فلسفة الحياد اللبناني
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
لقي حياد لبنان جدلا واسعا في تاريخه السياسي الحديث والمعاصر، وتكاد لا تمر أزمة داخلية أو خارجية ، إلا ويكون للحياد ربطا ووصلا به. حتى أن نشوء لبنان الكبير ، ومن ثم استقلاله شكّل مناسبة جادة وحادة للمطالبة أحيانا بحياده وفقا لنظام قانوني دولي، أو تحييده سياسيا عن المحاور والأزمات المحيطة به.وفي كلتا الحالتين ثمة محفزات ومعوقات، تسهم بشكل أو بآخر في ازدياد الشرخ العامودي بين مختلف الشرائح السياسية والطائفية، وبدلا من أن يكون مشروع الحياد حلا عند البعض ، يصبح لدى البعض الأخر مناسبة للتصعيد وتعقيد عوامل التفجير.
وللابتعاد عن هذا المصطبح المستفز للبعض، طرح موضوع النأي بالنفس، وجوهره الابتعاد عن اتخاذ المواقف في قضية، أو عدم إقحام لبنان بمشاكل محيطه، وشكَّل مؤخرا مناسبة لاستقالة رئيس الحكومة اللبنانية على قاعدة خرق هذا المبدأ الذي تمّت على أساسه التركيبة السياسية لجهة انتخاب الرئيس وتشكيلة الحكومة.
في المبدأ، ساد لبنان في بعض مراحل تاريخه السياسي، توافقا لبنانيا واسعا على تحييده عن الصراعات العربية العربية، وتمكّن في كثير من تلك المراحل تجاوز الكثير من الأزمات المحتملة، إلا أن حياده عن الصراع العربي الإسرائيلي سابقا وحاليا ، شكّل قضية انقسم حولها اللبنانيون بشكل حاد، وجرت قضايا أخرى ذات صلة بها ومن بينها بعض التدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية.
وان كان تحييد لبنان عن الخلافات العربية أمر يمكن أن يلقى قبولا مقبولا في كثير من المناسبات والوقائع التي تظهر من هنا أو هناك، إلا أن حياده القانوني عن بعض القضايا يتطلب شروطا، من الصعب توفرها. فالحياد القانوني مثلا يتطلب شروطا ثلاث، أولها إجماع اللبنانيين حول هذا الشرط، وهو أمر انقسم وينقسم عليه اللبنانيون ماضيا وحاضرا؛ وثانيا قدرة اللبنانيين على حماية حيادهم بنفسهم في مواجهة الغير، وهو أمر يكاد يكون صعب التحققق، نظرا لحجم القوة التي تتمتع بها الدول التي يمكن أن تمانع ذلك، وهي دول إقليمية وأخرى دولية؛ ويبقى الشرط الثالث وهو موافقة القوى الإقليمية والدولية التي تمتلك امتدادات سياسية وإيديولوجية في المجتمع اللبناني، وهو أمر كذلك غير متوفر، فان خدم الحياد طرفا ما، سيشكل مناسبة هامة للطرف الآخر لتسجيل مكاسب لا يرى فيها خصمه.وبالتالي كما يلاحظ أن هذه الشروط الثلاثة قد تزيد الأمر تعقيدا، وتظهر عوامل إضافية لتعقيد الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان.
مؤخرا، طرح مبدأ النأي بالنفس عن الأزمة السورية وتداعياتها الإقليمية المتصلة بالواقع اللبناني، انقسم اللبنانيون حول ذلك، بل أدت حاليا ظهور بوادر أزمة حكومية لاحقا،إذا قبلت الاستقالة وتعثر تشكيل حكومة أخرى، أو حتى تعثر تكليف رئيس آخر، في كلتا الحالتين سيكون النأي بالنفس مرتعا خصبا لإعادة فرز اللبنانيين بين مؤيد ومعارض.
في لبنان ثمة فلسفة خاصة للكثير من القضايا ذات الطابع الخلافي، وغريب المفارقات إن اللبنانيين متفقون على ضرورة حل مثل تلك القضايا تفاديا لتداعيات أخرى اشد خطورة، لكن في مطلق الأحوال لم يفكروا يوما بآليات تنفيذية قابلة للتطبيق في أي من أزماتهم الوطنية التي عادة ما كانت تتحول إلى أزمات حكم حادة تطال بنية النظام السياسي بين الحين والآخر.فغالبا ما كانت هذه الآليات تُصاغ خارجيا بعد رعاية خارجية دقيقة وبعد احتراب مجتمعي طويل وحاد.
اليوم يبدو لبنان أمام مفصل دقيق في تاريخه السياسي المعاصر، فهو محاصر بأزمات إقليمية كبيرة ، يتسرب الكثير من عواملها المؤثرة في داخله الملتهب أساسا، وهو في الوقت عينه غير قادر على التـأثير سلبا أو إيجابا عليها، ويبقى في مطلق الأحوال مرتعا لتغذية هذه التدخلات والتأثر فيها وعليها. في أي حال من الأحوال، يبقى ضرورة وعي اللبنانيون والعرب وغيرهم من القوى الإقليمية، على ضرورة إبعاده عن أزماتهم التي لا تحل إلا بأدوات ووسائل لا طاقة للبنان على تحملها وحده.فهل يعي اللبنانيون وباقي الأطراف ذلك؟ وهل ثمة ظروف مؤاتية لذلك؟ ثمة شكوك كثيرة تحوم حول ذلك!
