جرائم اسرائيل في غزة وتداعياتها القانونية والسياسية
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
كعادتها لم تتورع إسرائيل يوما عن انتهاك القوانين والأعراف الدولية المنظمة للحروب، بل عمدت منذ بداية عدوانها على غزة إلى استهداف المدنيين والمنشآت غير العسكرية، فنفذت المجازر على مساحة غزة بكاملها، وامتدت يد الغدر إلى الأطفال والشيوخ والنساء، دون رادع أو وازع قانوني أو أخلاقي. كما دمّرت بشكل منهجي البنى التحتية من جسور ومنشآت صحية وتربوية ودينية وكل ما يخطر ولا يخطر على البال،خارقة بذلك كل ما يمكن أن يوصف بحقوق الإنسان أو القوانين المنظمة لحماية المدنيين أثناء الحروب والنزاعات.فماذا عن اتفايات القانون الدولي الانساني التي انتهكتها اسرائيل؟ وكيف تعاملت المنظمات العربية والدولية لحقوق الانسان مع محرقة القرن الواحد والعشرين؟ وما هوالاساس القانوني الذي يمكن مواجهتها به؟
اولا : انتهاكات اسرائيل للاتفاقيات الدولية
في الواقع يمكن القول ان جميع الاتفايات الدولية لا يمكن لها ان تغطي فداحة الجرائم المرتكبة التي فاق حجمها اي تصوّر بالمقارنة بين المدة الزمنية ومساحة الارض المحروقة التي اتبعتها اسرائيل وكذلك حجم الكثافة السكانية لغزة التي تعتبر الاولى في العالم! وفي مقاربة اولية لما جرى مع الاتفاقيات الدولية يمكن تسجيل ابرز الانتهكات منها:
- اتفاقية " جنيف الأولى" لسنة 1864.
- إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة.
- إعلان لاهاي لسنة 1899 حول قذائف "دم دم" والغازات الخانقة.
-اتفاقية " لاهاي" لعام 1907 وهي تتضمن نصوصا أساسية تضع ضوابط وقواعد وأصول مهمة للنزاعات المسلحة، إذ تهدف إلى تنظيم وسائل حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة البرية والبحرية.
- اتفاقية هيغ لعام 1907 التي تتضمن قواعد مهمة تتعلق بمفهوم الحياد وبمفهوم الاحتلال وبكيفية إدارة العمليات الحربية. يشار إلى أنه أضيفت على هذه الاتفاقية قواعد الحرب الجوية التي وضعت مسودتها في العام 1923.
- بروتوكول جنيف بشأن حظر استعمال الغازات السامة والأسلحة الجرثومية لعام 1925 .
- ميثاق الأمم المتحدة.
- اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.والبروتوكولات الملحقة بها.
- اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية المواقع الثقافية في زمن النزاعات المسلحة.
- اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972.
- اتفاقية 1983 لمنع استخدام بعض الأسلحة،ومنها الفسفورية ضد المواقع العسكرية التي تقع بين المنشىت المدنية والتي استعملتها اسرائيل بكثافة في عدوانها على غزة.
- اتفاقية باريس لحظر استعمال الأسلحة الكيماوية.
- اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980 بشأن حظر أو تقييد بعض الأسلحة التقليدية.
- البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في العام 1977 لاستكمال الحماية التي تضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
وبعد التدقيق في نصوص الاتفاقيات والصكوك الدولية السالفة يتضح أن الحرب المدمرة والمبرمجة التي شنّها الجيش الإسرائيلي على غزة والتي نتج عنها قصف المدنيين الآمنين وتشريد مئات الآلاف منهم وضرب البنى التحتية والاقتصادية دون التركيز على الأهداف العسكرية، تشكّل خرقا فاضحا لقوانين النزاعات المسلحة وللمبادئ العامة والأعراف التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني.
إن العدوان الذي شنته إسرائيل ضد غزة وعلى النحو البربري والوحشي الذي اعتمدته أساسا لنجاحه عبر القضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء وتهديم ما أمكن من المنشآت المدنية، تشكّل انتهاكا فاضحا للعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، إذ خالفت مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال، وموجب تحييد المدنيين ومبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء أو الخطر المحدق بالجهة التي تلجأ إلى القوة من أجل حل نزاعها مع الطرف المستهدف.
ففي جانب مخالفة مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال الحل العسكري ، فمن الواضح لا تسمح قواعد القانون الدولي الإنساني باللجوء إلى استعمال القوة من اجل حل النزاعات بين الدول أو في داخل الدول، إلا في حالة الضرورة القصوى بحيث تكون القوة الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها من أجل التوصّل إلى حفظ السلم والأمن الدوليين، أو من اجل رد العدوان أو وضع حد للأعمال الإرهابية التي تتعرض لها الدولة المعتدى عليها. وهذا ما يمكن استنتاجه من نص البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي جاء فيه أنه " يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر". وهذا ما يؤكّد عليه أيضا وبشكل صريح البند الرابع من المادة ذاتها بنصه على أنه " يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". ما يعني أن الدولة المعنية لا يمكنها استعمال القوة العسكرية ضد دولة أخرى أو بلد آخر إلا في حالة الضرورة كحالة الدفاع عن النفس أو كالحالة التي يصبح فيها استخدام القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة المتوفرة لرد العدوان أو لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو لمواجهة أعمال إرهابية تطال من أمن الدولة المعنية ومن سلامة مواطنيها.
إن مراجعة سير وطبيعة الأعمال الجرمية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد غزة، يتبيّن أن هذه الأعمال لا يمكن إسنادها إلى حالة الضرورة العسكرية، باعتبار أن فعل إطلاق الصواريخ لا يؤلّف مبررا كافيا ومقنعا كي يستخدم كأساس شرعي لهذا العدوان، كما أنه لا يهدد فعلا الكيان الإسرائيلي ولم يحمل اعتداء خطير على أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها وبالتالي لا يبرر حربا مدمرة ومنظمة واسعة النطاق.
اما لجهة مخالفة مبدأ التقيّد بحدود معيّنة في استعمال القوة العسكرية ، فأكّدت المادة 35 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الموقع في العام 1977 على "أن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقا لا تقيده قيود". وفي الاتجاه ذاته، كانت قد أشارت صراحة المادة 22 من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18 اكتوبر/ تشرين الأول سنة 1907 إلى أنه " ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو" . وعليه ليس للمتحاربين الحق غير المقيّد بأي قيد في اختيار وسائل الإضرار، باعتبار أن الهدف الرئيس للحرب يكون ضرب القوة العسكرية للعدو وإيقاع الهزيمة به. وفي السياق ذاته، يحظّر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949 استخدام الأسلحة التي من شأنها زيادة معاناة الجرحى وآلامهم وجعل تدهور حالتهم الصحية أو موتهم أمرا محتوما ومؤكدا. وهذا ما كانت قد أكّدت عليه من قبل المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان والتي جاء فيها أنه "يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية". وكذلك تنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب على أنه "يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين".
إن إسرائيل لم تفرط في استعمال القوة العسكرية فقط وإنما لم تتقيد بأي حدود أو سقف في تنفيذ عملياتها العسكرية حيث لجأت إلى استعمال كافة الأسلحة الثقيلة وحتى بعض الأسلحة المدمرة وغير المسموح استعمالها والمحرّمة دوليا ضد المدنيين الشيوخ والأطفال والنساء والمرضى من دون تمييز ولم تضع لعملياتها الحربية أي حدود أو أهداف واضحة ومحددة غير تلك التي تبتغي القتل والدمار والتهجير.
اما مخالفة واجب تحييد المدنيين فيفرض قانون النزاعات المسلحة على الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية حماية المدنيين وتحييدهم عبر اتخاذ الإجراءات الضرورية التي يمكن بموجبها التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وتلتزم الدولة التي تختار القوة العسكرية لحل نزاعها مع دولة أخرى أو لصد عدوان ما أو لوضع حد لخطر إرهابي أو لأعمال إرهابية معينة بحماية الأشخاص العاجزين عن القتال أي المقاتلين الذين عجزوا عن القتال بسبب مرضهم أو إصابتهم بجروح أو أسرهم أو لأي سبب آخر يمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وعناصر الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية، ذلك تطبيقا لنص المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان ولنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. كما يتوجب على القوات المسلحة التي تستخدم القوة العسكرية، عملا بأحكام المادة 21 من اتفاقية جنيف الرابعة، احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل. وعلى كل طرف من أطراف النزاع أن يكفل حرية مرور جميع إمدادات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصرا إلى سكان مدنيين حتى ولو كانوا تابعين لدولة عدوة. وعليه أيضا الترخيص بحرية مرور أي إمدادات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال والنساء الحوامل أو النفاس (م 23 من اتفاقية جنيف الرابعة). ويكون من واجبات أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال دون الخامسة عشر من العمر الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب وتيسير إعالتهم وممارسة طقوس ديانتهم وإيوائهم في بلد محايد طوال مدة النزاع (م 24 من اتفاقية جنيف الرابعة.
إن الوقائع الثابتة بالصور والمشاهد التلفزيونية والتقارير الصحافية والأمنية تثبت أن القوات الإسرائيلية انتهكت جميع هذه القواعد والأعراف التي تحكم النزاعات المسلحة كونها تستهدف بقصفها العشوائي المدنيين من دون تمييز بين مواقع عسكرية وأخرى مدنية، ومن دون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين وتقوم بضرب الجسور وبقطع كل المواصلات البرية بهدف منع وصول المؤن والأغذية والأدوية إلى المدنيين المحاصرين. إضافة إلى ذلك أن هذه القوات وبدلا من أن تتخذ إجراءات معينة لتحييد المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة ولحمايتهم أو لتسهيل عملية نقلهم إلى مناطق آمنة أو محايدة، راحت تلقي عليهم الأطنان من القنابل وتقطع عنهم المؤن والأغذية وترتكب بحقهم أبشع الجرائم وأخطرها ( جرائم حرب ) التي يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، ما يؤلّف خرقا فاضحا وخطيرا لكل قواعد قانون النزاعات المسلحة أو للقانون الدولي الإنساني.
اما لجهة مخالفة مبدأ التناسب بين الوسيلة العسكرية وحجم الاعتداء وخطورته ،فبات من المسلّم به أن عدوان إسرائيل ضد غزة تخطى بمداه وبنوع الأسلحة والوسائل العسكرية المستعملة وكثافة القصف الجوي الذي لجأ إليه الجيش الإسرائيلي في عملياته الحربية ضد المواطنين المدنيين والبنى التحتية ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني ودور العبادة وغيرها، حجم وخطورة اطلاق الصواريخ التي نفذتها المقاومة ضد القوات العسكرية الإسرائيلية. وهذا ما يخالف مبدأ تناسب الوسائل العسكرية المستعملة مع حجم وخطورة العمل الذي تعرضت له الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية. ويقضي هذا المبدأ بعدم الإفراط في استعمال القوة العسكرية ووسائل القتال بحجم لا يتناسب مع خطورة الوضع العسكري أو الصفة العسكرية للهدف المقصود. ومن هذا المنطلق يضع قانون النزاعات المسلحة لزاما على أطراف النزاع ببذل رعاية متواصلة في إدارة العمليات العسكرية من أجل تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين وبالامتناع عن اتخاذ قرار بشن هجوم عسكري قد يتوقع منه أن يحدث، بشكل عرضي، خسائر في الأرواح بين المدنيين أو إلحاق الأذى بهم أو بممتلكاتهم. كما أن قواعد قانون النزاعات المسلحة تفرض بأن يلغي أو يعلّق أي هجوم عسكري إذا تبيّن أن الهدف المتوخى من ضربه ليس هدفا عسكريا أو قد ينتج عنه، بصورة عرضية ضررا وخسائر بشرية أو مادية مدنية.
