مفهوم الأمن في القانون الدولي العام
د।خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
1- مفهوم الأمن: تعريف:
من أحدث تعريفات الأمن وأكثرها تداولاً، تعريف باري بوزان، أحد أبرز المختصين في الدراسات الأمنية، وهو يعرف الأمن بأنه "العمل على التحرر من التهديد"، وفي سياق النظام الدولي فهو "قدرة المجتمعات والدول على الحفاظ على كيانها المستقل، وتماسكها الوظيفي ضد قوى التغيير التي تعتبرها معادية"([1])، والأمن يمكن فقط أن يكون نسبياً ولا يمكن أن يكون مطلقاً.
لكن الجامعي الفرنسي داريو باتيستيلا يرى في تعريف بوزان تبسيطاً لمعنى تعريف آرنولد ولفرز لعام 1952، الذي نال نوعاً من الإجماع بين الدارسين، وهو يرى أن "الأمن موضوعياً يرتبط بغياب التهديدات ضد القيم المركزية وبمعنى ذاتي، فهو غياب الخوف من أن تكون تلك القيم محور هجوم" وهي تتمثل بـ" بقاء الدولة، الإستقلال الوطني، الوحدة الترابية، الرفاه الاقتصادي، الهوية الثقافية، الحريات الأساسية..."([2]).
وللأمن مفهوم مزدوج، حيث لا يعني فقط وسيلة للتحرر من الخطر، بل يعني أيضاً وسيلة لارغامه وجعله محدوداً، وبما أن الأمن أوجده الخوف فإنه يقتضي ضرورة القيام بإجراءات مضادة للتحكم فيه، أو تحييده واحتوائه.
وقد تبنت بعض الدراسات نظرة أوسع للأمن تشمل الجوانب العسكرية وغير العسكرية لاسيما تلك التي تتناول دول العالم الثالث، التي أظهرت أهمية العوامل السياسية في المسألة الأمنية والاختلافات بين الدول المتقدمة والنامية. إذ أن التهديدات لأمن الأخيرة تأتي أساساً من المناطق المحيطة بها، إن لم تأت من داخل الدولة ذاتها. وهذا نتيجة لضعف البنى الدولية وعجز في شرعية الأنظمة، مما يتسبب في مشاكل أمن داخلية للدولة والتي غالباً ما تقود إلى صراعات مع الجوار.
لقد ميز بوزان خمسة أبعاد أساسية للأمن([3]):
- الأمن العسكري: ويخص المستويين المتفاعلين للهجوم المسلح والقدرات الدفاعية، وكذلك مدركات الدول لنوايا بعضها.
- الأمن السياسي: ويعني الاستقرار التنظيمي للدول، ونظم الحكومات والأيديولوجيات التي تستمد منها شرعيتها.
- الأمن الاقتصادي: ويخص الموارد المالية والأسواق الضرورية للحفاظ بشكل دائم على مستويات مقبولة من الرفاه وقوة الدولة.
- الأمن الاجتماعي: ويخص قدرة المجتمعات على إعادة انتاج أنماط خصوصيتها في اللغة والثقافة والهوية الوطنية والدينية والعادات والتقاليد في إطار شروط مقبولة لتطورها.
- الأمن البيئي: ويتعلق بالمحافظة على المحيط الحيوي المحلي أو الكوني كعامل أساسي تتوقف عليه كل الأنشطة الإنسانية.
وبفعل العولمة، حدثت تحولات في مفهوم الأمن والمشهد الأمني العالمي، وأبرزها تحولات القوة، التي لم تعد ترتبط ارتباطاً وثيقاً ووحيداً بالعامل العسكري. بل تعدته إلى التكنولوجيا والتعليم، والنمو الاقتصادي والاعتماد المتبادل والمعلومات. فالقوة العالمية اليوم تتأسس على مصادر هي من قبيل القوة اللينة، كما تقوم على مصادر ملموسة: القوة الصلبة. وكما يلاحظ جوزيف ناي فإن : "القوة أقل تحولية، وأقل قهرية، وأقل ملموسية"، ذلك أن تحويل المكاسب المحققة في مجال ما نحو مجال آخر يزداد صعوبة، أما فيما يخص الأمن، فإن الأمن اللين يعني التهديدات غير المباشرة أو التهديدات غير العسكرية، مثل عدم الإستقرار، التطرف، الإرهاب، التهريب، المخدرات، الهجرة غير المشروعة، الجريمة المنظمة، بينما يقصد بالأمن الصلب: التهديدات المباشرة أي التهديدات العسكرية([4]).
واقع الأمر أن مفهوم الأمن متنازع عليه، وقد أدت التغييرات على البيئة الأمنية المعاصرة إلى كثير من المحاولات لتعريف هذه التغييرات ووضع اطارها المفاهيمي، سياسياً ونظرياً، وتأثيراتها على الدول والمجتمعات والأفراد. وقد انضمت إلى المفهوم التقليدي للأمن مفاهيم أخرى توسع طبيعة التهديدات المحتملة (الإرهاب، الجريمة المنظمة...)، وهي تهديدات ترتبط بعوامل الخطر في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية، وتعمّق الأهداف المهددة لتشمل الأمن العالمي والجماعات دون الوطنية والأفراد([5]).
إن إعادة تحديد الأطر المفاهيمية للأمن، التي توسع حالة الأمن لتشمل المخاطر والتهديدات الجديدة، التي تتجاوز الهجوم العسكري، تولّد مفاهيم مثل الأمن الداخلي، الأمن الوظيفي والأمن البيئي. وتتطلب المفاهيم العميقة للأمن التي ترتبط بحماية الأفراد من التهديدات التي تستهدف أمنهم، بناء إطار اجتماعي يستطيع البشر من خلاله أن يعيشوا بحرية من الخوف والحاجة على حد سواء.
وتركز النظريات الواقعية على المشاكل الدولية، والصراعات، وتبرز رؤى الشركات العالمية العابرة للحدود والقومية، النواحي الاقتصادية والمحافظة على النظام الاقتصادي الدولي. وتركز وجهات نظر الأمن الإنساني، التي أخذت تبرز على ظروف الأفراد والعالم، كما أن بدء تحليل المخاطر يبرز طريقة متممة للتعامل مع المشاكل الأمنية للتغلب على التناقض بين الأنواع المختلفة للمفاهيم الأمنية([6]).
2- الأمن الإنساني:
في تقرير الأمن الإنساني 2005، بيانات عن التهديدات العنفية للأفراد، وقد ميّز فريق مؤلفي التقرير، بين "العنف السياسي" و "العنف الإجرامي" وهم يعتبرون أن العنف السياسي يشمل بالإضافة إلى الصراعات المسلحة العنف الجماعي وصراع الجهات غير الحكومية والإبادة الجماعية و"القتل السياسي".
وفي موجز الأمن الإنساني لعام 2006، أنه يتعلق بحماية الأفراد والمجتمعات من أي شكل من أشكال "العنف السياسي" وأن التعريف الملائم للأمن الإنساني يشمل كل أنواع العنف الجماعي التي تهدد حياة الأفراد والمجتمعات في صحتها ومعيشتها([7]).
إن التحول الإنساني في السياسة الدولية، قابله توسع الإهتمامات بالأمن الوطني، فكل أنواع العنف الجماعي يمكن أن تصبح اهتماماً أمنياً إذا كان حجمها كافياً لتهديد نسيج المجتمع، وقد شددت استراتيجيات الأمن القومي الأميركي للأعوام 2002 و 2006، واستراتيجية الأمن الأوروبي لسنة 2003، على المدى الراهن لتهديدات المجتمعات العابرة للحدود القومية، مثل الإرهاب الدولي، وحصول جهات غير حكومية على أسلحة الدمار الشامل وشبكات الجريمة العابرة للحدود القومية.
الفصل الأول: نظام الأمن الجماعي
المبحث الأول: مفهوم الأمن الجماعي
الأمن الجماعي، هو ذلك النظام، الذي يهدف إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين، عن طريق تكاتف الدول المحبة للسلام في إطار تنظيم دولي، للوقوف في وجه أي دولة تلجأ إلى انتهاك هذا السلم، أو تعمل على تهديده. واتخاذ التدابير الجماعية المؤدية إلى الحدّ من الانتهاكات([8])، وقد عرّف فريق الخبراء الحكوميين، الذي شكله الأمين العام لإجراء دراسة شاملة لمفاهيم الأمن، تطبيقاً لقرار الجمعية العامة رقم 188 في الدورة 38 لعام 1983، مفهوم الأمن في تقريره الذي نشر عام 1986 على النحو التالي: الأمن من حيث المبدأ، هو حالة ترى فيها الدول، أنه ليس ثمة أي خطر في شن هجوم عسكري أو ممارسة ضغط سياسي أو اكراه اقتصادي بحيث تتمكن من المضي قدماً نحو العمل بحرية على تحقيق تنميتها الذاتية وتقدمها([9]).
مقومات نظام الأمن الجماعي:
1- لقيام نظام أمن جماعي، لا بد من توافر تعهدات إيجابية من جانب الدول المعنية به، أبرزها التالي:
أ- حظر اللجوء إلى القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، إلاّ في حالتين فقط:
- من خلال الجهاز الدولي، الذي يجب أن يكون مسؤولاً عن تنفيذ نظام الأمن الجماعي.
- حالة الدفاع عن النفس. مرهونة بتوافر شروط معينة، لا تخرج عن تلك التي نصّت عليها المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
ب- احترام الإلتزامات الناشئة عن المعاهدات المبرمة بين الدول الأعضاء.
ج- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
د- تسوية المنازعات الدولية بالوسائلل السلمية.
2- ضرورة توسيع نطاق العضوية – أي شرط عالمية العضوية، أو شبه العالمية. ولأن عالمية العضوية، تؤدي غالباً ِِإلى الحد من مخالفة النظام الدولي العام.
3- توافر حياد وموضوعية نظام الأمن الجماعي. فإذا أريد للأمن الجماعي أن يؤدي وظيفته بنزاهة وتجرد، يجب على الحكومات والشعوب، أن تبدي مرونة أساسية في سياستها وعواطفها. فالأمن الجماعي لا يعترف بالصداقات التقليدية، ولا بالعداوات المزمنة، ولا يسمح بتحالفات مع، وتحالفات ضد.
