ماذا في القرار 1860؟
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
بداية ثمة ضرورة علمية وموضوعية للجوء الى النص الانكليزي للقرار منعا للالتباس الذي يمكن ان يحصل من تأويل بعض الفقرات من خلال الترجمة غير الدقيقة التي اطلق فيها.سيما وان الكثير من القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي قد تمَّ استثمارها قانونيا وسياسيا بغير موضعها الحقيقي،ما ادت الى تداعيات سلبية كثيرة.وكأي قرار صادر عن مجلس الامن الدولي ينبغي النظر اليه بعين مجردة،لكي يأتي تشريحة مطابقا للواقع قدر الامكان.وعليه يمكن تسجيل بعض الملاحظات الاولية ومنها:
- من الناحية الموضوعية، اتى القرار في صيغته اللغوية متوافقا مع التصنيف الذي يضعه في نطاق الفصل السادس من ميثاق الامم المتحدة،وبالتالي فهو ذات طبيعة غير الزامية للمعنيين به،الامر الذي يعني ان لا سلطة لمجلس الامن وفقا لهذه الصيغة اللجوء الى القوة العسكرية او لغيرها لتطبيقة،فهو بالمعنى القانوني "توصية" لا "قرار" ملزم وواجب التطبيق.
- على الرغم من خطورة الوضع القائم في غزة والذي اشار اليه القرار في اكثر من فقرة ولو بلغة ذات توصيف "انساني" لا سياسي،فان التدقيق في الاخطار السياسية والعسكرية الناجمة، او التي يمكن ان تنجم لاحقا،تؤدي الى الاستنتاج القاطع بأن وضعا كهذا يشكل خطرا على الامن والسلم الدوليين،وعليه فان من واجب مجلس الامن الدولي الذي من ابرز مهامه الأساسية حفظ الامن والسلم الدوليين بشتى الوسائل حتى الوصول الى استحدام القوة،الامر الذي لم يفعله مجلس الامن يوما في البيئة التي يتعاطى فيها مع قضايا الصراع العربي الاسرائيلي لا في هذا القرار ولا في غيره،رغم ان الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن مجلس الامن عاجز اصلا عن ذلك لاعتبارات كثيرة.
- وللموضوعية ايضا ينبغي الاعتراف بكل شجاعة ان الظروف الذاتية والموضوعية لمن يتواجد في غزة من مدنيين ومقاومين، ليس باستطاعتهم حتى الآن انتزاع اي قرار، فوق السقف الذي اتى به القرار 1860،ما يمكن ان يصنف في اطار الممكن وسط الظروف العربية والاقليمية والدولية المعروفة.
- ان التدقيق في النص الانكليزي للقرار والترجة العربية القانونية الدقيقة له،يظهر ابعادا وخلفيات كثيرة؛فعلى الرغم من اللبس وامكانية التأويل في فقراته المقطعة لغويا،والمعطوفة على شروط واولويات،ثمَّة نقاط ايجابية لا يمكن اغفالها عمليا،وان كانت بعض المظاهر السلبية بارزة للعيان.
- في 521 كلمة وردت في متن القرار لم يذكر فيها اسم "حماس" رغم انها الطرف المعني الاساسي بالقرار،بينما ذكرت "اسرائيل" و "الفلسطينيين" ثلاث مرات بالتساوي،الامر الذي يعني ان ثمة تجاهلا لأصل الموضوع، الامر الذي يضعف القرار عمليا باعتباره لم يخاطب صاحب العلاقة مباشرة،مشيرا اليها بطريق غير مباشر في مناحي عدة.
وبصرف النظر عن التسميات المحددة ودوافعها واعتباراتها، اتت ديباجة القرار 1860 لتعطفه على قرارات اساسية متعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي ومنها،القرار (242) لعام 1967 ،والقرار (337) للعام 1973،وكذلك القرارات (1397) و (1515) و(1850) للاعاوام 2002 و 2003 و 2008،ما يعني ان معالجة القضية تأتي في سياق القضية المركزية للصراع،عبرالاشارة اليه نصا وبالتحديد،في المادة (8) " لتحقيق سلام شامل على أساس الرؤية القائمة على وجود دولتين ديموقراطيتين، فلسطين وإسرائيل"،لكنه لم يذكر المسارات العربية الاخرى تحديدا اذ اكتفى بالتعميم.
