المعلن والمضمر في حوار اللبنانيين
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 16/6/2012
ربما قدر اللبنانيين الجلوس دائما لطاولات حوار على وقع أزمات داخلية وخارجية مستفحلة في الواقع اللبناني.وهذه الأخيرة ليست بسابقة في سياق محاولات الاتقاء من الأسوأ.فقد سبقها في الأعوام 2006 و2007 و2008 جلسات كان لكل منها أسبابها وظروفها الخاصة ومحدداتها ووسائل التأثير في انعقادها وبعض تداعياتها ونتائجها.لكن ما يميزها هذه المرة سلة من المسائل المعلنة والأخرى المضمرة،علاوة على إعطائها الصبغة الجدية في التعاطي مع الكثير ما أعلن في بيانها الأول.
وفي زحمة المؤثرات في الحياة السياسية اللبنانية ثمة سبع عشرة قضية ظهرت في إعلان أتخذ صفة الإلزام بين المجتمعين، وعُبِر عن ذلك التوجّه بإبلاغه إلى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة،لكن لكل منهما رسالتها السياسية المطلوبة كموضوع الأزمة السورية والقرار 1701. أي بمعنى آخر الشق المتعلق بإسرائيل من جهة وسوريا من جهة أخرى.
وفي الواقع لا صعوبة بالاستنتاج، ان ثمة مسائل معلنة ناقشها الحوار اللبناني، وجلها مواضيع من السهل تجاوزها أو على الأقل صعوبة الإعلان من أي طرف بعدم المضي فيها. مثل الابتعاد عن تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي، وعن كل ما يثير الخلافات والتحريض الطائفي والمذهبي، وبما يحقق الوحدة الوطنية ويعزّز المنعة الداخلية. والمطالبة بالتزام نهج الحوار والتهدئة الأمنية والسياسية والإعلامية ،والسعي للتوافق على الثوابت والقواسم المشتركة، والالتزام بالعمل على تثبيت دعائم الاستقرار وصون السلم الأهلي والحيلولة دون اللجوء إلى العنف والانزلاق بالبلاد إلى الفتنة. والدعوة إلى "ضبط الحدود اللبنانية السورية وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في الأراضي اللبنانية وعدم استعمال لبنان مقرا أو ممرا للسلاح إلى سوريا". إضافة إلى دعم الجيش اللبناني في الحفاظ على الوحدة الوطنية.
وعلى الرغم من الإعلان صراحة عن هذه الثوابت اذا جاز التعبير، أشار البيان ولو بلغة الزغل السياسي إلى التقيّد باتفاق الطائف وعدم السعي إلى تعديله إلا في الأطر الدستورية، علاوة على الدعوة لتحييد لبنان عن المحاور العربية والإقليمية والدولية.وكلها عناوين من الصعب على اللبنانيين التقرير فيها بشكل مؤثر وفاعل.وبالتالي ثمة بنود معلنة وأخرى مضمرة تناقش لاحقا على قاعدة اللهم إني بلغت.
ثمة أمران أساسيان من الصعب مناقشتهما بصوت مرتفع، الأول يتعلق بسلاح المقاومة الذي يعتبره فريق المعارضة الحالية من المواضيع المؤجلة منذ حوار الـ 2006 والمرتبط بالإستراتيجية الدفاعية غير المتوافق عليها أصلا، شكلا ومضمونا لاعتبارات وحسابات إستراتيجية لكل الأطراف اللبنانيين وغير اللبنانيين،والأمر الثاني وهو مستجد والمتعلق بالدعوة لمؤتمر تأسيسي حول لبنان نظاما سياسيا بمختلف مفاصله الداخلية والخارجية.
بالنسبة للموضوع الأول وهو من مواضيع المحرمات لدى الموالاة الحالية، وهو مرتبط وفقا لوجهة نظرها بمجمل الصراع العربي الإسرائيلي بصرف النظر عن حجم وموقع لبنان منه وفيه.وهو من الأمور الخلافية أساسا، وقد أتخذ أشكالا وفصولا مختلفة في تاريخ الاحتراب اللبناني على مدى العقود الأربعة الماضية.لكن الصورة والشكل هذه المرة تختلفان جذريا،حيث اللاعب والمؤثر فيه طرف غير عربي بأدوات ووسائل عربية.ومن هنا تكمن مفاصل التباعد بين اللبنانيين حول الوجهة التي ينبغي ان يمشي فيها اللبنانيون لمقاربة هذا الملف وسبل حله.