4- أن تكون القوة الجماعية قادرة على تحقيق الردع وعدم الإخلال بالالتزامات التي يتضمنها نظام الأمن الجماعي. أي أن نظام الأمن الجماعي يتطلب أن تكون لديه الوسائل القسرية التي يمكنه اللجوء إليها في مواجهة الدولة التي تخلّ بالإلتزامات التي يفرضها النظام. وتتمثل هذه الوسائل فيما يسمى بالجزاءات (العقوبات). وهي جزاءات متعددة المستويات على النحو التالي([10]):
أ- الجزاءات غير العسكرية: ومنها الدبلوماسية، والمالية والاقتصادية.
ب- الجزاءات العسكرية: وهي التي تتطلب استخدام القوة العسكرية في تنفيذها.
[ ولكن في ضوء التطورات المتزايدة على الصعيد الدولي، وبروز عمليات التكامل والتعاون الدوليين، وازدياد نفوذ المؤسسات والشركات الدولية كفاعلين جدد على الساحة الدولية. ظهرت طروحات جديدة في النظرة للأمن الجماعي ومقوماته.
وأبرز هذه الطروحات ما تحدث عنه روبرت مكنمارا في كتابه "جوهر الأمن"([11])، في ستينات القرن الماضي. والذي أسس لمفهوم جديد للأمن: "إن الأمن ليس هو المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها، والأمن ليس القوة العسكرية وإن كان يشملها، والأمن ليس النشاط العسكري التقليدي وإن كان ينطوي عليه. إن الأمن هو التنمية ومن دون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن. والدول النامية التي لا تنمو بالواقع، لا يمكن ببساطة أن تكون آمنة".
المبحث الثاني: نظام الأمن الجماعي في نطاق عصبة الأمم
[ مثل عهد عصبة الأمم، قفزة كبيرة نحو التثبيت الرسمي لعناصر الأمن الجماعي. فقد تحددت صيغته كما يلي: "قامت العصبة بين دول تعاقدت فيما بينها بصورة اختيارية، بهدف تشجيع التعاون الدولي، وتحقيق السلام والأمن الدوليين، من خلال الإلتزام بعدم اللجوء إلى الحرب. على أن يكون القانون الدولي، هو قاعدة السلوك المتبعة في العلاقات بين الدول التي يجب أن تكون علنية وعادلة وشريفة.
لقد قام نظام الأمن الجماعي الذي تضمنه عهد عصبة الأمم على ثلاثة عناصر رئيسية هي:
أ- احترام سلامة أقاليم جميع أعضاء العصبة واستقلالها السياسي. فقد نصت المادة العاشرة منه على أن "يتعهد أعضاء العصبة، باحترام سلامة أقاليم جميع أعضاء العصبة، واستقلالها السياسي القائم، والمحافظة عليه ضد أي عدوان خارجي". وفي حالة وقوع عدوان من هذا النوع، أو في حالة وقوع تهديد أو خطر، يبادر مجلس العصبة إلى استخدام الوسائل الكفيلة بتنفيذ التزاماته.
ب- تسوية النزاعات سلمياً. إذ نصّت المادة 12 من العهد على أنه "إذا نشأ نزاع من شأنه أن يؤدي إلى احتكاك دولي. يوافق الأعضاء على عرض الأمر على التحكيم، أو التسوية القضائية، أو التحقيق بواسطة المجلس. كما نصّت المادة 13 فقرة (1): أنه كلما نشأ نزاع بين أعضاء العصبة، يحال إلى التحكيم، أو التسوية القضائية، إذا لم يكن ممكناً تسويته على نحو مرض بالدبلوماسية. وتوضح الفقرة (2) من المادة 13، أنواع الخلافات التي يمكن أن تنشأ، والتي تعتبر من الخلافات الملائمة للتحكيم أو التسوية القضائية. كما توضح الفقرة (3) من المادة نفسها، أن المحكمة المختصة في مثل هذه الحالات هي: "المحكمة الدائمة للعدل الدولي" أو أية محكمة يتفق عليها أطراف النزاع.
ج- عدم مشروعية الحرب، إلا إذا جاءت بعد انقضاء ثلاثة شهور على صدور قرار التحكيم أو الحكم القضائي أو تقرير المجلس، في أي نزاع ينشأ ومن شأن استمراره أن يؤدي إلى احتكاك دولي. وفي المادة 16، اعتبر الحرب غير مشروعة، إذا لجأ عضو من أعضاء العصبة إليها مخالفاً تعهداته وفقاً للمواد 12 و 13و 15. فيكون قد ارتكب فعلاً من أفعال الحرب ضد جميع أعضاء العصبة. وقد نصت المادة المذكورة على العقوبات التي تفرض في هذه الحالة على العضو المخالف مثل: قطع العلاقات التجارية، والمالية، والعقوبات العسكرية.
شكل قيام عصبة الأمم خطوة حاسمة في طريق انتقال العلاقات الدولية من حالة "الطبيعة" إلى حالة "المجتمع" على حد تعبير هوبز وذلك من زوايا عديدة([12]):
- أنها فتحت أبواب عضويتها أمام الدول كافة، واستناداً إلى قاعدة المساواة السيادية بينها، من دون تمييز بين الدول الكبرى والدول الصغرى، سواء في حقوق العضوية أو في واجباتها. وكانت تلك خطوة حاسمة على طريق الانتقال من مفهوم الأمن "أو الضمان" الجماعي باعتباره مسؤولية أو حق تقتصر ممارستها على الدول الكبرى وحدها، إلى مفهوم أكثر تطوراً ينظر إلى فكرة الأمن باعتباره مسؤولية مشتركة تقتضي تعاون الجميع.
- أنها عالجت قضية الأمن الدولي في سياق أوسع وهو سياق تنظيم المجتمع الدولي ككل. ورغم اعطاء الأولوية لقضية الأمن بشكل مباشر إلا أن العصبة لم تهمل معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وقضايا حقوق الإنسان.
- أنها حاولت وللمرة الأولى في التاريخ الحديث، تنظيم العلاقات الدولية على أسس ثابتة ودائمة، وفقاً لقواعد محددة في اطار معاهدة دولية شبه ملزمة، والانتقال إلى صيغة "العقد الاجتماعي الدولي".
لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن العصبة لم تتحول بالفعل إلى منظمة عالمية، إذ غلب عليها الطابع الأوروبي، فالولايات المتحدة التي أسهمت بالدور الرئيسي في صياغة عهد العصبة، لم تصبح عضواً فيها بسبب رفض الكونغرس، ولم ينضم الاتحاد السوفياتي إليها إلا في عام 1934 ثم طرد منها عام 1939. وقد انسحبت اليابان عام 1933 وكذلك ألمانيا، ثم انسحبت معظم دول أميركا اللاتينية عام 1936 وفي الوقت نفسه، لم تهتم العصبة بالمشكلة الاستعمارية، باستثناء نظام الانتداب الذي طبق على المستعمرات، وبالتالي لم يكن متاحاً أمام نصف شعوب العالم تقريباً المساهمة في نشاط أول منظمة عالمية.
ورغم الأهمية التأسيسية لعهد وميثاق عصبة الأمم. إلا أنه لم يشق طريقه إلى التنفيذ، بل ظلّ محكوماً بالتطورات والتغيرات التي حدثت في التوازنات الدولية العامة. وتحت ضغط "توازن القوى" الذي حكم ولا يزال السياسة الدولية، مترادفاً مع توازن المصالح. وهو ما حال دون تحول نظام الأمن الجماعي إلى واقع فعلي بسبب عوامل عديدة منها:
- اعطاء الأولوية للمصالح القومية للدول المنضوية تحت لواء العصبة.
- الإجحاف الذي تضمنه الصلح في باريس عام 1919 بحق الدول المهزومة.
- لم يضع مؤتمر الصلح حداً للتنافس الاستعماري بين الدول العظمى، لأنه اعترف بـ"الانتداب" وهو الذي شكل الوجه الآخر للاستعمار (غير المباشر)، مما أدى إلى الشك في مصداقية العصبة والتزاماتها الواقعية.
- عدم تمكن العصبة من التوسع عالمياً. فقد غاب عنها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وانسحبت اليابان وايطاليا، مما حدّ قدرتها على حل المشكلات، وعجزت عن فرض إجراءات جماعية ضد الدول المنتهكة لأحكام عهدها.
- بروز الفاشية والنازية في كل من ايطاليا وألمانيا.
- حدة التنافس على المصالح والمستعمرات بين بريطانيا وفرنسا.
المبحث الثالث: نظام الأمن الجماعي في نطاق الأمم المتحدة
[ رغم استمرار سياسة توازن القوى في التحكم بالعلاقات الدولية، وترجمته لاحقاً، في منح "حق النقض- الفيتو" للدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، وهيمنة سياسة الاستقطاب الدولي على العلاقات الدولية. فقد جاء ميثاق الأمم المتحدة ليلغي عصبة الأمم، وليحدد بصورة غير مسبوقة، دور المنظمات الإقليمية في حفظ السلام والأمن الدوليين. مقدماً نموذجاً جديداً في مجال الأمن الجماعي، ينطلق من فكرة الحؤول دون قيام الحرب في المستقبل. من خلال اتفاق له طابق دولي، على مجموعة من الأهداف والمبادئ، تشكل نظام الأمن الجماعي ويرتكز على دورين للأمم المتحدة.
1- دور وقائي: ويشمل:
أ- حظر استخدام القوة:
فقد نصّت المادة 2 فقرة 4 من ميثاق الأمم المتحدة على أن العلاقات الدولية يجب أن تقوم على أساس الامتناع:
- عن التهديد باستعمال القوة.
- عن استخدام القوة والتهديد بها ضد الاستقلال السياسي لأية دولة.
- عن استخدام القوة أو التهديد بها على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
ولكن تعددت التفسيرات والاجتهادات في هذا الباب من الميثاق في اتجاهين:
- الاتجاه الأول، واعتبر أصحابه أنه إذا استخدمت القوة بصورة تتفق ومقاصد الأمم المتحدة، فإن ذلك لا يتعارض ونص المادة 2 فقرة 4، وقد اعتمدت الولايات المتحدة على هذا التفسير في ضربها العراق عام 1997 ويوغسلافيا عام 1999، بحجة أنهما لا ينفذان قرارات مجلس الأمن.
- الاتجاه الثاني، وهم أغلبية في الأمم المتحدة، فقد اعتبروا أن الحظر الوارد في ميثاق الأمم المتحدة، لا يقتصر على استخدام القوة ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي فحسب. بل يمتد ليشمل أيضاً كافة أشكال القوة. طالما أن في ذلك تهديداً أو خرقاً للسلم والأمن الدوليين.
