خلفية الهروب الأوروبي من الهرولة التركية نحو الاتحاد
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
هناك العديد من التحليلات عديدة حول الأسباب الحقيقية لبقاء الأبواب الأوربية مغلقة في وجهانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، ويشير معظمها إلى الانتمء الديني الإسلامي، ومنها ما يشير عدد السكان والطاقة العسكرية وما يشكلانه من وزن كدولة اقليمية عند مقارنتها بالدول الأعضاء حاليا في الاتحاد الأوربي.فما هي الاسباب الحقيقية وما مدى صحة حجج الاوروبيين في ذلك وهل ان الاوروبيين قد طبقوا هذه المعايير والحجج على باقي الدول التي انضمت للاتحاد؟
يطرح الاوروبيين الوضع الاقتصادي التركي وتفاقمه بشكل مستمر،اي ما يعني انه سيكون عبئا على الاتحاد،ولكن رغم أهمية الجانب الاقتصادي تبدو هذه الحجة واهية عند التأمل فيها. فقد سبق أن انضم إلى الاتحاد الأوربي كثير من الدول الأوربية الأخرى، كاليونان، وأيرلندا، والبرتغال، وفق قرارات وضعت في الحسبان وجود هوة اقتصادية ينبغي تقليصها ان لم يكن ردمها، فتم "تقليصها" قبل الانضمام، واستمرت الجهود في الاتجاه نفسه من بعد، ومع ذلك لا تزال توجد معدلات فروق كبيرة بين دول الاتحاد.
على أن الأهم في نطاق المقارنة مع وضع تركيا، أن كثيرا من الدول الشيوعية سابقا في شرق أوربا، حصلت على معالم واضحة لمخطط زمني عام لانضمامها إلى الاتحاد، عندما كانت أوضاعها الاقتصادية أسوأ مما عليه في تركيا، رغم الانهيار الاقتصادي والنقدي فيها.. فلم تمنع من ذلك "الهوة" القائمة مع دول غرب أوربا، بل ساهمت بنفسها في تقليصها، عن طريق الاستثمارات المالية المكثفة، والتسهيلات التجارية التدريجية، والقروض السخية، والدعم بالخبرة التقنية والإدارية، والتركيز على تنشيط الصناعة المحلية وإصلاح أوضاعها. ولا تزال الفوارق قائمة رغم ذلك، وهو الأمر الذي يفرض على الاتحاد الأوربي قرار "تمويل" السنوات الأولى من التوسعة القادمة بمبالغ يزيد حجمها على 45 مليار يورو.
اما تركيا فلم تحصل على ما يشبه هذا الدعم المكثف من جانب الأوربيين أو من الغرب عموما في أي وقت من الأوقات، ولم ترفع الحواجز بينها وبين الدول الأوربية. وكان من التبريرات المعلنة لهذا الصدد تجنّب تدفق المزيد من العمال الأتراك إلى غرب أوربا لارتفاع البطالة في تركيا، على أن هذه البطالة نفسها لم تدفع المسؤولين في دول الاتحاد إلى ممارسة سياسية مماثلة تجاه شرق أوربا، بتحصين الحدود ونصب الأسوار حول سوق اليد العاملة.
بغض النظر عما يمكن أن يتحقق فعلا من مصالح لتركيا أو يقع من أضرار في حالة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي ينبغي ألا يكون السؤال المطروح: هل تركيا بالفعل في وضع اقتصادي يمنع انضمامها إلى الاتحاد الأوربي، وإنما ينبغي التساؤل بهل الاتحاد الأوربي نفسه راغب في أن يصل الوضع الاقتصادي بتركيا إلى مستوى قريب من الأوضاع الراهنة بغرب أوربا، لتسقط حجة الفارق الاقتصادي كحاجز مانع دون فتح أبوابها وفق رغبات الحكم العلماني القائم في تركيا؟
اما الحجة الثانية فتدور جول "الديمقراطية وحقوق الإنسان" والتي تحولت إلى معضلة تعترض طريق العلاقات بين الأوربيين والأتراك، وتدور هذه الحجة في الأصل حول امرين اثنين:
الامر الأول هو حقوق الإنسان: ويلاحظ هنا أن جل الانتقادات والتقارير الدورية والحملات السياسية والإعلامية من جانب الدول الأوربية كانت تركز لعدة عقود مضت على قضية الأكراد في تركيا. وبدأت تتساقط المبررات المباشرة لذلك، لاسيما بعد اعتقال عبد الله أوجلان وتخلي حزبه عن استخدام العنف، ثم شروع السلطات التركية في الانفتاح ولو جزئيا تجاه حقيقة وجود "الهوية الكردية" في البلاد. ففقد هذا المحور جزءًا كبيرًا من مفعوله في العلاقات الثنائية مع الأوربيين أيضا، ولم يعد يظهر في التقارير الرسمية إلا في إطار "التعميم" غالبا.
