حديث لصحية الوطن القطرية 11-5-2005
الدكتور خليل حسين
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
س - ما هي برأيكم الظروف الاقليمية والدولية التي ادت الى صدور القرار 1636؟
ج - لقد بات واضحا ان صدور القرار 1636 بهذا الشكل والمضمون لم يكن سوى قيمة اضافية للبيئة القانونية والسياسية التي رسمتها مجموعة القرارات الصادرة قبلا، بدءا بالقرار 1373 و1566 مرورا بالـ 1559 و1595 وصولا الى 1614، كما أصبح من باب أولى تفسير صيغة القرار الأخير على انه مقدمة لسلسلة قرارات آتية تترجم الصيغة التنفيذية لخارطة الطريق الامريكية التي رسمتها للمنطقة بعد احتلال كل من أفغانستان والعراق بحيث لم يعد سوى سوريا ولبنان والملف النووي الإيراني خارج أطار النفوذ الفعلي لمشروع الشرق الأوسط الكبير.وعليه فإن القرار 1636 يبدو مشروعا متطابقا للعديد من المحاولات الأمريكية السابقة كقانون العقوبات على سوريا وصولا إلى مشروع القانون الأمريكي لتحرير لبنان وسوريا الذي طرح في الكونغرس الأمريكي في نيسان الماضي.وعلى الرغم من أن الأهداف المعلنة للقرار هي جلاء الحقيقة لجريمة العصر، وهو مطلب يُجمع اللبنانيون عليه كما العالم بأسره، فإن خلفياته ومراميه البعيدة المدى من الصعب فصلها عما يؤسس للمنطقة وبوتيرة متسارعة، وثمة جملة اعتبارات وعوامل مختلفة ومتنوعة أسهمت في إيصال الأمور الى ما وصلت اليه ، بدءا بالضغوط المتواترة على المنطقة مرورا بالسياسات السورية المعتمدة في بعض الملفات الاساسية والفرعية وصولا الى اثر هذه السياسات واسقاطاتها في الساحة اللبنانية وما نتج عنها لاحقا بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري،وفي هذا الاطار يمكن تسجيل العديد من الملاحظات منها:
- لم تعد أهداف وثيقة الأمن القومي الامريكي خافية على احد فهي وان بوشر في تنفيذها علنا بعد 11 ايلول 2001 الا ان جذورها تعود الى ما قبل ولاية جورج بوش الابن، وبهذا المعنى ان الضغوط التي تراكمت على المنطقة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي تعبّر بشكل او بآخر عن فشل مشروع الشرق اوسطية الداعي الى ادخال اسرائيل ضمن نظام اقليمي ينهي النظام الاقليمي العربي، وبهذا المعنى ايضا اتى المشروع الامريكي للاصلاح ونشر الديموقراطية في اطار مسعى موازٍ لمشروع الشرق الاوسط الكبير الذي مانعته كل من سوريا وايران ولبنان؛ الامر الذي دفع واشنطن للعمل بقوة لإزالة العقبات بدءا بالضغوط السياسية والاقتصادية وصولا الى التلميح بقلب الانظمة ولو عسكريا اذا اقتضى الامر كما حدث في افغانستان والعراق.
- وعلى الرغم من وضوح السياسات الامريكية في المنطقة ظلت القوى الرئيسة في المنطقة تعمل في نفس عدة الشفل اذا جاز التعبير رغم تغيّر الظروف والموازين ومن تلك القوى سوريا.وبصرف النظر عن القدرة او الرغبة في تحسين وتطوير اساليب العمل في العلاقات الدولية والاقليمية وبخاصة في الساحة اللبنانية فان دمشق استمرت في تعاطيها مع الملفات اللبنانية بطريقة يسهل استغلالها لغير مصلحتها، أي بمعنى ان الكثير من الملفات التي تضررت منها ولم تكن مستفيدة ايضا منها أُلصقت نتائجها بها وفي مقدمها جريمة الاغتيال وتداعياتها المختلفة كخسارة الورقة اللبنانية وما لها من ثقل استراتيجي في السياسة الخارجية السورية.
- وفي لبنان المعني الرئيس بنتائج هذه السياسات وآثارها، فقد تجمّعت على مدى ثلاثة عقود أخطاء ما يكفي لإيجاد بيئة قوية لقلب موازين قوى حاولت دمشق جاهدة فرضها منذ العام 1991، حتى أتت جريمة الاغتيال لتكون الشعرة التي قَسَمّت ظهر البعير، ورغم التموضع السياسي الناشيء فقد اجتمع اللبنانيون على وجوب كشف حقيقة الاغتيال وربما سيفترقون حول خلفيات الاغتيال ومن بينها المواقف من القرار 1636 .
