العدوان الإسرائيلي على لبنان الخليات والأبعاد
الدكتور خليل حسين
دار المنهل اللبناني
الطبعة الأولى 2006
مقدمة الكتاب
نُفذ العدوان الإسرائيلي على لبنان في مرحلة مفصلية من تاريخ منطقة تعج بالصراعات والمشاريع والاستحقاقات.وبصرف النظر عن الأهداف الحقيقية غير المعلنة للعدوان يبدو أن ترابطا قويا بين العديد من الأسباب التي سرّعت تنفيذi وعجّلت في كشف المستور من أوراق الأطراف الفاعلة فيه.وعليه فإن البحث الموضوعي في الأسباب والنتائج يستلزم المزيد من التدقيق والتمحيص للوصول برؤية واضحة وحاسمة لما يمكن ان تكون عليه الأمور في المرحلة القادمة.
فعملية خطف الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز 2006 ليست كافية بكل المقاييس القانونية الدولية والسياسية والأخلاقية لتبرير ما قامت به إسرائيل من اعتداءات فاقت وسائلها ونتائجها ما يمكن اعتباره نتائج لحرب تقليدية في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي؛ كما أن مسارات العدوان وما تخللته من مفاصل عسكرية وسياسية من الصعب إدراجها ضمن حروب تقليدية إقليمية إذ تخطت أبعاده وأهدافه العناصر التي قام عليها العدوان نفسه.وإذا كان العدوان نفسه كان بمثابة الواجهة لتنفيذ أهداف أمريكية - إسرائيلية مشتركة،فإن إفلات الأمور من عقالها أثناء العدوان وبعده قد ارتدَّ سلبا على القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية،فبدلا من أن يدخل رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت التاريخ الإسرائيلي كمنتصر في حرب اتخذ قرارها،سجل سابقة من بين رؤساء الوزراء الإسرائيليين الذين خسروا حربا أعد لها جيدا مع أطراف فاعلين في تركيب وتنظيم النظام الدولي.وبمعنى آخر كان اولمرت نفسه سببا في إفشال مخطط أمريكي لإنجاز ما تبقى من ثغرات ممانعة في النظام العالمي القائم التي رتّبت أوضاعه واشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل العقد الأخير من القرن الماضي.
وإذا كان تقاطع المصالح الأمريكية - الإسرائيلية الاستراتيجية قد التقت على ترميم وترسيم وتكييف مشروع الشرق الأوسط الكبير - الجديد في النظام العالمي القائم،فإن القراءة الأولية لما بعد العدوان تثبت أن وقتا طويلا سوف يمر لإعادة ترتيبه من جديد وفقا للرؤية الأمريكية – الإسرائيلية إذا تمكنتا من ذلك؛كما أن مفاهيم وعقائد واستراتيجيات كثيرة سوف يُعاد النظر فيها لاحقا نظرا لعدم تمكن الطرفين من انجاز الحدود الدنيا من غايات العدوان الأساسية.فرغم الصفة الظاهرية التي برزت على أنها حربا إقليمية محدودة و"بروفا" لحروب قادمة،إلا أنها من الناحية الفعلية والعملية تعتبر محاولة إحداث لنتائج حرب عالمية لم تقع،هدفها النهائي تثبيت دعائم وركائز النظام العالمي القائم.
في المقلب اللبناني ثمة انتصار استراتيجي سجلته المقاومة من الصعب القفز فوقه أو تحجيمه عبر مقاربته بما نجم عن العدوان من خسائر مادية.فنتائج الحروب لا تقاس عادة بما يلحق بأطراف الصراع من خسائر ومكتسبات مادية إن وجدت،بل تقاس بمعايير ما يلحق من أذى وعدم تحقق للغايات المعلنة وغير المعلنة للحرب,وفي هذا المجال تمكنت المقاومة من "فرملة" أو عرقلة مشاريع استراتيجية أمريكية – إسرائيلية على مستوى المنطقة بأسرها.وصحيح أيضا إن ما آلت إليه الأمور لاحقا لم يكن بمستوى الإنجاز المحقق،إلا انه يعتبر انعكاسا لواقع ظروف التفاوض التي جرت إبان العدوان وما أحاطه من ضغوط على لبنان من جهة ،وعدم تمكن المفاوض اللبناني من استثمار نتائج النصر مقارنة بما جرى سابقا كظروف ونتائج عدوان 1996 على سبيل المثال.