أما من يحرص على التخصيص عبر الأمثلة عن وضع حقوق الإنسان في تركيا، فلم يعد يستطيع أن يتجاوز حقيقة أن انتهاك حقوق الإنسان إنما تصيب حاليا التيار الإسلامي وأنصاره في الدرجة الأولى، بل واتسع نطاق ذلك ليشمل نسبة عالية من "العامة" وليس من صفوف المشتغلين في الحقل الحزبي والسياسي فقط.
وتشهد على ذلك الإجراءات القمعية على صعيد مكافحة الحجاب، وعلى صعيد المدارس والمعاهد الخاصة والرسمية. وهذا ما أصبحت تذكره بعض الجهات الأوربية من وقت لآخر، وتسكت عنه جهات أخرى تماما، ولكن لا يوجد بينها من يريد أن يبلغ الانتقاد درجة تقديم دعم غير مقصود لصالح التيار الإسلامي في تركيا على حساب التوجهات العلمانية.. وهذا مما أفقد الموقف الأوربي مصداقيته.
ويدرك الأوربيون أن التركيز على حقوق الإنسان -كشرط للانضمام إلى الاتحاد الأوربي- أصبح يضع السلطات العلمانية في تركيا أمام "مهمة مستحيلة". فتطبيق الحريات والحقوق بمعنى الكلمة يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط العلمانية المعتمدة على القوة العسكرية بالدرجة الأولى. وإذا سقطت بهذا الطريق فسيعني ذلك أن تنفيذ "شرط الانضمام إلى الاتحاد الأوربي" أسقط في نهاية المطاف هدف الانضمام نفسه.
اما الامر الثاني فيظهر في إطار اشتراط "الديمقراطية وحقوق الإنسان". فهو ما يصيب جوهر البنية السياسية - العسكرية القائمة في تركيا، والمتحكمة في الخارطة الحزبية وفي الحياة السياسية اليومية.والاتحاد الأوربي ، إذا كان على استعداد بالفعل للقبول بانضمام تركيا إليه لا يستطيع لأسباب عديدة القبول بانضمامها مع بقاء صناعة القرار السياسي في أيدي القيادات العسكرية، مباشرة أو غير مباشرة.على أن الأوربيين يعلمون أيضا ما يعلمه زعماء الأحزاب العلمانية التركية أنفسهم من أن تلك القيادات العسكرية الوصية على علمانية أتاتورك هي الضمانة الوحيدة لاستمرار سيطرة العلمانية على تركيا بما في ذلك جانب السعي لانتماء أوربي.وبالتالي، فإن تحرير صناعة القرار السياسي من الجيش يعني سقوط العلمانية نفسها آجلا أو عاجلا؛ وآنذاك ستفقد مسألة الانضمام أو عدم الانضمام إلى الاتحاد الأوربي قيمتها على أرض الواقع في تحديد طبيعة العلاقات التركية - الأوربية.
سيان هل تصح مقولة "إن رفض تركيا في أوربا قائم فقط لأنها دولة إسلامية بغالبية سكانها"، أو لا تصح؛ فالنتيجة واحدة، وهي أن المعضلة الكبرى بين تركيا والاتحاد الأوربي هي معضلة إخفاق اكثر من 80 عاما في حل الكثير من المشاكل على المستوى الشعبي، ومعضلة بقاء النظام مجرد مبدأ مفروضا عبر القوة العسكرية في الدرجة الأولى.فهل ستتمكن اوروبا من الهروب الى ما لا نهاية من الالحاح التركي في الدخول الى الاتحاد؟ام ان تركيا ستتعب عاجلا ام آجلا في اللهاث وراء الحلم الموعود؟وحدها الولايات المتحدة الامريكة التي تمسك العصا من النصف في هذا الملف لتبقي على الدور الاقليمي التركي في مقابل وعود الحلم الاوروبي القابل للاستثمار في شتى المجالات والاتجاهات.