- وفي المقلب الآخر حيث إسرائيل المعتادة على استثمار أخطاء العرب تمكّنت هذه المرة أيضا من استثمار فرصة العمر بوضع نفسها فوق الشبهات في جريمة الاغتيال بل باتت مصدرا موثوقا للمعلومات ومكانا لا تحوم حوله الشبهات.
س - إذا كانت هذه المعطيات برأيكم قد أسهمت في صدور القرار فما هي حيثياته شكلا ومضمونا ؟
ج - في الواقع يمكن ادراج العديد من الملاحظات في هذا المجال والتي تشير الى مضمون القرار وما اتى به والتي توضح ايضا بشكل لا يقبل الشك بأنه على درجة كبيرة من الخطورة تتجاوز كل القرارات السابقة وما نتج عنها وأبرز ما جاء به:
- بعد سلسلة مشاورات اقليمية ودولية منها العربي ومنها الروسي والصيني وربما الايراني مع بكين لما لها من عقود نفطية تقدر بسبعين مليار دولار،تجاوز مجلس الامن صيغة القرار الأصلي، وتوصّل الى قرار لم يصل الى حد فرض العقوبات على دمشق وانما أبقى السيف مسلطا ومرهونا بمدى التعاون السوري الذي يجب ان يكون غير مشروط وفقا لمتطلبات قرار.مجلس الامن.
- ورغم ان العقوبات لم ترد في نص القرار الا ان الصياغة التي اتت بها بعض البنود تشير الى تهديد يُستشف منه ان المتابعة اللاحقة ستكون اشد قسوة واكثر فعالية. فالقرار وفقا لمنطوقه اتى ضمن الفصل السابع من الميثاق الذي يستوجب تطبيقه بالقوة اذا لزم الامر ولا يتطلب موافقة الدولة صاحبة العلاقة به، وعلى الرغم من ان الصيغة الاساسية كانت قد استندت في الفقرة الاخيرة على ان هذا القرار يستند الى المادة 41 من الميثاق،أي التدرج في العقوبات بدءا من الاقتصادية مرورا بقطع الاتصالات البرية والبحرية والجوية وصولا الى قطع العلاقات الدبلوماسية، فإن الصيغة الأصلية ايضا والتي صُرف النظر عنها كانت ترمي بشكل او بآخر الى المادة 42 من الميثاق ،أي استعمال القوة للتنفيذ وهي اشد انواع التنفيذ ضد أي دولة تهدد السلم والامن الدوليين كما جاء في العديد من فقرات القرار.
- وللتأكيد على ما سبق لجهة نية مجلس الامن التشدد في هذا المجال ما استند اليه القرار كذلك في ديباجته من الاشارة الى القرارين 1373 لعام 2001 و1566 لعام 2004 المتعلقين بالاعمال الارهابية وتهديد الامن والسلم الدوليين، واللذين يجبرا جميع الدول المنضمة الى الامم المتحدة كما التي خارجها وجوب تقديم كل التسهيلات الممكنة لتطبيق أي عقوبات يمكن ان تُفرض استنادا الى هذين القرارين.
- لقد صدر القرار بإجماع أصوات الدول الخمسة عشرة رغم ما حكيَّ عن معارضة كل من بكين وموسكو لمشروع القرار الأساسي،وعلى الرغم من موافقة هاتين الأخيرتين في التصويت الا ان الامر كان مشروطا بوجوب التعاون السوري مع لجنة التحقيق ودون شروط، ما يشير الى عدم امكانية استمرار الدعم الروسي والصيني لسوريا لاحقا.
- ان المدة الممنوحة عمليا لدمشق في هذا السياق هي مهلة وجيزة لا تتجاوز الخامس عشر من كانون الأول القادم، وهي مهلة ضاغطة بحيث يصعب تصوّر أي تضييع للوقت وسط ضغوط البنود الباقية ومطالباتها الدقيقة التي لا تحتمل التأويل او التفسير، كما ان المهلة نفسها ربما تكون أقصر من ذلك في حال كان تقييم سلوك سوريا سلبيا من قبل اللجنة وعلى أي حال فهو بمثابة إنذار أخير.
- لقد وضع هذا القرار سوريا في عين العاصفة بعدما تبنى مجلس الأمن تقرير لجنة التحقيق الدولية وما أتى به، لجهة الاشتباه الذي يصل الى حد الاتهام وبذلك يعتبر القرار بمثابة القرار الظني الذي يستوجب المتابعة من إجراءات تحقيق وغيره كما ورد في المادة الثانية، ورغم ذلك فالقرار اشار في الفقرة الرابعة من الديباجه "أن التحقيق لم يتم الانتهاء منه بعد".
- ان اخطر ما ورد في القرار وضع سوريا في طريق التدويل المتقاطع مع مظاهر نزع السيادة، ذلك ما ورد في الفقرة (أ) من المادة الثالثة عبر اقامة شكل من اشكال الانتداب اللبناني على سوريا، فهو إذ يطالب بمنع سفر أشخاص أو تجميد أموالهم يحيل تحديد هوية هؤلاء إلى "اللجنة" أو "الحكومة اللبنانية"وهو ما يعتبر ايضا ربط نزاع يضاف الى سلسلة مشاريع الإشكالات في العلاقات اللبنانية - السورية القائمة حاليا.
