تداعيات اغتيال السفير الروسي في تركيا
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج 24.12.20ض6
ليست سابقة دبلوماسية أن يُغتال سفير دولة كبرى في دولة مضيفة، ففي التاريخ الدبلوماسي عشرات حالات الاغتيال ، لكن ما يجمع بينها، هو تحميل الدولة المضيفة مسؤولية العمل، باعتبارها المعنية الوحيدة عن حماية الدبلوماسيين على أرضها، ذلك وفقا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية للعام 1963. وعادة ما يتم تنفيذ مثل تلك العمليات كوجه من أوجه الاعتراض والانتقام لمواقف دولة ما تجاه قضية ما.
لكن ما جرى في أنقرة من اغتيال للسفير الروسي في تركيا، وان كان يبدو متماشيا مع ذلك السياق المعتاد، إلا أن له الكثير من الدلالات الوازنة في مستوى العلاقات المستجدة بين البلدين ، وقدرتهما في الحفاظ على مستواها التصاعدي بعد فترة من التوتر ، كادت أن تشعل أزمات صراعية من الصعب احتوائها وتدارك تداعياتها ربطا ووصلا بالأزمة السورية.
فمن الوجهة الإجرائية التي تمّت فيها عملية الاغتيال، فان بدت أمنية عبر منفذها وهو رجل امني مولج حماية الدبلوماسيين، إلا أنها سياسية بامتياز، بالنظر لما صدر عن المنفذ من مواقف واضحة عن دوافعه، قبل أن يتم قتله ، وهنا تطرح علامات استفهام إضافية حول ظروف قتله، بخاصة انه كان بالإمكان إلقاء القبض عليه لمعرفة حقيقة الدوافع والمخططين، فهل كان المقصود بقتله ،وأد المعلومات التي كان من الممكن الإفصاح عنها ، والتي يمكن أن تجر إلى أسئلة لا نهاية لها ، بخاصة إن المستفيدين منها كُثر؟ وخاصة كذلك ، ان معلومات استخبارية سُربت، مفادها أن ثمة رصد دقيق لأكثر من 100 بعثة دبلوماسية روسية حول العالم ، قد تم توزيع عناوينها على مجموعات إرهابية ،بهدف تنفيذ عمليات اعتداء عليها،وهو أمر واقعي لا يختلف عليه اثنان ، وسط ظروف دقيقة ، تمر فيها روسيا حاليا نتيجة سياستها الخارجية النشطة في غير أزمة إقليمية آو دولية ساخنة.
وفي المقلب الموازي الآخر للعملية، فهي أتت عمليا بعد نتائج معركة حلب ، التي صورت كنصر روسي في إدارة الأزمة السورية، وبعد ساعات على تصويت مجلس الأمن على القرار 2328 حول نشر مراقبين دوليين في حلب لدوافع إنسانية، وقبيل أربع وعشرين ساعة على الاجتماع الثلاثي في موسكو ، والذي يضم إلى روسيا ، كل من تركيا وإيران للتباحث في الأزمة السورية، ما يعني أن توقيت عملية الاغتيال ، جاء مترافقا مع مجموعة من النتائج الأمنية والعسكرية، ومع مجموعة من الحراكات الدبلوماسية المتصلة بالأزمة السورية. وبالتالي إن العملية هي رسالة واضحة ، موجهة إلى موسكو وسياساتها الخارجية.
أما الجانب الأكثر تعقيدا في العملية، فيبدو موجها للعلاقات الروسية التركية، التي تشهد مزيدا من الدفء والحرارة ، بعد سلسلة انتكاسات سابقة كادت أن تشعل صداما مباشرا بين الطرفين ، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية العام الماضي، والتي ما لبثت أن تحسّنت بعد تلقف الطرفين ظروف الانقلاب المنفذ في تركيا ،واستثماره في ترطيب العلاقات البينية وجسر ما انقطع من سبل التواصل. بخاصة أن الظروف البينية والإقليمية والدولية ، أجبرت الطرفان على إعادة رسم علاقات ايجابية على قاعدة التذمر والتبرم المشترك ، تجاه سياسات الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو من السياسات المتبعة في الشرق الأوسط. إلا أن قراءة دقيقة لما حصل، يظهر أن لا مصلحة تركية في عملية الاغتيال بل هي موجهة لتخريب العلاقات مع موسكو ، وبالتالي أن مواقف روسيا لن تعدو كونها ردات فعل محسوبة ومدروسة ، ولن تتخطى اعتبار العمل عملا إرهابيا ، ولا تتعدى المسؤولية التركية هنا على اعتباره تقصيرا إجرائيا تجاه حماية البعثة الدبلوماسية الروسية، وهو أمر شائع الحدوث حتى في أكثر الدول قوة في الإجراءات الاحترازية الأمنية والاستخبارية الإستباقية.
في أي حال من الأحوال، وان بدت هذه العملية رسالة محددة الوجهة في الزمان والمكان، إلا إن تداعياتها المستقبلية على العمل الدبلوماسي الروسي ، سيكون مفتوحا على احتمالات كثيرة، أقلها استهداف البعثات الروسية في غير منطقة من العالم، سيما وان كلفة هذه العمليات هي متواضعة بالنظر لنتائجها المحتملة، وهي الوسيلة الأكثر إيذاءً وإيصالا لدوافع الاعتراض والانتقام من سياسات موسكو واستراتيجياتها في المنطقة ، بخاصة إن حجم الاستثمار المتوقع من تلك العمليات ،هي كبيرة وكثيرة في غير اتجاه ومكان.