عربيا ثمة تفاوت وحتى تباين واضح في المواقف وصل إلى حد تشكيل محاور متواجهة بخلاف الحالات السابقة التي واجهت لبنان،مرد ذلك يعود إلى ظروف المنطقة والضغوط الأمريكية الهائلة على بعض المحاور العربية وعدم تمكنها من مواجهة هذه الضغوط،الأمر الذي أدى إلى إشعال سياسة المحاور العربية من جديد وافتراقها حول المواضيع الاستراتيجية المتعلقة بملفات الصراع العربي - الإسرائيلي،ما مهّد لاختراقات واسعة لآليات الحل المقترح والمتمثل بورقة قمة بيروت العربية.
وفي مطلق الأحوال يمكن تسجيل العديد من الملاحظات أبرزها:
- أتت العملية في خضم سجال لبناني حاد حول وضع المقاومة وسلاحها واستراتيجية الدفاع اللبنانية المفترضة في مواجهة إسرائيل، ولا نخفي سرا إذا قلنا أن بعض الأطراف اللبنانية ذهبت بعيدا في التحليل والتأويل واجتراح الحلول،في وقت لا زالت إسرائيل تحتل أراض لبنانية وتمارس اعتداءات يومية وأعمال إرهابية أمنية وعسكرية ونفسية على الشعب اللبناني بكافة فئاته وتلاوينه السياسية دون تميِّز بين مقاوم وغير مقاوم.
- لا زالت إسرائيل تحتجز لبنانيين ورغم كل الجهود الدولية والإقليمية لم تفلح المفاوضات الدبلوماسية من إغلاق هذا الملف،إذ شاءت إسرائيل اعتباره "كمسمار جحا" في ربط النزاعات واستثماره سياسيا رغم إنسانية الملف التي تكفله المواثيق والأعراف الدولية ذات الصلة بالأسرى والمعتقلين المدنيين وغيرهم من الفئات المصنفة في اتفاقيات جنيف الأربعة المعروفة.
- أتت العملية في خضم جدل وارتباك إسرائيليين كبيرين حول كيفية التعامل مع الجندي الإسرائيلي الأسير لدى الفصائل الفلسطينية،وسط خوف إسرائيلي واضح في التعامل مع هذا الملف لكي لا يصبح سابقة يمكن اللجوء إليها لاحقا،سيما وان سابقة اختطاف المقاومة في لبنان قد كرّست معادلة واضحة مع إسرائيل،أن تبادل الأسرى من الاستحالة إتمامها بدون وجود أسرى إسرائيليين؛وبالتالي لا زالت إسرائيل تبحث عن حل في الكواليس لهذا الجندي الذي لحق به أسيران في يد المقاومة.
- أتت العملية وسط تأزم إقليمي واضح المعالم من الصعب تخطيه دون فعل شيء أساسي في أوراق الضغط المحتملة إن لم يكن تفجير ما تقوم به إسرائيل للهروب إلى الخارج من مآزقها الداخلية.فالوضع في فلسطين حيث لغة الحديد والنار الإسرائيليتين تمارس فعلها في الفلسطينيين أطفالا وشيوخا ونساء،ولغة القتل باتت أمرا مألوفا ومعتادا بل مقررا من دوائر القرار الإسرائيلي السياسي والعسكري،في الوقت الذي ليس لحكومة اولمرت أي أفق سياسي قابل للحياة مع الفلسطينيين أو غيرهم.وفي الجانب الآخر في العراق حيث الآلة العسكرية الأمريكية تفعل فعلها قتلا وتدميرا؛وسط غطرسة أمريكية لا مثيل لها في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية.باختصار واقع لا تحمد المنطقة عليها،مجموعة من القضايا غير القابلة للحل بهذا الأسلوب الأمريكي أو الإسرائيلي،يرافقه احتقان كبير ينذر بانفلات الأمور من عقالها.
لا شك بأن هذه العملية تركت آثارا غير عادية على العديد من الملفات ولن تقتصر آثارها على ملف الأسرى بالتحديد فمشاكل المنطقة وقضاياها هي متشابكة ومترابطة إلى حد التعقيد الذي يمكن استغلاله بشتى المواضيع والقضايا، بدء بملف الأسرى اللبنانيين مرورا بملف الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية وصولا إلى قضايا ربما تتخطى اطر وملفات الصراع العربي - الإسرائيلي التقليدية المعروفة.
