حكومة لبنان ومحكمته
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 29/11/2011
مفارقة الحكم والحكومة في لبنان ان يظل أسير استحقاقات داهمة غالبا لا يكون له فيها حول ولا قوة،ومن بينها تمويل المحكمة الخاصة بقتلة الرئيس رفيق الحريري، وقدر لبنان ان يظل على تماس مع مجموعة قضايا تصل في اغلب الأحيان إلى مستوى الأزمات،ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد،بل يتعداه بشكل مستمر إلى ربط هذه القضايا- الأزمات بأوضاع خارجية، غالبا ما كانت هي الكلمة الفصل في تأجيج الواقع اللبناني أو تدجينه، بانتظار ظروف أخرى يمكن استثمارها بشكل مناسب داخليا وخارجيا.
المفارقة هذه المرة ، رغم أنها ليست بسابقة، ان أزمة المحكمة الخاصة وتمويلها ،مرتبط أيضا بوضح الحكومة واستمرارها، بل يمكن ان تتعداها إلى أزمة حكم من الصعب ضبط حدودها ومآلاتها. وإذا كانت أزمات الحكم هي عادة وصلت إلى حد العرف في القضايا التي يفترض بها ان تكون عادية،فان أزمة الحكومة والمحكمة هي من النوع الذي يمكن ان يضع لبنان في خضم سياسات حفة الهاوية، التي من الصعب عليه إجادتها وتمرير قطوعاتها في ظروف إقليمية ودولية شديدة الحساسية.
لقد طرحت جميع الأطراف المعنية بملف المحكمة ما عندها، وباتت المواقف واضحة لا لبس فيها،بحيث يصعب تدوير الزوايا وإيجاد الخيارات القابلة لتجنيب لبنان ما ينتظره. بعض الفئات السياسية حسمت أمرها برفض التمويل،فيما الفريق الآخر يعتبر موقف رئيس الحكومة موقفا غير كاف، ولا يعبر عن نهج ينبغي محاكاته ،ما دفعه لاتخاذ موقف يعتبر في السياسة تشريع الأبواب على احتمالات يصعب على جميع الأطراف اللبنانية تحمل وزر نتائجها.
إن معادلة بقاء الحكومة وعدم استقالتها، بات مرتبط بإيجاد مخرج لتمويل المحكمة، الأمر الذي يبدو من الأمور صعبة التحقيق، إلا في حال حدوث معجزة،وهي في أي حال من الأحوال ليست صناعة لبنانية خالصة، فهل تتوافر ظروف خارجية تقتضي مثل تلك المعجزات؟
المعني في هذه القضية طرفان ، سوريا وإيران،ولو في حدود تقاطع وتباين المصالح واستثمارها في ملفات أخرى،ليس بالضرورة ان يكون لبنان مستفيدا منها سوى في تقطيع أزمة سرعان ما ستعود وتظهر بعد وقت ليس ببعيد.في السابق سقطت حكومة سعد الحريري بضربة معلم سياسي من الطراز الأول، في ظاهرها قضية تمويل المحكمة وفي جوهرها تحديد سياسات ومواقف من قضايا إقليمية ودولية ذات صلة بموقع لبنان فيها.اليوم يتكرر المشهد مع إضافات أشد حساسية وتعقيدا ، فهل يتحمل الواقع اللبناني تداعيات انهيار حكومة ستتحول بالتأكيد إلى أزمة حكم؟.
ظروف اليوم مختلفة، ثمة حراك عربي في غير دولة عربية ومن بينها سوريا،كما ثمة ضغوط ثقيلة على إيران، ففي أي من المجالات يمكن ان تتم المفاوضة والمقايضة؟ وهل الأزمة بحد ذاتها توازي تقديمات وحتى تنازلات محتملة من هذا الطرف أو ذاك. وفي الأساس من مستعد ان يسمع من؟ ومن القادر على إقناع من؟ الكل مشغول بملفاته وأقداره.
