القراءة الروسية للثورات العربية
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 11-11-2011
بصرف النظر عن ميراث السياسة الخارجية بين الحقبة السوفياتية والروسية الحالية، وما يبني عليها البعض في قراءته للموقف الروسي من القضايا العربية المزمنة والحديثة، ثمة صور رمزية غير مفهومة ظهرت في السلوك السياسي تجاه الحراك العربي، مرده عدم وجود موقف واضح ومحدد تجاه ما يجري، تجلى بمواقف ذات طابع لا مبالي بداية ، مرورا بسياسات انتظارية وصولا إلى مواقف اتسمت بطابع المواجهة.
بداية الأمر كان مع الحراك التونسي الذي لم يسمع فيه موقفا روسيا ذات شأن،ربما سرعة الوقائع وتداعياتها غير المتوقعة لم يفسح المجال لموسكو بتكوين موقف محدد مما يجري، رغم ان النظام السابق مثَّل مادة دسمة لكل القوى الإقليمية والدولية الطامحة لإعادة التموضع، فرصة التدخل والاستثمار ولو على المستوى الشعبي القابل للاستثمار السياسي اللاحق،الأمر الذي افتقدته السياسة الخارجية الروسية.
الموقف الروسي الأكثر حيرة كان تجاه الحراك المصري، فقد ظلت العلاقة مع نظام حسني مبارك شبه عادية،وظلت اللقاءات بين المسؤولين الروس والنظام تجري بشكل طبيعي حتى في عز الحراك، إلى ان سقط أيضا بشكل فجائي، وكأن موسكو تتعاطى مع قضية على كوكب آخر. المواقف نفسها انسحبت على الحراك البحريني والأردني والجزائري والمغربي.
حاولت موسكو استدراك الأمر مع الحراك الليبي، لكن بأدوات ووسائل لم تمكنها من ترجمة أهدافها وغاياتها. رضخت لتدخل الناتو عبر عدم عرقلة صدور القرار 1973 بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن.واكتفت بالمراقبة ومحاولة تقديم المقترحات لتقريب ذات البين بين القذافي والمجلس الانتقالي،لكن دون فعالية ملحوظة. دعمت النظام بشكل خجول على قاعدة المصالح الاقتصادية وعقود السلاح البالغة أربع مليارات دولار ،كما عقود استثمار النفط وغيره. سقط النظام ويبدو أنها ظلت خارج خارطة الاستثمار ذات القاعدة الغربية،ويبدو أنها انكفأت كذلك بانتظار ما يمكن ان تحصل عليه في عمليات مقايضة أخرى.
لكن المحيّر في مواقف روسيا،هي ازدواجية الرؤية والموقف تجاه القضايا الواحدة،وقد تجلى ذلك عبر الموقف من الحراك السوري على سبيل المثال. لقد وقفت موسكو مثلا بوجه صدور قرارات عن مجلس الأمن بفرض عقوبات على دمشق،واستعملت حق النقض الفيتو إلى جانب الصين،وهو موقف ذات دلالات واضحة.فما هي الخلفيات؟ أهي اقتصادية أم مبدئية؟ أم ذات طابع تبادلي؟.
في المبدأ سادت في الماضي بين موسكو ودمشق علاقات ذات طابع استراتيجي مغلف بواقع مصلحي - برغماتي أكثر منه مبدئي، وبخاصة في الحقبة الروسية. ثمة عقود سلاح واستثمارات متبادلة، كما ثمة موقع سوري جيوسياسي يستفاد منه روسياً، لكن هل ذلك كافيا لأن تمضي موسكو بمواقفها تجاه دمشق في مواجهة الداخل والخارج؟ يبدو أنها في بعض مراحل الأزمة السورية استنسخت التجربة الليبية ، فاستقبلت وفودا من المعارضة السورية، وهي تحاول التوفيق بين الطرفين، فهل ستتمكن من المكوث طويلا في هذا المربع،وهل ستجني مكتسبات محددة من هذه الرؤية؟ في الواقع ثمة ضغوط كبيرة بعد استنفاد وساطة جامعة الدول العربية،ما يؤشر إلى منعطف آخر تتجه فيه الأزمة السورية نحو التدويل فكيف سيكون الموقف الروسي؟.