ففي لبنان لا زال ملف الأسرى مفتوحا على كافة الاحتمالات وان يبدو أن هذه المرة قد يحسم بنسبة عالية جدا بل من الممكن أن يكون قد انتهى عمليا وأصبح مسألة وقت ليس إلا،.كما أن في لبنان أرضا محتلة عمليا وأرضا محتلة واقعيا بفعل الألغام الإسرائيلية التي ترفض إسرائيل تسليم خرائطها الدقيقة،كما في لبنان مشكلة حقيقية لدى بعض اللبنانيين الذين لا زالوا يركبون رأسهم عنادا ويحاولون إقناع أنفسهم بأن زمن المقاومة قد ولى وأنها أدت قسطها للعلا وعليها إما اختيار التقاعد أو إطلاق رصاصة الرحمة عليها.
في الواقع ثمة افرقاء كثر في لبنان لا زالوا يعتقدون أن فعل المقاومة هو فعل عابر وغير ذي أهمية بكونه مرتبط بحسابات إقليمية،فيما الوقائع أثبتت عكس ذلك،فالمقاومة لم تكن مرة عبء داخلي أو ورقة مساومة خارجية وهذا سر نجاحها.كما انه في لبنان لا يزال البعض يراهن على حسابات دولية أثبتت عقمها وعدم جدواها في التعاطي مع الملفات الحساسة ومنها الأسرى والأراضي المحتلة ،وبالتالي إن الاستمرار في هذا الاعتقاد كمن يذر الرماد في العيون ويتعامي عن الحقائق ويغرس رأسه في الرمال خوفا من رؤية الحقيقة.
إن ابرز ما يمكن تسجيله من نتائج لهذه العملية تكمن في العديد من النقاط أبرزها:
- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن جميع ملفاتها هي في الحفظ والصون لدى رجال عرفوا واختبروا عدوا لا يفهم إلا لغة الحديد والنار لجلبه إلى طريق الحق.
- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن ما يحكى عن وسائل دبلوماسية وغيرها لحل ملفات عالقة عمرها من عمر كيانات المنطقة أمر لا فائدة منه، بل مضيعة للوقت واستنزاف للجهد،فاستراتيجيات الدفاع المطروحة على طاولة الحوار في مواجهة استراتيجية المقاومة لا تعدو كونها استراتيجيات من نوع الإنشاء والشعر العربيين الذين لا يسمنان ولا يغنيان من جوع.فالتاريخ حافل بأمثلة مقاومة الاحتلال في غير دولة، وفي هذا التاريخ لا نقرأ سوى النصر الذي كانت تسجله المقاومات بدء من المقاومة الفرنسية تحديدا لمن لا يعرف القراءة مرورا بالجزائرية وصولا إلى مقاومات جنوب أمريكا اللاتينية وفيتنام وغيرها وعلى رأسها فعل المقاومة اللبنانية التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من غالبية الأراضي اللبنانية دون قيد أو شرط.
- ومن آثارها أيضا أنها ستكون مناسبة أولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي لممارسة عدوانية إسرائيل المعروفة،فهو آت من خلفية لكودية متعصبة ووريث شارون السياسي ،وفي هذا الإطار ومن وجهة نظره لا بد إثبات ذلك للإسرائيليين بأنه وريث سياسي وعدواني بجدارة،فهل سيثبت ذلك في لبنان لقد بات أمرا مؤكدا بعد تنفيذ اعتداءاته وتصريحاته العدوانية بعد العملية مباشرة.
- إن المنطقة قادمة على خلط أوراق كثيرة،فهي تعج بالقضايا المستعصية وغير القابلة للحل بالوسائل التقليدية،ومن هذا المنظار ربما تشعر الولايات المتحدة الأمريكية ومحافظوها الجدد أن الفرصة سانحة للانقضاض على ما تبقى من حلمها في الشرق الأوسط الكبير.فإيران وبرنامجها النووي واصل إلى أفق مسدود،وأزمة واشنطن في العراق كبيرة،ومشاريع السلام موضوعة في الثلاجة الأمريكية الإسرائيلية ،فإلى أين المسير من وجهتي النظر الأمريكية والإسرائيلية،طبعا المزيد من التورط في إشعال المنطقة وربما يكون لبنان بوابتها الرئيسة.
