خلفيات العمالة لاسرائيل في لبنان وتداعياتها
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
نشرت في موقع الشرق الأوسط 17/9/2010
www.drkhalilhussein.blogspot.com
مفارقة العمالة لاسرائيل في لبنان انها باتت وجهة نظر، في بلد تمكنت مقاومته من تسجيل سابقة في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي وهي اجبار قوات الاحتلال على الانسحاب عنوة من اراض احتلتها لربع قرن تقريبا.علاوة على ذلك ثمة من تعدى المعقول والمقبول عادة في الحياة السياسية اللبنانية ليعبر عن آراء ومواقف غير مسبوقة تجاه اسرائيل.
في الواقع تعتبر العمالة في مطلق بلد قضية من الصعب او من المستحيل تبريرها او ايجاد الاعذار التخفيفية لها. وفي مطلق الأحوال ثمة اجماع على ضخامة السلوك الذي يؤدي الى احكام تصل الى الاعدام دون معارضة تذكر حتى في الدول التي تتغنى بالديموقراطية وحقوق الانسان والإعراض عن تنفيذ احكام الاعدامات.واذا كانت طبيعة الأمور ترتدي هذه الحدة في النظرة والتعامل مع مثل تلك القضايا في معظم دول العالم،فهل ثمة ما يبرر ان تكون الأمور مختلفة في لبنان مثلا.في الواقع يمكن تسجيل العديد من الملاحظات والمفارقات في هذا السياق ومن بينها:
- لقد بلغ عدد المعلن عن اكتشاف عمالتهم لاسرائيل في لبنان مؤخرا الى 154 عميلا،وهم بطبيعة الحال ينتمون الى طوائف ومذاهب مختلفة،كما هم من مناطق لبنانية متعددة،علاوة على النوعية والشرائح الاجتماعية التي ينتمون اليها.فمثلا بينهم المدنيون كما العسكريون،كذلك البيئات المتواضعة كما الميسورة،وفيهم المختص ذات التعليم العالي كما شبه الامي.باختصار مروحة متنوعة من العملاء تتناسب مع طبيعة العمل الذي يمكن ان يوكل اليهم.
- ثمة قسم منهم سبق وتعامل مع اسرائيل علنا ومباشرة عبر الميليشيات التي انشأتها اسرائيل في اعقاب احتلالها لجنوب لبنان بعد العام 1978،ومنهم من حكم عليه بأحكام تخفيفية جدا بعد انسحاب اسرائيل في العام 2000 ونفذت محكوميتهم وعادوا الى التعامل مع اسرائيل.
- ان النسبة التي كشف عنها حتى الآن هي نسبة كبيرة مقارنة بتعداد الشعب اللبناني،وهي بطيعة الأمر نسبة مقلقة، لها دلالاتها وابعادها التي ينبغي التدقيق فيها وبأسبابها وسبل معالجتها.
- ان الاعمال التي نفذتها هذه الشبكات افرادا ومجموعات ادت الى المسِّ بشكل مباشر في العديد من مواقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اللبنانية، وبالتالي تعتبر نوعية الأعمال المطلوبة من هؤلاء العملاء اعمالا حساسة جدا تشمل قضايا ومسائل وأمور ليست امنية عسكرية بالضرورة متعلقة فقط بالمقاومة اللبنانية مثلا.
- ان التدقيق بصنف العملاء ذات الطبيعة التكنولوجية المعلوماتية وما كلفوا به عمليا،يظهر قدرة اسرائيل على كشف الواقع اللبناني بمختلف جوانبه والتحكم به بنسب لافتة تستطيع من خلاله مسك الكثير من مفاصل الحياة السياسية والامنية والمالية والاقتصادية اللبنانية،باختصار بات لبنان مكشوفا بشكل شبه كامل لاسرائيل.
- وغريب المفارقات ما يتم التداول به تأويلا وتصريحا، وبشكل واضح وملتبس احيانا،من ان ثمة فئة من وزن اصحاب الحل والعقد متورطون بالعمالة،والملفت في هذا الموضوع بالذات انه يُستعمل في كثير من الحالات كمسائل للابتزاز السياسي بين الأطراف السياسية اللبنانية،او في مجال المقايضة في تمرير بعض الملفات ذات الطبيعة الوازنة.