ثمة توصيف قانوني لقطاع غزة في مقدمة القرار، اذ اعتبرها من الاراضي المحتلة وجزء من الدولة الفلسطينية الموعودة،الامر الذي يرتّب موجبات قانونية على دولة الاحتلال،من ضمنها وجوب احترام مفاعيل القانون الدولي الانساني في مختلف اتفاقياته ومن بينها اتفاقات جنيف الاربعة وبخاصة الرابعة منها لجهة حماية المدنيين في وقت الحرب،الامر الذي انتهكته اسرائيل بشكل فظ ومكشوف عبر جراشم الحرب والابادات الجماعية المنقولة مباشرة على الفضائيات.
لقد خصص القرار ثلاث مواد مباشرة للوضع الانساني القائم في غزة عدا التي وردت عرضا او بالايحاء،من اصل عشرة مواد وردت في النص،ما يعني ان مجلس الامن لا زال في نفس السياق الذي اعتاد عليه في مقاربته للقضية الفلسطينية تحديدا على قاعدة اختصارها كقضية لاجئين ذات تداعيات وابعاد انسانية. ففي المادة (2) دعا "إلى توفير وتوزيع المساعدات الإنسانية في كافة أرجاء غزة من دون إعاقة ،الا انه لم يذكر او يحدد الجهة المعرقلة،او التي لا تسمح بذلك.وفي المادة (3) رحب "بالمبادرات ا الهادفة إلى فتح ممرات إنسانية" لكنه لم يبادر الى تحديد الكيفية وتركها بصفة عمومية عبر فقرة استطرادية : " وآليات أخرى لضمان التوفير المتواصل للمساعدات الإنسانية"،فما هي هذه الآليات وكيف يمكن تشكيلها وتنفيذها؟ عدا دعوته الى الصفة المتواصلة ،ما يعني بشكل غير مباشر الى رفع الحصار لكن بشروط كما وردت في مواد اخرى.وللتأكيد على المعالجة الانسانية للقضية ابرز ضرورة دعم دول العالم للانوروا في المادة (4) " عبر لجنة التنسيق المؤقتة". فعلى فداحة الوضع الانساني الذي يغرق فيه قطاع غزة، ظلت المواد السالفة الذكر، مجرد توصيات وامنيات خاضعة في كثير من آلياتها الى حسابات سياسية بحتة لا التزامات قانونية واجبة التطبيق في اطار القانون الدولي الانساني.
وغريب المفارقات ما ورد في الصياغة اللغوية والقانونية للمادة الاولى من وقف لاطلاق النار،فبدلا من البدء بالدعوة الى وقف فوري ودائم لإطلاق النار جاء النص لـ " يؤكد على الحاجة العاجلة" ، و"يدعو إلى وقف فوري ودائم يتم احترامه لإطلاق النار" فرغم التأكيد على "الحاجة" اتت الدعوة بصيغة مخففة وبكلمات استطرادية،بعدما اقرنه ليس بوجوب "الاحترام"، انما "يتم احترامه".والمفارقة الاخرى في المادة عينها،انه لم يدعو اسرائيل الى الانسحاب فورا من القطاعين بل ربطه بشكل مباشر بوقف النار، اي ان وقف اطلاق النار"يؤدي الى الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة " ، وهي عبارة قابلة للتأويل والتكييف بحسب الظروف،فلو تصوّرنا ان اية جهة فلسطينية موجودة في غزة قامت باطلاق صاروخ او اي عمل عسكري ولو كان ضمن قطاع غزة لا خارجها، يمكن ان يُفسّر خرقا لوقف اطلاق النار وبالتالي ايجاد الفرصة الذريعة لعدم الانسحاب من القطاع.عدا عن ان البيئة الامنية والعسكرية من الصعب ضبطها او وضع حدود وقواعد لها حتى في الدول المستقرة سياسيا فكيف الامر بقطاع غزة؟!.
علاوة على ذلك ان اطلاق النار امر مرتبط من الوجهة الفلسطينية بمقاومة الاحتلال، الامر الذي أُعترِفَ به في ديباجة القرار نفسه، عبر اعتبار غزة جزء محتلا،فكيف يمكن المواءمة بين وقف اطلاق النار ومقاومة المحتل الذي اجازه القانون الدولي العام وتكرَّس في اتفاقات ومعاهدات واعراف شتى.والامر اللافت في هذا المجال ان القرار عالج عمليات وقف اطلاق النار من وجهة إدانة " كل أشكال العنف والأعمال العدائية ضد المدنيين وكل أعمال الإرهاب"ذلك في المادة (5).فالادانة هنا تبدو تبادلية بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي مع اختلاف المعايير والتكييف القانوني للاعمال الحربية التي يمكن ان تبرز بين الفريقين.فالمطالبة هنا تشمل بطريق غير مباشر القائم بالاحتلال ومن يقع تحت الاحتلال، وهما اعمالا عنفية او ارهابية بحسب توصيف القرار ،وهي سابقة اقدم عليها مجلس الامن في توصيف الاعمال القائمة بالارهابية وبالتأكيد المقصود هنا الجانب الفلسطيني لا الاسرائيل ،اذ درجت العادة على تسمية عمليات المقاومة الفلسطينية ضد اسرائيل باعمال العنف،فيما توصّف الاعمال الاسرائيلية بالاعمال المفرطة في استعمال القوة.