وبصرف النظر عن ردود الفعل الإسرائيلية على هذه العملية والى أي مدى وصلت،يبقى فعل المقاومة وآثاره هو أقوى بكثير من كل الاحتمالات المطروحة.ثمة دولا وجيوشا كثيرة خاضت الحروب،انتصرت وفشلت،إلا أن التاريخ لم يسجل يوما أن مقاومة خسرت معركتها الحقيقية هذا على الأقل من يعرف كيف يقرأ التاريخ.
لقد وعد سيد المقاومة بنصر مبين،فكانت هزيمة إسرائيل في لبنان مرة أخرى وباعتراف إسرائيلي صريح،وليس لأن التاريخ يكتبه المنتصرون،بل لأن النصر أسسَّ لمرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة،أخذنا على عاتقنا تأريخ هذه المرحلة بأسلوب علمي وموضعي رصين،محاولين في عملنا هذا إلقاء الضوء على الخلفيات والأبعاد التي وقفت ورائها كل من واشنطن وتل أبيب لتنفيذ العدوان على لبنان.
لقد قسمنا هذا العمل إلى سبعة فصول،خصصنا الفصل الأول منه إلى الاستراتيجيات الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة وعالجنا فيه بشكل خاص مشروع الشرق الأوسط الكبير في الاستراتيجية الأمريكية وكيفية تقاطع المصالح الإسرائيلية - الأمريكية في هذا المشروع.
أما الفصل الثاني فقد خصصناه للملفات العالقة بعد هزيمة إسرائيل في لبنان في العام 2000 ؛إذ عالجنا فيه قضية مزارع شبعا المحتلة والعناصر القانونية والتاريخية التي يستند إليها لبنان في حقه لتحريرها،وكذلك موضوع الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية،إضافة إلى قضية الألغام التي خلفتها إسرائيل في الأراضي اللبنانية والتي تعتبر من قبيل العدوان المستمر على لبنان.
في الفصل الثالث عرضنا لعملية الوعد الصادق وأبعادها،مرورا بشروط التفاوض التي حددها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لاسترجاع الأسيرين،كما ناقشنا الظروف الموضوعية المحيطة بالعملية وبالتالي صحة تنفيذها آنذاك،مرورا بمفاجآت المقاومة المحققة أثناء المواجهات العسكرية والأمنية،إضافة إلى أساليب القتال المعتمدة وصولا إلى انعكاس الهزيمة على استراتيجيات الجيش الإسرائيلي وما أسست إليه المقاومة من فرض معادلات واستراتيجيات جديدة على الجيش الإسرائيلي.
وبما أن هزيمة إسرائيل كانت محققة بالألسن والشهادات الإسرائيلية نفسها فقد عالجنا هذه القضية في الفصل الرابع محاولين إلقاء الضوء على الاستراتيجيات القتالية الإسرائيلية وأسباب فشلها والنتائج المترتبة عليها.
وبما أن إسرائيل تعتبر استثناءً للقرارات والمواثيق الدولية ونظراً لسجلها الحافل في ارتكاب المجازر وانتهاكاتها الفاضحة للقوانين والأعراف الدولية فقد عرضنا في الفصل الخامس الوضع القانوني للانتهاكات الإسرائيلية للمعاهدات الدولية وسبل مقاضاتها.
أما الفصل السادس فقد عرضنا فيه للحصار الإسرائيلي للبنان إبان العدوان وبعده محاولين إلقاء الضوء على الجانب القانوني لهذه القضية،كما عالجنا فيه قوات حفظ السلام الدولية وأنواعها وتطرقنا إلى قوة اليونفيل المعززة والقرار 1701 وما جاء به.
وفي النهاية عرضنا في الفصل السابع لنتائج العدوان وآثاره في لبنان وإسرائيل عبر مقاربة موضوعية وعلمية بهدف الرد على الأسئلة الخبيثة التي طرحت بعد العدوان،إضافة إلى مقاربة الظروف والنتائج للحرب العربية الإسرائيلية الرابعة والعدوان على لبنان لجهة التشابه والاختلاف في كلا الحربين.
لقد حاولنا في عملنا المتواضع هذا مشاركة نصر المقاومة في الكلمة، علها توقظ من هم لا زالوا في سباتهم العميق، والذين لا يريدون أن يُصدِّقوا أن إرادة المقاومة والشعب الذي احتضنها هما أقوى من الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أو بالاحرى الجيش الذي لا يفهم.