من حيث المبدأ، في السياسات والمواقف الدولية تبحث القوى الكبرى عن الطرق الأقل كلفة ، إما لجني المكاسب،أو التقليل قدر الإمكان من الخسائر، وفي هذه الحالة ثمة سيناريوهات محتملة يمكن ان تنتهجها روسيا، وهي إما سياسة المواجهة مع الغرب بشكل عام لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن وهو أمر مكلف عمليا. وإما إعادة استنساخ التجربة الليبية وهو خيار خاسر بالنسبة إليها.وإما سلوك سياسات برغماتية على قواعد تبادلية أحد ملامحها مثلا الدرع الصاروخي المنشور في تركيا، وضمانات بشأن قاعدة طرطوس من أي تحول سوري مفترض.
في المحصلة ثمة قراءات وصور مشوشة للموقف الروسي من الحراك العربي وتداعياته. فهو غير واضح المعالم، ولا محدد التوجهات والأهداف، ولا هو بقادر أيضا على اتخاذ مواقف فاعلة باتجاهات محددة. ثمة من يراهن على تداول أو بالأحرى تبادل السلطة بين ميديديف وبوتين في العام 2012 ؛ لكن في مطلق الأحوال، ثمة خوف وقلق شديدين على انتشار الحراك العربي شمالا باتجاه دول ومناطق تعتبرها موسكو مجالا حيويا لها، عدا عن الريبة والحيرة اذا ما امتد الحراك إلى روسيا نفسها، وماذا يمنع ذلك، طالما ان الحراك شوهد بالعين المجردة في شارع وول ستريت عصب الاقتصاد والمال الأمريكي.
في الماضي القريب،بنى الاتحاد السوفياتي السابق هيبته وسمعته وحتى موقعه وقوته،جراء مساندته لقضايا الاستقلال والتحرر في غير مكان في العالم ومنها المنطقة العربية، فهل ستعيد روسيا القراءة في كتب السياسة الخارجية السوفياتية؟ ثمة ضرورة لأن تسمع القوى الدولية ومنها روسيا ماذا تريد الشعوب!
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 11-11-2011
بصرف النظر عن ميراث السياسة الخارجية بين الحقبة السوفياتية والروسية الحالية، وما يبني عليها البعض في قراءته للموقف الروسي من القضايا العربية المزمنة والحديثة، ثمة صور رمزية غير مفهومة ظهرت في السلوك السياسي تجاه الحراك العربي، مرده عدم وجود موقف واضح ومحدد تجاه ما يجري، تجلى بمواقف ذات طابع لا مبالي بداية ، مرورا بسياسات انتظارية وصولا إلى مواقف اتسمت بطابع المواجهة.
بداية الأمر كان مع الحراك التونسي الذي لم يسمع فيه موقفا روسيا ذات شأن،ربما سرعة الوقائع وتداعياتها غير المتوقعة لم يفسح المجال لموسكو بتكوين موقف محدد مما يجري، رغم ان النظام السابق مثَّل مادة دسمة لكل القوى الإقليمية والدولية الطامحة لإعادة التموضع، فرصة التدخل والاستثمار ولو على المستوى الشعبي القابل للاستثمار السياسي اللاحق،الأمر الذي افتقدته السياسة الخارجية الروسية.
الموقف الروسي الأكثر حيرة كان تجاه الحراك المصري، فقد ظلت العلاقة مع نظام حسني مبارك شبه عادية،وظلت اللقاءات بين المسؤولين الروس والنظام تجري بشكل طبيعي حتى في عز الحراك، إلى ان سقط أيضا بشكل فجائي، وكأن موسكو تتعاطى مع قضية على كوكب آخر. المواقف نفسها انسحبت على الحراك البحريني والأردني والجزائري والمغربي.