- ومن مظاهر امكانية اختراق السيادة او الأماكن ذات الطابع السيادي، ما ورد في المادة الحادية عشرة لا سيما الفقرة (ب) :" يكون للجنة، في علاقاتها بسوريا، نفس الحقوق والسلطات المذكورة في الفقرة 3 من القرار 1595 2005 ، أي " في سبيل ضمان فاعلية اللجنة خلال اضطلاعها بمهماتها، يجب ان تحظى اللجنة بالتعاون الكامل من السلطات السورية، بما في ذلك الوصول الكامل الى كل المعلومات والأدلة من وثائق وافادات ومعلومات وادلة حسية متوافرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق" و" تملك اللجنة سلطة جمع اي معلومات وادلة اضافية، من وثائق ومعلومات وادلة حسية على حد سواء، ذات صلة بهذا العمل الارهابي، وكذلك مقابلة كل المسؤولين والاشخاص الآخرين في سوريا، عندما ترى اللجنة ان المقابلة ذات صلة بالتحقيق" و" تتمتع اللجنة بحرية التنقل في كامل الاراضي السورية ، بما في ذلك الوصول الى كل الاماكن والمنشآت التي ترتئي اللجنة انها ذات صلة بالتحقيق".
- ان مقاربة النصوص الواردة في القرارين 1595 و 1636 تظهر التشدد الواضح في الثاني مقارنة بالاول،علاوة على ان الاول قد حفظ ولو شكليا احترام السيادة اللبنانية في معرض تنظيم عمل اللجنة ، فيما الثاني لم يشر الى هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، بل اكتفى بتحديد كيفية التعاون من قبل سوريا مع اللجنة عبر الإحالة الى المادة الثالثة من القرار 1595 مع إسقاط أي اعتبار للسيادة.
- ومن حيث الصلاحيات التي تعتبر استثنائية على حساب السيادة السورية ما أعطيَّ للجنة ،وهي بوصفها لجنة لا نظام داخلي لها ولا آلية عمل محددة بل فريق عمل اشهرهم رئيسه، ما يعزز الانطباع بأن سلوك اللجنة ربما يكون مرتبطا بأمور اخرى وربما تخرج ايضا عن نطاق تحكّمها او التاثير فيها.
- لفد رتّب القرار سندا هاما للبنان في تغيير البيئة الامنية والقضائية التي سادت قبلا، فقد اقرَّ في الفقرة السادسة من الديباجة توصية لجنة التحقيق لجهة "الحاجة الى استمرار تقديم المساعدة الدولية الى السلطات اللبنانية ومعاونتها على كشف كل خفايا هذا العمل الإرهابي" وتضيف نفس الفقرة : "بأنه من الضروري أن يقوم المجتمع الدولي بجهد متواصل لإقامة برنامج للمساعدة والتعاون مع السلطات اللبنانية في ميدان الأمن والعدالة".
س - ما هي آثار التقرير في كل من سوريا ولبنان.
ج - لقد اتي القرار بصيغٍ مُحكمةٍ ومتشددة بحيث يصعب التفلّت من الالتزامات المفروضة فيه لجهة التعاون والمدة، وعليه ان التعاطي مع كيفية التنفيذ ونوعية التعاون تتطلب حكمة وتبصرا بالغتين باعتبار ان مرامي القرار ربما تكون له أبعادا كثيرة غير معلنة،واذا كان هناك ثمة وجهة نظر سورية تتوافق مع التوجس من هذه الخلفيات،فان إبعاد الأخطار تستوجب التعامل بطرق مختلفة عما اعتادت عليها دمشق سابقا؛فلا الظروف الإقليمية ولا الدولية مهيأة لتقديم المزيد من الفرص،كما ان الوضع السوري ليس بموقع قادر على تغيير موازين قوى او فرض تسويات.
وفي الجانب اللبناني المعني الأساس بالأهداف الحقيقية للقرار وهي كشف ملابسات الجريمة، يبدو أن الأمر يستلزم دقة متناهية في التعاطي مع مندرجات القرار، بحيث لا يُسمح للاستثمار السياسي ان يكون فاعلا في الاستفادة من تقاطع النية في كشف الجريمة مع المطالبة في الاقتصاص من سوريا على مواقفها وسياساتها الإقليمية، فالدول الصغيرة غالبا ما تدفع الثمن في حسابات الكبار دون الإلتفات إلى مصالحها الخاصة حتى وان كانت بمستوى جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما له من وزن دولي فاق حجم لبنان والمنطقة.