الدكتور خليل حسين
دار المنهل اللبناني
الطبعة الأولى 2006
مقدمة الكتاب
نُفذ العدوان الإسرائيلي على لبنان في مرحلة مفصلية من تاريخ منطقة تعج بالصراعات والمشاريع والاستحقاقات.وبصرف النظر عن الأهداف الحقيقية غير المعلنة للعدوان يبدو أن ترابطا قويا بين العديد من الأسباب التي سرّعت تنفيذi وعجّلت في كشف المستور من أوراق الأطراف الفاعلة فيه.وعليه فإن البحث الموضوعي في الأسباب والنتائج يستلزم المزيد من التدقيق والتمحيص للوصول برؤية واضحة وحاسمة لما يمكن ان تكون عليه الأمور في المرحلة القادمة.
فعملية خطف الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز 2006 ليست كافية بكل المقاييس القانونية الدولية والسياسية والأخلاقية لتبرير ما قامت به إسرائيل من اعتداءات فاقت وسائلها ونتائجها ما يمكن اعتباره نتائج لحرب تقليدية في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي؛ كما أن مسارات العدوان وما تخللته من مفاصل عسكرية وسياسية من الصعب إدراجها ضمن حروب تقليدية إقليمية إذ تخطت أبعاده وأهدافه العناصر التي قام عليها العدوان نفسه.وإذا كان العدوان نفسه كان بمثابة الواجهة لتنفيذ أهداف أمريكية - إسرائيلية مشتركة،فإن إفلات الأمور من عقالها أثناء العدوان وبعده قد ارتدَّ سلبا على القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية،فبدلا من أن يدخل رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت التاريخ الإسرائيلي كمنتصر في حرب اتخذ قرارها،سجل سابقة من بين رؤساء الوزراء الإسرائيليين الذين خسروا حربا أعد لها جيدا مع أطراف فاعلين في تركيب وتنظيم النظام الدولي.وبمعنى آخر كان اولمرت نفسه سببا في إفشال مخطط أمريكي لإنجاز ما تبقى من ثغرات ممانعة في النظام العالمي القائم التي رتّبت أوضاعه واشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل العقد الأخير من القرن الماضي.
وإذا كان تقاطع المصالح الأمريكية - الإسرائيلية الاستراتيجية قد التقت على ترميم وترسيم وتكييف مشروع الشرق الأوسط الكبير - الجديد في النظام العالمي القائم،فإن القراءة الأولية لما بعد العدوان تثبت أن وقتا طويلا سوف يمر لإعادة ترتيبه من جديد وفقا للرؤية الأمريكية – الإسرائيلية إذا تمكنتا من ذلك؛كما أن مفاهيم وعقائد واستراتيجيات كثيرة سوف يُعاد النظر فيها لاحقا نظرا لعدم تمكن الطرفين من انجاز الحدود الدنيا من غايات العدوان الأساسية.فرغم الصفة الظاهرية التي برزت على أنها حربا إقليمية محدودة و"بروفا" لحروب قادمة،إلا أنها من الناحية الفعلية والعملية تعتبر محاولة إحداث لنتائج حرب عالمية لم تقع،هدفها النهائي تثبيت دعائم وركائز النظام العالمي القائم.
في المقلب اللبناني ثمة انتصار استراتيجي سجلته المقاومة من الصعب القفز فوقه أو تحجيمه عبر مقاربته بما نجم عن العدوان من خسائر مادية.فنتائج الحروب لا تقاس عادة بما يلحق بأطراف الصراع من خسائر ومكتسبات مادية إن وجدت،بل تقاس بمعايير ما يلحق من أذى وعدم تحقق للغايات المعلنة وغير المعلنة للحرب,وفي هذا المجال تمكنت المقاومة من "فرملة" أو عرقلة مشاريع استراتيجية أمريكية – إسرائيلية على مستوى المنطقة بأسرها.وصحيح أيضا إن ما آلت إليه الأمور لاحقا لم يكن بمستوى الإنجاز المحقق،إلا انه يعتبر انعكاسا لواقع ظروف التفاوض التي جرت إبان العدوان وما أحاطه من ضغوط على لبنان من جهة ،وعدم تمكن المفاوض اللبناني من استثمار نتائج النصر مقارنة بما جرى سابقا كظروف ونتائج عدوان 1996 على سبيل المثال.