أما المضمر الثاني في حوار اللبنانيين، هو تحديدا طبيعة النظام السياسي الذي ينبغي الاتفاق عليه، والمشار إليه بوجوب عدم تعديل اتفاق الطائف إلا بالأطر الدستورية،أي بمعنى آخر عدم ربطه بالأحجام والقوى والموازين الطارئة لمختلف الفئات اللبنانيين.وهو أمر تعوّد اللبنانيون على تحريكه بين فترة وأخرى بحسب متطلبات الظروف الداخلية وعناصر ارتباطاتها الخارجية.وهو أمر غالبا ما كانت تُطالب به الطوائف أو القوى السياسية الحاضنة لها بصوت منخفض لئلا تثير مخاوف وهواجس أطراف أخرى.
ان التدقيق في تاريخ لبنان السياسي المعاصر ،يثبت عمق أزماته الوطنية وفي بعض الأحيان وصولها إلى الكيانية،الأمر الذي باعد أكثر فأكثر بين اللبنانيين،بصرف النظر عن كرنفالات الحوار وحفلاتها الملطخة بالدم.ويبدو ان مختلف أطياف الشعب اللبناني قد تعوَّد على هذه المواسم الحوارية التي كانت دائما تُحسم في الخارج ويتم إلباسها إلى اللبنانيين وكأنها أمرا مقضيا.
من المؤكد ان لبنان اليوم ، هو بأمس الحاجة إلى عقلاء السياسة لكي يتخطى واقعا هو الأسوأ الذي يمر به منذ إنشائه في العام 1920،فهذه المرة ثمة جغرافيا سياسية جديدة تعصف في المنطقة ومن السهل ان تطيح بالكيانات الهشة التي رُكبت في الأساس على قواعد قابلة للانفجار غب الطلب. والأخطر من ذلك ان لبنان يقع هذه المرة على فالق زلزال الأزمة السورية الذي يستعد على ما يبدو لاستقبال الهزات الارتدادية التي بدأت في شماله ومن السهل ان تمتد إلى مختلف مناطقه.
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 16/6/2012
ربما قدر اللبنانيين الجلوس دائما لطاولات حوار على وقع أزمات داخلية وخارجية مستفحلة في الواقع اللبناني.وهذه الأخيرة ليست بسابقة في سياق محاولات الاتقاء من الأسوأ.فقد سبقها في الأعوام 2006 و2007 و2008 جلسات كان لكل منها أسبابها وظروفها الخاصة ومحدداتها ووسائل التأثير في انعقادها وبعض تداعياتها ونتائجها.لكن ما يميزها هذه المرة سلة من المسائل المعلنة والأخرى المضمرة،علاوة على إعطائها الصبغة الجدية في التعاطي مع الكثير ما أعلن في بيانها الأول.
وفي زحمة المؤثرات في الحياة السياسية اللبنانية ثمة سبع عشرة قضية ظهرت في إعلان أتخذ صفة الإلزام بين المجتمعين، وعُبِر عن ذلك التوجّه بإبلاغه إلى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة،لكن لكل منهما رسالتها السياسية المطلوبة كموضوع الأزمة السورية والقرار 1701. أي بمعنى آخر الشق المتعلق بإسرائيل من جهة وسوريا من جهة أخرى.
وفي الواقع لا صعوبة بالاستنتاج، ان ثمة مسائل معلنة ناقشها الحوار اللبناني، وجلها مواضيع من السهل تجاوزها أو على الأقل صعوبة الإعلان من أي طرف بعدم المضي فيها. مثل الابتعاد عن تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي، وعن كل ما يثير الخلافات والتحريض الطائفي والمذهبي، وبما يحقق الوحدة الوطنية ويعزّز المنعة الداخلية. والمطالبة بالتزام نهج الحوار والتهدئة الأمنية والسياسية والإعلامية ،والسعي للتوافق على الثوابت والقواسم المشتركة، والالتزام بالعمل على تثبيت دعائم الاستقرار وصون السلم الأهلي والحيلولة دون اللجوء إلى العنف والانزلاق بالبلاد إلى الفتنة. والدعوة إلى "ضبط الحدود اللبنانية السورية وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في الأراضي اللبنانية وعدم استعمال لبنان مقرا أو ممرا للسلاح إلى سوريا". إضافة إلى دعم الجيش اللبناني في الحفاظ على الوحدة الوطنية.
