مصر وضرورات العقل والتعقل
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 24/11/2011
قبل أسبوع واحد من انطلاق انتخابات مجلس الشعب والشورى في مصر،انطلقت أيضا حفلات التشكيك بإجرائها،وكأن الأوضاع عادت إلى المربع الأول في مسيرة ثورة 25 يناير. ثمة وقائع ومؤشرات كثيرة انطلقت من ميدان التحرير وأعقبتها مجموعة مواقف أرخت بظلال كثيفة على مستقبل الأوضاع الداخلية،بعدما خطت خطوات لافتة في مسارات التغيير الداخلي المصري،وأسست لمسارات عربية أخرى.
بالطبع ما جرى ويجري في مصر ينبغي التوقّف عنده مليا،ليس باعتباره أمرا يخص مصر وثورتها، بل إضافة إلى ذلك أمر يمكن ان ينسحب على باقي أخواتها العربيات،حيث المزيد من الضحايا والدماء والانتظار والتردد.
في مصر اليوم حراك من نوع آخر، وكأنه فعل ورد فعل على إجراءات ومواقف وبرامج،لكن بمجملها لم تكن مدروسة وواضحة،صحيح ان الأحداث وتداعياتها كانت متسارعة ومن الصعب اللحاق بها،لكن الصحيح أيضا ان فواعلها السياسية والاجتماعية من النوع الذي يصعب ضبط تحركاتها كما مطالبها وتطلعاتها. بداية سقط النظام وثمة من يقول انه تم احتواء الثورة وتداعياتها،وان من استلم دفة الحكم لم يتمكن من مجاراة مطالب الشارع.في المقابل ثمة شرائح اجتماعية سياسية ذات حراك حيوي من الصعب ضبطه في ظل سلوك سياسي غير مقنع بالنسبة له.
فعلى الصعيد السياسي والقانوني، إن خطط الطريق والجداول الزمنية والوعود، انطلقت من المجلس العسكري وإليه تنتهي الأمور، وفي الواقع تكرّس سلوكه السياسي عبر استعادة ما تخلى عنه سابقا من السلطة، مثل تحديد طبيعته بوصفه سلطة حكم، الطبيعة التي أظهر ترفعا عن ممارستها في الأسابيع الأولى التي تلت الثورة، حيث كان الحرص واضحا على انه يدير ولا يحكم، حتى جاء حكم محكمة القضاء الإداري في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني لينهي هذه الصورة، ويؤكد أن المجلس سلطة حكم.باعتباره يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية بصفته سلطة حكم وليس سلطة إدارة، وان كل ما يصدر عنه من قرارات هو عمل من أعمال السيادة.وواقعا طبق هذا الحكم، حيث رفضت المحكمة أن تنظر بالطعون الخاصة بوقف إجراء انتخابات مجلسي الشعب والشورى، باعتبار أن إجراء الانتخابات عمل من أعمال السيادة قرره المجلس العسكري.
والأمر لا يقتصر على الانتخابات بحد ذاتها فقط، بل يتعداها إلى "وثيقة المبادئ فوق الدستورية"،التي يعتبرها الكثيرون التفافا على الإعلان الدستوري، وافتئاتا على حق الشعب وإرادته في صياغة الدستور الذي يريد عبر الجمعية التأسيسية المفترض انتخابها في 28 الجاري.وبصرف النظر عن المواقف المتبادلة ثمة آراء دستورية وفقهية أشارت إلى مخالفات واضحة فيها لا سيما،المادة 60 التي تقيد آليات لجنة صياغة الدستور،علاوة على المادة العاشرة المتصلة بشؤون القوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني.
وبصرف النظر عن السجال الدستوري وآلياته،ثمة وقائع وأحداث من الصعب القفز فوقها،باعتبارها ستؤسس لمنعطف خطير في السلوك السياسي للشعب بمختلف تلاوينه السياسية، كما السلوك السياسي أو غيره،للمجلس العسكري،ما ينذر بتداعيات على مآل الثورة نفسها،كما على الوضع الداخلي لجهة تماسكه سيما وأن حفلات "الفوضى الخلاقة" جارية في غير بلد عربي.