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج 24.12.20ض6
ليست سابقة دبلوماسية أن يُغتال سفير دولة كبرى في دولة مضيفة، ففي التاريخ الدبلوماسي عشرات حالات الاغتيال ، لكن ما يجمع بينها، هو تحميل الدولة المضيفة مسؤولية العمل، باعتبارها المعنية الوحيدة عن حماية الدبلوماسيين على أرضها، ذلك وفقا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية للعام 1963. وعادة ما يتم تنفيذ مثل تلك العمليات كوجه من أوجه الاعتراض والانتقام لمواقف دولة ما تجاه قضية ما.
لكن ما جرى في أنقرة من اغتيال للسفير الروسي في تركيا، وان كان يبدو متماشيا مع ذلك السياق المعتاد، إلا أن له الكثير من الدلالات الوازنة في مستوى العلاقات المستجدة بين البلدين ، وقدرتهما في الحفاظ على مستواها التصاعدي بعد فترة من التوتر ، كادت أن تشعل أزمات صراعية من الصعب احتوائها وتدارك تداعياتها ربطا ووصلا بالأزمة السورية.
فمن الوجهة الإجرائية التي تمّت فيها عملية الاغتيال، فان بدت أمنية عبر منفذها وهو رجل امني مولج حماية الدبلوماسيين، إلا أنها سياسية بامتياز، بالنظر لما صدر عن المنفذ من مواقف واضحة عن دوافعه، قبل أن يتم قتله ، وهنا تطرح علامات استفهام إضافية حول ظروف قتله، بخاصة انه كان بالإمكان إلقاء القبض عليه لمعرفة حقيقة الدوافع والمخططين، فهل كان المقصود بقتله ،وأد المعلومات التي كان من الممكن الإفصاح عنها ، والتي يمكن أن تجر إلى أسئلة لا نهاية لها ، بخاصة إن المستفيدين منها كُثر؟ وخاصة كذلك ، ان معلومات استخبارية سُربت، مفادها أن ثمة رصد دقيق لأكثر من 100 بعثة دبلوماسية روسية حول العالم ، قد تم توزيع عناوينها على مجموعات إرهابية ،بهدف تنفيذ عمليات اعتداء عليها،وهو أمر واقعي لا يختلف عليه اثنان ، وسط ظروف دقيقة ، تمر فيها روسيا حاليا نتيجة سياستها الخارجية النشطة في غير أزمة إقليمية آو دولية ساخنة.
وفي المقلب الموازي الآخر للعملية، فهي أتت عمليا بعد نتائج معركة حلب ، التي صورت كنصر روسي في إدارة الأزمة السورية، وبعد ساعات على تصويت مجلس الأمن على القرار 2328 حول نشر مراقبين دوليين في حلب لدوافع إنسانية، وقبيل أربع وعشرين ساعة على الاجتماع الثلاثي في موسكو ، والذي يضم إلى روسيا ، كل من تركيا وإيران للتباحث في الأزمة السورية، ما يعني أن توقيت عملية الاغتيال ، جاء مترافقا مع مجموعة من النتائج الأمنية والعسكرية، ومع مجموعة من الحراكات الدبلوماسية المتصلة بالأزمة السورية. وبالتالي إن العملية هي رسالة واضحة ، موجهة إلى موسكو وسياساتها الخارجية.
أما الجانب الأكثر تعقيدا في العملية، فيبدو موجها للعلاقات الروسية التركية، التي تشهد مزيدا من الدفء والحرارة ، بعد سلسلة انتكاسات سابقة كادت أن تشعل صداما مباشرا بين الطرفين ، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية العام الماضي، والتي ما لبثت أن تحسّنت بعد تلقف الطرفين ظروف الانقلاب المنفذ في تركيا ،واستثماره في ترطيب العلاقات البينية وجسر ما انقطع من سبل التواصل. بخاصة أن الظروف البينية والإقليمية والدولية ، أجبرت الطرفان على إعادة رسم علاقات ايجابية على قاعدة التذمر والتبرم المشترك ، تجاه سياسات الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو من السياسات المتبعة في الشرق الأوسط. إلا أن قراءة دقيقة لما حصل، يظهر أن لا مصلحة تركية في عملية الاغتيال بل هي موجهة لتخريب العلاقات مع موسكو ، وبالتالي أن مواقف روسيا لن تعدو كونها ردات فعل محسوبة ومدروسة ، ولن تتخطى اعتبار العمل عملا إرهابيا ، ولا تتعدى المسؤولية التركية هنا على اعتباره تقصيرا إجرائيا تجاه حماية البعثة الدبلوماسية الروسية، وهو أمر شائع الحدوث حتى في أكثر الدول قوة في الإجراءات الاحترازية الأمنية والاستخبارية الإستباقية.
في أي حال من الأحوال، وان بدت هذه العملية رسالة محددة الوجهة في الزمان والمكان، إلا إن تداعياتها المستقبلية على العمل الدبلوماسي الروسي ، سيكون مفتوحا على احتمالات كثيرة، أقلها استهداف البعثات الروسية في غير منطقة من العالم، سيما وان كلفة هذه العمليات هي متواضعة بالنظر لنتائجها المحتملة، وهي الوسيلة الأكثر إيذاءً وإيصالا لدوافع الاعتراض والانتقام من سياسات موسكو واستراتيجياتها في المنطقة ، بخاصة إن حجم الاستثمار المتوقع من تلك العمليات ،هي كبيرة وكثيرة في غير اتجاه ومكان.