روسيا وعقيدة بوتين المجدّدة
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
صحيفة الخليج الإماراتية 18.12.2016
ثمة مفارقة لافتة في السلوك العقائدي الذي اتبعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد استنسخ طرق أميركية متداولة ومعروفة، لجأت أليها الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال العقدين الماضيين ، حينما لم يكن لها منافس حقيقي في تركيبة النظام العالمي، اليوم لجأ بوتين إلى تعديل عقيدته بما يتناسب وظروف روسيا المستجدة داخليا وخارجيا. في العقيدة الأولى التي أطلقها في العام 2013، كان الطموح الروسي في أوجه، وكان قسم من هذه الطموحات، قد بدأت موسكو بتنفيذها والوصول إلى نتائج معقولة فيها.
ففي عملية مزاوجة بين الجغرافيا السياسية التي تتمتع فيها روسيا، وطموحاتها التي تم إلباسها بمفاهيم جيوبولتيكية، تمددت روسيا سياسيا ، وفي بعض الأوقات عسكريا ، بعد عقد من الضمور السياسي الدولي، والغياب الفعلي عن التأثير. لامست قضية جزر الكوريل مع اليابان، وأسست لبيئة استفزازية عبر نشر صواريخ ذات مغزى سياسي وأمني واضح؛ ومن ثم لعبت بكامل طاقتها في منطقة وسط آسيا التي تعتبرها المجال الحيوي غير القابل للنقاش فيه، ومن ثم ركزت وضعها في النطاق الاورو آسيوي، وحاولت تشكيل نظم إقليمية ذات طابع قاري، ومن ثم لامست القضية الجورجية ومن بعدها الأوكرانية، حيث استرجعت منطقة القرم عنوة، كما نشرت صواريخ في منطقة هي لأشد حساسية في أوروبا وتعتبر مرتعا لحلف الناتو، كالمناطق المحاذية لبولندا، باختصار عمدت موسكو إلى سياسة القضم الهادئ ، وغير المستفز واقعيا، إلا في ظروف استثنائية لاحقة. هذه العقيدة التي ترجمت بأكلاف غير باهظة، استوعبتها الولايات المتحدة واحتوتها ، بوسائل مختلفة، إلى أن طفح الكيل الغربي، وأقام حد العقوبات الاقتصادية على روسيا، علَّ وعسى يتم كبح جماح الاندفاعة الروسية بضغوط غير عسكرية، وهي وسائل غربية ناجعة في الكثير من الأحيان.
لكن هذه العقوبات ، ربما لم تردع موسكو بالشكل المطلوب غربيا، بل تابعت استراتيجياتها، وبصور أشد عنفا ، تمثل بدخول موسكو عسكريا على خط الأزمة السورية ، ما استدعى واقعيا وعمليا اللعب برؤى وعقائد مغايرة ، ومنها العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية التي أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين قبل أسبوع، وهي مزيج من الواقعية السياسية، ومحاولة إفهام الطرف الآخر بضرورة تجسير المواقف لإيجاد حلول ،على قاعدة برغماتية تحفظ حقوق الأطراف الفاعلين ومن بينها موسكو أيضا.
فالعقيدة البوتينية المعلنة، حاولت عدم المس بالقضايا الحيوية الغربية، وتم التعبير عنها بلغة دبلوماسية هادئة، بعكس ما ساد من أجواء بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا، ذلك بشكل مباشر عبر بوتين نفسه ووزير خارجيته سيرغي لافروف، عبر التمسك بمصالح منفعية متبادلة ، وعلاقات طبيعية مع الاتحاد الأوروبي، والتطلع إلى بيئة عالمية متعددة ، لا إلغاء فيها لأحد، وهو سلوك روسي معتاد ، وبخاصة اعتبار الأمم المتحدة والشرعية الدولية سقفا للتعاطي مع مجمل الأزمات الدولية.
في المحصلة، تحاول موسكو قضم المنافع الدولية دون دفع أكلاف وأثمان باهظة، أما التعديل الملحوظ فلا يعدو كونه تعديلا في اللهجة الدبلوماسية التي يتم التداول بها مع الآخرين، ومرد ذلك، أن السقف العالي يتطلب إمكانات اقتصادية ومالية ليست متوفرة في الوضع الروسي الراهن، بالنظر إلى جملة أسباب ومن بينها العقوبات الاقتصادية التي يشتد أثرها وضغطها الداخلي، ما حتّم البحث عن وسائل مرنة في التعبير عما تعتبره روسيا طموحا مشروعا لها.
كما أن محددات العلاقات الروسية الخارجية ،وبخاصة ما يرتبط منها بالولايات المتحدة الأميركية، مرهون حاليا بمدى تمدد الغزل السياسي بين فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، والذي بدا وكأن ثمة توافق في العديد من وجهات النظر حول قضايا محددة، بخلاف الإدارة الحالية لبارك أوباما. والذي يعلق كلا من الطرفين الأميركي والروسي آمالا لافتة على إعادة تصويب العلاقات البينية على قواعد برغماتية ، الأمر الذي يخدم العقيدة الروسية المعلنة. وبالتالي ثمة تبدل وتجديد في الأساليب دون المسّ في المضامين، ما يخدم المصلحتان الروسية والغربية بعامة والأميركية بخاصة، لكن السؤال المعتاد، أين نحن العرب من كل ذلك ؟!