ان المحافظة على الوقف الدائم لاطلاق النار امر مرتبط ايضا بتوفير الجهود للتوصل الى " ترتيبات وضمانات" كما ورد في المادة (6) فما هي طبيعة الترتيبات والضمانات ؟ ومن هي الجهة القادرة على توفيرها واعطائها ورعايتها مستقبلا،اذا تمَّ التوصّل اليها؟ الا اذا كانت من قبيل المبادرة المصرية التي اشارت اليها الفقرة الاخيرة من المادة نفسها،وعلى قاعدة اتفاق العام 2005 المتعلق بالمعابر بين الجهتين الفلسطينية والاسرائيلية.
ورغم التذكير في اسس المعالجة التي يستند اليها مجلس الامن في رؤيته لتسوية الصراع بين العرب واسرائيل على قاعدة القرارات الدولية التي اتى على ذكرها،فقد ذكَّر بالمبادرة العربية للسلام من باب رفع العتب السياسي كما وردت في الفقرة الاخيرة من المادة (8).والسابقة من حيث التدرّج في المادة (9) التي رحَّب "بنظر (اللجنة) الرباعية، بالتشاور مع الأطراف، في عقد مؤتمر دولي في موسكو في العام ٢٠٠٩؛والتي تعتبر من باب المكافئة السياسية الموعودة لموسكو لحجز دور وموقع لها في اطار المشاريع في حال انطلاقها.
ان جوهر القرار ربما يكمن في مادته العاشرة التي ابقى فيها الموضوغ قيد نظر مجلس الامن ،ما يعني ان القرار سيؤسس لقرارات اخرى تالية بحسب موازين الوضع على الارض،ليخلق بيئات سياسية وامنية مختلفة لاحقة،وهذا ما يقودنا الى الخلفيات السياسية للقرار،الامر الذي يقودنا الى تحليل الاهداف غير المعلنة لاسرائيل في العدوان على غزة.
ففي التوقيت جاء العدوان في الوقت الضائع بين ادارتين امريكيتين راحلة وقادمة،ما يعني محاولة اسرائيل االاستفادة من امكانية فرض خريطة طريق سياسية على الادارة الديموقراطية لقضايا المنطقة اولا، وبالتالي نفض اليد من كل الوعود المطلقة للادارة الجمهورية.وثانيا اعادة تموضع تفاوضي جديد في المنطقة بعد وصول الرعاية التركية للمفاوضات غير المباشرة الاسرائيلية السورية الى نهايتها المحتومة والمعروفة النتائج والاثمان سلفا،اضافة الى محاولة استنساخ القرار 1701 وتعميمه في الضفة والقطاع،فضلا عن محاولة ازالة هزيمة العام 2006 ومحوها من الذاكرة الجماعية للمجتمع الاسرائيلي.
ربما من المبالغة القول ان الخلفيات السياسية للقرار 1860 يمكن ان يخدم بقدر كبير الاهداف الاسرائيلية غير المعلنة من عدوان اسرائيل على غزة، الا انه من غير المنطقي استبعاد ما يمكن ان يقدمه القرار من استفادات سياسية وعسكرية للجانب الاسرائيلي في حال تمَّ استثماره لجهة تقطيع الوقت للبناء عليه في مراحل لاحقة ،سيما وان البيئة التي تمّت فيه استصدار القرار وظروفه الذاتية غير القابلة للتطبيق في المدى المنظور،وظروفه الاقليمية والدولية التي تعطيه زخما في التمدد الزمني، تجعله في حكم الكوما السياسية القابل للاستيقاظ عند الطلب.
وفي مطلق الاحوال، وعلى الرغم من خلفيلته القانونية والسياسية، ثمَّة ايجابيات من الصعب التعتيم عليها ومنها محاولة معالجة الجانب الانساني الذي ينبغي اعتباره اولوية مطلقة لشعب لم ينصفه التاريخ ولم تسعفه الجغرافيا.