ويظهر من خلال طبيعة العمليات الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة أن الوسائل العسكرية التي استعملها لا تتناسب مع خطورة الأعمال التي قامت بها المقاومة ولا حتى مع الوسائل الحربية المستخدمة من قبل هذه المقاومة التي لا تمتلك كالجيش الإسرائيلي كافة الأسلحة والأعتدة الحربية المتطورة ولا الدبابات ولا الطيران الحربي الذي لجأت إليه إسرائيل بصورة رئيسة في المعركة، ما يعتبر خرقا فاضحا لقواعد قانون النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
ثانيا: منظمات حقوق الانسان وكيفية التعامل
منذ بدء العدوان على غزة انظلقت في غير مكان عربي ودولي بيئة مستنكرة ومدينة للعدوان وجرائمه الموصوفة قانوانا،لكن العبرة لا تتعلق بالتحرك وانما فعاليته وتداعياته ونتائجه العملية.فما هي هذه المنظمات وكيف تعاملت؟وما هي تداعيات تحركها؟فعلى الرغم من فداحة الخروق لم يكن تحرك المنظمات الأهلية والرسمية كافيا لجهة التناسب مع حجم الجريمة،فغالبها تعامل مع القضية من منطلق وظيفي فرضته طبيعة عمل واهداف هذه المنظمات،وبالتلي يُصنف من النوع غير الكافي للبناء عليه.
فعلى سبيل المثال لم يتجاوز عمل "مجلس حقوق الانسان" التابع للامم المتحدة اتخاذ قرار بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لما يجري في غزة،ولم يتمكن من التوصل الى قرار لادانة المجازر الاسرائيلية وانتهاكات القانون الدولي الانساني،بفعل المعارضة الاوروبية لذلك على قاعدة ما اسماه عدم التوازن في مشروع القرار،ما ادى الى صدور قرار هزيل لا يتناسب وحجم المحرقة.وكما مجلس حقوق الانسان كذلك باقي المنظمات،ومرد ذلك الى العديد من الاسباب والاعتبارت ومن بينها:
- أنّ تصوّرات القائمين على المنظمات شأن معظم منظمات حقوق الإنسان خارج النطاق الرسمي، تنطلق تلقائيًّا من تصورات وإرث فكري وعقائدي ساهم مباشرة في تكوين الشخصية الغربية عبر القرون، فهم مع توفر أشدّ درجات الحماس لدعواتهم ومواقفهم، قد يصطدمون قاصدين أو غير قاصدين بتصورات ومعتقدات أخرى، لا سيما وأنهم ينطلقون في تحديد معاييرهم من بيان حقوق الإنسان العالمي، الذي يتفق في بعض الأحيان مع المعتقدات والتصورات البشرية عمومًا، ولكنه يتضمن أيضًا بعض ما لا ينسجم معها أو مع بعضها، وقد وُضع إجمالاً في حقبة كانت الكلمة الحاسمة فيها للغرب عقب الحرب العالمية الثانية.
- أنها كغيرها تتعرّض لمدِّها بمعلومات غير صحيحة، لا سيما عند اعتمادها في البلدان العربية والإسلامية مثلاً، على مصادر وأشخاص هم أقرب من غيرهم إلى تصوّراتها ومعاييرها في قضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن عزوف آخرين من تلقاء أنفسهم عن التعاون معها، ناهيك عن المشاركة في نشاطاتها، بدعوى المعايير المتباينة مع ثوابت إسلامية مثلاً.
- توظيف نشاطاتها وأعمالها وتقاريرها لتحقيق أغراض غير الأغراض التي استهدفتها في الأصل، وفق أساليب منحرفة معروفة تحت عناوين الازدواجية والانتقائية.
ثالثا: ازدواجية المعايير في التعاطي مع المجازر
غريب المفارقات ما يظهر تحديدا في المنظمات الأهلية والرسمية المختصة بحماية الحقوق الأساسية للإنسان،فعلى الرغم من أن جوهر وظائفها ومبرر وجودها وأسلوب عملها يقتضي وجوب الحيادية والنزاهة في العمل والتعاطي مع أطراف القضية الواحدة بموقف يكون على مسافة واحدة،نرى تهميش وتجهيل الأمور المتعلقة بالقضايا العربية تحديدا،وغض الطرف عن الممارسات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
فمنذ سنوات ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من منظمات المجتمع المدني وهي تطالب المجتمع الدولي بالتدخل الفاعل والجاد واتخاذ إجراءات عملية في مواجهة التحدي المستمر من جانب إسرائيل وقوات احتلالها لقواعد القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بهدف إجبارها على احترام التزاماتها التعاقدية حيال المدنيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى في ايلول/ سبتمبر 2000، تزايدت المطالب من جانب منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية والدولية بضرورة التدخل الدولي لحماية المدنيين الفلسطينيين، أمام التصعيد المستمر في جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني (كما تحددها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب) التي تواصل قوات الاحتلال اقترافها ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة. وتستند هذه المطالب المشروعة إلى:
- اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي تنص المادة الأولى منها على أن "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال." كما تضع المادة 146 من الاتفاقية التزامات محددة على الأطراف السامية المتعاقدة، بما في ذلك اتخاذ إجراءات تشريعية، لملاحقة المتهمين باقتراف مخالفات جسيمة وتقديمهم إلى المحاكمة أو تسليمهم لطرف ثالث متعاقد معني بمحاكمتهم.
- اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تنص المادة الثانية منها على وجوب "أن تستند العلاقات بين الأطراف، وشروط هذه الاتفاقية ذاتها، إلى احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، والتي تقود سياساتهم الداخلية والخارجية، وتشكل عنصراً رئيساً من الاتفاقية.
- بالرغم من ذلك، كان هناك فشل مزمن من جانب المجتمع الدولي، بخاصة الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة ودول الاتحاد الأوروبي، في الوفاء بالالتزامات القانونية المذكورة أعلاه. وشكّل ذلك عاملاً مشجعاً لإسرائيل (قوة الاحتلال الحربي) للإمعان في تحديها للقانون الدولي والتصرف كدولة فوق القانون تحظى بحصانة سياسية وقانونية خاصة، والمضي قدماً في جرائمها وانتهاكاتها ضد المدنيين الفلسطينيين بل وتصعيدها إلى مستوى غير مسبوق. إذ شملت هذه الجرائم والانتهاكات: الاستخدام المفرط للقوة وجرائم القتل العمد والإعدامات خارج إطار القانون؛ التوسع الاستيطاني وضم الأراضي والاستمرار في تدشين جدار الضم؛ تدمير الممتلكات المدنية؛ فرض العقوبات الجماعية بما فيها الحصار وفرض قيود مشددة على الحركة والتنقل؛ التعذيب وسوء المعاملة؛ وإنكار العدالة للمدنيين الفلسطينيين بما في ذلك حرمانهم من التعويض عن الجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال بحقهم بل وعدم التحقيق في الآلاف من تلك الجرائم. وعلى مدى الأعوام الثمانية الماضية، أسفرت هذه الإجراءات عن أزمات إنسانية حادة وتدهور غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي بكل تفاصيله.
- لقد كانت المطالب التي وجهتها منظمات المجتمع المدني إلى المجتمع الدولي (خاصة الأطراف السامية المتعاقدة على الاتفاقية والاتحاد الأوروبي) غير كافية في نطاق الالتزامات القانونية الواقعة على تلك الأطراف. وعلى سبيل المثال، لم تتضمن المطالب الموجهة لدول الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على دولة إسرائيل، إنما تفعيل المادة الثانية من اتفاقية الشراكة ووقف الامتيازات الممنوحة لإسرائيل بموجب الاتفاقية حتى تذعن الأخيرة لالتزاماتها. ولم تكن المطالب الموجهة للأطراف أكثر من الدعوة لتشكيل لجان تحقيق.
لقد كان من المؤمل أن تجد هذه المطالب آذاناً صاغية وأن يبادر المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات عملية ضد إسرائيل لضمان امتثالها لقواعد القانون الدولي.ولكن للأسف الشديد وبدلاً من معاقبة إسرائيل على جرائمها، يتمَّ معاقبة الضحية، أي معاقبة الشعب الفلسطيني والمدنيين الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال الحربي الإسرائيلي وغملياته الاجرامية في غزة.
رابعا: ضرزرة توثيق الجرائم وسبل مقاضاة اسرائيل
ثمَّة ضرور قصوى لتوثيق جرائم الحرب والابادة الجماهية التي ارتكبتها اسرائيل في عدوانها على غزة باعتبارها حجر الاساس للانظلاق نحو مقاضاة اسرائيل في المحافل الجانئية الدولية؛وفي واقع الامر ثمَّة العديد من المحاولات الجادة التي تشكل بيئة جيدة في هذا المجال وبخاصة الجمعيات العربية وبعض الدولية.لكن العبرة تكمن في جدية المتابعة والاصرار عليها.
في الواقع ثمَّة سبل وطرق متعددة لسلوك المقاضاة رغم العثرات التي يمكن ان تواجهها.ومن الضروري الانطلاق في عدة مناهج كالبيئة الاعلامية القانونية والسياسية القانونية والحقوقية القانونية وعدم الاقتصار على هذه الاخيرة،باعتبار ان المحاكم الجنائية الدولية لا زالت قاصرة بشكل عام على احقاق الحق للعديد من الاعتبارات ويأتي في طليعتها طبيعة النظام العالمي القائم ومن يتحكم بمفاصل مساراته وادواته القانونية والسياسية.
بداية تعنبر السلطة الفلطسنسة كيانا اعتباريا على المستوى الدولي، وبالتالي لها حقوق وواجبات الاتفاقيت الدولية السابقة واللاحقة لنشوئها ما لم تطلب او تعلن عكس ذلك في حدود ما يسمح لها القانون الدولي العام بذلك.وحتى الآن التزمت السلطة الفلطسينية بجميع الاتفاقيات الدولية وبخاصة تلك المتعلقة بالقانون الدولي الانساني باعتبارها صاحبة حق في مندرجاته.
ثمَّة خيارات عدة للمقاضاة ومنها:محكمة العدل الدولية، استنادا الى الاتفاق الدولي المتعلق بمعاقبة جريمة الابادة الجماعية للعام 1948 التي أصبحت نافذة اعتبارا من 12/1/ التي انضمّت إسرائيل اليها. فالمادة )9( من هذا الاتفاق تعطي محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في كل نزاع ينشأ عن تفسير هذا الاتفاق أو تطبيقه، بما في ذلك مسؤولية إحدى الدول عن أعمال الإبادة التي ترتكبها، بحيث أن الدعوى - في حال تقديمها على أساس اتفاق عام 1948، تكون مقبولة في الشكل، وفق ما أخذ به اجتهاد هذه المحكمة، من دون الحاجة إلى موافقة خاصة من دولة أخرى منضمة إلى الاتفاق (المقصود هنا اسرائيل) . فالسند القانوني في حال تقديم الدعوى على أساس الإبادة الجماعية، هو اتفاق عام 1948 المتعلق بجريمة الابادة الجماعية، علما أن هذه الجريمة، أسوة بسواها من الجرائم الدولية هي الأكثر خطورة، وان هذا النوع من الجرائم لا يمر الزمن عليه وفق ما تمشى عليه اجتهاد القانون الدولي. وان الجمعية العمومية للأمم المتحدة أقرّت في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 اتفاقا أصبح نافذا في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1971 ينص صراحة على أن لا مرور للزمن في جرائم الحرب أو في الجرائم ضد الإنسانية. وكانت إسرائيل في عداد الدول التي صوَّتت على القرار الرقم 2391 العائد إلى هذا الاتفاق.
أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية فان فالعديد من الأفعال التي ارتكبتها "إسرائيل" في عدوانها الأخير يقع تحت طائفة الجرائم موضوع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي لا تحاكم دولا، بل يمكنها محاكمة أفراد متهمين بارتكاب جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة ضمن اختصاصها. فالمحكمة تضع يدها على القضية وتمارس اختصاصها إما بإحالة القضية من دولة طرف في نظام المحكمة وقبلت بصلاحياتها (يقتضي استبعاد هذه الحالة إذ أن إسرائيل لم تنضم إلى اتفاق روما أو قبلت بصلاحية المحكمة)، وإما إحالة القضية من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذه الحالة مستبعدة أيضا لاعتبارات الفيتو الأمريكي. وتبقى الحالة الأخيرة، وهي إحالة القضية من جانب المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية الذي يحق له التصرف تلقائيا. وقد لحظت المادة 12 من اتفاق روما في فقرتها الثالثة أنه يمكن للدولة غير المنضمة إلى الاتفاق إذا وقعت إحدى الجرائم على أرضها ( المقصود السلطة الفلسطينية) أن تعلن قبولها بصلاحية المحكمة لهذه الجرائم بالذات، وان تطلب من المدّعي العام أن يتحرك، وان يحيل القضية على المحكمة إذا تبيّن له من التحقيق الذي يجريه وجود أدلّة كافية تشكل أساسا معقولا للمحاكمة.وهذا ما فعله مؤخرا مدعي عام المحكمة "اوكامبو" ضد الرئيس السوداني عمر البشير وهي سابقة دولية سجلتها المحكمة رغم عدم موضوعيتها وسندها الشرعي والقانوني.
كما انه يمكن اللجوء الى محاكم بعض الدول الاوروبية التي اعتبرت نفسها صاحبة صلاحية في النظر في جرائم الحرب التي تقع على مواطنيها في دول اخرى كالمحاكم البلجيكية والاسبانية والفرنسية والبريطانية،عبر تقديم مواطنين يحملون جنسيات مزدوجة بين هذه الدول والسلطة الفلطسينية وثمة سوابق جرت في هذا المجال عند محاولة محاكمة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون على جرائمه في مجزرتي صبرا وشاتيلا العام 1982 في لبنان امام المحاكم البلجيكية.
اضاقة الى ذلك يمكن اللجوء الى المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان سندا الى- اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تنص المادة الثانية منها على وجوب "أن تستند العلاقات بين الأطراف، وشروط هذه الاتفاقية ذاتها، إلى احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، والتي تقود سياساتهم الداخلية والخارجية، وتشكل عنصراً رئيساً من الاتفاقية.
ما جرى ويجري في غزة جرائم تندى لها جبين الانسانية ورغم ذلك لم يتم التوصل الا لقرار دولي حمل الرقم 1860 مضمونه الدعوة لوقف اطلاق النار مع وقف التنفيذ,بل حمل في طياته البيئة المناسبة لاسرائيل لاستمرار تنفيذ جرائمها في غزة وسط صمت عربي ودولي مريب،فماذا في هذا القرار وما هي خلفياته القانونية والسياسية؟
خامسا: القرار 1860 وخلفياته القانونية والسياسية
بداية ثمة ضرورة علمية وموضوعية للجوء الى النص الانكليزي للقرار منعا للالتباس الذي يمكن ان يحصل من تأويل بعض الفقرات من خلال الترجمة غير الدقيقة التي اطلق فيها.سيما وان الكثير من القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي قد تمَّ استثمارها قانونيا وسياسيا بغير موضعها الحقيقي،ما ادت الى تداعيات سلبية كثيرة.وكأي قرار صادر عن مجلس الامن الدولي ينبغي النظر اليه بعين مجردة،لكي يأتي تشريحة مطابقا للواقع قدر الامكان.وعليه يمكن تسجيل بعض الملاحظات الاولية ومنها:
- من الناحية الموضوعية، اتى القرار في صيغته اللغوية متوافقا مع التصنيف الذي يضعه في نطاق الفصل السادس من ميثاق الامم المتحدة،وبالتالي فهو ذات طبيعة غير الزامية للمعنيين به،الامر الذي يعني ان لا سلطة لمجلس الامن وفقا لهذه الصيغة اللجوء الى القوة العسكرية او لغيرها لتطبيقة،فهو بالمعنى القانوني "توصية" لا "قرار" ملزم وواجب التطبيق.
- على الرغم من خطورة الوضع القائم في غزة والذي اشار اليه القرار في اكثر من فقرة ولو بلغة ذات توصيف "انساني" لا سياسي،فان التدقيق في الاخطار السياسية والعسكرية الناجمة، او التي يمكن ان تنجم لاحقا،تؤدي الى الاستنتاج القاطع بأن وضعا كهذا يشكل خطرا على الامن والسلم الدوليين،وعليه فان من واجب مجلس الامن الدولي الذي من ابرز مهامه الأساسية حفظ الامن والسلم الدوليين بشتى الوسائل حتى الوصول الى استحدام القوة،الامر الذي لم يفعله مجلس الامن يوما في البيئة التي يتعاطى فيها مع قضايا الصراع العربي الاسرائيلي لا في هذا القرار ولا في غيره،رغم ان الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن مجلس الامن عاجز اصلا عن ذلك لاعتبارات كثيرة.
- وللموضوعية ايضا ينبغي الاعتراف بكل شجاعة ان الظروف الذاتية والموضوعية لمن يتواجد في غزة من مدنيين ومقاومين، لم يكن باستطاعتهم انتزاع اي قرار، فوق السقف الذي اتى به القرار 1860،ما يمكن ان يصنف في اطار الممكن وسط الظروف العربية والاقليمية والدولية المعروفة.
- ان التدقيق في النص الانكليزي للقرار والترجمة العربية القانونية الدقيقة له،يظهر ابعادا وخلفيات كثيرة؛فعلى الرغم من اللبس وامكانية التأويل في فقراته المقطعة لغويا،والمعطوفة على شروط واولويات،ثمَّة نقاط ايجابية لا يمكن اغفالها عمليا،وان كانت بعض المظاهر السلبية بارزة للعيان.
- في 521 كلمة وردت في متن القرار لم يذكر فيها اسم "حماس" رغم انها الطرف المعني الاساسي بالقرار،بينما ذكرت "اسرائيل" و "الفلسطينيين" ثلاث مرات بالتساوي،الامر الذي يعني ان ثمة تجاهلا لأصل الموضوع، الامر الذي يضعف القرار عمليا باعتباره لم يخاطب صاحب العلاقة مباشرة،مشيرا اليها بطريق غير مباشر في مناحي عدة.
وبصرف النظر عن التسميات المحددة ودوافعها واعتباراتها، اتت ديباجة القرار 1860 لتعطفه على قرارات اساسية متعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي ومنها،القرار (242) لعام 1967 ،والقرار (337) للعام 1973،وكذلك القرارات (1397) و (1515) و(1850) للاعوام 2002 و 2003 و 2008،ما يعني ان معالجة القضية تأتي في سياق القضية المركزية للصراع،عبرالاشارة اليه نصا وبالتحديد،في المادة (8) " لتحقيق سلام شامل على أساس الرؤية القائمة على وجود دولتين ديموقراطيتين، فلسطين وإسرائيل"، لكنه لم يذكر المسارات العربية الاخرى تحديدا اذ اكتفى بالتعميم.
ثمة توصيف قانوني لقطاع غزة في مقدمة القرار، اذ اعتبرها من الاراضي المحتلة وجزء من الدولة الفلسطينية الموعودة،الامر الذي يرتّب موجبات قانونية على دولة الاحتلال،من ضمنها وجوب احترام مفاعيل القانون الدولي الانساني في مختلف اتفاقياته ومن بينها اتفاقيات جنيف الاربعة وبخاصة الرابعة منها لجهة حماية المدنيين في وقت الحرب،الامر الذي انتهكته اسرائيل بشكل فظ ومكشوف عبر جراشم الحرب والابادات الجماعية المنقولة مباشرة على الفضائيات.
لقد خصص القرار ثلاث مواد مباشرة للوضع الانساني القائم في غزة عدا التي وردت عرضا او بالايحاء،من اصل عشرة مواد وردت في النص،ما يعني ان مجلس الامن لا زال في نفس السياق الذي اعتاد عليه في مقاربته للقضية الفلسطينية تحديدا على قاعدة اختصارها كقضية لاجئين ذات تداعيات وابعاد انسانية. ففي المادة (2) دعا "إلى توفير وتوزيع المساعدات الإنسانية في كافة أرجاء غزة من دون إعاقة ،الا انه لم يذكر او يحدد الجهة المعرقلة،او التي لا تسمح بذلك.وفي المادة (3) رحب "بالمبادرات ا الهادفة إلى فتح ممرات إنسانية" لكنه لم يبادر الى تحديد الكيفية وتركها بصفة عمومية عبر فقرة استطرادية : " وآليات أخرى لضمان التوفير المتواصل للمساعدات الإنسانية"،فما هي هذه الآليات وكيف يمكن تشكيلها وتنفيذها؟ عدا دعوته الى الصفة المتواصلة ،ما يعني بشكل غير مباشر الى رفع الحصار لكن بشروط كما وردت في مواد اخرى.وللتأكيد على المعالجة الانسانية للقضية ابرز ضرورة دعم دول العالم للانوروا في المادة (4) " عبر لجنة التنسيق المؤقتة". فعلى فداحة الوضع الانساني الذي يغرق فيه قطاع غزة، ظلت المواد السالفة الذكر، مجرد توصيات وامنيات خاضعة في كثير من آلياتها الى حسابات سياسية بحتة لا التزامات قانونية واجبة التطبيق في اطار القانون الدولي الانساني.
وغريب المفارقات ما ورد في الصياغة اللغوية والقانونية للمادة الاولى من وقف لاطلاق النار،فبدلا من البدء بالدعوة الى وقف فوري ودائم لإطلاق النار جاء النص لـ " يؤكد على الحاجة العاجلة" ، و"يدعو إلى وقف فوري ودائم يتم احترامه لإطلاق النار" فرغم التأكيد على "الحاجة" اتت الدعوة بصيغة مخففة وبكلمات استطرادية،بعدما اقرنه ليس بوجوب "الاحترام"، انما "يتم احترامه".والمفارقة الاخرى في المادة عينها،انه لم يدعو اسرائيل الى الانسحاب فورا من القطاعين بل ربطه بشكل مباشر بوقف النار، اي ان وقف اطلاق النار"يؤدي الى الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة " ، وهي عبارة قابلة للتأويل والتكييف بحسب الظروف،فلو تصوّرنا ان اية جهة فلسطينية موجودة في غزة قامت باطلاق صاروخ او اي عمل عسكري ولو كان ضمن قطاع غزة لا خارجها، يمكن ان يُفسّر خرقا لوقف اطلاق النار وبالتالي ايجاد الفرصة الذريعة لعدم الانسحاب من القطاع.عدا عن ان البيئة الامنية والعسكرية من الصعب ضبطها او وضع حدود وقواعد لها حتى في الدول المستقرة سياسيا فكيف الامر بقطاع غزة؟!.