وقد أكدت هذه الوجهة قرارات الأمم المتحدة، وأعمال القضاء الدولي، عبر العديد من القرارات المندّدة باستخدام القوة في العلاقات الدولية، ومن بينها الإعلان الصادر عن الجمعية العامة لعام 1970، والذي جاء فيه: "إن على جميع الدول، الامتناع عن التهديد بالقوة، أو استخدامها كوسيلة من وسائل حل المنازعات الدولية. وكذلك الفقرة الأولى من قرار مجلس الأمن 242، والقاضية بعدم الاعتراف بالاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، ولكن اسرائيل التي قبلت نص القرار، أخرجته بتفسيرها عن مضمونه، حيث ميّزت بين الاستخدام المشروع، وغير المشروع للقوة([13])...؟
ب- تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية
لقد تطورت آلية تسوية المنازعات بالطرق السلمية، لتأخذ صيغة محددة، في الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة كجزء لا يتجزأ من نظام الأمن الجماعي.
فنظام الأمن الجماعي لا يقوم على أساس ردع العدوان فحسب، بل لديه آلية محددة لمنع نشوئه، تتمثل بالطلب من أطراف أي نزاع – من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلام والأمن الدوليين للخطر، أن يلتمسوا حله بطريق المفاوضات والوساطة والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية (المادة 33، الفقرة 11) من ميثاق الأمم المتحدة.
وقد حدثت تطورات مهمة في هذا السياق، منها: إعلان مبادئ القانون الدولي التي تحكم العلاقات الودية بين الدول لعام 1970، وأعلان مانيلا لعام 1982، والقرار رقم 59/47 لعام 1992 الخاص بتقصي الحقائق في مجال حفظ السلام والأمن الدوليين، والقرار 47/120 لعام 1992 والذي ثبتت فيه الجمعية العامة ما جاء في تقرير الأمين العام حول "أجندة السلام"، مؤكداً فيه "أن المحافظة على السلم والأمن الدوليين، تقتضي اتباع الدبلوماسية الوقائية لصنع السلام والمحافظة عليه، ولبناء السلام بعد انتهاء النزاع"([14]).
يشار هنا إلى "عمليات حفظ السلام"، باعتبارها تطور هام في فعالية مواجهة الأزمات المتفجرة والصراعات المسلحة. خاصة في ضوء تحكم الاستقطاب الثنائي الدولي (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) وحلفائهما في التوازنات الدولية، وهيمنة الحرب الباردة على العلاقات الدولية، والإسراف في استخدام حق النقض: "الفيتو" في مجلس الأمن ، والذي تحول إلى أداة من أدوات الصراع السياسي بين المعسكرين، خلافاً لوظيفته الأصلية في ميثاق الأمم المتحدة، والتي هدفت إلى تمكين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن من ممارسة دورها الرئيسي في حفظ السلام.
ج-تدابير قمع العدوان
المهمة الجوهرية لنظام الأمن الجماعي، تتمثل في حشد قوى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لقمع العدوان، من خلال قرارات وتدابير جماعية، تتراوح بين تدابير مؤقتة، وأخرى عسكرية حاسمة. فعند إقرار مجلس الأمن بوجود تهديد للسلم، أو إخلال به، أو عمل من أعمال العدوان، له الحق بسلطة تقدير واسعة، أن يصدر قراراً يصف فيه المسألة المعروضة عليه، بأحد الأوصاف المتاحة في الميثاق، ويتخذ في ضوئها القرار المناسب. كما يجوز له اللجوء إلى أحكام الفصلين السادس والسابع من الميثاق.
فالمادة 42 من الميثاق تنص على أنه إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها لا تفي بالغرض "جاز له أن يتخذ من الأعمال ما يلزم لحفظ السلام والأمن، واعادتهما إلى نصابهما".
ولما كان القيام بعمل عسكري مباشر وفعال لحفظ السلام يفترض وجود تنظيم عسكري ملموس للأمم المتحدة، فقد نصت المواد 43 و 47 على تشكيل هذه القوة، وحددتا كيفية عملها، وتشكيل لجنة اركان الحرب، في إطار:
- تعهد جميع أعضاء الأمم المتحدة، بوضع ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلام، بتصرف مجلس الأمن وبناء على طلبه.
- تحديد عدد القوات، وأنواعها، ومدى استعدادها وامكاناتها.
- اجراء المفاوضة على الإتفاق بالسرعة اللازمة والمصادقة عليه.
- مبادرة مجلس الأمن لوضع الخطط اللازمة لاستخدام هذه القوات العسكرية طبقاً لنص المادة 46 بمساعدة لجنة أركان الحرب، الخاضعة لسلطة المجلس عليها.
د- دور علاجي:
يدخل في إطار البعد العلاجي في نظام الأمم المتحدة للأمن الجماعي، الترتيبات اللازمة لفرض الأمن والسلم الدوليين، في حالة رفض الإنصياع للتسوية بالطرق السلمية أو حدوث عدوان أو تهديد أو اخلال بالسلم يتطلب رداً فورياً لردعه أو قمعه([15]).
ويعتبر هذا الجانب العلاجي، أقوى ما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة، وقد مثل نقلة بالغة الأهمية في سياق استكمال نظام حقيقي لأمن المجتمع الدولي، باعتباره وحدة متكاملة واحدة، وقد اختص به مجلس الأمن، إذ زوّده الميثاق بالصلاحيات والسلطات كافة، التي تمكنه من مواجهة الموقف، بالإضافة إلى السلطات والصلاحيات الممنوحة له بموجب الفصل السادس، فقد منحه الميثاق، بموجب الفصل السابع، سلطة تقدير وتقرير ما إذا كان الذي قد وقع يشكل تهديداً للسلم أو اخلالاً به، أو عملاً من أعمال العدوان (المادة 39)، ودعوة المتنازعين إلى الأخذ بما يراه ضرورياً من تدابير مؤقتة (المادة 40)... وقطع العلاقات الدبلوماسية (المادة 41), وأخيراً فقد أجاز له الميثاق "أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لاعادتهما إلى نصابهما" (المادة 42)([16]).
ولتمكين مجلس الأمن من استخدام القوة فعلاً ضد الخارجين على الشرعية الدولية، حرص الميثاق على أن يضع بتصرفه أداة عسكرية دائمة ومستقلة عن إرادة الدول الأعضاء، فقد نصّت المادة 43 على تعهد جميع الدول الأعضاء بأن "يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن، بناء على طلبه وطبقاً لاتفاق أو اتفاقيات خاصة، ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين وفي خدمة ذلك. وأقر الميثاق تشكيل لجنة أركان حرب من رؤساء أركان حرب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لتكون "مسؤولة عن التوجيه الاستراتيجي لأية قوات مسلحة موضوعة تحت تصرف المجلس".
وبما أنه كان من المتوقع، أن يمر الوقت قبل وضع الاتفاقيات المشار إليها في المادة (43) موضع التنفيذ، فقد حرص الميثاق على أن يكون مجلس الأمن في وضع يمكنه من استخدام القوة المسلحة خلال المرحلة الانتقالية اللازمة قبل أن يصبح الجيش الدولي المرتقب جاهزاً ومستعداً، وذلك من خلال اجراءين:
- تفويض الدول الخمس الدائمة العضوية بالقيام نيابة عن الأمم المتحدة بالأعمال اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين.
- تكليف جميع الدول الأعضاء بأن يكون لديها وحدات جوية وطنية قابلة للاستخدام فوراً لأعمال القمع الدولية المشتركة.
وفي الإستنتاج، بأن ميثاق الأمم المتحدة، قد تبنّى في الواقع مفهوماً تقليدياً للسلم والأمن الدوليين، لأنه افترض أن التهديدات التي يمكن أن تعرض السلم والأمن للخطر تكمن أساساً في احتمالات استخدام القوة المسلحة لتهديد الاستقلال السياسي أو السلامة الإقليمية للدول الأعضاء.
ماذا عن الوجه الفعلي-الواقعي للأمن الجماعي في نطاق الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟
إن النظام الدولي الذي قام خلال فترة الحرب الباردة، وحتى مطلع التسعينات، استند إلى بروز قوتين عظميين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تاركاً هامشاً ضيقاً للدول الأخرى، للعب أدوار ثانوية، أو مكملة لدور أحد القطبين، ولم تستطع الكثير من المحاولات، وأبرزها من خلال منظمة دول عدم الإنحياز أن تخترق جدار التوازن الثنائي، أو على الأقل تعديل مساراته في مصلحة السلم والإستقرار والمحافظة على ميثاق الأمم المتحدة في جوهره وغاياته الأساسية. فقد أدى توازن الرعب، واصطفاف الدول حول المحورين المذكورين إلى نزاعات متعددة في العالم، وحروب محاور نيابة عن الجبارين.
صحيح أن النظام ثنائي القطبية، وبسبب توازن الرعب النووي بين قطبيه قد أدى إلى استقرار عالمي، وجنب البشرية حرباً مدمرة. إلا أنه كبّل الأمم المتحدة، وحدّ من فعاليتها، بحيث باتت غير قادرة على ممارسة دورها المرسوم لها، إلا من خلال توافق القوى العظمى. وهذا ما عبّر عنه الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة داغ همرشولد بقوله: "لم تخلق الأمم المتحدة لتقود البشرية إلى الجنّة بل لتنقذها من الجحيم"([17]).
والأدهى مما سبق، أنه مع بداية التسعينات، تحكمت في التوازنات الدولية وأدوار الأمم المتحدة ومجلس الأمن، قوة أحادية الجانب هي الولايات المتحدة الأميركية. مما أدى إلى تدهور الأمن والسلم الدوليين على أكثر من محور وساحة إقليمية في مختلف أرجاء العالم وتصاعد الفوضى والأعمال العسكرية في كل مكان، وسادت فوضى المعايير الأمنية والقانونية، وتداخلت وتعقدت التحالفات السياسية والعسكرية، وتفاقمت ظاهرة الإرهاب، ضاربة في قلب الدولة الأميركية العظمى.