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
صحيفة الخليج الإماراتية 18.12.2016
ثمة مفارقة لافتة في السلوك العقائدي الذي اتبعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد استنسخ طرق أميركية متداولة ومعروفة، لجأت أليها الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال العقدين الماضيين ، حينما لم يكن لها منافس حقيقي في تركيبة النظام العالمي، اليوم لجأ بوتين إلى تعديل عقيدته بما يتناسب وظروف روسيا المستجدة داخليا وخارجيا. في العقيدة الأولى التي أطلقها في العام 2013، كان الطموح الروسي في أوجه، وكان قسم من هذه الطموحات، قد بدأت موسكو بتنفيذها والوصول إلى نتائج معقولة فيها.
ففي عملية مزاوجة بين الجغرافيا السياسية التي تتمتع فيها روسيا، وطموحاتها التي تم إلباسها بمفاهيم جيوبولتيكية، تمددت روسيا سياسيا ، وفي بعض الأوقات عسكريا ، بعد عقد من الضمور السياسي الدولي، والغياب الفعلي عن التأثير. لامست قضية جزر الكوريل مع اليابان، وأسست لبيئة استفزازية عبر نشر صواريخ ذات مغزى سياسي وأمني واضح؛ ومن ثم لعبت بكامل طاقتها في منطقة وسط آسيا التي تعتبرها المجال الحيوي غير القابل للنقاش فيه، ومن ثم ركزت وضعها في النطاق الاورو آسيوي، وحاولت تشكيل نظم إقليمية ذات طابع قاري، ومن ثم لامست القضية الجورجية ومن بعدها الأوكرانية، حيث استرجعت منطقة القرم عنوة، كما نشرت صواريخ في منطقة هي لأشد حساسية في أوروبا وتعتبر مرتعا لحلف الناتو، كالمناطق المحاذية لبولندا، باختصار عمدت موسكو إلى سياسة القضم الهادئ ، وغير المستفز واقعيا، إلا في ظروف استثنائية لاحقة. هذه العقيدة التي ترجمت بأكلاف غير باهظة، استوعبتها الولايات المتحدة واحتوتها ، بوسائل مختلفة، إلى أن طفح الكيل الغربي، وأقام حد العقوبات الاقتصادية على روسيا، علَّ وعسى يتم كبح جماح الاندفاعة الروسية بضغوط غير عسكرية، وهي وسائل غربية ناجعة في الكثير من الأحيان.
لكن هذه العقوبات ، ربما لم تردع موسكو بالشكل المطلوب غربيا، بل تابعت استراتيجياتها، وبصور أشد عنفا ، تمثل بدخول موسكو عسكريا على خط الأزمة السورية ، ما استدعى واقعيا وعمليا اللعب برؤى وعقائد مغايرة ، ومنها العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية التي أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين قبل أسبوع، وهي مزيج من الواقعية السياسية، ومحاولة إفهام الطرف الآخر بضرورة تجسير المواقف لإيجاد حلول ،على قاعدة برغماتية تحفظ حقوق الأطراف الفاعلين ومن بينها موسكو أيضا.
فالعقيدة البوتينية المعلنة، حاولت عدم المس بالقضايا الحيوية الغربية، وتم التعبير عنها بلغة دبلوماسية هادئة، بعكس ما ساد من أجواء بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا، ذلك بشكل مباشر عبر بوتين نفسه ووزير خارجيته سيرغي لافروف، عبر التمسك بمصالح منفعية متبادلة ، وعلاقات طبيعية مع الاتحاد الأوروبي، والتطلع إلى بيئة عالمية متعددة ، لا إلغاء فيها لأحد، وهو سلوك روسي معتاد ، وبخاصة اعتبار الأمم المتحدة والشرعية الدولية سقفا للتعاطي مع مجمل الأزمات الدولية.
في المحصلة، تحاول موسكو قضم المنافع الدولية دون دفع أكلاف وأثمان باهظة، أما التعديل الملحوظ فلا يعدو كونه تعديلا في اللهجة الدبلوماسية التي يتم التداول بها مع الآخرين، ومرد ذلك، أن السقف العالي يتطلب إمكانات اقتصادية ومالية ليست متوفرة في الوضع الروسي الراهن، بالنظر إلى جملة أسباب ومن بينها العقوبات الاقتصادية التي يشتد أثرها وضغطها الداخلي، ما حتّم البحث عن وسائل مرنة في التعبير عما تعتبره روسيا طموحا مشروعا لها.
كما أن محددات العلاقات الروسية الخارجية ،وبخاصة ما يرتبط منها بالولايات المتحدة الأميركية، مرهون حاليا بمدى تمدد الغزل السياسي بين فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، والذي بدا وكأن ثمة توافق في العديد من وجهات النظر حول قضايا محددة، بخلاف الإدارة الحالية لبارك أوباما. والذي يعلق كلا من الطرفين الأميركي والروسي آمالا لافتة على إعادة تصويب العلاقات البينية على قواعد برغماتية ، الأمر الذي يخدم العقيدة الروسية المعلنة. وبالتالي ثمة تبدل وتجديد في الأساليب دون المسّ في المضامين، ما يخدم المصلحتان الروسية والغربية بعامة والأميركية بخاصة، لكن السؤال المعتاد، أين نحن العرب من كل ذلك ؟!