علاوة على ذلك ان اطلاق النار امر مرتبط من الوجهة الفلسطينية بمقاومة الاحتلال، الامر الذي أُعترِفَ به في ديباجة القرار نفسه، عبر اعتبار غزة جزءاً محتلا،فكيف يمكن المواءمة بين وقف اطلاق النار ومقاومة المحتل الذي اجازه القانون الدولي العام وتكرَّس في اتفاقات ومعاهدات واعراف شتى.والامر اللافت في هذا المجال ان القرار عالج عمليات وقف اطلاق النار من وجهة إدانة " كل أشكال العنف والأعمال العدائية ضد المدنيين وكل أعمال الإرهاب"ذلك في المادة (5).فالادانة هنا تبدو تبادلية بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي مع اختلاف المعايير والتكييف القانوني للاعمال الحربية التي يمكن ان تبرز بين الفريقين.فالمطالبة هنا تشمل بطريق غير مباشر القائم بالاحتلال ومن يقع تحت الاحتلال، وهما اعمالا عنفية او ارهابية بحسب توصيف القرار ،وهي سابقة اقدم عليها مجلس الامن في توصيف الاعمال القائمة بالارهابية وبالتأكيد المقصود هنا الجانب الفلسطيني لا الاسرائيلي ،اذ درجت العادة على تسمية عمليات المقاومة الفلسطينية ضد اسرائيل باعمال العنف،فيما توصّف الاعمال الاسرائيلية بالاعمال المفرطة في استعمال القوة.
ان المحافظة على الوقف الدائم لاطلاق النار امر مرتبط ايضا بتوفير الجهود للتوصل الى " ترتيبات وضمانات" كما ورد في المادة (6) فما هي طبيعة الترتيبات والضمانات ؟ ومن هي الجهة القادرة على توفيرها واعطائها ورعايتها مستقبلا،اذا تمَّ التوصّل اليها؟ الا اذا كانت من قبيل المبادرة المصرية التي اشارت اليها الفقرة الاخيرة من المادة نفسها،وعلى قاعدة اتفاق العام 2005 المتعلق بالمعابر بين الجهتين الفلسطينية والاسرائيلية.
ورغم التذكير في اسس المعالجة التي يستند اليها مجلس الامن في رؤيته لتسوية الصراع بين العرب واسرائيل على قاعدة القرارات الدولية التي اتى على ذكرها،فقد ذكَّر بالمبادرة العربية للسلام من باب رفع العتب السياسي كما وردت في الفقرة الاخيرة من المادة (8).والسابقة من حيث التدرّج في المادة (9) التي رحَّب "بنظر (اللجنة) الرباعية، بالتشاور مع الأطراف، في عقد مؤتمر دولي في موسكو في العام ٢٠٠٩؛والتي تعتبر من باب المكافئة السياسية الموعودة لموسكو لحجز دور وموقع لها في اطار المشاريع في حال انطلاقها.
ان جوهر القرار ربما يكمن في مادته العاشرة التي ابقى فيها الموضوغ قيد نظر مجلس الامن ،ما يعني ان القرار سيؤسس لقرارات اخرى تالية بحسب موازين الوضع على الارض،ليخلق بيئات سياسية وامنية مختلفة لاحقة،وهذا ما يقودنا الى الخلفيات السياسية للقرار،الامر الذي يقودنا الى تحليل الاهداف غير المعلنة لاسرائيل في العدوان على غزة.
سادسا : الاهداف الاسرائيلية غير المعلنة من محرقة غزة
فثمة سلسلة متواضعة من الاهداف اعلنتها القيادتين السياسية والعسكرية "الاسرائيلية" لعملية "الرصاص المسكوب" مقارنة مع حجم ونوع الاسلحة التي استخدمت في المحرقة،الا ان التدقيق في خلفيات العدوان ومساراته يظهرخلغيات اضافية ذات ابعاد استراتيجية يرتبط غالبيتها بالنتائج السياسية المفترضة للعدوان.فاذا كان المعلن القضاء على البيئة السياسية لحركة حماس في غزة وما سيستتبعه من تداعيات ونتائج،فإن المبيّت سيمتد بالضرورة الى عناصر وفواعل اقليمية ودولية لها ثقلها في القضايا الشرق اوسطية؛وبالتالي فالعدوان منذ بداياته حمل رسائل في اكثر من اتجاه.
ففي توقيت العدوان، الذي جاء في الوقت الضائع من عمر الادارة الامريكية الراحلة بعد اقل من اسبوعين،بدا وكأنه فرض خريطة طريق اسرائيلية على ادارة باراك اوباما،اولها التملص من كافة ما سُميَّ التزامات امريكية سابقة لمسار التفاوض الاسرائيلي الفلسطيني ومشاريع الدولة الفلسطينية الموعودة.انتهاءً باعادة تموضع تفاوضي جديد مع سوريا ومع كل من يرغب بذلك من العرب على قواعد جديدة لا علاقة لها بما سبق من اطر ومكونات قانونية - سياسية تفاوضية.مرورا بتقويض كل المبادرات والوساطات الجارية في المنطقة ذات الصلة ومن بينها التركية على سبيل المثال لا الحصر،اضافة الى الاعدام السياسي للمبادرة العربية للتسوية المقرّة في فمة بيروت.
وعطفا على ذلك،انتهاج استراتيجية عزل قوى الممانعة العربية لجهة الجغرافيا السياسية لأدوات الصراع في اقصى حدوده،عبر ايجاد بيئة أمنية دولية ملائمة تقوّض وسائل الصراع وتربطه بقرارات وأطر صعبة الاختراق الا بأثمان اقليمية من الصعب تحمّلها لاي طرف يود الاخلال بها.بمعنى آخر استنساخ قرار دولي بمواصفات القرار 1701 المتعلق بلبنان والذي أثبت قدرته على تحقيق اوجه كثيرة من اهدافه لكافة اطرافه والمستفيدين منه؛سيما وأن هذا السيناريو ظهر للعلن مباشرة بعد انتهاء العدوان على لبنان في محافل اقليمية ودولية وصُرِفَ النظر عنه لاسباب واعتبارات متنوعة تتعلق بغالبيتها في الجانب الاسرائيلي تحديدا في تلك الفترة.
واذا كان توقيت العدوان جاء في الوقت الضائع خارجيا، فهو في الوقت القاتل اسرائيليا،فالجبهة الداخلية الاسرائيلية عانت من كوما سياسية وحزبية بعد حرب تموز 2006 وتداعياتها على المؤسستين العسكرية والسياسية،فكافة الاطراف السياسية والامنية الفاعلة في الحياة السياسية الاسرائيلية تبحث عن نصر موهوم لاستثماره في الانتخابات النيابية الشهر القادم،على قاعدة تجديد شباب الحياة السياسية استنادا الى انتصار مفترض بعد هزيمة 2006 التي اودت بأركان وطواقم سياسية حزبية تعتبر من ثوابت الحياة السياسية في اسرئيل.اضاقة الى محاولة محو صورة الجيش المكسور، واعادة تشكيل هيبته في الذاكرة الجماعية للمجتمع الاسرائيلي.
اما لجهة النظام الاقليمي،فالعدوان كان بمثابة الرسالة الواضحة ،لكل فواعله من العرب وغيرهم بأن لأسرائيل كلمتها ايضا بمعزل عن أي حسابات او ضغوط دولية.ففي الوقت الذي كانت جهودا فارقة تبذل للتهدئة في قطاع غزة نفّذت محرقتها ببرودة اعصاب دون اي رادع او وازع قانوني او اخلاقي،محاولة تكريس صورة بدأت ملامحها تترسخ في المنطثة مفادها ان لا حول ولا قوة للعرب حتى التحرك في قضاياهم الأساسية وإيلاء أمورهم الى الفواعل الاقليمية والدولية في المنطقة وهذا ما ظهر تحديدا عبر دفع تركيا مثلا الى واجهة الوساطات والمبادرات في غياب تام لأي تحرك عربي فاعل وقابل للبناء عليه.وكذلك عبر اعطاء دور لفرنسا بصرف النظر عن حدوده وامكاناته وسقفه.
واذا كانت ظروف الشد والجذب في اعلى صورها في المنطقة وبخاصة بين المحاور العربية،فقد وجدت تل ابيب الفرصة المناسبة لتكريسه وابعاد ذات البين العربية،وهي محاولة مكشوفة لإظهار ان عدوانها على غزة هو نصرة لفريق على آخر، وكأن الشعب الفلسطيني بات ملل ونحل موزع ومقسم بين اطياف ومشارب عربية متباينة.
في كل الحروب والاعتداءات التي نفذتها اسرائيل على العرب مجتمعين او منفردين،كان لها اهدافها المعلنة،كما لها غاياتها غير المعلنة وهذا امر شائع ومتداول في الاستراتيجيات الامنية والعسكرية،الا ان خلفيات محرقة غزة وتداعياتها السياسية التي تأملها اسرائيل هي مركزية بكل المقاييس الداخلية والخارجية لاسرائيل؛وبصرف النظر عما يمكن ان يتحقق منها،تبقى الكلمة الفصل للشعب الفلسطيني الذي اختبر ثورته على مدى 44 عاما بكافة فصائله وتلاوينه السياسية في اتجاه تحديد البوصلة السياسية التي يريد شرط المحافظة على وحدته الوطنية الداخلية الكفيلة بحمايته من اي اهداف غير معلنة.
لقد دفع العرب بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص اثمان باهظة لا نتيجة ضعفهم،بل بقدرة اسرائيل على تفريقهم، واظهارها خلاف ما تبطن،في الوقت الذي لا زلنا نحن العرب نبحث عن اولويات باتت في نظر اسرائيل من الماضي السحيق.
في العام 1967 اجتمع العرب على لاءات ثلاث،لا تفاوض لا صلح لا اعتراف،وتمكنوا من اعادة الهيبة العربية في العام 1973، فهل نحن بحاجة الى ثلاث لاءات جديدة تعيد تجميع ما فرقته اسرائيل،ربما تبدو ضرورة ملحة رغم اختلاف الادبيات السياسية العربية المعلنة وغير المعلنة، تماما كأهداف اسرائيل المعلنة وغير المعلنة من محرقة القرن الواحد والعشرين في عِزّة
ربما من المبالغة القول ان الخلفيات السياسية للقرار 1860 يمكن ان يخدم بقدر كبير الاهداف الاسرائيلية غير المعلنة من عدوان اسرائيل على غزة، الا انه من غير المنطقي استبعاد ما يمكن ان يقدمه القرار من استفادات سياسية وعسكرية للجانب الاسرائيلي في حال تمَّ استثماره لجهة تقطيع الوقت للبناء عليه في مراحل لاحقة ،سيما وان البيئة التي تمّت فيه استصدار القرار وظروفه الذاتية غير القابلة للتطبيق في المدى المنظور،وظروفه الاقليمية والدولية التي تعطيه زخما في التمدد الزمني، تجعله في حكم الكوما السياسية القابل للاستيقاظ عند الطلب.
وفي مطلق الاحوال، وعلى الرغم من خلفيلته القانونية والسياسية، ثمَّة ايجابيات من الصعب التعتيم عليها ومنها محاولة معالجة الجانب الانساني الذي ينبغي اعتباره اولوية مطلقة لشعب لم ينصفه التاريخ ولم تسعفه الجغرافيا.