لقد صوّر الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، ملامح الأمن الجماعي الدولي في عصر أحادية القوة، خلال مشاركته في اجتماعات مجلس الأمن بناء على دعوة رسمية مارس/آذار 2008، لمناقشة الأزمة العراقية. حيث سلط الأضواء على وهن المواثيق الدولية، وتراجع فعالية الشرعية الدولية ومؤسساتها. ومما قاله:"من الطبيعي أن تدور مناقشات عالمية حول دور مجلس الأمن بين الذين لا يرون دوراً للمجلس في حفظ الأمن، والذين يرون أن دور التنظيم الدولي كله قد بدأ بالاضمحلال، متسائلاً، عن مصير مبادئ السيادة وسلامة الأراضي.. التي تخرق... وتهدد... وعن دور وموقف مجلس الأمن ومعاييره... وهل يقوم أو باستطاعته أن يقوم بما عهد إليه من مسؤولية رئيسية في حفظ السلم والأمن الدوليين كما قضى الميثاق؟ وهل سلم مجلس الأمن بأن القوة أصبحت مصدراً للشرعية أو بديلاً عنها؟
يمكننا القول أن نظام الأمن الجماعي الدولي، الذي رسمه ميثاق الأمم المتحدة، ارتكازاً إلى مبادئ احترام جميع الدول للقانون والشرعية الدوليين، يتعرض منذ أكثر من عقد ونصف لأخطر تحد له على الإطلاق، بتجاهل القانون والميثاق علناً، وغلبة القوة المسلحة تحت ذرائع مختلفة ومتناقضة، خارج إطار الشرعية الدولية.
إن الأمن الجماعي في العلاقات الدولية، يقضي بأن يجعل كل طرف نفسه حارساً على غيره، أي أن لجوء أي دولة إلى استخدام القوة ضد أية دولة أخرى يقاوم بالقوة الجماعية من جميع الدول الأخرى. فمفهوم الأمن الجماعي عملية واسعة تتضمن التالي:
- التخلص من مصادر الخطر المستمر في المجتمع الدولي.
- إجراء تغيير جذري في العلاقات الدولية، يتضمن إقامة علاقات نوعية جديدة في إطار المجتمع الدولي.
- وهو يرتبط بأجهزة قانونية قادرة على تحريم العدوان.
- وهو يقتضي التركيز على الأسس الإيجابية في التعامل الدولي، وليس الغطرسة والعدوان والأحادية([18]).
منظمات الأمن الجماعي (نماذج دولية):
أ- منظمة معاهدة شمالي الأطلسي (حلف الناتو)(*):
أنشئت بموجب معاهدة شمالي الأطلسي لسنة 1949، كحلف دفاعي غربي، وتحدد المادة الخامسة في المعاهدة: "إلتزام الأعضاء بالرد على أي هجوم مسلح، يتعرض له أي طرف من الأطراف في المعاهدة".
ومن المشاكل القائمة منذ زمن طويل، هي: تردد الدول في التنازل عن الصلاحيات أو الموارد إلى الإتحاد الأوروبي. لذلك فإن استراتيجية الأمن الأوروبي ظلت ضعيفة في توليد ردود متسقة على أزمات وتحديات محددة في العالم، نظراً إلى عدم وجود تقدم في خطط الإتحاد الأوروبي لإنشاء قوة رد سريع قوامها 60 ألف عنصر، لذلك ما زال يعتمد على سياسته ودبلوماسيته اللينة في معظم الأحيان. والمثال الأحدث على ذلك، هو تقديم بلدان الإتحاد الأوروبي مساهماتها في قوات حفظ السلام في لبنان، في إطار الأمم المتحدة بدلاً من عملية للاتحاد الأوروبي. هذا فضلاً عن صعوبة تنسيق الوسائل الكفيلة بمواجهة التحديات الأمنية الداخلية (الإرهاب، الجريمة المنظمة...).
ورغم مواصلة حلف الناتو منذ بداية القرن الحالي لسياسة الابتعاد عن الدفاع عن الأراضي الأوروبية، نحو مهمات الحملات خارج المنطقة، غير أن هذا التحول لا يلقى موافقة متساوية من الأعضاء. فيما لا يزال الحلف يبحث عن استراتيجية، تنفي التهم عنه بأنه فائض عن الحاجة، إذ لا يميل أعضاؤه، بما في ذلك الولايات المتحدة، للتعامل مع آخر التحديات الأمنية التي تواجههم في الخارج، في إطار الحلف([19]).
ويرمي التحول إلى تغيير حلف الناتو وتعزيزه، وفي أواسط عام 2006 توقع دي هوب شيفر ثلاث "سلال" من النتائج للتغيير: الأولى تشمل العمليات مثل افغانستان وكوسوفو، والثانية تشمل قضايا القدرات مثل قوة الردع التابعة للحلف. والنقل الجوي الاستراتيجي والإنفاق العسكري، والثالثة تتعلق بالتقدم السياسي بما في ذلك مسألة أطر الشراكة مع حلف الناتو.
وإلى جانب تقوية الصلات القائمة مع الإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وبلدان القوقاز وآسيا الوسطى والخليج والبحر المتوسط، فقد اقترحت الولايات المتحدة أن ينشئ حلف الناتو "شراكة عالمية" مع البلدان الراغبة مثل أوستراليا ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية واليابان، والفكرة أن يضم منتدى جديد للشراكة العالمية بلداناً متماثلة العقلية وذات توجه غربي، وقادرة على المساهمة في البعثات العسكرية لحلف الناتو في كل أنحاء العالم([20]).
وفي هذا السياق دعا السناتور الأميركي ريتشار لوغار إلى توسيع دور الحلف ليشمل حماية أمن الطاقة للدول الأعضاء، وقد لقي هذا الاقتراح ترحيباً حاراً من قبل دول أوروبا الوسطى والشرقية، إذ تشعر بأنها أكثر عرضة لاضطرابات تدفق النفط والغاز، بسبب اعتمادها الشديد على روسيا.
ب- النموذج الروسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي(*):
وقعت ست دول من دول الإتحاد السوفياتي السابق على معاهدة الأمن الجماعي، في 15 أيار/مايو 1992، ويعد البند المتعلق بالمساعدة المتبادلة في حال وقوع اعتداء خارجي، العنصر المركزي فيها.
وفي الذكرى العاشرة للمعاهدة في أيار/مايو 2002 اتخذت الدول المشاركة (أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، روسيا، طاجيكستان) قراراً بشأن انطلاقة جديدة، وأصبحت الدول المؤسسة لهيكل جديد، هو منظمة معاهدة الأمن الجماعي.. ودخل نظام المنظمة الأساسي خير التنفيذ في أيلول/سبتمبر 2003.
يبدو أن مشروع هذه المنظمة، مستوحى إلى حد بعيد من تجربة "حلف الناتو" إذ يحكمها على غراره نظام مؤسسات سياسية وعسكرية. وقد اتخذت المنظمة قرار انشاء قوات الإنتشار السريع في أيار/مايو 2001، بسبب الوضع في آسيا الوسطى وأفغانستان، كما نشطت في وضع تدابير مضادة للإرهاب، واتخذت خطوات مهمة لتعزيز حضورها الدولي، إذ أصبحت عضواً مراقباً في الأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 2006([21]).
وقد أنشأت المنظمة نظاماً موحداً للدفاع الجوي، ونظاماً مشتركاً لتحديد تهديدات ذات صلة بأسلحة بيولوجية وكيماوية، وشكلت لجنة تنسيق بين قادة قوات وأجهزة الحماية من هذه الأسلحة، ووضعت تدابير مضادة للإرهاب. ففي نيسان/ابريل 2004، أيدت إنشاء منبر إعلامي دولي مضاد للإرهاب كهيكل غير حكومي يتعامل مع الدعم الدولي في سبيل الكفاح ضد الإرهاب الدولي. وتقرر في حزيران/يونيو 2005 إعداد قائمة خاصة بمنظمة المعاهدة، تتضمن أسماء منظمات إرهابية ومتطرفة. وفي آب/اغسطس 2006 نفذت المنظمة مناورتها التدريبية، وفق سيناريو ملائم لمتطلبات مكافحة الإرهاب.
ج- منظمة شانغهاي للتعاون:
تأسست هذه المنظمة بإعلان صدر في شانغهاي في 15 حزيران/يونيو 2001 عن ست دول هي: الصين، كازاخستان، فيرغيزستان، ورسيا، طاجيكستان، أوزبكستان، وأصبحت إيران ومنغوليا وباكستان دولاً مراقبة يحق لها حضور اجتماعات عالية المستوى في المنظمة.
تتميز منظمة شانغهاي، بأنها تتضمن قوة خارجية كبيرة هي الصين، وهي تشمل واحدة من أوسع المناطق الجغرافية التي تشملها أي منظمة أخرى من الحدود البولندية إلى فلادفيوستك، ومن البحر الأبيض إلى بحر الصين الجنوبي، وتملك دولها الست الأعضاء فيها ودولها الأربع المراقبة من 17,5% من احتياطي النفط العالمي المؤكدو 47-50% من احتياطي الغاز الطبيعي المعروف، وحوالي 45% من سكان العالم([22]).
وعلى الرغم من أن السبب الرئيسي لوجود منظمة شانغهاي للتعاون منسوب إلى المجال الأمني، فإنها لم تميز نفسها كحلف عسكري شبيه بحلف "الناتو". ويتمثل هدف هذه المنظمة ببناء الثقة المتبادلة والاستقرار وتجنب الصراعات والرد على تهديدات غير تقليدية مثل الإرهاب، وأعمال التمرد والإنشقاق الداخلي.
ولكن الاقتصاد هو المجال الرئيسي لجدارة منظمة شانغهاي للتعاون، وهنا تقود الصين الإندفاع، يحفزها اهتمامها باستغلال السوق الإقليمية لنشاطات التصدير وبتأمين امدادات جديدة من النفط والغاز، وفي عام 2003 اقترح رئيس الوزراء الصيني انشاء منطقة تجارة حرة خاصة بالمنظمة. وقد تم الإتفاق على إنشاء منطقة مؤاتية لحرية حركة المنتجات ورؤوس الأموال والتكنولوجيا، والخدمات بحلول عام 2020، وشكلت في العام 2004 أربع مجموعات عمل، تشمل التجارة الإلكترونية والجمارك وتوحيد المقاييس والاستثمار، وفي اجتماع شانغهاي للعام 2006، رفعت المنظمة والمجموعة الاقتصادية الأوراسية مذكرة تفاهم على تحسين التعاون في الطاقة والنقل بهدف تيسير التجارة البينية([23]).