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
لقي حياد لبنان جدلا واسعا في تاريخه السياسي الحديث والمعاصر، وتكاد لا تمر أزمة داخلية أو خارجية ، إلا ويكون للحياد ربطا ووصلا به. حتى أن نشوء لبنان الكبير ، ومن ثم استقلاله شكّل مناسبة جادة وحادة للمطالبة أحيانا بحياده وفقا لنظام قانوني دولي، أو تحييده سياسيا عن المحاور والأزمات المحيطة به.وفي كلتا الحالتين ثمة محفزات ومعوقات، تسهم بشكل أو بآخر في ازدياد الشرخ العامودي بين مختلف الشرائح السياسية والطائفية، وبدلا من أن يكون مشروع الحياد حلا عند البعض ، يصبح لدى البعض الأخر مناسبة للتصعيد وتعقيد عوامل التفجير.
وللابتعاد عن هذا المصطبح المستفز للبعض، طرح موضوع النأي بالنفس، وجوهره الابتعاد عن اتخاذ المواقف في قضية، أو عدم إقحام لبنان بمشاكل محيطه، وشكَّل مؤخرا مناسبة لاستقالة رئيس الحكومة اللبنانية على قاعدة خرق هذا المبدأ الذي تمّت على أساسه التركيبة السياسية لجهة انتخاب الرئيس وتشكيلة الحكومة.
في المبدأ، ساد لبنان في بعض مراحل تاريخه السياسي، توافقا لبنانيا واسعا على تحييده عن الصراعات العربية العربية، وتمكّن في كثير من تلك المراحل تجاوز الكثير من الأزمات المحتملة، إلا أن حياده عن الصراع العربي الإسرائيلي سابقا وحاليا ، شكّل قضية انقسم حولها اللبنانيون بشكل حاد، وجرت قضايا أخرى ذات صلة بها ومن بينها بعض التدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية.
وان كان تحييد لبنان عن الخلافات العربية أمر يمكن أن يلقى قبولا مقبولا في كثير من المناسبات والوقائع التي تظهر من هنا أو هناك، إلا أن حياده القانوني عن بعض القضايا يتطلب شروطا، من الصعب توفرها. فالحياد القانوني مثلا يتطلب شروطا ثلاث، أولها إجماع اللبنانيين حول هذا الشرط، وهو أمر انقسم وينقسم عليه اللبنانيون ماضيا وحاضرا؛ وثانيا قدرة اللبنانيين على حماية حيادهم بنفسهم في مواجهة الغير، وهو أمر يكاد يكون صعب التحققق، نظرا لحجم القوة التي تتمتع بها الدول التي يمكن أن تمانع ذلك، وهي دول إقليمية وأخرى دولية؛ ويبقى الشرط الثالث وهو موافقة القوى الإقليمية والدولية التي تمتلك امتدادات سياسية وإيديولوجية في المجتمع اللبناني، وهو أمر كذلك غير متوفر، فان خدم الحياد طرفا ما، سيشكل مناسبة هامة للطرف الآخر لتسجيل مكاسب لا يرى فيها خصمه.وبالتالي كما يلاحظ أن هذه الشروط الثلاثة قد تزيد الأمر تعقيدا، وتظهر عوامل إضافية لتعقيد الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان.
مؤخرا، طرح مبدأ النأي بالنفس عن الأزمة السورية وتداعياتها الإقليمية المتصلة بالواقع اللبناني، انقسم اللبنانيون حول ذلك، بل أدت حاليا ظهور بوادر أزمة حكومية لاحقا،إذا قبلت الاستقالة وتعثر تشكيل حكومة أخرى، أو حتى تعثر تكليف رئيس آخر، في كلتا الحالتين سيكون النأي بالنفس مرتعا خصبا لإعادة فرز اللبنانيين بين مؤيد ومعارض.
في لبنان ثمة فلسفة خاصة للكثير من القضايا ذات الطابع الخلافي، وغريب المفارقات إن اللبنانيين متفقون على ضرورة حل مثل تلك القضايا تفاديا لتداعيات أخرى اشد خطورة، لكن في مطلق الأحوال لم يفكروا يوما بآليات تنفيذية قابلة للتطبيق في أي من أزماتهم الوطنية التي عادة ما كانت تتحول إلى أزمات حكم حادة تطال بنية النظام السياسي بين الحين والآخر.فغالبا ما كانت هذه الآليات تُصاغ خارجيا بعد رعاية خارجية دقيقة وبعد احتراب مجتمعي طويل وحاد.
اليوم يبدو لبنان أمام مفصل دقيق في تاريخه السياسي المعاصر، فهو محاصر بأزمات إقليمية كبيرة ، يتسرب الكثير من عواملها المؤثرة في داخله الملتهب أساسا، وهو في الوقت عينه غير قادر على التـأثير سلبا أو إيجابا عليها، ويبقى في مطلق الأحوال مرتعا لتغذية هذه التدخلات والتأثر فيها وعليها. في أي حال من الأحوال، يبقى ضرورة وعي اللبنانيون والعرب وغيرهم من القوى الإقليمية، على ضرورة إبعاده عن أزماتهم التي لا تحل إلا بأدوات ووسائل لا طاقة للبنان على تحملها وحده.فهل يعي اللبنانيون وباقي الأطراف ذلك؟ وهل ثمة ظروف مؤاتية لذلك؟ ثمة شكوك كثيرة تحوم حول ذلك!