عربيا ثمة تفاوت وحتى تباين واضح في المواقف وصل إلى حد تشكيل محاور متواجهة بخلاف الحالات السابقة التي واجهت لبنان،مرد ذلك يعود إلى ظروف المنطقة والضغوط الأمريكية الهائلة على بعض المحاور العربية وعدم تمكنها من مواجهة هذه الضغوط،الأمر الذي أدى إلى إشعال سياسة المحاور العربية من جديد وافتراقها حول المواضيع الاستراتيجية المتعلقة بملفات الصراع العربي - الإسرائيلي،ما مهّد لاختراقات واسعة لآليات الحل المقترح والمتمثل بورقة قمة بيروت العربية.
وفي مطلق الأحوال يمكن تسجيل العديد من الملاحظات أبرزها:
- أتت العملية في خضم سجال لبناني حاد حول وضع المقاومة وسلاحها واستراتيجية الدفاع اللبنانية المفترضة في مواجهة إسرائيل، ولا نخفي سرا إذا قلنا أن بعض الأطراف اللبنانية ذهبت بعيدا في التحليل والتأويل واجتراح الحلول،في وقت لا زالت إسرائيل تحتل أراض لبنانية وتمارس اعتداءات يومية وأعمال إرهابية أمنية وعسكرية ونفسية على الشعب اللبناني بكافة فئاته وتلاوينه السياسية دون تميِّز بين مقاوم وغير مقاوم.
- لا زالت إسرائيل تحتجز لبنانيين ورغم كل الجهود الدولية والإقليمية لم تفلح المفاوضات الدبلوماسية من إغلاق هذا الملف،إذ شاءت إسرائيل اعتباره "كمسمار جحا" في ربط النزاعات واستثماره سياسيا رغم إنسانية الملف التي تكفله المواثيق والأعراف الدولية ذات الصلة بالأسرى والمعتقلين المدنيين وغيرهم من الفئات المصنفة في اتفاقيات جنيف الأربعة المعروفة.
- أتت العملية في خضم جدل وارتباك إسرائيليين كبيرين حول كيفية التعامل مع الجندي الإسرائيلي الأسير لدى الفصائل الفلسطينية،وسط خوف إسرائيلي واضح في التعامل مع هذا الملف لكي لا يصبح سابقة يمكن اللجوء إليها لاحقا،سيما وان سابقة اختطاف المقاومة في لبنان قد كرّست معادلة واضحة مع إسرائيل،أن تبادل الأسرى من الاستحالة إتمامها بدون وجود أسرى إسرائيليين؛وبالتالي لا زالت إسرائيل تبحث عن حل في الكواليس لهذا الجندي الذي لحق به أسيران في يد المقاومة.
- أتت العملية وسط تأزم إقليمي واضح المعالم من الصعب تخطيه دون فعل شيء أساسي في أوراق الضغط المحتملة إن لم يكن تفجير ما تقوم به إسرائيل للهروب إلى الخارج من مآزقها الداخلية.فالوضع في فلسطين حيث لغة الحديد والنار الإسرائيليتين تمارس فعلها في الفلسطينيين أطفالا وشيوخا ونساء،ولغة القتل باتت أمرا مألوفا ومعتادا بل مقررا من دوائر القرار الإسرائيلي السياسي والعسكري،في الوقت الذي ليس لحكومة اولمرت أي أفق سياسي قابل للحياة مع الفلسطينيين أو غيرهم.وفي الجانب الآخر في العراق حيث الآلة العسكرية الأمريكية تفعل فعلها قتلا وتدميرا؛وسط غطرسة أمريكية لا مثيل لها في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية.باختصار واقع لا تحمد المنطقة عليها،مجموعة من القضايا غير القابلة للحل بهذا الأسلوب الأمريكي أو الإسرائيلي،يرافقه احتقان كبير ينذر بانفلات الأمور من عقالها.
لا شك بأن هذه العملية تركت آثارا غير عادية على العديد من الملفات ولن تقتصر آثارها على ملف الأسرى بالتحديد فمشاكل المنطقة وقضاياها هي متشابكة ومترابطة إلى حد التعقيد الذي يمكن استغلاله بشتى المواضيع والقضايا، بدء بملف الأسرى اللبنانيين مرورا بملف الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية وصولا إلى قضايا ربما تتخطى اطر وملفات الصراع العربي - الإسرائيلي التقليدية المعروفة.