ان سياسة حفة الهاوية المعتمدة في المنطقة منذ زمن بعيد مرشحة للاستمرار بمزيد من الضغوط المترجمة بقرارات دولية كالقرار 1636 وما سيستتبعه لاحقا، وحتى لا يصبح هذا القرار مدخلا لفوضى بناءة في العديد من دول المنطقة على المعنيين به وجوب قراءته بتأنٍ، وترجمة هذه القراءة بمواقف مدروسة توصل الى حقيقة الاغتيال وتبعد فِتن الاقتتال
س – كما يبدو من مضمون القرار انه اعتمد في حيثياته الاساسية على تقرير المحقق الدولي ديتيلف ميليس،برأيكم هل يعتبر هذا التقرير وليد الظروف التي سبقته وما هو مضمونه وخلفياته؟
ج - بصرف النظر عن التوقيت المُحكم الذي صدر به تقرير ديتليف ميليس،فان ما جاء به يؤكد معطيات وظروف المرحلة التي سبقته،بمعنى وان علّق اللبنانيون وغيرهم الكثير من الآمال عليه،فلم يعطِ جديدا سوى بعض المفاصل التي تبدو مهمة رغم عدم نهائيتها باعتراف صاحب التقرير نفسه،ومهما يكن من امر الاهداف التي وقفت وراء تلك الصيغة او الصِيغ المسربة،فان التدقيق في بعض ما جاء به يؤسس لمرحلة لاحقة لا تقل اهمية وحسساسية عن التي سبقته،وفي هذا السياق يمكن تسجيل التالي:
- يعتبر التقرير من حيث الشكل اكثر من تقرير اجرائي وأقل من تنفيذي،بمعنى وان اتى مفصلا في بعض المواقع الا انه من الناحية العملية تكملة للتقرير الاجرائي الاول،وعلى الرغم من هذا التفصيل الوارد في بعض هذه المواقع الا انه لم يصل الى حد اعتباره نهائيا وقابلا للتنفيذ.
- ومن حيث الشكل ايضا يقسم التقرير الى شق لبناني وآخر غير لبناني وتحديدا سوري وفلسطيني.ففي الاول وضوح في سرد المعلومات والشهادات وفي الثاني سرد لبعض الوقائع والشهادات المتصلة وحذف لبعضها دون تبرير واضح ومعلل رغم اهمية الموضوع ووجوب الوقوف عنده.
- اما في المضمون،فقد أظهر التقرير العديد من القرائن التي توحي الى حد الاتهام الاجهزة الامنية اللبنانية والسورية في عملية الاغتيال وهو وان سمى البعض فقد حُذف بعضها الآخر دون ان يتمكن صاحب التقرير من التبرير المقنع،ما يوحي بخلفيات كثيرة يمكن ان تُستغل وتُستثمر سياسيا من جميع الافرقاء دون استثناء.
- وان ركّز التقرير على الاجهزة الامنية في كلا البلدين فقد حاول الايحاء من خلال بعض العبارات والمعاني وعبر كيفية سرد بعض القرائن،امكانية ادخال بعض المواقع السياسية في البلدين ضمن دائرة الشبهات.وعلى الرغم من نفي ميليس لذلك فقد ابقى الباب مفتوحا للعديد من الاجتهادات والتأويلات حول بعض الصِيغ او الاشارات الواردة في التقرير.
- وعلى الرغم من الضجة التي اثيرت لجهة صحة شهادة احد الشهود وملاءتها القانونية ، فقد ظّلت ركنا من الاركان الاساسية للتقرير،وعلى الرغم من عدم ظهور قرائن الهواتف الخلوية واتصالاتها قبل الجريمة وبعدها سوى قبل اعداد التقرير بفترة وجيزة،فقد شكّلت هذه القرائن في نظر التقرير ادلّة لا يرقى الشك اليها من خلال تسريب بعض كلمات او عبارات وردت بها دون الافصاح عما ورد بها تحديدا، وهو اسلوب شائع بين المحققين بغية عدم ايضاح الواقعة ولهدف استكشاف المزيد ومعرفة ردود الفعل عليها،وهذا ما بدا جليا من خلال اسلوب عمل ميليس نفسه ونجاحه الى حد بعيد في مثل تلك الطرق.
- ورغم كل ما ورد فيه من تفصيل ممل في بعض المواقع واقتضاب مثير للتأويل في بعضه الآخر، ورغم القرائن التي سُردت بشكل ادلّة دامغة،فقد اكد ميليس ان قرينة البراءة قائمة بمن فيهم الجنرالات الاربعة الموقوفون.وعلى الرغم من تأكيد حذف بعض الوقائع والاسماء وتبرير ميليس لذلك، ظل في التقرير الكثير من علامات الاستفهام التي يمكن التوقف عندها ووجوب متابعتها باعتراف ميليس نفسه.