.
.
.
1- مفهوم الأمن: تعريف:
من أحدث تعريفات الأمن وأكثرها تداولاً، تعريف باري بوزان، أحد أبرز المختصين في الدراسات الأمنية، وهو يعرف الأمن بأنه "العمل على التحرر من التهديد"، وفي سياق النظام الدولي فهو "قدرة المجتمعات والدول على الحفاظ على كيانها المستقل، وتماسكها الوظيفي ضد قوى التغيير التي تعتبرها معادية"([1])، والأمن يمكن فقط أن يكون نسبياً ولا يمكن أن يكون مطلقاً.
لكن الجامعي الفرنسي داريو باتيستيلا يرى في تعريف بوزان تبسيطاً لمعنى تعريف آرنولد ولفرز لعام 1952، الذي نال نوعاً من الإجماع بين الدارسين، وهو يرى أن "الأمن موضوعياً يرتبط بغياب التهديدات ضد القيم المركزية وبمعنى ذاتي، فهو غياب الخوف من أن تكون تلك القيم محور هجوم" وهي تتمثل بـ" بقاء الدولة، الإستقلال الوطني، الوحدة الترابية، الرفاه الاقتصادي، الهوية الثقافية، الحريات الأساسية..."([2]).
وللأمن مفهوم مزدوج، حيث لا يعني فقط وسيلة للتحرر من الخطر، بل يعني أيضاً وسيلة لارغامه وجعله محدوداً، وبما أن الأمن أوجده الخوف فإنه يقتضي ضرورة القيام بإجراءات مضادة للتحكم فيه، أو تحييده واحتوائه.
وقد تبنت بعض الدراسات نظرة أوسع للأمن تشمل الجوانب العسكرية وغير العسكرية لاسيما تلك التي تتناول دول العالم الثالث، التي أظهرت أهمية العوامل السياسية في المسألة الأمنية والاختلافات بين الدول المتقدمة والنامية. إذ أن التهديدات لأمن الأخيرة تأتي أساساً من المناطق المحيطة بها، إن لم تأت من داخل الدولة ذاتها. وهذا نتيجة لضعف البنى الدولية وعجز في شرعية الأنظمة، مما يتسبب في مشاكل أمن داخلية للدولة والتي غالباً ما تقود إلى صراعات مع الجوار.
لقد ميز بوزان خمسة أبعاد أساسية للأمن([3]):
- الأمن العسكري: ويخص المستويين المتفاعلين للهجوم المسلح والقدرات الدفاعية، وكذلك مدركات الدول لنوايا بعضها.
- الأمن السياسي: ويعني الاستقرار التنظيمي للدول، ونظم الحكومات والأيديولوجيات التي تستمد منها شرعيتها.
- الأمن الاقتصادي: ويخص الموارد المالية والأسواق الضرورية للحفاظ بشكل دائم على مستويات مقبولة من الرفاه وقوة الدولة.
- الأمن الاجتماعي: ويخص قدرة المجتمعات على إعادة انتاج أنماط خصوصيتها في اللغة والثقافة والهوية الوطنية والدينية والعادات والتقاليد في إطار شروط مقبولة لتطورها.
- الأمن البيئي: ويتعلق بالمحافظة على المحيط الحيوي المحلي أو الكوني كعامل أساسي تتوقف عليه كل الأنشطة الإنسانية.
وبفعل العولمة، حدثت تحولات في مفهوم الأمن والمشهد الأمني العالمي، وأبرزها تحولات القوة، التي لم تعد ترتبط ارتباطاً وثيقاً ووحيداً بالعامل العسكري. بل تعدته إلى التكنولوجيا والتعليم، والنمو الاقتصادي والاعتماد المتبادل والمعلومات. فالقوة العالمية اليوم تتأسس على مصادر هي من قبيل القوة اللينة، كما تقوم على مصادر ملموسة: القوة الصلبة. وكما يلاحظ جوزيف ناي فإن : "القوة أقل تحولية، وأقل قهرية، وأقل ملموسية"، ذلك أن تحويل المكاسب المحققة في مجال ما نحو مجال آخر يزداد صعوبة، أما فيما يخص الأمن، فإن الأمن اللين يعني التهديدات غير المباشرة أو التهديدات غير العسكرية، مثل عدم الإستقرار، التطرف، الإرهاب، التهريب، المخدرات، الهجرة غير المشروعة، الجريمة المنظمة، بينما يقصد بالأمن الصلب: التهديدات المباشرة أي التهديدات العسكرية([4]).
واقع الأمر أن مفهوم الأمن متنازع عليه، وقد أدت التغييرات على البيئة الأمنية المعاصرة إلى كثير من المحاولات لتعريف هذه التغييرات ووضع اطارها المفاهيمي، سياسياً ونظرياً، وتأثيراتها على الدول والمجتمعات والأفراد. وقد انضمت إلى المفهوم التقليدي للأمن مفاهيم أخرى توسع طبيعة التهديدات المحتملة (الإرهاب، الجريمة المنظمة...)، وهي تهديدات ترتبط بعوامل الخطر في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية، وتعمّق الأهداف المهددة لتشمل الأمن العالمي والجماعات دون الوطنية والأفراد([5]).
إن إعادة تحديد الأطر المفاهيمية للأمن، التي توسع حالة الأمن لتشمل المخاطر والتهديدات الجديدة، التي تتجاوز الهجوم العسكري، تولّد مفاهيم مثل الأمن الداخلي، الأمن الوظيفي والأمن البيئي. وتتطلب المفاهيم العميقة للأمن التي ترتبط بحماية الأفراد من التهديدات التي تستهدف أمنهم، بناء إطار اجتماعي يستطيع البشر من خلاله أن يعيشوا بحرية من الخوف والحاجة على حد سواء.
وتركز النظريات الواقعية على المشاكل الدولية، والصراعات، وتبرز رؤى الشركات العالمية العابرة للحدود والقومية، النواحي الاقتصادية والمحافظة على النظام الاقتصادي الدولي. وتركز وجهات نظر الأمن الإنساني، التي أخذت تبرز على ظروف الأفراد والعالم، كما أن بدء تحليل المخاطر يبرز طريقة متممة للتعامل مع المشاكل الأمنية للتغلب على التناقض بين الأنواع المختلفة للمفاهيم الأمنية([6]).
2- الأمن الإنساني:
في تقرير الأمن الإنساني 2005، بيانات عن التهديدات العنفية للأفراد، وقد ميّز فريق مؤلفي التقرير، بين "العنف السياسي" و "العنف الإجرامي" وهم يعتبرون أن العنف السياسي يشمل بالإضافة إلى الصراعات المسلحة العنف الجماعي وصراع الجهات غير الحكومية والإبادة الجماعية و"القتل السياسي".
وفي موجز الأمن الإنساني لعام 2006، أنه يتعلق بحماية الأفراد والمجتمعات من أي شكل من أشكال "العنف السياسي" وأن التعريف الملائم للأمن الإنساني يشمل كل أنواع العنف الجماعي التي تهدد حياة الأفراد والمجتمعات في صحتها ومعيشتها([7]).
إن التحول الإنساني في السياسة الدولية، قابله توسع الإهتمامات بالأمن الوطني، فكل أنواع العنف الجماعي يمكن أن تصبح اهتماماً أمنياً إذا كان حجمها كافياً لتهديد نسيج المجتمع، وقد شددت استراتيجيات الأمن القومي الأميركي للأعوام 2002 و 2006، واستراتيجية الأمن الأوروبي لسنة 2003، على المدى الراهن لتهديدات المجتمعات العابرة للحدود القومية، مثل الإرهاب الدولي، وحصول جهات غير حكومية على أسلحة الدمار الشامل وشبكات الجريمة العابرة للحدود القومية.
الفصل الأول: نظام الأمن الجماعي
المبحث الأول: مفهوم الأمن الجماعي
الأمن الجماعي، هو ذلك النظام، الذي يهدف إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين، عن طريق تكاتف الدول المحبة للسلام في إطار تنظيم دولي، للوقوف في وجه أي دولة تلجأ إلى انتهاك هذا السلم، أو تعمل على تهديده. واتخاذ التدابير الجماعية المؤدية إلى الحدّ من الانتهاكات([8])، وقد عرّف فريق الخبراء الحكوميين، الذي شكله الأمين العام لإجراء دراسة شاملة لمفاهيم الأمن، تطبيقاً لقرار الجمعية العامة رقم 188 في الدورة 38 لعام 1983، مفهوم الأمن في تقريره الذي نشر عام 1986 على النحو التالي: الأمن من حيث المبدأ، هو حالة ترى فيها الدول، أنه ليس ثمة أي خطر في شن هجوم عسكري أو ممارسة ضغط سياسي أو اكراه اقتصادي بحيث تتمكن من المضي قدماً نحو العمل بحرية على تحقيق تنميتها الذاتية وتقدمها([9]).
مقومات نظام الأمن الجماعي:
1- لقيام نظام أمن جماعي، لا بد من توافر تعهدات إيجابية من جانب الدول المعنية به، أبرزها التالي:
أ- حظر اللجوء إلى القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، إلاّ في حالتين فقط:
- من خلال الجهاز الدولي، الذي يجب أن يكون مسؤولاً عن تنفيذ نظام الأمن الجماعي.
- حالة الدفاع عن النفس. مرهونة بتوافر شروط معينة، لا تخرج عن تلك التي نصّت عليها المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
ب- احترام الإلتزامات الناشئة عن المعاهدات المبرمة بين الدول الأعضاء.
ج- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
د- تسوية المنازعات الدولية بالوسائلل السلمية.
2- ضرورة توسيع نطاق العضوية – أي شرط عالمية العضوية، أو شبه العالمية. ولأن عالمية العضوية، تؤدي غالباً ِِإلى الحد من مخالفة النظام الدولي العام.
3- توافر حياد وموضوعية نظام الأمن الجماعي. فإذا أريد للأمن الجماعي أن يؤدي وظيفته بنزاهة وتجرد، يجب على الحكومات والشعوب، أن تبدي مرونة أساسية في سياستها وعواطفها. فالأمن الجماعي لا يعترف بالصداقات التقليدية، ولا بالعداوات المزمنة، ولا يسمح بتحالفات مع، وتحالفات ضد.