استحقاقات لبنان الداهمة ليست فقط المحكمة وتمويلها ولا الحكومة واستقالتها، الاستحقاق الأهم الذي ينتظره هو نتائج ما يحدث بالقرب منه، وهو بطبيعة الأمر شديد الحساسية بما يدور فيه وعليه وحوله، وفي مطلق الأحوال ثمة ثابتة في الحياة السياسية اللبنانية الحديثة كما المعاصرة، مفادها بقاءه المتلقي للحدث لا الفاعل فيه وبنتائجه.
ثمة تلازم وتواتر في أزمات الحكم والحكومة في لبنان مع القضايا الخارجية الحساسة، فمن الصعب العثور في الحياة السياسية والدستورية في لبنان على سلوك سياسي مرن لفترات طويلة،بل ان السمة الحاضرة الناضرة هي قضية المشاركة في الحكم وربطها بقضايا تفوق قدرته تحمل وزرها وتداعياتها. فهل يمكن للبنان تحمل عقوبات اقتصادية دولية؟ وهل يمكنه تحمل حكومة تصريف أعمال لحين إجراء انتخابات نيابية جديدة في العام 2013؟
يمكن القول،انه تعاقب على لبنان أشد الأزمات الداخلية ذات الأبعاد الخارجية،وتمكن من الإفلات نسبيا من بعض تداعياتها ونتائجها، وثمة من يقول بأن ثمة قدرات عجائبية يختزنها.فهل هذا الكلام هو واقعي،أم من نوع الكلام الذي يُمني النفس بعد العجز؟ إنها أسئلة محيرة في بلد الاستثناء فيه هو القاعدة. والقاعدة فيه هي من غرائب الأشياء في طبيعتها وممارستها.
أخيرا،بصرف النظر عن أحقية ربط الحكومة بتمويل المحكمة من عدمه، ثمة مفارقة واضحة،ان اللبنانيين ينتظرون قدرهم دائما ، على قاعدة عدم القدرة على رده ،بل العمل على اللطف بآثاره، فهل سينجو لبنان وحكومته هذه المرة؟ثمة من يقول، إنه بلد العجائب والغرائب،هذا هو لبنان!
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 29/11/2011
مفارقة الحكم والحكومة في لبنان ان يظل أسير استحقاقات داهمة غالبا لا يكون له فيها حول ولا قوة،ومن بينها تمويل المحكمة الخاصة بقتلة الرئيس رفيق الحريري، وقدر لبنان ان يظل على تماس مع مجموعة قضايا تصل في اغلب الأحيان إلى مستوى الأزمات،ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد،بل يتعداه بشكل مستمر إلى ربط هذه القضايا- الأزمات بأوضاع خارجية، غالبا ما كانت هي الكلمة الفصل في تأجيج الواقع اللبناني أو تدجينه، بانتظار ظروف أخرى يمكن استثمارها بشكل مناسب داخليا وخارجيا.
المفارقة هذه المرة ، رغم أنها ليست بسابقة، ان أزمة المحكمة الخاصة وتمويلها ،مرتبط أيضا بوضح الحكومة واستمرارها، بل يمكن ان تتعداها إلى أزمة حكم من الصعب ضبط حدودها ومآلاتها. وإذا كانت أزمات الحكم هي عادة وصلت إلى حد العرف في القضايا التي يفترض بها ان تكون عادية،فان أزمة الحكومة والمحكمة هي من النوع الذي يمكن ان يضع لبنان في خضم سياسات حفة الهاوية، التي من الصعب عليه إجادتها وتمرير قطوعاتها في ظروف إقليمية ودولية شديدة الحساسية.
لقد طرحت جميع الأطراف المعنية بملف المحكمة ما عندها، وباتت المواقف واضحة لا لبس فيها،بحيث يصعب تدوير الزوايا وإيجاد الخيارات القابلة لتجنيب لبنان ما ينتظره. بعض الفئات السياسية حسمت أمرها برفض التمويل،فيما الفريق الآخر يعتبر موقف رئيس الحكومة موقفا غير كاف، ولا يعبر عن نهج ينبغي محاكاته ،ما دفعه لاتخاذ موقف يعتبر في السياسة تشريع الأبواب على احتمالات يصعب على جميع الأطراف اللبنانية تحمل وزر نتائجها.