ان التدقيق بواقعية وموضوعية للواقع الشعبي العربي ومنه المصري بالتحديد، يستوجب البصيرة والتبصر،كما العقل والتعقل؛ باعتبار ان كل موقف أو خطوة ناقصة ولو كانت صغيرة، سيكون أثرها كبيرا في ظروف استثنائية تمر بها مجمل المنطقة العربية ومنها مصر تحديدا. فمصير العرب حاليا مرتبط بالكثير من الاستحقاقات الداخلية والخارجية لدولها،ومن المفيد جدا ان تمر مصر من هذا القطوع لتلعب دورا وازنا فيما تبقى من نظام إقليمي عربي.
المطلوب اليوم من مختلف شرائح المجتمع المصري، ان تكون واعية وواعدة في مواقفها، لتمرير الاستحقاقات الداهمة بأقل الخسائر السياسية الممكنة، لأن الأمر معقود بها وعليها. فمن الضروري أن تأخذ الواقعية طريقها في طرح الشعارات والمطالب في الظروف الاستثنائية،كما ينبغي ان تكون الوعود صادقة في مواقيتها.
لقد ظلت مصر إلى جانب فواعل عربية وإقليمية أخرى،تلعب أدوارا بارزة في صياغة السياسات والمواقف، وربما العرب اليوم هم بأمس الحاجة لأن تسترجع مصر هذا الدور الريادي،ولتكن البداية من الداخل هذه المرة، حيث تحاول الشعوب صياغة مستقبلها، ولئلا تأكل الثورة أبنائها على من يحركها أو يديرها أو يحكمها،عبء التأسيس لنظام سياسي واعد، يعيد مصر إلى ريادتها لكي تكون أم العرب كما أم الدنيا.
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 24/11/2011
قبل أسبوع واحد من انطلاق انتخابات مجلس الشعب والشورى في مصر،انطلقت أيضا حفلات التشكيك بإجرائها،وكأن الأوضاع عادت إلى المربع الأول في مسيرة ثورة 25 يناير. ثمة وقائع ومؤشرات كثيرة انطلقت من ميدان التحرير وأعقبتها مجموعة مواقف أرخت بظلال كثيفة على مستقبل الأوضاع الداخلية،بعدما خطت خطوات لافتة في مسارات التغيير الداخلي المصري،وأسست لمسارات عربية أخرى.
بالطبع ما جرى ويجري في مصر ينبغي التوقّف عنده مليا،ليس باعتباره أمرا يخص مصر وثورتها، بل إضافة إلى ذلك أمر يمكن ان ينسحب على باقي أخواتها العربيات،حيث المزيد من الضحايا والدماء والانتظار والتردد.
في مصر اليوم حراك من نوع آخر، وكأنه فعل ورد فعل على إجراءات ومواقف وبرامج،لكن بمجملها لم تكن مدروسة وواضحة،صحيح ان الأحداث وتداعياتها كانت متسارعة ومن الصعب اللحاق بها،لكن الصحيح أيضا ان فواعلها السياسية والاجتماعية من النوع الذي يصعب ضبط تحركاتها كما مطالبها وتطلعاتها. بداية سقط النظام وثمة من يقول انه تم احتواء الثورة وتداعياتها،وان من استلم دفة الحكم لم يتمكن من مجاراة مطالب الشارع.في المقابل ثمة شرائح اجتماعية سياسية ذات حراك حيوي من الصعب ضبطه في ظل سلوك سياسي غير مقنع بالنسبة له.