- والأغرب والأنكى في هذا المجال،تصريح احد نواب حزب الكتائب اللبنانيةعلنا بأن حزبه قد تعامل واستفاد من اسرائيل في مواجهة سوريا في لبنان، ورغم ان مثل هذه االمعلومات لا تعتبر من نوع افشاء الأسرار في لبنان الا انها ارتدت طابع التحدي وهي سابقة في الحياة السياسية اللبنانية التي يُصرح بها نائب في الندوة البرلمانية بهذا الوضوح،ما يمكن ان يشكل منعطفا في طريقة مقاربة الأمور في لبنان مستقبلا اذا مر الأمر مرور الكرام. وهنا من المفيد الاشارة الى ان الحصانة البرلمانية لا يمكن الاعتداد بها لملاحقة النائب على مثل تلك التصريحات،باعتبارها ليست موضوع تصريحات سياسية بقدر ما هي مواقف تشكل عملا عدائيا ضد الامن الوطني اللبناني التي تصل احكامه في قانون العقوبات اللبناني الى الاعدام.
- ان خصوصية الواقع اللبناني تعطي قضية العمالة ابعادا خاصة في لبنان من الصعب تجاوزها والقفز فوقها.فلبنان مثلا هو في حالة حرب عمليا مع اسرائيل اولا، كما ان ثمة بعض الاراضي التي لا زالت اسرئيل تحتلها (مزارع شبعا وتلال كقرشوبا) ثانيا،كما ان عقيدة قواته المسلحة تعتبر اسرائيل دولة عدوة،علاوة على وجود القوة الوازنة للمقاومة في مواجهة اسرائيل بخلاف كل دول الطوق الجغرافي لفلسطين المحتلة. وفوق ذلك كله ثمة نصوص قانونية واضحة جدا لا لبس فيها تحدد العدو من الصديق كما تحدد العقوبات المفترضة لكل جريمة ترتكب.
- ان الاحداث التي مر بها لبنان منذ النصف الأول لعقد السبعينيات من القرن الماضي، اسَّس لبيئة اجتماعية هشة قابلة للاختراق بسهولة نظرا لتداخل الكثير من العوامل الخارجية وتأثيراتها في الواقع الداخلي اللبناني وبخاصة في ما سُميَّ لاحقا بالبيئات الحاضنة للعملاء،وهي ليست بالضرورة بيئات ذات بعد طائفي او مذهبي كما يحاول البعض الترويج له او تظهيره كثابت في التركيبة الطائفية في لبنان.
صحيح ان لبنان مرَّ في ظروف محلية واقليمية ودولية معقدة جدا ما ارخى بتداعيات قاسية على السلوك الاجتماعي في لبنان،الا ان ذلك لا يمكن ان يكون سببا او عاملا من عوامل الظروف التخفيفية للعمالة لمصلحة اسرائيل،كما انه لا يجوز التعامل مع هذه الظاهرة التي يُفترض ان تكون عابرة في الحياة السياسية اللبنانية على انها حالة طبيعية او مألوفة او يمكن التعايش معها.
طبعا ثمة ما يشبه الاسترخاء السلوكي لدى بعض صِغار النفوس ممن تعاملوا مع اسرائيل سابقا وعادوا وجددوا علاقاتهم معها بعد انسحابها عام 2000،لكن ذلك مرده الى خطأ فادح وقعت فيه السلطات اللبنانية ليست بالضرورة القضائية لوحدها،ومفادها الأحكام التخفيفية الشديدة التي استفاد منها جميع من حوكموا في الفترة التي اعقبت الانسحاب الاسرائيلي،حتى باتت المحاكمات مجالا للتندر بين اللبنانيين،على قاعدة ان الذين حكوما بجرائم العمالة والتنكيل والقتل حُكِموا لأشهر فقط وفي سجون من خمسة نجوم العيش فيها كان اسهل وأريح من شظف العيش خارجها .
وحتى لا تصبح العمالة في لبنان وجهة نظر غير خاضعة للمسائلة والمحاكمة كما يفترض منطق الأمور،ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة يشدة وقسوة متناهية وعلى قاعدة تطبيف العقوبات الفسوى لجرم العمالة التي ينبغي ان تسود فيها حالات احكام الاعدام ويشطل متسارع ودون ابطاء او مراعاة لظرف ما او لحالات محددة كما هو شائع.
ان البحث عن الاسباب والاعذار التخفيفية في هذا المجال لن ينتج سوى المزيد من حالات الاسترخاء السلوكي لدى بعض الافراد، وبالتالي التمادي في الغي والعمالة ،وبالتالي ان تشديد العقوبات هو حل واقعي لردع من تخوّله نفسه الانزلاق الى هذا الدرك الخطير.في جنوب لبنان لم يحصل ضربة كف لأي عميل بعد العام 2000 وترك الأمر للقضاء اللبناني، فيما المقاومة الفرنسية اعدمت ميدانيا آلاف العملاء في الشوارع دون محاكمة،فهل ثمة عبرة يمكن ان تتخذ من هذه الوقائع؟