س – برأيكم ما هي تداعيات هذا التقرير على لبنان؟
ج - ان مجمل تلك النقاط قد رسمت خارطة طريق للمرحلة القادمة اقله حتى منتصف كانون الاول المقبل وعليه فان جملة تداعيات ستحصل على الصعيدين اللبناني والاقليمي، ففي الشق اللبناني يمكن تسجيل الآتي:
- لقد شكل صدور التقرير بداية لتموضع سياسي جديد في لبنان سيعيد خلط الاوراق وربما التحالفات في فترات لاحقة على قاعدة الفرز الذي سيحصل نتيجة تباين بعض مواقف الاطراف الرئيسة من بعض القضايا الناشئة التي اظهرها التقرير لا سيما اتهام سوريا والموقف من الضغوط الدولية عليها.
- كما ان التقرير سيزيد من حماسة الاستقطاب السياسي نحو بعض الملفات الداخلية لا سيما المواقع الدستورية،ومحاولة اطراف بتسريع وتيرة المطالبة بالتغييرات المفترضة على قاعدة الاغلبية بعد الانتخابات النيابية وما افرزتها .
- وان كانت الحقيقة ووجوب اظهارها مطلبا يُجمع اللبنانيون عليه الا ان الوسيلة لاظهار تلك الحقيقة ستكون مظهرا للتباين،فرغم اشارة التقرير لامكانية متابعة الملف لاحقا عبر السلطات القضائية والامنية اللبنانية بمساعدة دولية ثمة تصميم من بعض الاطراف على محكمة دولية يقابله آخر على وجوب التريث وعدم الممانعة ان اقتضت الضرورة لذلك،واللافت في هذا السياق ان التقرير رغم وضوحه في النص على امكانية المساعدة الدولية الا ان معطياته وتداعياته ستتجه نحو محكمة مختلطة لبنانية – دولية ترضي طرفا وتفسح مجالا لمخرجٍ للطرف الآخر.
- وان كان اللبنانيون جميعا هم فعلا وواقعا متضررون من الاختلالات الامنية،فان كثيرا من الاطراف غير اللبنانية ستجد مساحة واسعة لتنفيذ واستثمار هذه الاختلالات لاهداف متعددة ومتنوعة قابلة للصرف المحلي والاقليمي.
- لقد وضع التقرير بشكل او بآخر رابطا معنويا وموضوعيا بين القرار 1595 و1559 ، بحيث ان تقرير القرار الأول سيساعد كثيرا في ايجاد البيئة لمحاولة تنفيذ القرار الثاني رغم ارتباطه بظروف اخرى.
س – وهل برأيكم سيكون له تداعيات اقليمية وبخاصة سورية اكبر؟
واذا كانت تداعيات التقرير على الواقع اللبناني تبدو بهذه الحساسية في بعض الجوانب،فان تداعياته الاقليمية لا تقل حراجة ودقة،فما اسسَّ له التقرير قد وضع المنطقة على مفترق طرق خطر جدا تبدو فيه الخيارات محدودة ان لم تكن معدومة،وهي بالضرورة تتطلب قراءات متأنية ومدروسة،وفي الشق الاقليمي يمكن تسجيل التالي:
- لقد وضع التقرير سوريا في عين العاصفة وفتح ابوابا مشرعة على احتمالات كثيرة اقلها ملامسة النظام السياسي بعد الامني، وشكّل البيئة القانونية الضاغطة على سوريا والمنطقة عبر مشروع القرار الامريكي الفرنسي في مجلس الامن وتحديدا من باب الفصل السابع.
- وعلى الرغم من شدة الضغوط فان التقرير وما افرزه من مواقف دولية قد ظهَّر انطباعا بأن وقتا اضافيا قد يبدو ضائعا أُعطيَّ لدمشق،لا لايجاد المخارج بقدر ما هو إتقاء الضغوط المقابلة من بعض القوى الكبرى كروسيا والصين اذا تمكنت سوريا من حسم بعض خياراتها باتجاه استثمار علاقة طهران بهاتين القوتين.بمعنى ان هذا الخيار ليس ملكا لسوريا ولا تملك القدرة منفردة على استثماره بمعزل عن الرغبة والقدرة الايرانية وما لهذه الاخيرة من مصلحة في الدعم او عدمه على قاعدة استثماره في مندرجات القرار 1559 وما يشكله من ربط بالملف النووي.
- ان ذكر الجبهة الشعبية – القيادة العامة في التقرير وان كان بشكل عرضي رغم توضيح ميليس لهذا التظهير، الا انه من الناحية العملية يشكل حالة ربط نزاعٍ مع مندرجات القرار 1559 المتعلق بالسلاح الفلسطيني وقد بدأت آليات هذا الربط وعِدّته اذا جاز التعبير بالظهور.
- وفي المقلب الآخر،فان التقرير لم يذكر اسرائيل لا من قريب ولا من بعيد،بل ان التوضيحات وردود الفعل على التقرير قد وضعها فوق الشبهات كما مكّنها من الظهور بمظهر القادرة على اعطاء المعلومات والقرائن وحتى الأدلة للفصل في هذا اللغز المحيّر!