فعلى الصعيد السياسي والقانوني، إن خطط الطريق والجداول الزمنية والوعود، انطلقت من المجلس العسكري وإليه تنتهي الأمور، وفي الواقع تكرّس سلوكه السياسي عبر استعادة ما تخلى عنه سابقا من السلطة، مثل تحديد طبيعته بوصفه سلطة حكم، الطبيعة التي أظهر ترفعا عن ممارستها في الأسابيع الأولى التي تلت الثورة، حيث كان الحرص واضحا على انه يدير ولا يحكم، حتى جاء حكم محكمة القضاء الإداري في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني لينهي هذه الصورة، ويؤكد أن المجلس سلطة حكم.باعتباره يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية بصفته سلطة حكم وليس سلطة إدارة، وان كل ما يصدر عنه من قرارات هو عمل من أعمال السيادة.وواقعا طبق هذا الحكم، حيث رفضت المحكمة أن تنظر بالطعون الخاصة بوقف إجراء انتخابات مجلسي الشعب والشورى، باعتبار أن إجراء الانتخابات عمل من أعمال السيادة قرره المجلس العسكري.
والأمر لا يقتصر على الانتخابات بحد ذاتها فقط، بل يتعداها إلى "وثيقة المبادئ فوق الدستورية"،التي يعتبرها الكثيرون التفافا على الإعلان الدستوري، وافتئاتا على حق الشعب وإرادته في صياغة الدستور الذي يريد عبر الجمعية التأسيسية المفترض انتخابها في 28 الجاري.وبصرف النظر عن المواقف المتبادلة ثمة آراء دستورية وفقهية أشارت إلى مخالفات واضحة فيها لا سيما،المادة 60 التي تقيد آليات لجنة صياغة الدستور،علاوة على المادة العاشرة المتصلة بشؤون القوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني.
وبصرف النظر عن السجال الدستوري وآلياته،ثمة وقائع وأحداث من الصعب القفز فوقها،باعتبارها ستؤسس لمنعطف خطير في السلوك السياسي للشعب بمختلف تلاوينه السياسية، كما السلوك السياسي أو غيره،للمجلس العسكري،ما ينذر بتداعيات على مآل الثورة نفسها،كما على الوضع الداخلي لجهة تماسكه سيما وأن حفلات "الفوضى الخلاقة" جارية في غير بلد عربي.
ان التدقيق بواقعية وموضوعية للواقع الشعبي العربي ومنه المصري بالتحديد، يستوجب البصيرة والتبصر،كما العقل والتعقل؛ باعتبار ان كل موقف أو خطوة ناقصة ولو كانت صغيرة، سيكون أثرها كبيرا في ظروف استثنائية تمر بها مجمل المنطقة العربية ومنها مصر تحديدا. فمصير العرب حاليا مرتبط بالكثير من الاستحقاقات الداخلية والخارجية لدولها،ومن المفيد جدا ان تمر مصر من هذا القطوع لتلعب دورا وازنا فيما تبقى من نظام إقليمي عربي.
المطلوب اليوم من مختلف شرائح المجتمع المصري، ان تكون واعية وواعدة في مواقفها، لتمرير الاستحقاقات الداهمة بأقل الخسائر السياسية الممكنة، لأن الأمر معقود بها وعليها. فمن الضروري أن تأخذ الواقعية طريقها في طرح الشعارات والمطالب في الظروف الاستثنائية،كما ينبغي ان تكون الوعود صادقة في مواقيتها.
لقد ظلت مصر إلى جانب فواعل عربية وإقليمية أخرى،تلعب أدوارا بارزة في صياغة السياسات والمواقف، وربما العرب اليوم هم بأمس الحاجة لأن تسترجع مصر هذا الدور الريادي،ولتكن البداية من الداخل هذه المرة، حيث تحاول الشعوب صياغة مستقبلها، ولئلا تأكل الثورة أبنائها على من يحركها أو يديرها أو يحكمها،عبء التأسيس لنظام سياسي واعد، يعيد مصر إلى ريادتها لكي تكون أم العرب كما أم الدنيا.