حاولت موسكو استدراك الأمر مع الحراك الليبي، لكن بأدوات ووسائل لم تمكنها من ترجمة أهدافها وغاياتها. رضخت لتدخل الناتو عبر عدم عرقلة صدور القرار 1973 بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن.واكتفت بالمراقبة ومحاولة تقديم المقترحات لتقريب ذات البين بين القذافي والمجلس الانتقالي،لكن دون فعالية ملحوظة. دعمت النظام بشكل خجول على قاعدة المصالح الاقتصادية وعقود السلاح البالغة أربع مليارات دولار ،كما عقود استثمار النفط وغيره. سقط النظام ويبدو أنها ظلت خارج خارطة الاستثمار ذات القاعدة الغربية،ويبدو أنها انكفأت كذلك بانتظار ما يمكن ان تحصل عليه في عمليات مقايضة أخرى.
لكن المحيّر في مواقف روسيا،هي ازدواجية الرؤية والموقف تجاه القضايا الواحدة،وقد تجلى ذلك عبر الموقف من الحراك السوري على سبيل المثال. لقد وقفت موسكو مثلا بوجه صدور قرارات عن مجلس الأمن بفرض عقوبات على دمشق،واستعملت حق النقض الفيتو إلى جانب الصين،وهو موقف ذات دلالات واضحة.فما هي الخلفيات؟ أهي اقتصادية أم مبدئية؟ أم ذات طابع تبادلي؟.
في المبدأ سادت في الماضي بين موسكو ودمشق علاقات ذات طابع استراتيجي مغلف بواقع مصلحي - برغماتي أكثر منه مبدئي، وبخاصة في الحقبة الروسية. ثمة عقود سلاح واستثمارات متبادلة، كما ثمة موقع سوري جيوسياسي يستفاد منه روسياً، لكن هل ذلك كافيا لأن تمضي موسكو بمواقفها تجاه دمشق في مواجهة الداخل والخارج؟ يبدو أنها في بعض مراحل الأزمة السورية استنسخت التجربة الليبية ، فاستقبلت وفودا من المعارضة السورية، وهي تحاول التوفيق بين الطرفين، فهل ستتمكن من المكوث طويلا في هذا المربع،وهل ستجني مكتسبات محددة من هذه الرؤية؟ في الواقع ثمة ضغوط كبيرة بعد استنفاد وساطة جامعة الدول العربية،ما يؤشر إلى منعطف آخر تتجه فيه الأزمة السورية نحو التدويل فكيف سيكون الموقف الروسي؟.
من حيث المبدأ، في السياسات والمواقف الدولية تبحث القوى الكبرى عن الطرق الأقل كلفة ، إما لجني المكاسب،أو التقليل قدر الإمكان من الخسائر، وفي هذه الحالة ثمة سيناريوهات محتملة يمكن ان تنتهجها روسيا، وهي إما سياسة المواجهة مع الغرب بشكل عام لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن وهو أمر مكلف عمليا. وإما إعادة استنساخ التجربة الليبية وهو خيار خاسر بالنسبة إليها.وإما سلوك سياسات برغماتية على قواعد تبادلية أحد ملامحها مثلا الدرع الصاروخي المنشور في تركيا، وضمانات بشأن قاعدة طرطوس من أي تحول سوري مفترض.
في المحصلة ثمة قراءات وصور مشوشة للموقف الروسي من الحراك العربي وتداعياته. فهو غير واضح المعالم، ولا محدد التوجهات والأهداف، ولا هو بقادر أيضا على اتخاذ مواقف فاعلة باتجاهات محددة. ثمة من يراهن على تداول أو بالأحرى تبادل السلطة بين ميديديف وبوتين في العام 2012 ؛ لكن في مطلق الأحوال، ثمة خوف وقلق شديدين على انتشار الحراك العربي شمالا باتجاه دول ومناطق تعتبرها موسكو مجالا حيويا لها، عدا عن الريبة والحيرة اذا ما امتد الحراك إلى روسيا نفسها، وماذا يمنع ذلك، طالما ان الحراك شوهد بالعين المجردة في شارع وول ستريت عصب الاقتصاد والمال الأمريكي.
في الماضي القريب،بنى الاتحاد السوفياتي السابق هيبته وسمعته وحتى موقعه وقوته،جراء مساندته لقضايا الاستقلال والتحرر في غير مكان في العالم ومنها المنطقة العربية، فهل ستعيد روسيا القراءة في كتب السياسة الخارجية السوفياتية؟ ثمة ضرورة لأن تسمع القوى الدولية ومنها روسيا ماذا تريد الشعوب!