خمس سنوات من التحطيم العربي
الخليج الاماراتية 24-12-2015
د.خليل حسين
يقفل العام الحالي على الذكرى الخامسة لانطلاق الثورات العربية، بخسائر وأوضاع كارثية على المجتمعات العربية ونظمها. وهي تكاد تكون سابقة في تاريخ الثورات العالمية الكبرى، لجهة التداعيات السلبية، المادية منها والمعنوية.
ورغم أن خسائر الثورات هي من الثوابت في علم الاجتماع السياسي، إلا أن ما تسبّبت به هذه الثورات في مجمل البلدان العربية، أكبر بكثير مما هو متوقّع، أو ما ينبغي أن تكون عليه، أقله في الجانب المعنوي وعوائد التغيير المفترضة، ولو كان في الحد الأدنى، ثورات «عفوية» كما تُصوّر أو يروّج لها.
فحتى الثورات الكبرى التي سال فيها دمٌ كثير، واختلالات اقتصادية لافتة، كالثورة الفرنسية والثورة الصناعية الكبرى في بريطانيا، وحتى الثورة البلشفية في روسيا، عدا ثورات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، لم تصل تداعياتها الاقتصادية والبشرية إلى ما وصلت إليه الثورات العربية، عدا عن ذلك فمعظم هذه الثورات أدّت إلى تغييرات بنيوية أساسية في مجتمعاتها ونظمها السياسية، في المقابل ماذا حصل في البلدان العربية ونظمها ومجتمعاتها، أقل ما يقال فيه، أنه وضع كارثي مرعب.
ففي لغة الأرقام، وبحسب تقرير المنتدى الاستراتيجي العربي، أن الدول العربية تكبّدت خسائر فادحة نتيجة «ثورات الربيع العربي»، التي تقدر بأكثر من 833،7 مليار دولار أمريكي، إضافة إلى 1.34 مليون قتيل وجريح، نتيجة للحروب والعمليات الإرهابية. وهو رقم مرعب في الجانب الاقتصادي والبشري في خلال خمس سنوات، وهي مدة تُقدِّر غالبية التقارير المتفائلة، أن تداعيات هذه الثورات، ربما ستستمر لعقود، فكيف ستصل الأمور مستقبلاً؟. علماً أن تغطية هذه الخسائر، شملت تسعة محاور أبرزها: الناتج المحلي الإجمالي، والقطاع السياحي، والعمالة، وأسواق الأوراق المالية، والاستثمار الأجنبي المباشر، واللاجئون، وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة. وهي قطاعات تشكل عمود البنية البشرية والاقتصادية لأي نظام سياسي.
فقد بلغ حجم الضرر في البنية التحتية ما يعادل 461 مليار دولار، ذلك دون احتساب التدمير والأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية التي لا تقدر بثمن، وبخاصة في سوريا والعراق، نتيجة الأعمال الإرهابية التي قام بها تنظيم «داعش». علاوة على ذلك، فقد بلغ تراكم الخسائر المتأتية عن الناتج المحلي الإجمالي، الذي كان من المفترض تحقيقه، 289 مليار دولار، عند احتساب تقديرات نمو الناتج الإجمالي المحلي، مقارنة بسعر صرف العملات المحلية. فيما وصلت خسائر الأسواق المالية العربية إلى 18.3 مليار دولار، كما تقلصت عمليات الاستثمار الأجنبي المباشر بمعدل 16.7 مليار دولار في أقل التقديرات خلال السنوات الخمس الماضية. والملفت أيضا في الجانب الاقتصادي، أن التغيّر الحاصل في المنطقتين الجغرافيتين المجاورتين للدول العربية، أي في غرب آسيا وشمال إفريقيا، هو مختلف وبشكل عكسي، أي أن الدول العربية ستستلزم من الوقت عقوداً إضافية طويلة، لكي تصل إلى سابق عهدها، ولتعاود منافسة هذه الأسواق والنظم الاقتصادية في تلك الدول.