ان جريمة بهذا الحجم من الاستهدافات وما يتقاطع فيها،تتطلب تحقيقا وبالتالي تقريرا ومحكمة وقرارا اكبر بكثير من الجهد والموضوعية المبذولين.صحيح ان ميليس نفسه قد اعترف بأنه لم يكن قادرا على اعطاء اكثر من ذلك في هذه المدة والظروف المحيطة وان الامر يتطلب المزيد من الوقت والجهد الذي سيمتد ربما الى سنوات؛ لكن الصحيح ايضا ان لبنان.
س – ذكرتم في معرض تحليلكم للتقرير ان ثمة مؤشرات لمتابعة القضاء اللبناني بمساعدة دولية لكشف ملابسات جريمة الاغتيال،برأيكم ما هي خيارات لبنان القانونية في هذا المجال؟
ج - من الواضح ان توصية التقرير بمتابعة الموضوع لبنانيا مع مؤازرة دولية لا يعتبر تنصلا من الموضوع وانما الابتعاد عن بعض الخيارات الاخرى التي تعتبر مكلفة من الناحية المادية للامم المتحدة كمثال المحكمة الدولية الخاصة كالتي اُنشِأت لمحاكمة زعماء يوغسلافيا السابقة،وا غيرها من الخيارات كمحكمة الجزاء الدولية التي دونها بعض العقبات،ويبدو ان نظرة تقريبية لما يمكن ان تصل اليها المواقف في لبنان من المرجح ان تؤول الى الاتفاق على محكمة مختلطة للعديد من الاعتبارات من بينها ان تفسير توصية التقرير هي الاقرب لهذه المحكمة،وايضا باعتبارها من الممكن ان تكون حلا توفيقيا بين مختلف الفرقاء.فما هي سوابق هذه المحاكم وما هي ميّزاتها؟وهل من الممكن ان تتطابق او تتوافق مع احتياجات الوصول الى الحقيقة في لبنان؟
هناك عدة سوابق في هذا المجال،كان آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة الى الخمير الحمر ابان الحرب الاهلية الكمبودية بين الاعوام 1975و1979،وقد صدر قرار عن الامم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكمومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من اجراءات ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين،وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبرغرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية.كما ان تعيين القضاة الاجانب يتم من قبل المجلس العدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الامين العام للامم المتحدة،واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالاجماع في المستويين واذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية.اضافة الى ان الاجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع اجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الاخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الامن 1315 تاريخ 14/7/2000 ،وقد انشأت في العام 2002 مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للتظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996،مع ملاحظة بعض التعديلات ايضا على القوانين الوطنية بما تتوافق والمعايير الدولية لاجراءات المحاكمة والاحكام.
اما السايقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الامن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/ 1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة،بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الانسانية المرتكبة منذ العام 1975 ،وعمدت الأمم المتحدة على إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
واذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في الحالة اللبنانية كمحكمة مختلطة تنعقد على الاراضي اللبنانية،فتستلزم العديد من الاجراءات اولها قرار من مجلس الامن باعتباره اكمالا لمندرجات القرار 1595 أاضافة الى ابرام اتفاق بهذا الشأن بين الحكومة اللبنانية والامم المتحدة والذي لا يصبح نافذا الا بابرام مجلس النواب له وفقا لنص المادة 52 من الدستور اللبناني.كما يتوجب على المجلس النيابي اصدار قانون خاص مراعاة للمادة 20 من الدستور التي تنص على " السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة". وكذلك منع قوانين العفو ووقف العمل بالحصانات القضائية،وكذلك تحديد مدة التوقيف الاحتياطي في جرائم القتل والجرائم ضد امن الدولة والجرائم المسماة خطرة.كما تتطلب مثل هذه المحاكم تعديلات لبعض القوانين لتتلاءم مع المعايير الدولية كالغاء عقوبة الاعدام.
واذا كان هناك من سبب يمكن ان تواجه انعقاد المحكمة المختلطة على الاراضي اللبنانية لدواع مختلفةـ فمن الممكن انعقادها خارج لبنان وهو امر بدوره يستلزم بعض الاجراءات ومنها، وجوب توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة توضع بموجبه أصول المحاكمة وقواعدها وتحدد فيه صلاحية المحكمة المادية والشخصية والزمنية.على ان ينص الاتفاق على تطبيق الأصول والاجراءات الجزائية اللبنانية مع بعض التعديلات التي تقتضيها المحاكمات المتوافقة مع المعايير الدولية والتي تتطلبها المحاكمة العادلة، والمراجعة أمام هيئة قضائية عليا . وكذلك توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة على أن تمنح المحكمة المختلطة حق إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين مهما كانت جنسياتهم وعلى أن تتولى الأمم المتحدة مهمة التفاوض مع الدول التي يتبيّن أن أحد رعاياها ضالع في عملية الاغتيال أو التفجيرات وذلك بهدف تسليمه إلى المحكمة المذكورة.اضافة الى قضايا التعوشات الناجمة عن الاذى الذي لحق بالمتضررين من جريمة الاغتيال.