ففي لبنان لا زال ملف الأسرى مفتوحا على كافة الاحتمالات وان يبدو أن هذه المرة قد يحسم بنسبة عالية جدا بل من الممكن أن يكون قد انتهى عمليا وأصبح مسألة وقت ليس إلا،.كما أن في لبنان أرضا محتلة عمليا وأرضا محتلة واقعيا بفعل الألغام الإسرائيلية التي ترفض إسرائيل تسليم خرائطها الدقيقة،كما في لبنان مشكلة حقيقية لدى بعض اللبنانيين الذين لا زالوا يركبون رأسهم عنادا ويحاولون إقناع أنفسهم بأن زمن المقاومة قد ولى وأنها أدت قسطها للعلا وعليها إما اختيار التقاعد أو إطلاق رصاصة الرحمة عليها.
في الواقع ثمة افرقاء كثر في لبنان لا زالوا يعتقدون أن فعل المقاومة هو فعل عابر وغير ذي أهمية بكونه مرتبط بحسابات إقليمية،فيما الوقائع أثبتت عكس ذلك،فالمقاومة لم تكن مرة عبء داخلي أو ورقة مساومة خارجية وهذا سر نجاحها.كما انه في لبنان لا يزال البعض يراهن على حسابات دولية أثبتت عقمها وعدم جدواها في التعاطي مع الملفات الحساسة ومنها الأسرى والأراضي المحتلة ،وبالتالي إن الاستمرار في هذا الاعتقاد كمن يذر الرماد في العيون ويتعامي عن الحقائق ويغرس رأسه في الرمال خوفا من رؤية الحقيقة.
إن ابرز ما يمكن تسجيله من نتائج لهذه العملية تكمن في العديد من النقاط أبرزها:
- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن جميع ملفاتها هي في الحفظ والصون لدى رجال عرفوا واختبروا عدوا لا يفهم إلا لغة الحديد والنار لجلبه إلى طريق الحق.
- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن ما يحكى عن وسائل دبلوماسية وغيرها لحل ملفات عالقة عمرها من عمر كيانات المنطقة أمر لا فائدة منه، بل مضيعة للوقت واستنزاف للجهد،فاستراتيجيات الدفاع المطروحة على طاولة الحوار في مواجهة استراتيجية المقاومة لا تعدو كونها استراتيجيات من نوع الإنشاء والشعر العربيين الذين لا يسمنان ولا يغنيان من جوع.فالتاريخ حافل بأمثلة مقاومة الاحتلال في غير دولة، وفي هذا التاريخ لا نقرأ سوى النصر الذي كانت تسجله المقاومات بدء من المقاومة الفرنسية تحديدا لمن لا يعرف القراءة مرورا بالجزائرية وصولا إلى مقاومات جنوب أمريكا اللاتينية وفيتنام وغيرها وعلى رأسها فعل المقاومة اللبنانية التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من غالبية الأراضي اللبنانية دون قيد أو شرط.
- ومن آثارها أيضا أنها ستكون مناسبة أولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي لممارسة عدوانية إسرائيل المعروفة،فهو آت من خلفية لكودية متعصبة ووريث شارون السياسي ،وفي هذا الإطار ومن وجهة نظره لا بد إثبات ذلك للإسرائيليين بأنه وريث سياسي وعدواني بجدارة،فهل سيثبت ذلك في لبنان لقد بات أمرا مؤكدا بعد تنفيذ اعتداءاته وتصريحاته العدوانية بعد العملية مباشرة.
- إن المنطقة قادمة على خلط أوراق كثيرة،فهي تعج بالقضايا المستعصية وغير القابلة للحل بالوسائل التقليدية،ومن هذا المنظار ربما تشعر الولايات المتحدة الأمريكية ومحافظوها الجدد أن الفرصة سانحة للانقضاض على ما تبقى من حلمها في الشرق الأوسط الكبير.فإيران وبرنامجها النووي واصل إلى أفق مسدود،وأزمة واشنطن في العراق كبيرة،ومشاريع السلام موضوعة في الثلاجة الأمريكية الإسرائيلية ،فإلى أين المسير من وجهتي النظر الأمريكية والإسرائيلية،طبعا المزيد من التورط في إشعال المنطقة وربما يكون لبنان بوابتها الرئيسة.