وبحسب التقرير المستند أصلاً إلى بيانات صادرة عن مؤسسات دولية موثوقة، تسبّب «الربيع العربي»، بتشريد أكثر من 14.389 مليون لاجئ في دولهم، عدا حالات اللجوء إلى الخارج في الدول الأقل اهتزازاً من الناحية الأمنية، كاللجوء السوري والعراقي إلى لبنان والأردن، أما كلفة اللاجئين فبلغت 48.7 مليار دولار في حدِّها الأدنى، وسط تذمر وتململ واضحين من الجهات المانحة، ووسط حالات فساد موصوفة باتجاه صرف هذه الأموال.
وفي وقت تعتمد معظم الدول التي شهدت حراكاً اجتماعياً وسياسياً على القطاع الثالث في الاقتصاد الوطني، أي التجارة وعمليات جذب السياحة، فقد تسبَّب التفلّت الأمني والعمليات الإرهابية بتراجع تدفق السياح إلى حدود 103.4 مليون سائح مقارنة بما كان متوقّعاً في تلك الفترة، ما يعني أن إعادة بناء البنية التحتية السياحية في هذه الدول، ستكلّف أضعاف ما كانت عليه، لإعادة عمليات الجذب المتوقّعة لاحقاً.
الأخطر من كل ذلك، يبقى التمزّق الاجتماعي الحاصل، وما نتج وسينتج عنه، من سلوكيات نفسية واجتماعية مريعة، لجهة تأثرها بعمليات العنف والإرهاب، التي تتطلب مجهوداً خيالياً للتخلص منها. علاوة على إعادة تركيب البنية الاجتماعية وهي مسائل تتطلب أيضاً عقوداً من الزمن وأجيالاً متتالية.
إنها فعلاً مأساة، أن تعلِّق الشعوب والمجتمعات آمالها على ثورات سُميت يوماً ربيعاً عربياً، لكنها في الواقع، لم تكن سوى إرهاصات وأضغاث أحلام للتغيير، والأفظع من ذلك كله، أن نصل إلى وقت نترحّم على ما كنّا نعيش في كنفهِ ولو كان سيئاً.
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/3973ad39-7c18-4bca-9fcc-9a8817ccd846#sthash.kdx98N5a.dpuf
الخليج الاماراتية 24-12-2015
د.خليل حسين
يقفل العام الحالي على الذكرى الخامسة لانطلاق الثورات العربية، بخسائر وأوضاع كارثية على المجتمعات العربية ونظمها. وهي تكاد تكون سابقة في تاريخ الثورات العالمية الكبرى، لجهة التداعيات السلبية، المادية منها والمعنوية.
ورغم أن خسائر الثورات هي من الثوابت في علم الاجتماع السياسي، إلا أن ما تسبّبت به هذه الثورات في مجمل البلدان العربية، أكبر بكثير مما هو متوقّع، أو ما ينبغي أن تكون عليه، أقله في الجانب المعنوي وعوائد التغيير المفترضة، ولو كان في الحد الأدنى، ثورات «عفوية» كما تُصوّر أو يروّج لها.
فحتى الثورات الكبرى التي سال فيها دمٌ كثير، واختلالات اقتصادية لافتة، كالثورة الفرنسية والثورة الصناعية الكبرى في بريطانيا، وحتى الثورة البلشفية في روسيا، عدا ثورات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، لم تصل تداعياتها الاقتصادية والبشرية إلى ما وصلت إليه الثورات العربية، عدا عن ذلك فمعظم هذه الثورات أدّت إلى تغييرات بنيوية أساسية في مجتمعاتها ونظمها السياسية، في المقابل ماذا حصل في البلدان العربية ونظمها ومجتمعاتها، أقل ما يقال فيه، أنه وضع كارثي مرعب.
