى بقوى الاعتدال العربي وقوى الممانعة والمقاومة،وجميع هذه الأطراف تعتبر نفسها معنية بشكل او بآخر بالوضع العراقي وتداعياته،ومن غير المستغرب ان يكون لكل هذه الفئات تطلعاتها وبرامجها التي ستحاول الاستفادة منها بشكل او بآخر.
ان اهم ما انجزته واشنطن عبر احتلالها العراق مجموعة من الأهداف المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وبالعراق تحديدا عبر الاتفاقية الامنية التي يفوح منها رائحة النفط وأشياء كثيرة ايضا.لقد ابقت الولايات المتحدة ثلث قواتها في العراق بهدف حماية ثالث احتياط نفطي في العالم،وأنهت ما اسمته العمليات الحربية في الوقت الذي لا زالت تحتل وتتواجد في العديد من بقاع العالم ومنها الخليح العربي بذريعة حماية هذه الدول من الأخطار الخارجية.
أخيرا،وحده شعب العراق ينبغي ان يتشبث بأرضه بمواجهة التموضع الامريكي،علَّ وعسى يأتي يوما يكون فيه قادرا على اعادة تحرير بلده وبناء مؤسساته القادرة والكفيلة بإعادة العراق ركنا اقليميا يُعتد به ويُحسب له ولا يُخاف منه او عليه.
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت قي صحيفة الخليج الاماراتية 6/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
من السذاجة السياسية بمكان اعتبار احتلال العراق حدثا دوليا عابرا في تاريخ الصراعات الدولية والاحتلالات التي نجمت عنها.فالتدقيق في القضية يظهر ان الاحتلال جاء ضمن سياق إحكام القبض على منطقة تعني الكثير لواشنطن بشكل خاص كما الغرب بشكل عام.وليس بالمبالغة بمكان القول ،ان احداث 11 ايلول 2001 كانت بنظر المحافظين الجدد في اميركا وسيلة ومبررا في سياق تنفيذ مشروع الألفية الثالثة الهادف الى تركيز وتدعيم النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فماذا عن الانسحاب الامريكي؟ وما هو مصير العراق؟ وما هي تداعيات الانسحاب الاقليمية؟
وبصرف النظر عن التسمية ان كانت انسحابا، ام اعادة تموضع سياسي وعسكري في المنطقة وليس في العراق تحديدا،فالعملية لها دلالاتها الهامة التي ينبغي قراءاتها من وجهة نظر الربح والخسارة التي تكبدتها واشنطن في احتلالها المباشر للعراق مدة سبع سنوات ونصف.طبعا لم تخرج عن طيب خاطر وبارادة حرة،بل كان الخروج انعكاسا لوضع الرمال المتحركة التي زجت نفسها به،تماما كالعديد من الحالات التي وقعت بها ماضيا في غير منطقة من العالم.علاوة على ذلك النتائج التي تخيلت انها ستصل اليها لم تكن بحجم الخسائر المادية والمعنوية والبشرية التي تكبدتها،فحربها التي تشمل بداية افغانستان (2001) ومرورا بالعراق (2003) وانتهاءا بلبنان (2006)،كانت الأكثر كلفة في تاريخ الحروب العالمية،في مقابل تمنين النفس باماكانية احراز انتصارات وهمية تحت شعارات واهية تدرك تماما انها لم ولن تتمكن من تحقيق اي منها. فماذا فعلت ديموقراطية الدبابات الامريكية ومختلف اسلحتها في العراق؟ هل تمكنت من تطويره ونقله من ضفة الى أخرى؟ ام زادته بؤسا وفقرا ؟ألم يكن العراق يوما يلامس الوصول الى مصاف الدول الاقليمية الكبرى في الشرق الأوسط لا بفضل امكاناته وموارده فقط وانما ايضا بقدراته العلمية والعملية وان وّظِفت بطموحات خيالية احيانا؟. والى اين وصل شعبه ومؤسساته،الم تُشرذم فئاته وشرائحه الاجتماعية ويُدمر اقتصاده وتُفكك اوصاله؟ وماذا عن مستقبله وعلاقاته ودوره ؟ ربما اسئلة لا تعد ولا تحصى تثيرها عملية الانسحاب الامريكي من بلد يرقد على 120 مليار برميل من النفط بحسب التقديرات المؤكدة والموثقة.