وعلى الرغم من الإعلان صراحة عن هذه الثوابت اذا جاز التعبير، أشار البيان ولو بلغة الزغل السياسي إلى التقيّد باتفاق الطائف وعدم السعي إلى تعديله إلا في الأطر الدستورية، علاوة على الدعوة لتحييد لبنان عن المحاور العربية والإقليمية والدولية.وكلها عناوين من الصعب على اللبنانيين التقرير فيها بشكل مؤثر وفاعل.وبالتالي ثمة بنود معلنة وأخرى مضمرة تناقش لاحقا على قاعدة اللهم إني بلغت.
ثمة أمران أساسيان من الصعب مناقشتهما بصوت مرتفع، الأول يتعلق بسلاح المقاومة الذي يعتبره فريق المعارضة الحالية من المواضيع المؤجلة منذ حوار الـ 2006 والمرتبط بالإستراتيجية الدفاعية غير المتوافق عليها أصلا، شكلا ومضمونا لاعتبارات وحسابات إستراتيجية لكل الأطراف اللبنانيين وغير اللبنانيين،والأمر الثاني وهو مستجد والمتعلق بالدعوة لمؤتمر تأسيسي حول لبنان نظاما سياسيا بمختلف مفاصله الداخلية والخارجية.
بالنسبة للموضوع الأول وهو من مواضيع المحرمات لدى الموالاة الحالية، وهو مرتبط وفقا لوجهة نظرها بمجمل الصراع العربي الإسرائيلي بصرف النظر عن حجم وموقع لبنان منه وفيه.وهو من الأمور الخلافية أساسا، وقد أتخذ أشكالا وفصولا مختلفة في تاريخ الاحتراب اللبناني على مدى العقود الأربعة الماضية.لكن الصورة والشكل هذه المرة تختلفان جذريا،حيث اللاعب والمؤثر فيه طرف غير عربي بأدوات ووسائل عربية.ومن هنا تكمن مفاصل التباعد بين اللبنانيين حول الوجهة التي ينبغي ان يمشي فيها اللبنانيون لمقاربة هذا الملف وسبل حله.
أما المضمر الثاني في حوار اللبنانيين، هو تحديدا طبيعة النظام السياسي الذي ينبغي الاتفاق عليه، والمشار إليه بوجوب عدم تعديل اتفاق الطائف إلا بالأطر الدستورية،أي بمعنى آخر عدم ربطه بالأحجام والقوى والموازين الطارئة لمختلف الفئات اللبنانيين.وهو أمر تعوّد اللبنانيون على تحريكه بين فترة وأخرى بحسب متطلبات الظروف الداخلية وعناصر ارتباطاتها الخارجية.وهو أمر غالبا ما كانت تُطالب به الطوائف أو القوى السياسية الحاضنة لها بصوت منخفض لئلا تثير مخاوف وهواجس أطراف أخرى.
ان التدقيق في تاريخ لبنان السياسي المعاصر ،يثبت عمق أزماته الوطنية وفي بعض الأحيان وصولها إلى الكيانية،الأمر الذي باعد أكثر فأكثر بين اللبنانيين،بصرف النظر عن كرنفالات الحوار وحفلاتها الملطخة بالدم.ويبدو ان مختلف أطياف الشعب اللبناني قد تعوَّد على هذه المواسم الحوارية التي كانت دائما تُحسم في الخارج ويتم إلباسها إلى اللبنانيين وكأنها أمرا مقضيا.
من المؤكد ان لبنان اليوم ، هو بأمس الحاجة إلى عقلاء السياسة لكي يتخطى واقعا هو الأسوأ الذي يمر به منذ إنشائه في العام 1920،فهذه المرة ثمة جغرافيا سياسية جديدة تعصف في المنطقة ومن السهل ان تطيح بالكيانات الهشة التي رُكبت في الأساس على قواعد قابلة للانفجار غب الطلب. والأخطر من ذلك ان لبنان يقع هذه المرة على فالق زلزال الأزمة السورية الذي يستعد على ما يبدو لاستقبال الهزات الارتدادية التي بدأت في شماله ومن السهل ان تمتد إلى مختلف مناطقه.