تداعيات الانسحاب الروسي من «الجنائية الدولية»
تاريخ النشر: 20/11/2016 الخليج الاماراتية
د. خليل حسين
جملة من الأسئلة تطرح نفسها بقوة، بعد إعلان روسيا سحب توقيعها من النظام الأساسي لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الموقع في العام 2000، والذي وُضع موضع النفاذ في العام 2002. ربما مفارقة الإعلان الروسي ليس لها مفاعيل قانونية ذات شأن، فهي وإن وَقعّت على نظام روما الأساسي، إلّا أنها لم تصادق على المعاهدة نفسها، وهو الإجراء الواجب إنجازه لكي تشمل صلاحية المحكمة، ما يتعلق بالشأن الروسي. ومهما يكن من أمر، فقد أتى إعلان موسكو بعد سلسلة من المواقف الروسية المتسمة بطابع التذمر والتبرم من سلوكيات المحكمة ووسائل إدارتها للملفات التي طُرحت أمامها، إذ يأتي القرار بعد سلسلة من الانتقادات التي وُجهت للمحكمة على قاعدة تعامل المحكمة، إبان الحرب الجورجية في العام 2008، والاتهامات التي وُجهت لروسيا في العديد من المناسبات حول ارتكابها جرائم حرب، ومن بينها إبان التدخل العسكري في الأزمة السورية. فيما تعتبر روسيا أن عمل المحكمة لم يكن بالمستوى الذي عُلقت الآمال عليه، وتعتبر أن المحكمة أنفقت أكثر من مليار دولار خلال أربعة عشر عاماً، أصدرت أحكاماً بأربع قضايا فقط.
والأمر هنا لا يقتصر على روسيا وحدها، فقد أعلنت ثلاث دول إفريقية مؤخراً إعلانها الانسحاب من نظام المحكمة، وهي جنوب إفريقيا وبروندي وغامبيا، على قاعدة أيضاً التبرم من سلوكيات المحكمة التي تضم 34 دولة إفريقية من أصل 124 دولة منضمة إلى نظامها الأساسي، ورغم أن روسيا ليست وحدها أيضاً، فالولايات المتحدة و«إسرائيل»، لم توقعا على النظام الأساسي للمحكمة، وبالتالي لم تنضما كسائر العديد من الدول، ما يؤشر إلى علامات وإشارات مقلقة من بعض حكام العالم وبخاصة الدول المتنفذة، والتي لها سجل واضح في ارتكاب جرائم الحروب، ما يعطي صورة واضحة على أن العدالة الجنائية الدولية، ما زالت في بدايات عملها الأولى، وتستلزم الكثير من الوقت لكي يشعر المهتمون بالقانون الدولي الإنساني، أن ثمة تعاطياً جدياً مع قضايا حقوق الإنسان، وبالانتهاكات الموجهة ضدها.
وروسيا اليوم شأنها شأن العديد من الدول المنخرطة في نزاعات وحروب داخلية وإقليمية ذات طابع دولي، ترى من مصلحتها التنصل من توقيعها، بالنظر لما يوجه إليها من اتهامات وبخاصة في الآونة الأخيرة، ربطاً ووصلاً بالأزمة السورية، وهو أمر من شأنه ضعضعة الثقة بمبدأ العدالة الجنائية الدولية التي انطلقت بعد محاكمات طوكيو ونورمبرغ، وموجة المحاكم الخاصة والمختلطة في العقد الأخير من القرن الماضي.
أمّا الأخطر من ذلك، فما يُشاع عن تيارات فكرية جديدة ستكتسح السياسات الدولية، بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية وفوز دونالد ترامب بالرئاسة، والذي ألمح إلى العديد من البرامج ذات الصلة بالمهاجرين والعولمة ووسائل المجابهة المنوي اتخاذها، ما يشي بموجات جديدة من التدخلات العسكرية في غير منطقة، ما يعزز ضرورة تفعيل عمل المحكمة الجنائية الدولية للحد من الجرائم الدولية المتعلقة بالحروب. وعلى الرغم من تجربة المحكمة الجنائية المتواضعة خلال أربعة عشر عاماً، ثمة ضرورات جدية لإعادة النظر بالعديد من آليات العمل المتصلة بالمحكمة الجنائية، ومن بينها نظامها الداخلي، وآليات الاتهام وكذلك طرق التنفيذ، التي يمكن التفلت منها.
والمفارقة في هذا الشأن، أن سحب موسكو لتوقيعها على النظام الأساسي، سيشجع البيئة المناهضة لعمل المحاكم الجنائية الدولية والمختلطة، سيما وأن ثمة الكثير من توجس الدول وخوف قادتها من محاسبة ما يمكن أن توجه لهم، وفي عالم تسوده القيادات الشعبوية ذات النزاعات الاستبدادية والديكتاتورية، يبدو المشهد متفلتاً من أي عقال متصل بالقانون وبالعدالة، وهو أمر عانت منه المجتمعات البشرية أيما معاناة، فهل نحن قادمون على نظام دولي جديد آخر، يبدو أنه سيكون أسوأ مما ساد خلال ربع القرن الماضي؟ ثمة من يقول إن القانون والعدالة هما ملح الأرض، فهل قضت موسكو على حلم الفقراء والضعفاء في هذا العالم؟