ان التدقيق في الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تظهر ان ما اسمته انسحايا من العراق ،ليس الا اعادة تموضع سياسي – عسكري يهدف الى اعادة ترتيب اوراقها في المنطقة بدءا من شرق آسيا وانتهاءا بالمغرب العربي.فالولايات المتحدة هي بحاجة لاعادة توصيف وتكييف لمجمل اوضاعها ضمن الشرق الأوسط بخاصة ان الكثير من الاستحقاقات الامريكية الداخلية والخارجية ايضا بدأت تستنفد الوقت المتاح للرئيس باراك اوباما وادارته، ومن بينها الانتخابات الجزئية لمجلس الممثلين،علاوة على اطلاق المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المباشرة اضافة الى مشروع تجديد ولايته الثانية،علاوة على تعثر اوضاعها في افغنستان وما يتعلق بها من جغرافيا سياسية في وسط آسيا.
ومن المفارقات المأساوية ان يعتبر اعادة التموضع الامريكي بداية لحفلة تمزيق وتفتيت جديدين للعراق،اضافة الى اشتعال الوضع الداخلي بمزيد من التفجيرات وعمليات القتل الجماعي،في ظل فراغ سياسي مؤسساتي مخيف، ومن المؤسف ايضا ان يصل العراق يوما الى التحسّر على ايام الاحتلال الامريكي،بعدما وصل الى مرحلة التحسّر والتندّر ايضا على مرحلة حكم صدام حسين ابان الاحتلال الامريكي المباشر.
ان مصير العراق بعد اعادة التموضع السياسي والعسكري الامريكي،لا يقل خطورة عن الوضع السابق،باعتبار ان العراق سيكون مشرّع الابواب على احتمالات كثيرة من الصعب ان يواجهها منفردا .اذا ان غياب المؤسسات القوية الفاعلة سيتيح مزيدا من الفرص لحالات التآكل والنزاعات والصراعات القابلة للاشتعال في غير مكان وزمان عراقيين. وفي ظل هذا الواقع المأساوي سيكون بمقدور الولايات المتحدة ادارة ازمات العراق والمنطقة بشكل افضل بما تبقى لها من خمسين الف جندي داخل العراق، وأضعاف هذا العدد في القواعد الامريكية في الخليج وغيرها.
اما تداعيات اعادة التموضع اقليميا ،فالأمر يبدو اشد تعقيدا وخطرا على مجمل علاقات العراق بدول الجوار الجغرافي.وبصرف النظر عن اتاحة واشنطن لدول الجوار التدخل في الشؤون العراقية واستغلالها،فإن مصالح متقاطعة تبدو في الافق السياسي بين واشنطن والعديد من هذه الدول كل على طريقته وقدرته وامكاناته وارادته ونياته.
ثمة العديد من الملفات والقضايا والمسائل والطموحات التي تغرق بها العديد من دول المنطقة،بدءا من اسرائيل التي لها مصلحة مباشرة في رؤية العراق مفتتا ومصدعا ،خائر القوى غير قادر على مواجهة اي تحدٍ خارجي،اضافة الى البرنامج النووي الايراني،مرورا بحالات الضغوط احيانا والغزل السياسي احيانا على سوريا،معطوفا على الطموحات التركية، وصولا الى حالات الشد والجذب بين ما يسمى بقوى الاعتدال العربي وقوى الممانعة والمقاومة،وجميع هذه الأطراف تعتبر نفسها معنية بشكل او بآخر بالوضع العراقي وتداعياته،ومن غير المستغرب ان يكون لكل هذه الفئات تطلعاتها وبرامجها التي ستحاول الاستفادة منها بشكل او بآخر.
ان اهم ما انجزته واشنطن عبر احتلالها العراق مجموعة من الأهداف المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وبالعراق تحديدا عبر الاتفاقية الامنية التي يفوح منها رائحة النفط وأشياء كثيرة ايضا.لقد ابقت الولايات المتحدة ثلث قواتها في العراق بهدف حماية ثالث احتياط نفطي في العالم،وأنهت ما اسمته العمليات الحربية في الوقت الذي لا زالت تحتل وتتواجد في العديد من بقاع العالم ومنها الخليح العربي بذريعة حماية هذه الدول من الأخطار الخارجية.
أخيرا،وحده شعب العراق ينبغي ان يتشبث بأرضه بمواجهة التموضع الامريكي،علَّ وعسى يأتي يوما يكون فيه قادرا على اعادة تحرير بلده وبناء مؤسساته القادرة والكفيلة بإعادة العراق ركنا اقليميا يُعتد به ويُحسب له ولا يُخاف منه او عليه.
التسميات:
دراسات امنية وعسكرية,
قضايا اسلامية,
قضايا دولية,
قضايا عربية
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)