4- أن تكون القوة الجماعية قادرة على تحقيق الردع وعدم الإخلال بالالتزامات التي يتضمنها نظام الأمن الجماعي. أي أن نظام الأمن الجماعي يتطلب أن تكون لديه الوسائل القسرية التي يمكنه اللجوء إليها في مواجهة الدولة التي تخلّ بالإلتزامات التي يفرضها النظام. وتتمثل هذه الوسائل فيما يسمى بالجزاءات (العقوبات). وهي جزاءات متعددة المستويات على النحو التالي([10]):
أ- الجزاءات غير العسكرية: ومنها الدبلوماسية، والمالية والاقتصادية.
ب- الجزاءات العسكرية: وهي التي تتطلب استخدام القوة العسكرية في تنفيذها.
[ ولكن في ضوء التطورات المتزايدة على الصعيد الدولي، وبروز عمليات التكامل والتعاون الدوليين، وازدياد نفوذ المؤسسات والشركات الدولية كفاعلين جدد على الساحة الدولية. ظهرت طروحات جديدة في النظرة للأمن الجماعي ومقوماته.
وأبرز هذه الطروحات ما تحدث عنه روبرت مكنمارا في كتابه "جوهر الأمن"([11])، في ستينات القرن الماضي. والذي أسس لمفهوم جديد للأمن: "إن الأمن ليس هو المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها، والأمن ليس القوة العسكرية وإن كان يشملها، والأمن ليس النشاط العسكري التقليدي وإن كان ينطوي عليه. إن الأمن هو التنمية ومن دون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن. والدول النامية التي لا تنمو بالواقع، لا يمكن ببساطة أن تكون آمنة".
المبحث الثاني: نظام الأمن الجماعي في نطاق عصبة الأمم
[ مثل عهد عصبة الأمم، قفزة كبيرة نحو التثبيت الرسمي لعناصر الأمن الجماعي. فقد تحددت صيغته كما يلي: "قامت العصبة بين دول تعاقدت فيما بينها بصورة اختيارية، بهدف تشجيع التعاون الدولي، وتحقيق السلام والأمن الدوليين، من خلال الإلتزام بعدم اللجوء إلى الحرب. على أن يكون القانون الدولي، هو قاعدة السلوك المتبعة في العلاقات بين الدول التي يجب أن تكون علنية وعادلة وشريفة.
لقد قام نظام الأمن الجماعي الذي تضمنه عهد عصبة الأمم على ثلاثة عناصر رئيسية هي:
أ- احترام سلامة أقاليم جميع أعضاء العصبة واستقلالها السياسي. فقد نصت المادة العاشرة منه على أن "يتعهد أعضاء العصبة، باحترام سلامة أقاليم جميع أعضاء العصبة، واستقلالها السياسي القائم، والمحافظة عليه ضد أي عدوان خارجي". وفي حالة وقوع عدوان من هذا النوع، أو في حالة وقوع تهديد أو خطر، يبادر مجلس العصبة إلى استخدام الوسائل الكفيلة بتنفيذ التزاماته.
ب- تسوية النزاعات سلمياً. إذ نصّت المادة 12 من العهد على أنه "إذا نشأ نزاع من شأنه أن يؤدي إلى احتكاك دولي. يوافق الأعضاء على عرض الأمر على التحكيم، أو التسوية القضائية، أو التحقيق بواسطة المجلس. كما نصّت المادة 13 فقرة (1): أنه كلما نشأ نزاع بين أعضاء العصبة، يحال إلى التحكيم، أو التسوية القضائية، إذا لم يكن ممكناً تسويته على نحو مرض بالدبلوماسية. وتوضح الفقرة (2) من المادة 13، أنواع الخلافات التي يمكن أن تنشأ، والتي تعتبر من الخلافات الملائمة للتحكيم أو التسوية القضائية. كما توضح الفقرة (3) من المادة نفسها، أن المحكمة المختصة في مثل هذه الحالات هي: "المحكمة الدائمة للعدل الدولي" أو أية محكمة يتفق عليها أطراف النزاع.
ج- عدم مشروعية الحرب، إلا إذا جاءت بعد انقضاء ثلاثة شهور على صدور قرار التحكيم أو الحكم القضائي أو تقرير المجلس، في أي نزاع ينشأ ومن شأن استمراره أن يؤدي إلى احتكاك دولي. وفي المادة 16، اعتبر الحرب غير مشروعة، إذا لجأ عضو من أعضاء العصبة إليها مخالفاً تعهداته وفقاً للمواد 12 و 13و 15. فيكون قد ارتكب فعلاً من أفعال الحرب ضد جميع أعضاء العصبة. وقد نصت المادة المذكورة على العقوبات التي تفرض في هذه الحالة على العضو المخالف مثل: قطع العلاقات التجارية، والمالية، والعقوبات العسكرية.
شكل قيام عصبة الأمم خطوة حاسمة في طريق انتقال العلاقات الدولية من حالة "الطبيعة" إلى حالة "المجتمع" على حد تعبير هوبز وذلك من زوايا عديدة([12]):
- أنها فتحت أبواب عضويتها أمام الدول كافة، واستناداً إلى قاعدة المساواة السيادية بينها، من دون تمييز بين الدول الكبرى والدول الصغرى، سواء في حقوق العضوية أو في واجباتها. وكانت تلك خطوة حاسمة على طريق الانتقال من مفهوم الأمن "أو الضمان" الجماعي باعتباره مسؤولية أو حق تقتصر ممارستها على الدول الكبرى وحدها، إلى مفهوم أكثر تطوراً ينظر إلى فكرة الأمن باعتباره مسؤولية مشتركة تقتضي تعاون الجميع.
- أنها عالجت قضية الأمن الدولي في سياق أوسع وهو سياق تنظيم المجتمع الدولي ككل. ورغم اعطاء الأولوية لقضية الأمن بشكل مباشر إلا أن العصبة لم تهمل معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وقضايا حقوق الإنسان.
- أنها حاولت وللمرة الأولى في التاريخ الحديث، تنظيم العلاقات الدولية على أسس ثابتة ودائمة، وفقاً لقواعد محددة في اطار معاهدة دولية شبه ملزمة، والانتقال إلى صيغة "العقد الاجتماعي الدولي".
لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن العصبة لم تتحول بالفعل إلى منظمة عالمية، إذ غلب عليها الطابع الأوروبي، فالولايات المتحدة التي أسهمت بالدور الرئيسي في صياغة عهد العصبة، لم تصبح عضواً فيها بسبب رفض الكونغرس، ولم ينضم الاتحاد السوفياتي إليها إلا في عام 1934 ثم طرد منها عام 1939. وقد انسحبت اليابان عام 1933 وكذلك ألمانيا، ثم انسحبت معظم دول أميركا اللاتينية عام 1936 وفي الوقت نفسه، لم تهتم العصبة بالمشكلة الاستعمارية، باستثناء نظام الانتداب الذي طبق على المستعمرات، وبالتالي لم يكن متاحاً أمام نصف شعوب العالم تقريباً المساهمة في نشاط أول منظمة عالمية.
ورغم الأهمية التأسيسية لعهد وميثاق عصبة الأمم. إلا أنه لم يشق طريقه إلى التنفيذ، بل ظلّ محكوماً بالتطورات والتغيرات التي حدثت في التوازنات الدولية العامة. وتحت ضغط "توازن القوى" الذي حكم ولا يزال السياسة الدولية، مترادفاً مع توازن المصالح. وهو ما حال دون تحول نظام الأمن الجماعي إلى واقع فعلي بسبب عوامل عديدة منها:
- اعطاء الأولوية للمصالح القومية للدول المنضوية تحت لواء العصبة.
- الإجحاف الذي تضمنه الصلح في باريس عام 1919 بحق الدول المهزومة.
- لم يضع مؤتمر الصلح حداً للتنافس الاستعماري بين الدول العظمى، لأنه اعترف بـ"الانتداب" وهو الذي شكل الوجه الآخر للاستعمار (غير المباشر)، مما أدى إلى الشك في مصداقية العصبة والتزاماتها الواقعية.
- عدم تمكن العصبة من التوسع عالمياً. فقد غاب عنها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وانسحبت اليابان وايطاليا، مما حدّ قدرتها على حل المشكلات، وعجزت عن فرض إجراءات جماعية ضد الدول المنتهكة لأحكام عهدها.
- بروز الفاشية والنازية في كل من ايطاليا وألمانيا.
- حدة التنافس على المصالح والمستعمرات بين بريطانيا وفرنسا.
المبحث الثالث: نظام الأمن الجماعي في نطاق الأمم المتحدة
[ رغم استمرار سياسة توازن القوى في التحكم بالعلاقات الدولية، وترجمته لاحقاً، في منح "حق النقض- الفيتو" للدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، وهيمنة سياسة الاستقطاب الدولي على العلاقات الدولية. فقد جاء ميثاق الأمم المتحدة ليلغي عصبة الأمم، وليحدد بصورة غير مسبوقة، دور المنظمات الإقليمية في حفظ السلام والأمن الدوليين. مقدماً نموذجاً جديداً في مجال الأمن الجماعي، ينطلق من فكرة الحؤول دون قيام الحرب في المستقبل. من خلال اتفاق له طابق دولي، على مجموعة من الأهداف والمبادئ، تشكل نظام الأمن الجماعي ويرتكز على دورين للأمم المتحدة.
1- دور وقائي: ويشمل:
أ- حظر استخدام القوة:
فقد نصّت المادة 2 فقرة 4 من ميثاق الأمم المتحدة على أن العلاقات الدولية يجب أن تقوم على أساس الامتناع:
- عن التهديد باستعمال القوة.
- عن استخدام القوة والتهديد بها ضد الاستقلال السياسي لأية دولة.
- عن استخدام القوة أو التهديد بها على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
ولكن تعددت التفسيرات والاجتهادات في هذا الباب من الميثاق في اتجاهين:
- الاتجاه الأول، واعتبر أصحابه أنه إذا استخدمت القوة بصورة تتفق ومقاصد الأمم المتحدة، فإن ذلك لا يتعارض ونص المادة 2 فقرة 4، وقد اعتمدت الولايات المتحدة على هذا التفسير في ضربها العراق عام 1997 ويوغسلافيا عام 1999، بحجة أنهما لا ينفذان قرارات مجلس الأمن.
- الاتجاه الثاني، وهم أغلبية في الأمم المتحدة، فقد اعتبروا أن الحظر الوارد في ميثاق الأمم المتحدة، لا يقتصر على استخدام القوة ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي فحسب. بل يمتد ليشمل أيضاً كافة أشكال القوة. طالما أن في ذلك تهديداً أو خرقاً للسلم والأمن الدوليين.
