اوروبا بين اتحاد الدول وانفصال المقاطعات
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 20/10/2012
تحت وطأة ضغوط الازمة الاقتصادية في اوروبا يسجل دعاة النزعات الانفصالية مكاسب ملحوظة ،ما يعزز الشعور بان اوروبا الموحدة كقارة تهددها انقسام دولها على نفسها.فقد سجل الوطنيون المطالبون بوطن للفلمنك نتائج متقدمة في الانتخابات المحلية البلجيكية. ووافقت اسكتلندا على الاجراءات التي بمقتضاها ستجري استفتاء على الاستقلال عن بريطانيا عام 2014. كما يتوقع الانفصاليون في كتاالونيا أن تعزز انتخابات اقليمية الشهر المقبل قضيتهم. وفيما تتنازل الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي عن المزيد من الصلاحيات المتعلقة بالسياسة الاقتصادية والميزانيات لمصلحة الإتحاد ترتفع أصوات الشكاوى وتشتد حدة الصراعات على مستوى أقاليم بعض الدول على الحصص المتناقصة من المال العام.
فمواطنو الأقاليم الأكثر غنى في بعض الدول الأوروبية يشتكون من دفع أموال لأقاليم أفقر .ففي اقليم كتالونيا الأكثر ثراء يتحدث أهله بلغتهم الخاصة عن استيائهم من دفع أموال لأقاليم اسبانية أفقر مثل اقليم الاندلس الذين لا يتحدثون باللغة الاسبانية. فيما يتبرم سكان اقليم الفلاندرز البلجيكي الذين يتحدثون اللغة الهولندية ويدفعون الأموال لإقليم والونيا الذي يتكلم سكانه اللغة الفرنسية.وعلى الرغم من أنه لا توجد حركة انفصالية في ألمانيا، فإن إقليم بافاريا الثري اتجه إلى معركته القضائية ضد النظام الذي يجبره على تحويل جانب من ايراداته إلى ولايات اتحادية أفقر. فيما يؤكد الاسكلتلنديون أن بامكانهم إدارة امورهم على نحو أفضل من خلال احتياطات النفط والغاز البحرية رغم الدعم الذي يتلقونه من حكومة لندن.
ورغم هذه النزعات تشير الاحصاءات إلى أن أيا من هذه الحركات لم تحقق حتى الان الدعم الشعبي الذي يتيح لها تحقيق الانفصال.فالتأييد الشعبي لاستقلال اسكتلندا عن بريطانيا مثلا لم يتجاوز 40%. فيما لم تتجاوز نسبة 43% في كتالونيا.
ويمثل صعود نجم الحركات الانفصالية في أوروبا جزءا من تبدل الأجيال والمفاهيم والعقائد ، حيث تتراجع الأحزاب السياسية التي تضرب بجذورها في الصراعات الطبقية خلال القرن التاسع عشر، أمام مد قوى أكثر حداثة برزت للوجود خلال حياة الناخبين الحاليين.ومن هذه القوى حركة الخضر صاحبة الدعوة للحفاظ على البيئة، والمشككون في الوحدة الاوروبية من أقصى اليمين، والجماعات المناهضة للهجرة إلى أوروبا، اضافة إلى اصحاب النزعات الانفصالية الذين اكتسبوا خبرات في المجالس النيابية المحلية وأجهزة الحكم المحلي.وكانت نتائج اللامركزية في العديد من الدول الاوروبية منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي، أبعد ما يكون عن تحصين الدول من احتمالات الانفصال ، بل إنها عملت على ترسيخ الانفصاليين في المشهد السياسي.
كما ان تزايد دور الاتحاد الاوروبي ومنح سلطات أوسع للمجالس المحلية في العديد من الدول ، ادى إلى تقليص سلطات الدول في أوروبا بما يخفف من مشكلة الانفصال. إلا أن بعض الحكومات الاوروبية تلوح بورقة الخوف من الانفصال عن أوروبا ، بهدف إقناع الناخبين لعدم اختيار الاستقلال.ومن بين هذه الاصوات على سبيل المثال لا الحصر رئيس الوزراء الاسباني المحافظ ماريانو راخوي الذي حذر من أن أي اقليم سيختار الاستقلال سيجد نفسه خارج الاتحاد الاوروبي ، باعتبار ان انضمام دول جديدة لعضوية الاتحاد يتطلب موافقة بالإجماع .والأمر نفسه ينطبق على اسكتلندا التي لن تستطيع الانضمام تلقائيا للاتحاد الاوروبي إذا اختارت الانفصال. فهذا سيتوقف على مفاوضات معقدة حول اقتسام الدين العام وقضايا إدارية أخرى. كما ان للندن كلمتها الأخيرة في استخدام حق النقض الفيتو.
لقد تمكنت اوروبا رغم المصاعب الكثيرة من قطع اشواط كبيرة جدا في اتجاه الاتحاد،فكانت تجربة رائدة في هذا المجال وبخاصة انها اتبعت منهج الوحدة الاقتصادية والاجتماعية قبل السياسية ، ويبدو هذا الامر سر نجاحها حتى الآن ، بدليل ان مظاهر ازدياد المطالبة بانفصال بعض الاقاليم عن دولها المركزية مرده خلفيات اقتصادية اكثر منه سياسية او اتنية او قومية.
ان الوضع القائم في اوروبا ليس بجديد ولا هو بسابقة،فهذه النزعات موجود أصلا قبل الاتحاد وبعده، الا ان الازمات المالية والاقتصادية العالمية قد ارخت بثقلها على النظام الاقتصادي الاوروبي الذي ترك بدوره هذه البصمات في نتائج بعض الانتخابات المحلية في بعض الدول.وبصرف النظر عن مآل هذه النزعات الانفصالية تبقى معوقات الوحدة الاوروبية ذات ابعاد قابلة للحل رغم أحجامها وامتداداتها.