طبعا هناك العديد من الخيارات القانونية المتاحة امام لبنان،منها المحاكمة امام المجلس العدلي اللبناني،لكن دونه عقبات لاسيما لجهة تحفط الفريق المطالب بمحكمة دولية خاصة وفي هذا الاطار له بعض المبررات،ولكن مهما يكن من امر فان الخيارات جميعها ليست سهلة وليست بالضرورة القادرة على الوصول الى الحقيقة المطلقة بجريمة الاغتيال،سيما وان بعض الجرائم الكبيرة غالبا ما تتقاطع مصالح دول كبرى فيها ما يعقّد الكثير من الاجراءات لفك ملابساتها ورموزها.
ومهما يكن من شكل المحكمة والاجراءات التي ستتبعها للوصول الى الحقيقة،فان الرئيس رفيق الحريري قد ذهب بأبشع جرائم العصر،وان المهم في هذا الامر ليس كشف الحقيقة فقط وانما العمل على تحصين الوحدة الوطنية اللبنانية التي كانت همّ الشهيد الدائم ولأنها اولوية من اولوياته قد ذهب ضحيتها كغيره من كبار لبنان.
الدكتور خليل حسين
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
س - ما هي برأيكم الظروف الاقليمية والدولية التي ادت الى صدور القرار 1636؟
ج - لقد بات واضحا ان صدور القرار 1636 بهذا الشكل والمضمون لم يكن سوى قيمة اضافية للبيئة القانونية والسياسية التي رسمتها مجموعة القرارات الصادرة قبلا، بدءا بالقرار 1373 و1566 مرورا بالـ 1559 و1595 وصولا الى 1614، كما أصبح من باب أولى تفسير صيغة القرار الأخير على انه مقدمة لسلسلة قرارات آتية تترجم الصيغة التنفيذية لخارطة الطريق الامريكية التي رسمتها للمنطقة بعد احتلال كل من أفغانستان والعراق بحيث لم يعد سوى سوريا ولبنان والملف النووي الإيراني خارج أطار النفوذ الفعلي لمشروع الشرق الأوسط الكبير.وعليه فإن القرار 1636 يبدو مشروعا متطابقا للعديد من المحاولات الأمريكية السابقة كقانون العقوبات على سوريا وصولا إلى مشروع القانون الأمريكي لتحرير لبنان وسوريا الذي طرح في الكونغرس الأمريكي في نيسان الماضي.وعلى الرغم من أن الأهداف المعلنة للقرار هي جلاء الحقيقة لجريمة العصر، وهو مطلب يُجمع اللبنانيون عليه كما العالم بأسره، فإن خلفياته ومراميه البعيدة المدى من الصعب فصلها عما يؤسس للمنطقة وبوتيرة متسارعة، وثمة جملة اعتبارات وعوامل مختلفة ومتنوعة أسهمت في إيصال الأمور الى ما وصلت اليه ، بدءا بالضغوط المتواترة على المنطقة مرورا بالسياسات السورية المعتمدة في بعض الملفات الاساسية والفرعية وصولا الى اثر هذه السياسات واسقاطاتها في الساحة اللبنانية وما نتج عنها لاحقا بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري،وفي هذا الاطار يمكن تسجيل العديد من الملاحظات منها:
- لم تعد أهداف وثيقة الأمن القومي الامريكي خافية على احد فهي وان بوشر في تنفيذها علنا بعد 11 ايلول 2001 الا ان جذورها تعود الى ما قبل ولاية جورج بوش الابن، وبهذا المعنى ان الضغوط التي تراكمت على المنطقة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي تعبّر بشكل او بآخر عن فشل مشروع الشرق اوسطية الداعي الى ادخال اسرائيل ضمن نظام اقليمي ينهي النظام الاقليمي العربي، وبهذا المعنى ايضا اتى المشروع الامريكي للاصلاح ونشر الديموقراطية في اطار مسعى موازٍ لمشروع الشرق الاوسط الكبير الذي مانعته كل من سوريا وايران ولبنان؛ الامر الذي دفع واشنطن للعمل بقوة لإزالة العقبات بدءا بالضغوط السياسية والاقتصادية وصولا الى التلميح بقلب الانظمة ولو عسكريا اذا اقتضى الامر كما حدث في افغانستان والعراق.