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
كعادتها لم تتورع إسرائيل يوما عن انتهاك القوانين والأعراف الدولية المنظمة للحروب، بل عمدت منذ بداية عدوانها على غزة إلى استهداف المدنيين والمنشآت غير العسكرية، فنفذت المجازر على مساحة غزة بكاملها، وامتدت يد الغدر إلى الأطفال والشيوخ والنساء، دون رادع أو وازع قانوني أو أخلاقي. كما دمّرت بشكل منهجي البنى التحتية من جسور ومنشآت صحية وتربوية ودينية وكل ما يخطر ولا يخطر على البال،خارقة بذلك كل ما يمكن أن يوصف بحقوق الإنسان أو القوانين المنظمة لحماية المدنيين أثناء الحروب والنزاعات.فماذا عن اتفايات القانون الدولي الانساني التي انتهكتها اسرائيل؟ وكيف تعاملت المنظمات العربية والدولية لحقوق الانسان مع محرقة القرن الواحد والعشرين؟ وما هوالاساس القانوني الذي يمكن مواجهتها به؟
اولا : انتهاكات اسرائيل للاتفاقيات الدولية
في الواقع يمكن القول ان جميع الاتفايات الدولية لا يمكن لها ان تغطي فداحة الجرائم المرتكبة التي فاق حجمها اي تصوّر بالمقارنة بين المدة الزمنية ومساحة الارض المحروقة التي اتبعتها اسرائيل وكذلك حجم الكثافة السكانية لغزة التي تعتبر الاولى في العالم! وفي مقاربة اولية لما جرى مع الاتفاقيات الدولية يمكن تسجيل ابرز الانتهكات منها:
- اتفاقية " جنيف الأولى" لسنة 1864.
- إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة.
- إعلان لاهاي لسنة 1899 حول قذائف "دم دم" والغازات الخانقة.
-اتفاقية " لاهاي" لعام 1907 وهي تتضمن نصوصا أساسية تضع ضوابط وقواعد وأصول مهمة للنزاعات المسلحة، إذ تهدف إلى تنظيم وسائل حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة البرية والبحرية.
- اتفاقية هيغ لعام 1907 التي تتضمن قواعد مهمة تتعلق بمفهوم الحياد وبمفهوم الاحتلال وبكيفية إدارة العمليات الحربية. يشار إلى أنه أضيفت على هذه الاتفاقية قواعد الحرب الجوية التي وضعت مسودتها في العام 1923.
- بروتوكول جنيف بشأن حظر استعمال الغازات السامة والأسلحة الجرثومية لعام 1925 .
- ميثاق الأمم المتحدة.
- اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.والبروتوكولات الملحقة بها.
- اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية المواقع الثقافية في زمن النزاعات المسلحة.
- اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972.
- اتفاقية 1983 لمنع استخدام بعض الأسلحة،ومنها الفسفورية ضد المواقع العسكرية التي تقع بين المنشىت المدنية والتي استعملتها اسرائيل بكثافة في عدوانها على غزة.
- اتفاقية باريس لحظر استعمال الأسلحة الكيماوية.
- اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980 بشأن حظر أو تقييد بعض الأسلحة التقليدية.
- البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في العام 1977 لاستكمال الحماية التي تضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
وبعد التدقيق في نصوص الاتفاقيات والصكوك الدولية السالفة يتضح أن الحرب المدمرة والمبرمجة التي شنّها الجيش الإسرائيلي على غزة والتي نتج عنها قصف المدنيين الآمنين وتشريد مئات الآلاف منهم وضرب البنى التحتية والاقتصادية دون التركيز على الأهداف العسكرية، تشكّل خرقا فاضحا لقوانين النزاعات المسلحة وللمبادئ العامة والأعراف التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني.
إن العدوان الذي شنته إسرائيل ضد غزة وعلى النحو البربري والوحشي الذي اعتمدته أساسا لنجاحه عبر القضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء وتهديم ما أمكن من المنشآت المدنية، تشكّل انتهاكا فاضحا للعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، إذ خالفت مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال، وموجب تحييد المدنيين ومبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء أو الخطر المحدق بالجهة التي تلجأ إلى القوة من أجل حل نزاعها مع الطرف المستهدف.
ففي جانب مخالفة مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال الحل العسكري ، فمن الواضح لا تسمح قواعد القانون الدولي الإنساني باللجوء إلى استعمال القوة من اجل حل النزاعات بين الدول أو في داخل الدول، إلا في حالة الضرورة القصوى بحيث تكون القوة الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها من أجل التوصّل إلى حفظ السلم والأمن الدوليين، أو من اجل رد العدوان أو وضع حد للأعمال الإرهابية التي تتعرض لها الدولة المعتدى عليها. وهذا ما يمكن استنتاجه من نص البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي جاء فيه أنه " يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر". وهذا ما يؤكّد عليه أيضا وبشكل صريح البند الرابع من المادة ذاتها بنصه على أنه " يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". ما يعني أن الدولة المعنية لا يمكنها استعمال القوة العسكرية ضد دولة أخرى أو بلد آخر إلا في حالة الضرورة كحالة الدفاع عن النفس أو كالحالة التي يصبح فيها استخدام القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة المتوفرة لرد العدوان أو لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو لمواجهة أعمال إرهابية تطال من أمن الدولة المعنية ومن سلامة مواطنيها.
إن مراجعة سير وطبيعة الأعمال الجرمية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد غزة، يتبيّن أن هذه الأعمال لا يمكن إسنادها إلى حالة الضرورة العسكرية، باعتبار أن فعل إطلاق الصواريخ لا يؤلّف مبررا كافيا ومقنعا كي يستخدم كأساس شرعي لهذا العدوان، كما أنه لا يهدد فعلا الكيان الإسرائيلي ولم يحمل اعتداء خطير على أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها وبالتالي لا يبرر حربا مدمرة ومنظمة واسعة النطاق.
اما لجهة مخالفة مبدأ التقيّد بحدود معيّنة في استعمال القوة العسكرية ، فأكّدت المادة 35 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الموقع في العام 1977 على "أن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقا لا تقيده قيود". وفي الاتجاه ذاته، كانت قد أشارت صراحة المادة 22 من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18 اكتوبر/ تشرين الأول سنة 1907 إلى أنه " ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو" . وعليه ليس للمتحاربين الحق غير المقيّد بأي قيد في اختيار وسائل الإضرار، باعتبار أن الهدف الرئيس للحرب يكون ضرب القوة العسكرية للعدو وإيقاع الهزيمة به. وفي السياق ذاته، يحظّر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949 استخدام الأسلحة التي من شأنها زيادة معاناة الجرحى وآلامهم وجعل تدهور حالتهم الصحية أو موتهم أمرا محتوما ومؤكدا. وهذا ما كانت قد أكّدت عليه من قبل المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان والتي جاء فيها أنه "يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية". وكذلك تنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب على أنه "يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين".
إن إسرائيل لم تفرط في استعمال القوة العسكرية فقط وإنما لم تتقيد بأي حدود أو سقف في تنفيذ عملياتها العسكرية حيث لجأت إلى استعمال كافة الأسلحة الثقيلة وحتى بعض الأسلحة المدمرة وغير المسموح استعمالها والمحرّمة دوليا ضد المدنيين الشيوخ والأطفال والنساء والمرضى من دون تمييز ولم تضع لعملياتها الحربية أي حدود أو أهداف واضحة ومحددة غير تلك التي تبتغي القتل والدمار والتهجير.
اما مخالفة واجب تحييد المدنيين فيفرض قانون النزاعات المسلحة على الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية حماية المدنيين وتحييدهم عبر اتخاذ الإجراءات الضرورية التي يمكن بموجبها التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وتلتزم الدولة التي تختار القوة العسكرية لحل نزاعها مع دولة أخرى أو لصد عدوان ما أو لوضع حد لخطر إرهابي أو لأعمال إرهابية معينة بحماية الأشخاص العاجزين عن القتال أي المقاتلين الذين عجزوا عن القتال بسبب مرضهم أو إصابتهم بجروح أو أسرهم أو لأي سبب آخر يمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وعناصر الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية، ذلك تطبيقا لنص المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان ولنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. كما يتوجب على القوات المسلحة التي تستخدم القوة العسكرية، عملا بأحكام المادة 21 من اتفاقية جنيف الرابعة، احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل. وعلى كل طرف من أطراف النزاع أن يكفل حرية مرور جميع إمدادات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصرا إلى سكان مدنيين حتى ولو كانوا تابعين لدولة عدوة. وعليه أيضا الترخيص بحرية مرور أي إمدادات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال والنساء الحوامل أو النفاس (م 23 من اتفاقية جنيف الرابعة). ويكون من واجبات أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال دون الخامسة عشر من العمر الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب وتيسير إعالتهم وممارسة طقوس ديانتهم وإيوائهم في بلد محايد طوال مدة النزاع (م 24 من اتفاقية جنيف الرابعة.
إن الوقائع الثابتة بالصور والمشاهد التلفزيونية والتقارير الصحافية والأمنية تثبت أن القوات الإسرائيلية انتهكت جميع هذه القواعد والأعراف التي تحكم النزاعات المسلحة كونها تستهدف بقصفها العشوائي المدنيين من دون تمييز بين مواقع عسكرية وأخرى مدنية، ومن دون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين وتقوم بضرب الجسور وبقطع كل المواصلات البرية بهدف منع وصول المؤن والأغذية والأدوية إلى المدنيين المحاصرين. إضافة إلى ذلك أن هذه القوات وبدلا من أن تتخذ إجراءات معينة لتحييد المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة ولحمايتهم أو لتسهيل عملية نقلهم إلى مناطق آمنة أو محايدة، راحت تلقي عليهم الأطنان من القنابل وتقطع عنهم المؤن والأغذية وترتكب بحقهم أبشع الجرائم وأخطرها ( جرائم حرب ) التي يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، ما يؤلّف خرقا فاضحا وخطيرا لكل قواعد قانون النزاعات المسلحة أو للقانون الدولي الإنساني.
اما لجهة مخالفة مبدأ التناسب بين الوسيلة العسكرية وحجم الاعتداء وخطورته ،فبات من المسلّم به أن عدوان إسرائيل ضد غزة تخطى بمداه وبنوع الأسلحة والوسائل العسكرية المستعملة وكثافة القصف الجوي الذي لجأ إليه الجيش الإسرائيلي في عملياته الحربية ضد المواطنين المدنيين والبنى التحتية ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني ودور العبادة وغيرها، حجم وخطورة اطلاق الصواريخ التي نفذتها المقاومة ضد القوات العسكرية الإسرائيلية. وهذا ما يخالف مبدأ تناسب الوسائل العسكرية المستعملة مع حجم وخطورة العمل الذي تعرضت له الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية. ويقضي هذا المبدأ بعدم الإفراط في استعمال القوة العسكرية ووسائل القتال بحجم لا يتناسب مع خطورة الوضع العسكري أو الصفة العسكرية للهدف المقصود. ومن هذا المنطلق يضع قانون النزاعات المسلحة لزاما على أطراف النزاع ببذل رعاية متواصلة في إدارة العمليات العسكرية من أجل تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين وبالامتناع عن اتخاذ قرار بشن هجوم عسكري قد يتوقع منه أن يحدث، بشكل عرضي، خسائر في الأرواح بين المدنيين أو إلحاق الأذى بهم أو بممتلكاتهم. كما أن قواعد قانون النزاعات المسلحة تفرض بأن يلغي أو يعلّق أي هجوم عسكري إذا تبيّن أن الهدف المتوخى من ضربه ليس هدفا عسكريا أو قد ينتج عنه، بصورة عرضية ضررا وخسائر بشرية أو مادية مدنية.