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
هناك العديد من التحليلات عديدة حول الأسباب الحقيقية لبقاء الأبواب الأوربية مغلقة في وجهانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، ويشير معظمها إلى الانتمء الديني الإسلامي، ومنها ما يشير عدد السكان والطاقة العسكرية وما يشكلانه من وزن كدولة اقليمية عند مقارنتها بالدول الأعضاء حاليا في الاتحاد الأوربي.فما هي الاسباب الحقيقية وما مدى صحة حجج الاوروبيين في ذلك وهل ان الاوروبيين قد طبقوا هذه المعايير والحجج على باقي الدول التي انضمت للاتحاد؟
يطرح الاوروبيين الوضع الاقتصادي التركي وتفاقمه بشكل مستمر،اي ما يعني انه سيكون عبئا على الاتحاد،ولكن رغم أهمية الجانب الاقتصادي تبدو هذه الحجة واهية عند التأمل فيها. فقد سبق أن انضم إلى الاتحاد الأوربي كثير من الدول الأوربية الأخرى، كاليونان، وأيرلندا، والبرتغال، وفق قرارات وضعت في الحسبان وجود هوة اقتصادية ينبغي تقليصها ان لم يكن ردمها، فتم "تقليصها" قبل الانضمام، واستمرت الجهود في الاتجاه نفسه من بعد، ومع ذلك لا تزال توجد معدلات فروق كبيرة بين دول الاتحاد.
على أن الأهم في نطاق المقارنة مع وضع تركيا، أن كثيرا من الدول الشيوعية سابقا في شرق أوربا، حصلت على معالم واضحة لمخطط زمني عام لانضمامها إلى الاتحاد، عندما كانت أوضاعها الاقتصادية أسوأ مما عليه في تركيا، رغم الانهيار الاقتصادي والنقدي فيها.. فلم تمنع من ذلك "الهوة" القائمة مع دول غرب أوربا، بل ساهمت بنفسها في تقليصها، عن طريق الاستثمارات المالية المكثفة، والتسهيلات التجارية التدريجية، والقروض السخية، والدعم بالخبرة التقنية والإدارية، والتركيز على تنشيط الصناعة المحلية وإصلاح أوضاعها. ولا تزال الفوارق قائمة رغم ذلك، وهو الأمر الذي يفرض على الاتحاد الأوربي قرار "تمويل" السنوات الأولى من التوسعة القادمة بمبالغ يزيد حجمها على 45 مليار يورو.
اما تركيا فلم تحصل على ما يشبه هذا الدعم المكثف من جانب الأوربيين أو من الغرب عموما في أي وقت من الأوقات، ولم ترفع الحواجز بينها وبين الدول الأوربية. وكان من التبريرات المعلنة لهذا الصدد تجنّب تدفق المزيد من العمال الأتراك إلى غرب أوربا لارتفاع البطالة في تركيا، على أن هذه البطالة نفسها لم تدفع المسؤولين في دول الاتحاد إلى ممارسة سياسية مماثلة تجاه شرق أوربا، بتحصين الحدود ونصب الأسوار حول سوق اليد العاملة.
بغض النظر عما يمكن أن يتحقق فعلا من مصالح لتركيا أو يقع من أضرار في حالة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي ينبغي ألا يكون السؤال المطروح: هل تركيا بالفعل في وضع اقتصادي يمنع انضمامها إلى الاتحاد الأوربي، وإنما ينبغي التساؤل بهل الاتحاد الأوربي نفسه راغب في أن يصل الوضع الاقتصادي بتركيا إلى مستوى قريب من الأوضاع الراهنة بغرب أوربا، لتسقط حجة الفارق الاقتصادي كحاجز مانع دون فتح أبوابها وفق رغبات الحكم العلماني القائم في تركيا؟
اما الحجة الثانية فتدور جول "الديمقراطية وحقوق الإنسان" والتي تحولت إلى معضلة تعترض طريق العلاقات بين الأوربيين والأتراك، وتدور هذه الحجة في الأصل حول امرين اثنين:
الامر الأول هو حقوق الإنسان: ويلاحظ هنا أن جل الانتقادات والتقارير الدورية والحملات السياسية والإعلامية من جانب الدول الأوربية كانت تركز لعدة عقود مضت على قضية الأكراد في تركيا. وبدأت تتساقط المبررات المباشرة لذلك، لاسيما بعد اعتقال عبد الله أوجلان وتخلي حزبه عن استخدام العنف، ثم شروع السلطات التركية في الانفتاح ولو جزئيا تجاه حقيقة وجود "الهوية الكردية" في البلاد. ففقد هذا المحور جزءًا كبيرًا من مفعوله في العلاقات الثنائية مع الأوربيين أيضا، ولم يعد يظهر في التقارير الرسمية إلا في إطار "التعميم" غالبا.
