ماذا بعد اعادة التموضع الأمريكي في العراق؟
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت قي صحيفة الخليج الاماراتية 6/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
من السذاجة السياسية بمكان اعتبار احتلال العراق حدثا دوليا عابرا في تاريخ الصراعات الدولية والاحتلالات التي نجمت عنها.فالتدقيق في القضية يظهر ان الاحتلال جاء ضمن سياق إحكام القبض على منطقة تعني الكثير لواشنطن بشكل خاص كما الغرب بشكل عام.وليس بالمبالغة بمكان القول ،ان احداث 11 ايلول 2001 كانت بنظر المحافظين الجدد في اميركا وسيلة ومبررا في سياق تنفيذ مشروع الألفية الثالثة الهادف الى تركيز وتدعيم النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فماذا عن الانسحاب الامريكي؟ وما هو مصير العراق؟ وما هي تداعيات الانسحاب الاقليمية؟
وبصرف النظر عن التسمية ان كانت انسحابا، ام اعادة تموضع سياسي وعسكري في المنطقة وليس في العراق تحديدا،فالعملية لها دلالاتها الهامة التي ينبغي قراءاتها من وجهة نظر الربح والخسارة التي تكبدتها واشنطن في احتلالها المباشر للعراق مدة سبع سنوات ونصف.طبعا لم تخرج عن طيب خاطر وبارادة حرة،بل كان الخروج انعكاسا لوضع الرمال المتحركة التي زجت نفسها به،تماما كالعديد من الحالات التي وقعت بها ماضيا في غير منطقة من العالم.علاوة على ذلك النتائج التي تخيلت انها ستصل اليها لم تكن بحجم الخسائر المادية والمعنوية والبشرية التي تكبدتها،فحربها التي تشمل بداية افغانستان (2001) ومرورا بالعراق (2003) وانتهاءا بلبنان (2006)،كانت الأكثر كلفة في تاريخ الحروب العالمية،في مقابل تمنين النفس باماكانية احراز انتصارات وهمية تحت شعارات واهية تدرك تماما انها لم ولن تتمكن من تحقيق اي منها. فماذا فعلت ديموقراطية الدبابات الامريكية ومختلف اسلحتها في العراق؟ هل تمكنت من تطويره ونقله من ضفة الى أخرى؟ ام زادته بؤسا وفقرا ؟ألم يكن العراق يوما يلامس الوصول الى مصاف الدول الاقليمية الكبرى في الشرق الأوسط لا بفضل امكاناته وموارده فقط وانما ايضا بقدراته العلمية والعملية وان وّظِفت بطموحات خيالية احيانا؟. والى اين وصل شعبه ومؤسساته،الم تُشرذم فئاته وشرائحه الاجتماعية ويُدمر اقتصاده وتُفكك اوصاله؟ وماذا عن مستقبله وعلاقاته ودوره ؟ ربما اسئلة لا تعد ولا تحصى تثيرها عملية الانسحاب الامريكي من بلد يرقد على 120 مليار برميل من النفط بحسب التقديرات المؤكدة والموثقة.
ان التدقيق في الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تظهر ان ما اسمته انسحايا من العراق ،ليس الا اعادة تموضع سياسي – عسكري يهدف الى اعادة ترتيب اوراقها في المنطقة بدءا من شرق آسيا وانتهاءا بالمغرب العربي.فالولايات المتحدة هي بحاجة لاعادة توصيف وتكييف لمجمل اوضاعها ضمن الشرق الأوسط بخاصة ان الكثير من الاستحقاقات الامريكية الداخلية والخارجية ايضا بدأت تستنفد الوقت المتاح للرئيس باراك اوباما وادارته، ومن بينها الانتخابات الجزئية لمجلس الممثلين،علاوة على اطلاق المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المباشرة اضافة الى مشروع تجديد ولايته الثانية،علاوة على تعثر اوضاعها في افغنستان وما يتعلق بها من جغرافيا سياسية في وسط آسيا.
ومن المفارقات المأساوية ان يعتبر اعادة التموضع الامريكي بداية لحفلة تمزيق وتفتيت جديدين للعراق،اضافة الى اشتعال الوضع الداخلي بمزيد من التفجيرات وعمليات القتل الجماعي،في ظل فراغ سياسي مؤسساتي مخيف، ومن المؤسف ايضا ان يصل العراق يوما الى التحسّر على ايام الاحتلال الامريكي،بعدما وصل الى مرحلة التحسّر والتندّر ايضا على مرحلة حكم صدام حسين ابان الاحتلال الامريكي المباشر.
ان مصير العراق بعد اعادة التموضع السياسي والعسكري الامريكي،لا يقل خطورة عن الوضع السابق،باعتبار ان العراق سيكون مشرّع الابواب على احتمالات كثيرة من الصعب ان يواجهها منفردا .اذا ان غياب المؤسسات القوية الفاعلة سيتيح مزيدا من الفرص لحالات التآكل والنزاعات والصراعات القابلة للاشتعال في غير مكان وزمان عراقيين. وفي ظل هذا الواقع المأساوي سيكون بمقدور الولايات المتحدة ادارة ازمات العراق والمنطقة بشكل افضل بما تبقى لها من خمسين الف جندي داخل العراق، وأضعاف هذا العدد في القواعد الامريكية في الخليج وغيرها.
اما تداعيات اعادة التموضع اقليميا ،فالأمر يبدو اشد تعقيدا وخطرا على مجمل علاقات العراق بدول الجوار الجغرافي.وبصرف النظر عن اتاحة واشنطن لدول الجوار التدخل في الشؤون العراقية واستغلالها،فإن مصالح متقاطعة تبدو في الافق السياسي بين واشنطن والعديد من هذه الدول كل على طريقته وقدرته وامكاناته وارادته ونياته.
ثمة العديد من الملفات والقضايا والمسائل والطموحات التي تغرق بها العديد من دول المنطقة،بدءا من اسرائيل التي لها مصلحة مباشرة في رؤية العراق مفتتا ومصدعا ،خائر القوى غير قادر على مواجهة اي تحدٍ خارجي،اضافة الى البرنامج النووي الايراني،مرورا بحالات الضغوط احيانا والغزل السياسي احيانا على سوريا،معطوفا على الطموحات التركية، وصولا الى حالات الشد والجذب بين ما يسمى بقوى الاعتدال العربي وقوى الممانعة والمقاومة،وجميع هذه الأطراف تعتبر نفسها معنية بشكل او بآخر بالوضع العراقي وتداعياته،ومن غير المستغرب ان يكون لكل هذه الفئات تطلعاتها وبرامجها التي ستحاول الاستفادة منها بشكل او بآخر.
ان اهم ما انجزته واشنطن عبر احتلالها العراق مجموعة من الأهداف المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وبالعراق تحديدا عبر الاتفاقية الامنية التي يفوح منها رائحة النفط وأشياء كثيرة ايضا.لقد ابقت الولايات المتحدة ثلث قواتها في العراق بهدف حماية ثالث احتياط نفطي في العالم،وأنهت ما اسمته العمليات الحربية في الوقت الذي لا زالت تحتل وتتواجد في العديد من بقاع العالم ومنها الخليح العربي بذريعة حماية هذه الدول من الأخطار الخارجية.
أخيرا،وحده شعب العراق ينبغي ان يتشبث بأرضه بمواجهة التموضع الامريكي،علَّ وعسى يأتي يوما يكون فيه قادرا على اعادة تحرير بلده وبناء مؤسساته القادرة والكفيلة بإعادة العراق ركنا اقليميا يُعتد به ويُحسب له ولا يُخاف منه او عليه.