ففي لغة الأرقام، وبحسب تقرير المنتدى الاستراتيجي العربي، أن الدول العربية تكبّدت خسائر فادحة نتيجة «ثورات الربيع العربي»، التي تقدر بأكثر من 833،7 مليار دولار أمريكي، إضافة إلى 1.34 مليون قتيل وجريح، نتيجة للحروب والعمليات الإرهابية. وهو رقم مرعب في الجانب الاقتصادي والبشري في خلال خمس سنوات، وهي مدة تُقدِّر غالبية التقارير المتفائلة، أن تداعيات هذه الثورات، ربما ستستمر لعقود، فكيف ستصل الأمور مستقبلاً؟. علماً أن تغطية هذه الخسائر، شملت تسعة محاور أبرزها: الناتج المحلي الإجمالي، والقطاع السياحي، والعمالة، وأسواق الأوراق المالية، والاستثمار الأجنبي المباشر، واللاجئون، وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة. وهي قطاعات تشكل عمود البنية البشرية والاقتصادية لأي نظام سياسي.
فقد بلغ حجم الضرر في البنية التحتية ما يعادل 461 مليار دولار، ذلك دون احتساب التدمير والأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية التي لا تقدر بثمن، وبخاصة في سوريا والعراق، نتيجة الأعمال الإرهابية التي قام بها تنظيم «داعش». علاوة على ذلك، فقد بلغ تراكم الخسائر المتأتية عن الناتج المحلي الإجمالي، الذي كان من المفترض تحقيقه، 289 مليار دولار، عند احتساب تقديرات نمو الناتج الإجمالي المحلي، مقارنة بسعر صرف العملات المحلية. فيما وصلت خسائر الأسواق المالية العربية إلى 18.3 مليار دولار، كما تقلصت عمليات الاستثمار الأجنبي المباشر بمعدل 16.7 مليار دولار في أقل التقديرات خلال السنوات الخمس الماضية. والملفت أيضا في الجانب الاقتصادي، أن التغيّر الحاصل في المنطقتين الجغرافيتين المجاورتين للدول العربية، أي في غرب آسيا وشمال إفريقيا، هو مختلف وبشكل عكسي، أي أن الدول العربية ستستلزم من الوقت عقوداً إضافية طويلة، لكي تصل إلى سابق عهدها، ولتعاود منافسة هذه الأسواق والنظم الاقتصادية في تلك الدول.
وبحسب التقرير المستند أصلاً إلى بيانات صادرة عن مؤسسات دولية موثوقة، تسبّب «الربيع العربي»، بتشريد أكثر من 14.389 مليون لاجئ في دولهم، عدا حالات اللجوء إلى الخارج في الدول الأقل اهتزازاً من الناحية الأمنية، كاللجوء السوري والعراقي إلى لبنان والأردن، أما كلفة اللاجئين فبلغت 48.7 مليار دولار في حدِّها الأدنى، وسط تذمر وتململ واضحين من الجهات المانحة، ووسط حالات فساد موصوفة باتجاه صرف هذه الأموال.
وفي وقت تعتمد معظم الدول التي شهدت حراكاً اجتماعياً وسياسياً على القطاع الثالث في الاقتصاد الوطني، أي التجارة وعمليات جذب السياحة، فقد تسبَّب التفلّت الأمني والعمليات الإرهابية بتراجع تدفق السياح إلى حدود 103.4 مليون سائح مقارنة بما كان متوقّعاً في تلك الفترة، ما يعني أن إعادة بناء البنية التحتية السياحية في هذه الدول، ستكلّف أضعاف ما كانت عليه، لإعادة عمليات الجذب المتوقّعة لاحقاً.
الأخطر من كل ذلك، يبقى التمزّق الاجتماعي الحاصل، وما نتج وسينتج عنه، من سلوكيات نفسية واجتماعية مريعة، لجهة تأثرها بعمليات العنف والإرهاب، التي تتطلب مجهوداً خيالياً للتخلص منها. علاوة على إعادة تركيب البنية الاجتماعية وهي مسائل تتطلب أيضاً عقوداً من الزمن وأجيالاً متتالية.
إنها فعلاً مأساة، أن تعلِّق الشعوب والمجتمعات آمالها على ثورات سُميت يوماً ربيعاً عربياً، لكنها في الواقع، لم تكن سوى إرهاصات وأضغاث أحلام للتغيير، والأفظع من ذلك كله، أن نصل إلى وقت نترحّم على ما كنّا نعيش في كنفهِ ولو كان سيئاً.
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/3973ad39-7c18-4bca-9fcc-9a8817ccd846#sthash.kdx98N5a.dpuf