وقد أكدت هذه الوجهة قرارات الأمم المتحدة، وأعمال القضاء الدولي، عبر العديد من القرارات المندّدة باستخدام القوة في العلاقات الدولية، ومن بينها الإعلان الصادر عن الجمعية العامة لعام 1970، والذي جاء فيه: "إن على جميع الدول، الامتناع عن التهديد بالقوة، أو استخدامها كوسيلة من وسائل حل المنازعات الدولية. وكذلك الفقرة الأولى من قرار مجلس الأمن 242، والقاضية بعدم الاعتراف بالاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، ولكن اسرائيل التي قبلت نص القرار، أخرجته بتفسيرها عن مضمونه، حيث ميّزت بين الاستخدام المشروع، وغير المشروع للقوة([13])...؟
ب- تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية
لقد تطورت آلية تسوية المنازعات بالطرق السلمية، لتأخذ صيغة محددة، في الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة كجزء لا يتجزأ من نظام الأمن الجماعي.
فنظام الأمن الجماعي لا يقوم على أساس ردع العدوان فحسب، بل لديه آلية محددة لمنع نشوئه، تتمثل بالطلب من أطراف أي نزاع – من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلام والأمن الدوليين للخطر، أن يلتمسوا حله بطريق المفاوضات والوساطة والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية (المادة 33، الفقرة 11) من ميثاق الأمم المتحدة.
وقد حدثت تطورات مهمة في هذا السياق، منها: إعلان مبادئ القانون الدولي التي تحكم العلاقات الودية بين الدول لعام 1970، وأعلان مانيلا لعام 1982، والقرار رقم 59/47 لعام 1992 الخاص بتقصي الحقائق في مجال حفظ السلام والأمن الدوليين، والقرار 47/120 لعام 1992 والذي ثبتت فيه الجمعية العامة ما جاء في تقرير الأمين العام حول "أجندة السلام"، مؤكداً فيه "أن المحافظة على السلم والأمن الدوليين، تقتضي اتباع الدبلوماسية الوقائية لصنع السلام والمحافظة عليه، ولبناء السلام بعد انتهاء النزاع"([14]).
يشار هنا إلى "عمليات حفظ السلام"، باعتبارها تطور هام في فعالية مواجهة الأزمات المتفجرة والصراعات المسلحة. خاصة في ضوء تحكم الاستقطاب الثنائي الدولي (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) وحلفائهما في التوازنات الدولية، وهيمنة الحرب الباردة على العلاقات الدولية، والإسراف في استخدام حق النقض: "الفيتو" في مجلس الأمن ، والذي تحول إلى أداة من أدوات الصراع السياسي بين المعسكرين، خلافاً لوظيفته الأصلية في ميثاق الأمم المتحدة، والتي هدفت إلى تمكين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن من ممارسة دورها الرئيسي في حفظ السلام.
ج-تدابير قمع العدوان
المهمة الجوهرية لنظام الأمن الجماعي، تتمثل في حشد قوى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لقمع العدوان، من خلال قرارات وتدابير جماعية، تتراوح بين تدابير مؤقتة، وأخرى عسكرية حاسمة. فعند إقرار مجلس الأمن بوجود تهديد للسلم، أو إخلال به، أو عمل من أعمال العدوان، له الحق بسلطة تقدير واسعة، أن يصدر قراراً يصف فيه المسألة المعروضة عليه، بأحد الأوصاف المتاحة في الميثاق، ويتخذ في ضوئها القرار المناسب. كما يجوز له اللجوء إلى أحكام الفصلين السادس والسابع من الميثاق.
فالمادة 42 من الميثاق تنص على أنه إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها لا تفي بالغرض "جاز له أن يتخذ من الأعمال ما يلزم لحفظ السلام والأمن، واعادتهما إلى نصابهما".
ولما كان القيام بعمل عسكري مباشر وفعال لحفظ السلام يفترض وجود تنظيم عسكري ملموس للأمم المتحدة، فقد نصت المواد 43 و 47 على تشكيل هذه القوة، وحددتا كيفية عملها، وتشكيل لجنة اركان الحرب، في إطار:
- تعهد جميع أعضاء الأمم المتحدة، بوضع ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلام، بتصرف مجلس الأمن وبناء على طلبه.
- تحديد عدد القوات، وأنواعها، ومدى استعدادها وامكاناتها.
- اجراء المفاوضة على الإتفاق بالسرعة اللازمة والمصادقة عليه.
- مبادرة مجلس الأمن لوضع الخطط اللازمة لاستخدام هذه القوات العسكرية طبقاً لنص المادة 46 بمساعدة لجنة أركان الحرب، الخاضعة لسلطة المجلس عليها.
د- دور علاجي:
يدخل في إطار البعد العلاجي في نظام الأمم المتحدة للأمن الجماعي، الترتيبات اللازمة لفرض الأمن والسلم الدوليين، في حالة رفض الإنصياع للتسوية بالطرق السلمية أو حدوث عدوان أو تهديد أو اخلال بالسلم يتطلب رداً فورياً لردعه أو قمعه([15]).
ويعتبر هذا الجانب العلاجي، أقوى ما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة، وقد مثل نقلة بالغة الأهمية في سياق استكمال نظام حقيقي لأمن المجتمع الدولي، باعتباره وحدة متكاملة واحدة، وقد اختص به مجلس الأمن، إذ زوّده الميثاق بالصلاحيات والسلطات كافة، التي تمكنه من مواجهة الموقف، بالإضافة إلى السلطات والصلاحيات الممنوحة له بموجب الفصل السادس، فقد منحه الميثاق، بموجب الفصل السابع، سلطة تقدير وتقرير ما إذا كان الذي قد وقع يشكل تهديداً للسلم أو اخلالاً به، أو عملاً من أعمال العدوان (المادة 39)، ودعوة المتنازعين إلى الأخذ بما يراه ضرورياً من تدابير مؤقتة (المادة 40)... وقطع العلاقات الدبلوماسية (المادة 41), وأخيراً فقد أجاز له الميثاق "أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لاعادتهما إلى نصابهما" (المادة 42)([16]).
ولتمكين مجلس الأمن من استخدام القوة فعلاً ضد الخارجين على الشرعية الدولية، حرص الميثاق على أن يضع بتصرفه أداة عسكرية دائمة ومستقلة عن إرادة الدول الأعضاء، فقد نصّت المادة 43 على تعهد جميع الدول الأعضاء بأن "يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن، بناء على طلبه وطبقاً لاتفاق أو اتفاقيات خاصة، ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين وفي خدمة ذلك. وأقر الميثاق تشكيل لجنة أركان حرب من رؤساء أركان حرب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لتكون "مسؤولة عن التوجيه الاستراتيجي لأية قوات مسلحة موضوعة تحت تصرف المجلس".
وبما أنه كان من المتوقع، أن يمر الوقت قبل وضع الاتفاقيات المشار إليها في المادة (43) موضع التنفيذ، فقد حرص الميثاق على أن يكون مجلس الأمن في وضع يمكنه من استخدام القوة المسلحة خلال المرحلة الانتقالية اللازمة قبل أن يصبح الجيش الدولي المرتقب جاهزاً ومستعداً، وذلك من خلال اجراءين:
- تفويض الدول الخمس الدائمة العضوية بالقيام نيابة عن الأمم المتحدة بالأعمال اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين.
- تكليف جميع الدول الأعضاء بأن يكون لديها وحدات جوية وطنية قابلة للاستخدام فوراً لأعمال القمع الدولية المشتركة.
وفي الإستنتاج، بأن ميثاق الأمم المتحدة، قد تبنّى في الواقع مفهوماً تقليدياً للسلم والأمن الدوليين، لأنه افترض أن التهديدات التي يمكن أن تعرض السلم والأمن للخطر تكمن أساساً في احتمالات استخدام القوة المسلحة لتهديد الاستقلال السياسي أو السلامة الإقليمية للدول الأعضاء.
ماذا عن الوجه الفعلي-الواقعي للأمن الجماعي في نطاق الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟
إن النظام الدولي الذي قام خلال فترة الحرب الباردة، وحتى مطلع التسعينات، استند إلى بروز قوتين عظميين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تاركاً هامشاً ضيقاً للدول الأخرى، للعب أدوار ثانوية، أو مكملة لدور أحد القطبين، ولم تستطع الكثير من المحاولات، وأبرزها من خلال منظمة دول عدم الإنحياز أن تخترق جدار التوازن الثنائي، أو على الأقل تعديل مساراته في مصلحة السلم والإستقرار والمحافظة على ميثاق الأمم المتحدة في جوهره وغاياته الأساسية. فقد أدى توازن الرعب، واصطفاف الدول حول المحورين المذكورين إلى نزاعات متعددة في العالم، وحروب محاور نيابة عن الجبارين.
صحيح أن النظام ثنائي القطبية، وبسبب توازن الرعب النووي بين قطبيه قد أدى إلى استقرار عالمي، وجنب البشرية حرباً مدمرة. إلا أنه كبّل الأمم المتحدة، وحدّ من فعاليتها، بحيث باتت غير قادرة على ممارسة دورها المرسوم لها، إلا من خلال توافق القوى العظمى. وهذا ما عبّر عنه الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة داغ همرشولد بقوله: "لم تخلق الأمم المتحدة لتقود البشرية إلى الجنّة بل لتنقذها من الجحيم"([17]).
والأدهى مما سبق، أنه مع بداية التسعينات، تحكمت في التوازنات الدولية وأدوار الأمم المتحدة ومجلس الأمن، قوة أحادية الجانب هي الولايات المتحدة الأميركية. مما أدى إلى تدهور الأمن والسلم الدوليين على أكثر من محور وساحة إقليمية في مختلف أرجاء العالم وتصاعد الفوضى والأعمال العسكرية في كل مكان، وسادت فوضى المعايير الأمنية والقانونية، وتداخلت وتعقدت التحالفات السياسية والعسكرية، وتفاقمت ظاهرة الإرهاب، ضاربة في قلب الدولة الأميركية العظمى.