أما من يحرص على التخصيص عبر الأمثلة عن وضع حقوق الإنسان في تركيا، فلم يعد يستطيع أن يتجاوز حقيقة أن انتهاك حقوق الإنسان إنما تصيب حاليا التيار الإسلامي وأنصاره في الدرجة الأولى، بل واتسع نطاق ذلك ليشمل نسبة عالية من "العامة" وليس من صفوف المشتغلين في الحقل الحزبي والسياسي فقط.
وتشهد على ذلك الإجراءات القمعية على صعيد مكافحة الحجاب، وعلى صعيد المدارس والمعاهد الخاصة والرسمية. وهذا ما أصبحت تذكره بعض الجهات الأوربية من وقت لآخر، وتسكت عنه جهات أخرى تماما، ولكن لا يوجد بينها من يريد أن يبلغ الانتقاد درجة تقديم دعم غير مقصود لصالح التيار الإسلامي في تركيا على حساب التوجهات العلمانية.. وهذا مما أفقد الموقف الأوربي مصداقيته.
ويدرك الأوربيون أن التركيز على حقوق الإنسان -كشرط للانضمام إلى الاتحاد الأوربي- أصبح يضع السلطات العلمانية في تركيا أمام "مهمة مستحيلة". فتطبيق الحريات والحقوق بمعنى الكلمة يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط العلمانية المعتمدة على القوة العسكرية بالدرجة الأولى. وإذا سقطت بهذا الطريق فسيعني ذلك أن تنفيذ "شرط الانضمام إلى الاتحاد الأوربي" أسقط في نهاية المطاف هدف الانضمام نفسه.
اما الامر الثاني فيظهر في إطار اشتراط "الديمقراطية وحقوق الإنسان". فهو ما يصيب جوهر البنية السياسية - العسكرية القائمة في تركيا، والمتحكمة في الخارطة الحزبية وفي الحياة السياسية اليومية.والاتحاد الأوربي ، إذا كان على استعداد بالفعل للقبول بانضمام تركيا إليه لا يستطيع لأسباب عديدة القبول بانضمامها مع بقاء صناعة القرار السياسي في أيدي القيادات العسكرية، مباشرة أو غير مباشرة.على أن الأوربيين يعلمون أيضا ما يعلمه زعماء الأحزاب العلمانية التركية أنفسهم من أن تلك القيادات العسكرية الوصية على علمانية أتاتورك هي الضمانة الوحيدة لاستمرار سيطرة العلمانية على تركيا بما في ذلك جانب السعي لانتماء أوربي.وبالتالي، فإن تحرير صناعة القرار السياسي من الجيش يعني سقوط العلمانية نفسها آجلا أو عاجلا؛ وآنذاك ستفقد مسألة الانضمام أو عدم الانضمام إلى الاتحاد الأوربي قيمتها على أرض الواقع في تحديد طبيعة العلاقات التركية - الأوربية.
سيان هل تصح مقولة "إن رفض تركيا في أوربا قائم فقط لأنها دولة إسلامية بغالبية سكانها"، أو لا تصح؛ فالنتيجة واحدة، وهي أن المعضلة الكبرى بين تركيا والاتحاد الأوربي هي معضلة إخفاق اكثر من 80 عاما في حل الكثير من المشاكل على المستوى الشعبي، ومعضلة بقاء النظام مجرد مبدأ مفروضا عبر القوة العسكرية في الدرجة الأولى.فهل ستتمكن اوروبا من الهروب الى ما لا نهاية من الالحاح التركي في الدخول الى الاتحاد؟ام ان تركيا ستتعب عاجلا ام آجلا في اللهاث وراء الحلم الموعود؟وحدها الولايات المتحدة الامريكة التي تمسك العصا من النصف في هذا الملف لتبقي على الدور الاقليمي التركي في مقابل وعود الحلم الاوروبي القابل للاستثمار في شتى المجالات والاتجاهات.