ويظهر من خلال طبيعة العمليات الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة أن الوسائل العسكرية التي استعملها لا تتناسب مع خطورة الأعمال التي قامت بها المقاومة ولا حتى مع الوسائل الحربية المستخدمة من قبل هذه المقاومة التي لا تمتلك كالجيش الإسرائيلي كافة الأسلحة والأعتدة الحربية المتطورة ولا الدبابات ولا الطيران الحربي الذي لجأت إليه إسرائيل بصورة رئيسة في المعركة، ما يعتبر خرقا فاضحا لقواعد قانون النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
ثانيا: منظمات حقوق الانسان وكيفية التعامل
منذ بدء العدوان على غزة انظلقت في غير مكان عربي ودولي بيئة مستنكرة ومدينة للعدوان وجرائمه الموصوفة قانوانا،لكن العبرة لا تتعلق بالتحرك وانما فعاليته وتداعياته ونتائجه العملية.فما هي هذه المنظمات وكيف تعاملت؟وما هي تداعيات تحركها؟فعلى الرغم من فداحة الخروق لم يكن تحرك المنظمات الأهلية والرسمية كافيا لجهة التناسب مع حجم الجريمة،فغالبها تعامل مع القضية من منطلق وظيفي فرضته طبيعة عمل واهداف هذه المنظمات،وبالتلي يُصنف من النوع غير الكافي للبناء عليه.
فعلى سبيل المثال لم يتجاوز عمل "مجلس حقوق الانسان" التابع للامم المتحدة اتخاذ قرار بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لما يجري في غزة،ولم يتمكن من التوصل الى قرار لادانة المجازر الاسرائيلية وانتهاكات القانون الدولي الانساني،بفعل المعارضة الاوروبية لذلك على قاعدة ما اسماه عدم التوازن في مشروع القرار،ما ادى الى صدور قرار هزيل لا يتناسب وحجم المحرقة.وكما مجلس حقوق الانسان كذلك باقي المنظمات،ومرد ذلك الى العديد من الاسباب والاعتبارت ومن بينها:
- أنّ تصوّرات القائمين على المنظمات شأن معظم منظمات حقوق الإنسان خارج النطاق الرسمي، تنطلق تلقائيًّا من تصورات وإرث فكري وعقائدي ساهم مباشرة في تكوين الشخصية الغربية عبر القرون، فهم مع توفر أشدّ درجات الحماس لدعواتهم ومواقفهم، قد يصطدمون قاصدين أو غير قاصدين بتصورات ومعتقدات أخرى، لا سيما وأنهم ينطلقون في تحديد معاييرهم من بيان حقوق الإنسان العالمي، الذي يتفق في بعض الأحيان مع المعتقدات والتصورات البشرية عمومًا، ولكنه يتضمن أيضًا بعض ما لا ينسجم معها أو مع بعضها، وقد وُضع إجمالاً في حقبة كانت الكلمة الحاسمة فيها للغرب عقب الحرب العالمية الثانية.
- أنها كغيرها تتعرّض لمدِّها بمعلومات غير صحيحة، لا سيما عند اعتمادها في البلدان العربية والإسلامية مثلاً، على مصادر وأشخاص هم أقرب من غيرهم إلى تصوّراتها ومعاييرها في قضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن عزوف آخرين من تلقاء أنفسهم عن التعاون معها، ناهيك عن المشاركة في نشاطاتها، بدعوى المعايير المتباينة مع ثوابت إسلامية مثلاً.
- توظيف نشاطاتها وأعمالها وتقاريرها لتحقيق أغراض غير الأغراض التي استهدفتها في الأصل، وفق أساليب منحرفة معروفة تحت عناوين الازدواجية والانتقائية.
ثالثا: ازدواجية المعايير في التعاطي مع المجازر
غريب المفارقات ما يظهر تحديدا في المنظمات الأهلية والرسمية المختصة بحماية الحقوق الأساسية للإنسان،فعلى الرغم من أن جوهر وظائفها ومبرر وجودها وأسلوب عملها يقتضي وجوب الحيادية والنزاهة في العمل والتعاطي مع أطراف القضية الواحدة بموقف يكون على مسافة واحدة،نرى تهميش وتجهيل الأمور المتعلقة بالقضايا العربية تحديدا،وغض الطرف عن الممارسات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
فمنذ سنوات ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من منظمات المجتمع المدني وهي تطالب المجتمع الدولي بالتدخل الفاعل والجاد واتخاذ إجراءات عملية في مواجهة التحدي المستمر من جانب إسرائيل وقوات احتلالها لقواعد القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بهدف إجبارها على احترام التزاماتها التعاقدية حيال المدنيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى في ايلول/ سبتمبر 2000، تزايدت المطالب من جانب منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية والدولية بضرورة التدخل الدولي لحماية المدنيين الفلسطينيين، أمام التصعيد المستمر في جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني (كما تحددها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب) التي تواصل قوات الاحتلال اقترافها ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة. وتستند هذه المطالب المشروعة إلى:
- اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي تنص المادة الأولى منها على أن "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال." كما تضع المادة 146 من الاتفاقية التزامات محددة على الأطراف السامية المتعاقدة، بما في ذلك اتخاذ إجراءات تشريعية، لملاحقة المتهمين باقتراف مخالفات جسيمة وتقديمهم إلى المحاكمة أو تسليمهم لطرف ثالث متعاقد معني بمحاكمتهم.
- اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تنص المادة الثانية منها على وجوب "أن تستند العلاقات بين الأطراف، وشروط هذه الاتفاقية ذاتها، إلى احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، والتي تقود سياساتهم الداخلية والخارجية، وتشكل عنصراً رئيساً من الاتفاقية.
- بالرغم من ذلك، كان هناك فشل مزمن من جانب المجتمع الدولي، بخاصة الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة ودول الاتحاد الأوروبي، في الوفاء بالالتزامات القانونية المذكورة أعلاه. وشكّل ذلك عاملاً مشجعاً لإسرائيل (قوة الاحتلال الحربي) للإمعان في تحديها للقانون الدولي والتصرف كدولة فوق القانون تحظى بحصانة سياسية وقانونية خاصة، والمضي قدماً في جرائمها وانتهاكاتها ضد المدنيين الفلسطينيين بل وتصعيدها إلى مستوى غير مسبوق. إذ شملت هذه الجرائم والانتهاكات: الاستخدام المفرط للقوة وجرائم القتل العمد والإعدامات خارج إطار القانون؛ التوسع الاستيطاني وضم الأراضي والاستمرار في تدشين جدار الضم؛ تدمير الممتلكات المدنية؛ فرض العقوبات الجماعية بما فيها الحصار وفرض قيود مشددة على الحركة والتنقل؛ التعذيب وسوء المعاملة؛ وإنكار العدالة للمدنيين الفلسطينيين بما في ذلك حرمانهم من التعويض عن الجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال بحقهم بل وعدم التحقيق في الآلاف من تلك الجرائم. وعلى مدى الأعوام الثمانية الماضية، أسفرت هذه الإجراءات عن أزمات إنسانية حادة وتدهور غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي بكل تفاصيله.
- لقد كانت المطالب التي وجهتها منظمات المجتمع المدني إلى المجتمع الدولي (خاصة الأطراف السامية المتعاقدة على الاتفاقية والاتحاد الأوروبي) غير كافية في نطاق الالتزامات القانونية الواقعة على تلك الأطراف. وعلى سبيل المثال، لم تتضمن المطالب الموجهة لدول الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على دولة إسرائيل، إنما تفعيل المادة الثانية من اتفاقية الشراكة ووقف الامتيازات الممنوحة لإسرائيل بموجب الاتفاقية حتى تذعن الأخيرة لالتزاماتها. ولم تكن المطالب الموجهة للأطراف أكثر من الدعوة لتشكيل لجان تحقيق.
لقد كان من المؤمل أن تجد هذه المطالب آذاناً صاغية وأن يبادر المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات عملية ضد إسرائيل لضمان امتثالها لقواعد القانون الدولي.ولكن للأسف الشديد وبدلاً من معاقبة إسرائيل على جرائمها، يتمَّ معاقبة الضحية، أي معاقبة الشعب الفلسطيني والمدنيين الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال الحربي الإسرائيلي وغملياته الاجرامية في غزة.
رابعا: ضرزرة توثيق الجرائم وسبل مقاضاة اسرائيل
ثمَّة ضرور قصوى لتوثيق جرائم الحرب والابادة الجماهية التي ارتكبتها اسرائيل في عدوانها على غزة باعتبارها حجر الاساس للانظلاق نحو مقاضاة اسرائيل في المحافل الجانئية الدولية؛وفي واقع الامر ثمَّة العديد من المحاولات الجادة التي تشكل بيئة جيدة في هذا المجال وبخاصة الجمعيات العربية وبعض الدولية.لكن العبرة تكمن في جدية المتابعة والاصرار عليها.
في الواقع ثمَّة سبل وطرق متعددة لسلوك المقاضاة رغم العثرات التي يمكن ان تواجهها.ومن الضروري الانطلاق في عدة مناهج كالبيئة الاعلامية القانونية والسياسية القانونية والحقوقية القانونية وعدم الاقتصار على هذه الاخيرة،باعتبار ان المحاكم الجنائية الدولية لا زالت قاصرة بشكل عام على احقاق الحق للعديد من الاعتبارات ويأتي في طليعتها طبيعة النظام العالمي القائم ومن يتحكم بمفاصل مساراته وادواته القانونية والسياسية.
بداية تعنبر السلطة الفلطسنسة كيانا اعتباريا على المستوى الدولي، وبالتالي لها حقوق وواجبات الاتفاقيت الدولية السابقة واللاحقة لنشوئها ما لم تطلب او تعلن عكس ذلك في حدود ما يسمح لها القانون الدولي العام بذلك.وحتى الآن التزمت السلطة الفلطسينية بجميع الاتفاقيات الدولية وبخاصة تلك المتعلقة بالقانون الدولي الانساني باعتبارها صاحبة حق في مندرجاته.
ثمَّة خيارات عدة للمقاضاة ومنها:محكمة العدل الدولية، استنادا الى الاتفاق الدولي المتعلق بمعاقبة جريمة الابادة الجماعية للعام 1948 التي أصبحت نافذة اعتبارا من 12/1/ التي انضمّت إسرائيل اليها. فالمادة )9( من هذا الاتفاق تعطي محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في كل نزاع ينشأ عن تفسير هذا الاتفاق أو تطبيقه، بما في ذلك مسؤولية إحدى الدول عن أعمال الإبادة التي ترتكبها، بحيث أن الدعوى - في حال تقديمها على أساس اتفاق عام 1948، تكون مقبولة في الشكل، وفق ما أخذ به اجتهاد هذه المحكمة، من دون الحاجة إلى موافقة خاصة من دولة أخرى منضمة إلى الاتفاق (المقصود هنا اسرائيل) . فالسند القانوني في حال تقديم الدعوى على أساس الإبادة الجماعية، هو اتفاق عام 1948 المتعلق بجريمة الابادة الجماعية، علما أن هذه الجريمة، أسوة بسواها من الجرائم الدولية هي الأكثر خطورة، وان هذا النوع من الجرائم لا يمر الزمن عليه وفق ما تمشى عليه اجتهاد القانون الدولي. وان الجمعية العمومية للأمم المتحدة أقرّت في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 اتفاقا أصبح نافذا في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1971 ينص صراحة على أن لا مرور للزمن في جرائم الحرب أو في الجرائم ضد الإنسانية. وكانت إسرائيل في عداد الدول التي صوَّتت على القرار الرقم 2391 العائد إلى هذا الاتفاق.
أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية فان فالعديد من الأفعال التي ارتكبتها "إسرائيل" في عدوانها الأخير يقع تحت طائفة الجرائم موضوع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي لا تحاكم دولا، بل يمكنها محاكمة أفراد متهمين بارتكاب جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة ضمن اختصاصها. فالمحكمة تضع يدها على القضية وتمارس اختصاصها إما بإحالة القضية من دولة طرف في نظام المحكمة وقبلت بصلاحياتها (يقتضي استبعاد هذه الحالة إذ أن إسرائيل لم تنضم إلى اتفاق روما أو قبلت بصلاحية المحكمة)، وإما إحالة القضية من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذه الحالة مستبعدة أيضا لاعتبارات الفيتو الأمريكي. وتبقى الحالة الأخيرة، وهي إحالة القضية من جانب المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية الذي يحق له التصرف تلقائيا. وقد لحظت المادة 12 من اتفاق روما في فقرتها الثالثة أنه يمكن للدولة غير المنضمة إلى الاتفاق إذا وقعت إحدى الجرائم على أرضها ( المقصود السلطة الفلسطينية) أن تعلن قبولها بصلاحية المحكمة لهذه الجرائم بالذات، وان تطلب من المدّعي العام أن يتحرك، وان يحيل القضية على المحكمة إذا تبيّن له من التحقيق الذي يجريه وجود أدلّة كافية تشكل أساسا معقولا للمحاكمة.وهذا ما فعله مؤخرا مدعي عام المحكمة "اوكامبو" ضد الرئيس السوداني عمر البشير وهي سابقة دولية سجلتها المحكمة رغم عدم موضوعيتها وسندها الشرعي والقانوني.
كما انه يمكن اللجوء الى محاكم بعض الدول الاوروبية التي اعتبرت نفسها صاحبة صلاحية في النظر في جرائم الحرب التي تقع على مواطنيها في دول اخرى كالمحاكم البلجيكية والاسبانية والفرنسية والبريطانية،عبر تقديم مواطنين يحملون جنسيات مزدوجة بين هذه الدول والسلطة الفلطسينية وثمة سوابق جرت في هذا المجال عند محاولة محاكمة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون على جرائمه في مجزرتي صبرا وشاتيلا العام 1982 في لبنان امام المحاكم البلجيكية.
اضاقة الى ذلك يمكن اللجوء الى المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان سندا الى- اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تنص المادة الثانية منها على وجوب "أن تستند العلاقات بين الأطراف، وشروط هذه الاتفاقية ذاتها، إلى احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، والتي تقود سياساتهم الداخلية والخارجية، وتشكل عنصراً رئيساً من الاتفاقية.
ما جرى ويجري في غزة جرائم تندى لها جبين الانسانية ورغم ذلك لم يتم التوصل الا لقرار دولي حمل الرقم 1860 مضمونه الدعوة لوقف اطلاق النار مع وقف التنفيذ,بل حمل في طياته البيئة المناسبة لاسرائيل لاستمرار تنفيذ جرائمها في غزة وسط صمت عربي ودولي مريب،فماذا في هذا القرار وما هي خلفياته القانونية والسياسية؟
خامسا: القرار 1860 وخلفياته القانونية والسياسية
بداية ثمة ضرورة علمية وموضوعية للجوء الى النص الانكليزي للقرار منعا للالتباس الذي يمكن ان يحصل من تأويل بعض الفقرات من خلال الترجمة غير الدقيقة التي اطلق فيها.سيما وان الكثير من القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي قد تمَّ استثمارها قانونيا وسياسيا بغير موضعها الحقيقي،ما ادت الى تداعيات سلبية كثيرة.وكأي قرار صادر عن مجلس الامن الدولي ينبغي النظر اليه بعين مجردة،لكي يأتي تشريحة مطابقا للواقع قدر الامكان.وعليه يمكن تسجيل بعض الملاحظات الاولية ومنها:
- من الناحية الموضوعية، اتى القرار في صيغته اللغوية متوافقا مع التصنيف الذي يضعه في نطاق الفصل السادس من ميثاق الامم المتحدة،وبالتالي فهو ذات طبيعة غير الزامية للمعنيين به،الامر الذي يعني ان لا سلطة لمجلس الامن وفقا لهذه الصيغة اللجوء الى القوة العسكرية او لغيرها لتطبيقة،فهو بالمعنى القانوني "توصية" لا "قرار" ملزم وواجب التطبيق.
- على الرغم من خطورة الوضع القائم في غزة والذي اشار اليه القرار في اكثر من فقرة ولو بلغة ذات توصيف "انساني" لا سياسي،فان التدقيق في الاخطار السياسية والعسكرية الناجمة، او التي يمكن ان تنجم لاحقا،تؤدي الى الاستنتاج القاطع بأن وضعا كهذا يشكل خطرا على الامن والسلم الدوليين،وعليه فان من واجب مجلس الامن الدولي الذي من ابرز مهامه الأساسية حفظ الامن والسلم الدوليين بشتى الوسائل حتى الوصول الى استحدام القوة،الامر الذي لم يفعله مجلس الامن يوما في البيئة التي يتعاطى فيها مع قضايا الصراع العربي الاسرائيلي لا في هذا القرار ولا في غيره،رغم ان الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن مجلس الامن عاجز اصلا عن ذلك لاعتبارات كثيرة.
- وللموضوعية ايضا ينبغي الاعتراف بكل شجاعة ان الظروف الذاتية والموضوعية لمن يتواجد في غزة من مدنيين ومقاومين، لم يكن باستطاعتهم انتزاع اي قرار، فوق السقف الذي اتى به القرار 1860،ما يمكن ان يصنف في اطار الممكن وسط الظروف العربية والاقليمية والدولية المعروفة.
- ان التدقيق في النص الانكليزي للقرار والترجمة العربية القانونية الدقيقة له،يظهر ابعادا وخلفيات كثيرة؛فعلى الرغم من اللبس وامكانية التأويل في فقراته المقطعة لغويا،والمعطوفة على شروط واولويات،ثمَّة نقاط ايجابية لا يمكن اغفالها عمليا،وان كانت بعض المظاهر السلبية بارزة للعيان.
- في 521 كلمة وردت في متن القرار لم يذكر فيها اسم "حماس" رغم انها الطرف المعني الاساسي بالقرار،بينما ذكرت "اسرائيل" و "الفلسطينيين" ثلاث مرات بالتساوي،الامر الذي يعني ان ثمة تجاهلا لأصل الموضوع، الامر الذي يضعف القرار عمليا باعتباره لم يخاطب صاحب العلاقة مباشرة،مشيرا اليها بطريق غير مباشر في مناحي عدة.
وبصرف النظر عن التسميات المحددة ودوافعها واعتباراتها، اتت ديباجة القرار 1860 لتعطفه على قرارات اساسية متعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي ومنها،القرار (242) لعام 1967 ،والقرار (337) للعام 1973،وكذلك القرارات (1397) و (1515) و(1850) للاعوام 2002 و 2003 و 2008،ما يعني ان معالجة القضية تأتي في سياق القضية المركزية للصراع،عبرالاشارة اليه نصا وبالتحديد،في المادة (8) " لتحقيق سلام شامل على أساس الرؤية القائمة على وجود دولتين ديموقراطيتين، فلسطين وإسرائيل"، لكنه لم يذكر المسارات العربية الاخرى تحديدا اذ اكتفى بالتعميم.
ثمة توصيف قانوني لقطاع غزة في مقدمة القرار، اذ اعتبرها من الاراضي المحتلة وجزء من الدولة الفلسطينية الموعودة،الامر الذي يرتّب موجبات قانونية على دولة الاحتلال،من ضمنها وجوب احترام مفاعيل القانون الدولي الانساني في مختلف اتفاقياته ومن بينها اتفاقيات جنيف الاربعة وبخاصة الرابعة منها لجهة حماية المدنيين في وقت الحرب،الامر الذي انتهكته اسرائيل بشكل فظ ومكشوف عبر جراشم الحرب والابادات الجماعية المنقولة مباشرة على الفضائيات.
لقد خصص القرار ثلاث مواد مباشرة للوضع الانساني القائم في غزة عدا التي وردت عرضا او بالايحاء،من اصل عشرة مواد وردت في النص،ما يعني ان مجلس الامن لا زال في نفس السياق الذي اعتاد عليه في مقاربته للقضية الفلسطينية تحديدا على قاعدة اختصارها كقضية لاجئين ذات تداعيات وابعاد انسانية. ففي المادة (2) دعا "إلى توفير وتوزيع المساعدات الإنسانية في كافة أرجاء غزة من دون إعاقة ،الا انه لم يذكر او يحدد الجهة المعرقلة،او التي لا تسمح بذلك.وفي المادة (3) رحب "بالمبادرات ا الهادفة إلى فتح ممرات إنسانية" لكنه لم يبادر الى تحديد الكيفية وتركها بصفة عمومية عبر فقرة استطرادية : " وآليات أخرى لضمان التوفير المتواصل للمساعدات الإنسانية"،فما هي هذه الآليات وكيف يمكن تشكيلها وتنفيذها؟ عدا دعوته الى الصفة المتواصلة ،ما يعني بشكل غير مباشر الى رفع الحصار لكن بشروط كما وردت في مواد اخرى.وللتأكيد على المعالجة الانسانية للقضية ابرز ضرورة دعم دول العالم للانوروا في المادة (4) " عبر لجنة التنسيق المؤقتة". فعلى فداحة الوضع الانساني الذي يغرق فيه قطاع غزة، ظلت المواد السالفة الذكر، مجرد توصيات وامنيات خاضعة في كثير من آلياتها الى حسابات سياسية بحتة لا التزامات قانونية واجبة التطبيق في اطار القانون الدولي الانساني.
وغريب المفارقات ما ورد في الصياغة اللغوية والقانونية للمادة الاولى من وقف لاطلاق النار،فبدلا من البدء بالدعوة الى وقف فوري ودائم لإطلاق النار جاء النص لـ " يؤكد على الحاجة العاجلة" ، و"يدعو إلى وقف فوري ودائم يتم احترامه لإطلاق النار" فرغم التأكيد على "الحاجة" اتت الدعوة بصيغة مخففة وبكلمات استطرادية،بعدما اقرنه ليس بوجوب "الاحترام"، انما "يتم احترامه".والمفارقة الاخرى في المادة عينها،انه لم يدعو اسرائيل الى الانسحاب فورا من القطاعين بل ربطه بشكل مباشر بوقف النار، اي ان وقف اطلاق النار"يؤدي الى الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة " ، وهي عبارة قابلة للتأويل والتكييف بحسب الظروف،فلو تصوّرنا ان اية جهة فلسطينية موجودة في غزة قامت باطلاق صاروخ او اي عمل عسكري ولو كان ضمن قطاع غزة لا خارجها، يمكن ان يُفسّر خرقا لوقف اطلاق النار وبالتالي ايجاد الفرصة الذريعة لعدم الانسحاب من القطاع.عدا عن ان البيئة الامنية والعسكرية من الصعب ضبطها او وضع حدود وقواعد لها حتى في الدول المستقرة سياسيا فكيف الامر بقطاع غزة؟!.