لقد صوّر الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، ملامح الأمن الجماعي الدولي في عصر أحادية القوة، خلال مشاركته في اجتماعات مجلس الأمن بناء على دعوة رسمية مارس/آذار 2008، لمناقشة الأزمة العراقية. حيث سلط الأضواء على وهن المواثيق الدولية، وتراجع فعالية الشرعية الدولية ومؤسساتها. ومما قاله:"من الطبيعي أن تدور مناقشات عالمية حول دور مجلس الأمن بين الذين لا يرون دوراً للمجلس في حفظ الأمن، والذين يرون أن دور التنظيم الدولي كله قد بدأ بالاضمحلال، متسائلاً، عن مصير مبادئ السيادة وسلامة الأراضي.. التي تخرق... وتهدد... وعن دور وموقف مجلس الأمن ومعاييره... وهل يقوم أو باستطاعته أن يقوم بما عهد إليه من مسؤولية رئيسية في حفظ السلم والأمن الدوليين كما قضى الميثاق؟ وهل سلم مجلس الأمن بأن القوة أصبحت مصدراً للشرعية أو بديلاً عنها؟
يمكننا القول أن نظام الأمن الجماعي الدولي، الذي رسمه ميثاق الأمم المتحدة، ارتكازاً إلى مبادئ احترام جميع الدول للقانون والشرعية الدوليين، يتعرض منذ أكثر من عقد ونصف لأخطر تحد له على الإطلاق، بتجاهل القانون والميثاق علناً، وغلبة القوة المسلحة تحت ذرائع مختلفة ومتناقضة، خارج إطار الشرعية الدولية.
إن الأمن الجماعي في العلاقات الدولية، يقضي بأن يجعل كل طرف نفسه حارساً على غيره، أي أن لجوء أي دولة إلى استخدام القوة ضد أية دولة أخرى يقاوم بالقوة الجماعية من جميع الدول الأخرى. فمفهوم الأمن الجماعي عملية واسعة تتضمن التالي:
- التخلص من مصادر الخطر المستمر في المجتمع الدولي.
- إجراء تغيير جذري في العلاقات الدولية، يتضمن إقامة علاقات نوعية جديدة في إطار المجتمع الدولي.
- وهو يرتبط بأجهزة قانونية قادرة على تحريم العدوان.
- وهو يقتضي التركيز على الأسس الإيجابية في التعامل الدولي، وليس الغطرسة والعدوان والأحادية([18]).
منظمات الأمن الجماعي (نماذج دولية):
أ- منظمة معاهدة شمالي الأطلسي (حلف الناتو)(*):
أنشئت بموجب معاهدة شمالي الأطلسي لسنة 1949، كحلف دفاعي غربي، وتحدد المادة الخامسة في المعاهدة: "إلتزام الأعضاء بالرد على أي هجوم مسلح، يتعرض له أي طرف من الأطراف في المعاهدة".
ومن المشاكل القائمة منذ زمن طويل، هي: تردد الدول في التنازل عن الصلاحيات أو الموارد إلى الإتحاد الأوروبي. لذلك فإن استراتيجية الأمن الأوروبي ظلت ضعيفة في توليد ردود متسقة على أزمات وتحديات محددة في العالم، نظراً إلى عدم وجود تقدم في خطط الإتحاد الأوروبي لإنشاء قوة رد سريع قوامها 60 ألف عنصر، لذلك ما زال يعتمد على سياسته ودبلوماسيته اللينة في معظم الأحيان. والمثال الأحدث على ذلك، هو تقديم بلدان الإتحاد الأوروبي مساهماتها في قوات حفظ السلام في لبنان، في إطار الأمم المتحدة بدلاً من عملية للاتحاد الأوروبي. هذا فضلاً عن صعوبة تنسيق الوسائل الكفيلة بمواجهة التحديات الأمنية الداخلية (الإرهاب، الجريمة المنظمة...).
ورغم مواصلة حلف الناتو منذ بداية القرن الحالي لسياسة الابتعاد عن الدفاع عن الأراضي الأوروبية، نحو مهمات الحملات خارج المنطقة، غير أن هذا التحول لا يلقى موافقة متساوية من الأعضاء. فيما لا يزال الحلف يبحث عن استراتيجية، تنفي التهم عنه بأنه فائض عن الحاجة، إذ لا يميل أعضاؤه، بما في ذلك الولايات المتحدة، للتعامل مع آخر التحديات الأمنية التي تواجههم في الخارج، في إطار الحلف([19]).
ويرمي التحول إلى تغيير حلف الناتو وتعزيزه، وفي أواسط عام 2006 توقع دي هوب شيفر ثلاث "سلال" من النتائج للتغيير: الأولى تشمل العمليات مثل افغانستان وكوسوفو، والثانية تشمل قضايا القدرات مثل قوة الردع التابعة للحلف. والنقل الجوي الاستراتيجي والإنفاق العسكري، والثالثة تتعلق بالتقدم السياسي بما في ذلك مسألة أطر الشراكة مع حلف الناتو.
وإلى جانب تقوية الصلات القائمة مع الإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وبلدان القوقاز وآسيا الوسطى والخليج والبحر المتوسط، فقد اقترحت الولايات المتحدة أن ينشئ حلف الناتو "شراكة عالمية" مع البلدان الراغبة مثل أوستراليا ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية واليابان، والفكرة أن يضم منتدى جديد للشراكة العالمية بلداناً متماثلة العقلية وذات توجه غربي، وقادرة على المساهمة في البعثات العسكرية لحلف الناتو في كل أنحاء العالم([20]).
وفي هذا السياق دعا السناتور الأميركي ريتشار لوغار إلى توسيع دور الحلف ليشمل حماية أمن الطاقة للدول الأعضاء، وقد لقي هذا الاقتراح ترحيباً حاراً من قبل دول أوروبا الوسطى والشرقية، إذ تشعر بأنها أكثر عرضة لاضطرابات تدفق النفط والغاز، بسبب اعتمادها الشديد على روسيا.
ب- النموذج الروسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي(*):
وقعت ست دول من دول الإتحاد السوفياتي السابق على معاهدة الأمن الجماعي، في 15 أيار/مايو 1992، ويعد البند المتعلق بالمساعدة المتبادلة في حال وقوع اعتداء خارجي، العنصر المركزي فيها.
وفي الذكرى العاشرة للمعاهدة في أيار/مايو 2002 اتخذت الدول المشاركة (أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، روسيا، طاجيكستان) قراراً بشأن انطلاقة جديدة، وأصبحت الدول المؤسسة لهيكل جديد، هو منظمة معاهدة الأمن الجماعي.. ودخل نظام المنظمة الأساسي خير التنفيذ في أيلول/سبتمبر 2003.
يبدو أن مشروع هذه المنظمة، مستوحى إلى حد بعيد من تجربة "حلف الناتو" إذ يحكمها على غراره نظام مؤسسات سياسية وعسكرية. وقد اتخذت المنظمة قرار انشاء قوات الإنتشار السريع في أيار/مايو 2001، بسبب الوضع في آسيا الوسطى وأفغانستان، كما نشطت في وضع تدابير مضادة للإرهاب، واتخذت خطوات مهمة لتعزيز حضورها الدولي، إذ أصبحت عضواً مراقباً في الأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 2006([21]).
وقد أنشأت المنظمة نظاماً موحداً للدفاع الجوي، ونظاماً مشتركاً لتحديد تهديدات ذات صلة بأسلحة بيولوجية وكيماوية، وشكلت لجنة تنسيق بين قادة قوات وأجهزة الحماية من هذه الأسلحة، ووضعت تدابير مضادة للإرهاب. ففي نيسان/ابريل 2004، أيدت إنشاء منبر إعلامي دولي مضاد للإرهاب كهيكل غير حكومي يتعامل مع الدعم الدولي في سبيل الكفاح ضد الإرهاب الدولي. وتقرر في حزيران/يونيو 2005 إعداد قائمة خاصة بمنظمة المعاهدة، تتضمن أسماء منظمات إرهابية ومتطرفة. وفي آب/اغسطس 2006 نفذت المنظمة مناورتها التدريبية، وفق سيناريو ملائم لمتطلبات مكافحة الإرهاب.
ج- منظمة شانغهاي للتعاون:
تأسست هذه المنظمة بإعلان صدر في شانغهاي في 15 حزيران/يونيو 2001 عن ست دول هي: الصين، كازاخستان، فيرغيزستان، ورسيا، طاجيكستان، أوزبكستان، وأصبحت إيران ومنغوليا وباكستان دولاً مراقبة يحق لها حضور اجتماعات عالية المستوى في المنظمة.
تتميز منظمة شانغهاي، بأنها تتضمن قوة خارجية كبيرة هي الصين، وهي تشمل واحدة من أوسع المناطق الجغرافية التي تشملها أي منظمة أخرى من الحدود البولندية إلى فلادفيوستك، ومن البحر الأبيض إلى بحر الصين الجنوبي، وتملك دولها الست الأعضاء فيها ودولها الأربع المراقبة من 17,5% من احتياطي النفط العالمي المؤكدو 47-50% من احتياطي الغاز الطبيعي المعروف، وحوالي 45% من سكان العالم([22]).
وعلى الرغم من أن السبب الرئيسي لوجود منظمة شانغهاي للتعاون منسوب إلى المجال الأمني، فإنها لم تميز نفسها كحلف عسكري شبيه بحلف "الناتو". ويتمثل هدف هذه المنظمة ببناء الثقة المتبادلة والاستقرار وتجنب الصراعات والرد على تهديدات غير تقليدية مثل الإرهاب، وأعمال التمرد والإنشقاق الداخلي.
ولكن الاقتصاد هو المجال الرئيسي لجدارة منظمة شانغهاي للتعاون، وهنا تقود الصين الإندفاع، يحفزها اهتمامها باستغلال السوق الإقليمية لنشاطات التصدير وبتأمين امدادات جديدة من النفط والغاز، وفي عام 2003 اقترح رئيس الوزراء الصيني انشاء منطقة تجارة حرة خاصة بالمنظمة. وقد تم الإتفاق على إنشاء منطقة مؤاتية لحرية حركة المنتجات ورؤوس الأموال والتكنولوجيا، والخدمات بحلول عام 2020، وشكلت في العام 2004 أربع مجموعات عمل، تشمل التجارة الإلكترونية والجمارك وتوحيد المقاييس والاستثمار، وفي اجتماع شانغهاي للعام 2006، رفعت المنظمة والمجموعة الاقتصادية الأوراسية مذكرة تفاهم على تحسين التعاون في الطاقة والنقل بهدف تيسير التجارة البينية([23]).
.
.
.