وبصرف النظر عن ردود الفعل الإسرائيلية على هذه العملية والى أي مدى وصلت،يبقى فعل المقاومة وآثاره هو أقوى بكثير من كل الاحتمالات المطروحة.ثمة دولا وجيوشا كثيرة خاضت الحروب،انتصرت وفشلت،إلا أن التاريخ لم يسجل يوما أن مقاومة خسرت معركتها الحقيقية هذا على الأقل من يعرف كيف يقرأ التاريخ.
لقد وعد سيد المقاومة بنصر مبين،فكانت هزيمة إسرائيل في لبنان مرة أخرى وباعتراف إسرائيلي صريح،وليس لأن التاريخ يكتبه المنتصرون،بل لأن النصر أسسَّ لمرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة،أخذنا على عاتقنا تأريخ هذه المرحلة بأسلوب علمي وموضعي رصين،محاولين في عملنا هذا إلقاء الضوء على الخلفيات والأبعاد التي وقفت ورائها كل من واشنطن وتل أبيب لتنفيذ العدوان على لبنان.
لقد قسمنا هذا العمل إلى سبعة فصول،خصصنا الفصل الأول منه إلى الاستراتيجيات الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة وعالجنا فيه بشكل خاص مشروع الشرق الأوسط الكبير في الاستراتيجية الأمريكية وكيفية تقاطع المصالح الإسرائيلية - الأمريكية في هذا المشروع.
أما الفصل الثاني فقد خصصناه للملفات العالقة بعد هزيمة إسرائيل في لبنان في العام 2000 ؛إذ عالجنا فيه قضية مزارع شبعا المحتلة والعناصر القانونية والتاريخية التي يستند إليها لبنان في حقه لتحريرها،وكذلك موضوع الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية،إضافة إلى قضية الألغام التي خلفتها إسرائيل في الأراضي اللبنانية والتي تعتبر من قبيل العدوان المستمر على لبنان.
في الفصل الثالث عرضنا لعملية الوعد الصادق وأبعادها،مرورا بشروط التفاوض التي حددها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لاسترجاع الأسيرين،كما ناقشنا الظروف الموضوعية المحيطة بالعملية وبالتالي صحة تنفيذها آنذاك،مرورا بمفاجآت المقاومة المحققة أثناء المواجهات العسكرية والأمنية،إضافة إلى أساليب القتال المعتمدة وصولا إلى انعكاس الهزيمة على استراتيجيات الجيش الإسرائيلي وما أسست إليه المقاومة من فرض معادلات واستراتيجيات جديدة على الجيش الإسرائيلي.
وبما أن هزيمة إسرائيل كانت محققة بالألسن والشهادات الإسرائيلية نفسها فقد عالجنا هذه القضية في الفصل الرابع محاولين إلقاء الضوء على الاستراتيجيات القتالية الإسرائيلية وأسباب فشلها والنتائج المترتبة عليها.
وبما أن إسرائيل تعتبر استثناءً للقرارات والمواثيق الدولية ونظراً لسجلها الحافل في ارتكاب المجازر وانتهاكاتها الفاضحة للقوانين والأعراف الدولية فقد عرضنا في الفصل الخامس الوضع القانوني للانتهاكات الإسرائيلية للمعاهدات الدولية وسبل مقاضاتها.
أما الفصل السادس فقد عرضنا فيه للحصار الإسرائيلي للبنان إبان العدوان وبعده محاولين إلقاء الضوء على الجانب القانوني لهذه القضية،كما عالجنا فيه قوات حفظ السلام الدولية وأنواعها وتطرقنا إلى قوة اليونفيل المعززة والقرار 1701 وما جاء به.
وفي النهاية عرضنا في الفصل السابع لنتائج العدوان وآثاره في لبنان وإسرائيل عبر مقاربة موضوعية وعلمية بهدف الرد على الأسئلة الخبيثة التي طرحت بعد العدوان،إضافة إلى مقاربة الظروف والنتائج للحرب العربية الإسرائيلية الرابعة والعدوان على لبنان لجهة التشابه والاختلاف في كلا الحربين.
لقد حاولنا في عملنا المتواضع هذا مشاركة نصر المقاومة في الكلمة، علها توقظ من هم لا زالوا في سباتهم العميق، والذين لا يريدون أن يُصدِّقوا أن إرادة المقاومة والشعب الذي احتضنها هما أقوى من الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أو بالاحرى الجيش الذي لا يفهم.