علاوة على ذلك ان اطلاق النار امر مرتبط من الوجهة الفلسطينية بمقاومة الاحتلال، الامر الذي أُعترِفَ به في ديباجة القرار نفسه، عبر اعتبار غزة جزءاً محتلا،فكيف يمكن المواءمة بين وقف اطلاق النار ومقاومة المحتل الذي اجازه القانون الدولي العام وتكرَّس في اتفاقات ومعاهدات واعراف شتى.والامر اللافت في هذا المجال ان القرار عالج عمليات وقف اطلاق النار من وجهة إدانة " كل أشكال العنف والأعمال العدائية ضد المدنيين وكل أعمال الإرهاب"ذلك في المادة (5).فالادانة هنا تبدو تبادلية بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي مع اختلاف المعايير والتكييف القانوني للاعمال الحربية التي يمكن ان تبرز بين الفريقين.فالمطالبة هنا تشمل بطريق غير مباشر القائم بالاحتلال ومن يقع تحت الاحتلال، وهما اعمالا عنفية او ارهابية بحسب توصيف القرار ،وهي سابقة اقدم عليها مجلس الامن في توصيف الاعمال القائمة بالارهابية وبالتأكيد المقصود هنا الجانب الفلسطيني لا الاسرائيلي ،اذ درجت العادة على تسمية عمليات المقاومة الفلسطينية ضد اسرائيل باعمال العنف،فيما توصّف الاعمال الاسرائيلية بالاعمال المفرطة في استعمال القوة.
ان المحافظة على الوقف الدائم لاطلاق النار امر مرتبط ايضا بتوفير الجهود للتوصل الى " ترتيبات وضمانات" كما ورد في المادة (6) فما هي طبيعة الترتيبات والضمانات ؟ ومن هي الجهة القادرة على توفيرها واعطائها ورعايتها مستقبلا،اذا تمَّ التوصّل اليها؟ الا اذا كانت من قبيل المبادرة المصرية التي اشارت اليها الفقرة الاخيرة من المادة نفسها،وعلى قاعدة اتفاق العام 2005 المتعلق بالمعابر بين الجهتين الفلسطينية والاسرائيلية.
ورغم التذكير في اسس المعالجة التي يستند اليها مجلس الامن في رؤيته لتسوية الصراع بين العرب واسرائيل على قاعدة القرارات الدولية التي اتى على ذكرها،فقد ذكَّر بالمبادرة العربية للسلام من باب رفع العتب السياسي كما وردت في الفقرة الاخيرة من المادة (8).والسابقة من حيث التدرّج في المادة (9) التي رحَّب "بنظر (اللجنة) الرباعية، بالتشاور مع الأطراف، في عقد مؤتمر دولي في موسكو في العام ٢٠٠٩؛والتي تعتبر من باب المكافئة السياسية الموعودة لموسكو لحجز دور وموقع لها في اطار المشاريع في حال انطلاقها.
ان جوهر القرار ربما يكمن في مادته العاشرة التي ابقى فيها الموضوغ قيد نظر مجلس الامن ،ما يعني ان القرار سيؤسس لقرارات اخرى تالية بحسب موازين الوضع على الارض،ليخلق بيئات سياسية وامنية مختلفة لاحقة،وهذا ما يقودنا الى الخلفيات السياسية للقرار،الامر الذي يقودنا الى تحليل الاهداف غير المعلنة لاسرائيل في العدوان على غزة.
سادسا : الاهداف الاسرائيلية غير المعلنة من محرقة غزة
فثمة سلسلة متواضعة من الاهداف اعلنتها القيادتين السياسية والعسكرية "الاسرائيلية" لعملية "الرصاص المسكوب" مقارنة مع حجم ونوع الاسلحة التي استخدمت في المحرقة،الا ان التدقيق في خلفيات العدوان ومساراته يظهرخلغيات اضافية ذات ابعاد استراتيجية يرتبط غالبيتها بالنتائج السياسية المفترضة للعدوان.فاذا كان المعلن القضاء على البيئة السياسية لحركة حماس في غزة وما سيستتبعه من تداعيات ونتائج،فإن المبيّت سيمتد بالضرورة الى عناصر وفواعل اقليمية ودولية لها ثقلها في القضايا الشرق اوسطية؛وبالتالي فالعدوان منذ بداياته حمل رسائل في اكثر من اتجاه.
ففي توقيت العدوان، الذي جاء في الوقت الضائع من عمر الادارة الامريكية الراحلة بعد اقل من اسبوعين،بدا وكأنه فرض خريطة طريق اسرائيلية على ادارة باراك اوباما،اولها التملص من كافة ما سُميَّ التزامات امريكية سابقة لمسار التفاوض الاسرائيلي الفلسطيني ومشاريع الدولة الفلسطينية الموعودة.انتهاءً باعادة تموضع تفاوضي جديد مع سوريا ومع كل من يرغب بذلك من العرب على قواعد جديدة لا علاقة لها بما سبق من اطر ومكونات قانونية - سياسية تفاوضية.مرورا بتقويض كل المبادرات والوساطات الجارية في المنطقة ذات الصلة ومن بينها التركية على سبيل المثال لا الحصر،اضافة الى الاعدام السياسي للمبادرة العربية للتسوية المقرّة في فمة بيروت.
وعطفا على ذلك،انتهاج استراتيجية عزل قوى الممانعة العربية لجهة الجغرافيا السياسية لأدوات الصراع في اقصى حدوده،عبر ايجاد بيئة أمنية دولية ملائمة تقوّض وسائل الصراع وتربطه بقرارات وأطر صعبة الاختراق الا بأثمان اقليمية من الصعب تحمّلها لاي طرف يود الاخلال بها.بمعنى آخر استنساخ قرار دولي بمواصفات القرار 1701 المتعلق بلبنان والذي أثبت قدرته على تحقيق اوجه كثيرة من اهدافه لكافة اطرافه والمستفيدين منه؛سيما وأن هذا السيناريو ظهر للعلن مباشرة بعد انتهاء العدوان على لبنان في محافل اقليمية ودولية وصُرِفَ النظر عنه لاسباب واعتبارات متنوعة تتعلق بغالبيتها في الجانب الاسرائيلي تحديدا في تلك الفترة.
واذا كان توقيت العدوان جاء في الوقت الضائع خارجيا، فهو في الوقت القاتل اسرائيليا،فالجبهة الداخلية الاسرائيلية عانت من كوما سياسية وحزبية بعد حرب تموز 2006 وتداعياتها على المؤسستين العسكرية والسياسية،فكافة الاطراف السياسية والامنية الفاعلة في الحياة السياسية الاسرائيلية تبحث عن نصر موهوم لاستثماره في الانتخابات النيابية الشهر القادم،على قاعدة تجديد شباب الحياة السياسية استنادا الى انتصار مفترض بعد هزيمة 2006 التي اودت بأركان وطواقم سياسية حزبية تعتبر من ثوابت الحياة السياسية في اسرئيل.اضاقة الى محاولة محو صورة الجيش المكسور، واعادة تشكيل هيبته في الذاكرة الجماعية للمجتمع الاسرائيلي.
اما لجهة النظام الاقليمي،فالعدوان كان بمثابة الرسالة الواضحة ،لكل فواعله من العرب وغيرهم بأن لأسرائيل كلمتها ايضا بمعزل عن أي حسابات او ضغوط دولية.ففي الوقت الذي كانت جهودا فارقة تبذل للتهدئة في قطاع غزة نفّذت محرقتها ببرودة اعصاب دون اي رادع او وازع قانوني او اخلاقي،محاولة تكريس صورة بدأت ملامحها تترسخ في المنطثة مفادها ان لا حول ولا قوة للعرب حتى التحرك في قضاياهم الأساسية وإيلاء أمورهم الى الفواعل الاقليمية والدولية في المنطقة وهذا ما ظهر تحديدا عبر دفع تركيا مثلا الى واجهة الوساطات والمبادرات في غياب تام لأي تحرك عربي فاعل وقابل للبناء عليه.وكذلك عبر اعطاء دور لفرنسا بصرف النظر عن حدوده وامكاناته وسقفه.
واذا كانت ظروف الشد والجذب في اعلى صورها في المنطقة وبخاصة بين المحاور العربية،فقد وجدت تل ابيب الفرصة المناسبة لتكريسه وابعاد ذات البين العربية،وهي محاولة مكشوفة لإظهار ان عدوانها على غزة هو نصرة لفريق على آخر، وكأن الشعب الفلسطيني بات ملل ونحل موزع ومقسم بين اطياف ومشارب عربية متباينة.
في كل الحروب والاعتداءات التي نفذتها اسرائيل على العرب مجتمعين او منفردين،كان لها اهدافها المعلنة،كما لها غاياتها غير المعلنة وهذا امر شائع ومتداول في الاستراتيجيات الامنية والعسكرية،الا ان خلفيات محرقة غزة وتداعياتها السياسية التي تأملها اسرائيل هي مركزية بكل المقاييس الداخلية والخارجية لاسرائيل؛وبصرف النظر عما يمكن ان يتحقق منها،تبقى الكلمة الفصل للشعب الفلسطيني الذي اختبر ثورته على مدى 44 عاما بكافة فصائله وتلاوينه السياسية في اتجاه تحديد البوصلة السياسية التي يريد شرط المحافظة على وحدته الوطنية الداخلية الكفيلة بحمايته من اي اهداف غير معلنة.
لقد دفع العرب بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص اثمان باهظة لا نتيجة ضعفهم،بل بقدرة اسرائيل على تفريقهم، واظهارها خلاف ما تبطن،في الوقت الذي لا زلنا نحن العرب نبحث عن اولويات باتت في نظر اسرائيل من الماضي السحيق.
في العام 1967 اجتمع العرب على لاءات ثلاث،لا تفاوض لا صلح لا اعتراف،وتمكنوا من اعادة الهيبة العربية في العام 1973، فهل نحن بحاجة الى ثلاث لاءات جديدة تعيد تجميع ما فرقته اسرائيل،ربما تبدو ضرورة ملحة رغم اختلاف الادبيات السياسية العربية المعلنة وغير المعلنة، تماما كأهداف اسرائيل المعلنة وغير المعلنة من محرقة القرن الواحد والعشرين في عِزّة
ربما من المبالغة القول ان الخلفيات السياسية للقرار 1860 يمكن ان يخدم بقدر كبير الاهداف الاسرائيلية غير المعلنة من عدوان اسرائيل على غزة، الا انه من غير المنطقي استبعاد ما يمكن ان يقدمه القرار من استفادات سياسية وعسكرية للجانب الاسرائيلي في حال تمَّ استثماره لجهة تقطيع الوقت للبناء عليه في مراحل لاحقة ،سيما وان البيئة التي تمّت فيه استصدار القرار وظروفه الذاتية غير القابلة للتطبيق في المدى المنظور،وظروفه الاقليمية والدولية التي تعطيه زخما في التمدد الزمني، تجعله في حكم الكوما السياسية القابل للاستيقاظ عند الطلب.
وفي مطلق الاحوال، وعلى الرغم من خلفيلته القانونية والسياسية، ثمَّة ايجابيات من الصعب التعتيم عليها ومنها محاولة معالجة الجانب الانساني الذي ينبغي اعتباره اولوية مطلقة لشعب لم ينصفه التاريخ ولم تسعفه الجغرافيا.