إن معادلة بقاء الحكومة وعدم استقالتها، بات مرتبط بإيجاد مخرج لتمويل المحكمة، الأمر الذي يبدو من الأمور صعبة التحقيق، إلا في حال حدوث معجزة،وهي في أي حال من الأحوال ليست صناعة لبنانية خالصة، فهل تتوافر ظروف خارجية تقتضي مثل تلك المعجزات؟
المعني في هذه القضية طرفان ، سوريا وإيران،ولو في حدود تقاطع وتباين المصالح واستثمارها في ملفات أخرى،ليس بالضرورة ان يكون لبنان مستفيدا منها سوى في تقطيع أزمة سرعان ما ستعود وتظهر بعد وقت ليس ببعيد.في السابق سقطت حكومة سعد الحريري بضربة معلم سياسي من الطراز الأول، في ظاهرها قضية تمويل المحكمة وفي جوهرها تحديد سياسات ومواقف من قضايا إقليمية ودولية ذات صلة بموقع لبنان فيها.اليوم يتكرر المشهد مع إضافات أشد حساسية وتعقيدا ، فهل يتحمل الواقع اللبناني تداعيات انهيار حكومة ستتحول بالتأكيد إلى أزمة حكم؟.
ظروف اليوم مختلفة، ثمة حراك عربي في غير دولة عربية ومن بينها سوريا،كما ثمة ضغوط ثقيلة على إيران، ففي أي من المجالات يمكن ان تتم المفاوضة والمقايضة؟ وهل الأزمة بحد ذاتها توازي تقديمات وحتى تنازلات محتملة من هذا الطرف أو ذاك. وفي الأساس من مستعد ان يسمع من؟ ومن القادر على إقناع من؟ الكل مشغول بملفاته وأقداره.
استحقاقات لبنان الداهمة ليست فقط المحكمة وتمويلها ولا الحكومة واستقالتها، الاستحقاق الأهم الذي ينتظره هو نتائج ما يحدث بالقرب منه، وهو بطبيعة الأمر شديد الحساسية بما يدور فيه وعليه وحوله، وفي مطلق الأحوال ثمة ثابتة في الحياة السياسية اللبنانية الحديثة كما المعاصرة، مفادها بقاءه المتلقي للحدث لا الفاعل فيه وبنتائجه.
ثمة تلازم وتواتر في أزمات الحكم والحكومة في لبنان مع القضايا الخارجية الحساسة، فمن الصعب العثور في الحياة السياسية والدستورية في لبنان على سلوك سياسي مرن لفترات طويلة،بل ان السمة الحاضرة الناضرة هي قضية المشاركة في الحكم وربطها بقضايا تفوق قدرته تحمل وزرها وتداعياتها. فهل يمكن للبنان تحمل عقوبات اقتصادية دولية؟ وهل يمكنه تحمل حكومة تصريف أعمال لحين إجراء انتخابات نيابية جديدة في العام 2013؟
يمكن القول،انه تعاقب على لبنان أشد الأزمات الداخلية ذات الأبعاد الخارجية،وتمكن من الإفلات نسبيا من بعض تداعياتها ونتائجها، وثمة من يقول بأن ثمة قدرات عجائبية يختزنها.فهل هذا الكلام هو واقعي،أم من نوع الكلام الذي يُمني النفس بعد العجز؟ إنها أسئلة محيرة في بلد الاستثناء فيه هو القاعدة. والقاعدة فيه هي من غرائب الأشياء في طبيعتها وممارستها.
أخيرا،بصرف النظر عن أحقية ربط الحكومة بتمويل المحكمة من عدمه، ثمة مفارقة واضحة،ان اللبنانيين ينتظرون قدرهم دائما ، على قاعدة عدم القدرة على رده ،بل العمل على اللطف بآثاره، فهل سينجو لبنان وحكومته هذه المرة؟ثمة من يقول، إنه بلد العجائب والغرائب،هذا هو لبنان!