- وعلى الرغم من وضوح السياسات الامريكية في المنطقة ظلت القوى الرئيسة في المنطقة تعمل في نفس عدة الشفل اذا جاز التعبير رغم تغيّر الظروف والموازين ومن تلك القوى سوريا.وبصرف النظر عن القدرة او الرغبة في تحسين وتطوير اساليب العمل في العلاقات الدولية والاقليمية وبخاصة في الساحة اللبنانية فان دمشق استمرت في تعاطيها مع الملفات اللبنانية بطريقة يسهل استغلالها لغير مصلحتها، أي بمعنى ان الكثير من الملفات التي تضررت منها ولم تكن مستفيدة ايضا منها أُلصقت نتائجها بها وفي مقدمها جريمة الاغتيال وتداعياتها المختلفة كخسارة الورقة اللبنانية وما لها من ثقل استراتيجي في السياسة الخارجية السورية.
- وفي لبنان المعني الرئيس بنتائج هذه السياسات وآثارها، فقد تجمّعت على مدى ثلاثة عقود أخطاء ما يكفي لإيجاد بيئة قوية لقلب موازين قوى حاولت دمشق جاهدة فرضها منذ العام 1991، حتى أتت جريمة الاغتيال لتكون الشعرة التي قَسَمّت ظهر البعير، ورغم التموضع السياسي الناشيء فقد اجتمع اللبنانيون على وجوب كشف حقيقة الاغتيال وربما سيفترقون حول خلفيات الاغتيال ومن بينها المواقف من القرار 1636 .
- وفي المقلب الآخر حيث إسرائيل المعتادة على استثمار أخطاء العرب تمكّنت هذه المرة أيضا من استثمار فرصة العمر بوضع نفسها فوق الشبهات في جريمة الاغتيال بل باتت مصدرا موثوقا للمعلومات ومكانا لا تحوم حوله الشبهات.
س - إذا كانت هذه المعطيات برأيكم قد أسهمت في صدور القرار فما هي حيثياته شكلا ومضمونا ؟
ج - في الواقع يمكن ادراج العديد من الملاحظات في هذا المجال والتي تشير الى مضمون القرار وما اتى به والتي توضح ايضا بشكل لا يقبل الشك بأنه على درجة كبيرة من الخطورة تتجاوز كل القرارات السابقة وما نتج عنها وأبرز ما جاء به:
- بعد سلسلة مشاورات اقليمية ودولية منها العربي ومنها الروسي والصيني وربما الايراني مع بكين لما لها من عقود نفطية تقدر بسبعين مليار دولار،تجاوز مجلس الامن صيغة القرار الأصلي، وتوصّل الى قرار لم يصل الى حد فرض العقوبات على دمشق وانما أبقى السيف مسلطا ومرهونا بمدى التعاون السوري الذي يجب ان يكون غير مشروط وفقا لمتطلبات قرار.مجلس الامن.
- ورغم ان العقوبات لم ترد في نص القرار الا ان الصياغة التي اتت بها بعض البنود تشير الى تهديد يُستشف منه ان المتابعة اللاحقة ستكون اشد قسوة واكثر فعالية. فالقرار وفقا لمنطوقه اتى ضمن الفصل السابع من الميثاق الذي يستوجب تطبيقه بالقوة اذا لزم الامر ولا يتطلب موافقة الدولة صاحبة العلاقة به، وعلى الرغم من ان الصيغة الاساسية كانت قد استندت في الفقرة الاخيرة على ان هذا القرار يستند الى المادة 41 من الميثاق،أي التدرج في العقوبات بدءا من الاقتصادية مرورا بقطع الاتصالات البرية والبحرية والجوية وصولا الى قطع العلاقات الدبلوماسية، فإن الصيغة الأصلية ايضا والتي صُرف النظر عنها كانت ترمي بشكل او بآخر الى المادة 42 من الميثاق ،أي استعمال القوة للتنفيذ وهي اشد انواع التنفيذ ضد أي دولة تهدد السلم والامن الدوليين كما جاء في العديد من فقرات القرار.
- وللتأكيد على ما سبق لجهة نية مجلس الامن التشدد في هذا المجال ما استند اليه القرار كذلك في ديباجته من الاشارة الى القرارين 1373 لعام 2001 و1566 لعام 2004 المتعلقين بالاعمال الارهابية وتهديد الامن والسلم الدوليين، واللذين يجبرا جميع الدول المنضمة الى الامم المتحدة كما التي خارجها وجوب تقديم كل التسهيلات الممكنة لتطبيق أي عقوبات يمكن ان تُفرض استنادا الى هذين القرارين.
- لقد صدر القرار بإجماع أصوات الدول الخمسة عشرة رغم ما حكيَّ عن معارضة كل من بكين وموسكو لمشروع القرار الأساسي،وعلى الرغم من موافقة هاتين الأخيرتين في التصويت الا ان الامر كان مشروطا بوجوب التعاون السوري مع لجنة التحقيق ودون شروط، ما يشير الى عدم امكانية استمرار الدعم الروسي والصيني لسوريا لاحقا.
- ان المدة الممنوحة عمليا لدمشق في هذا السياق هي مهلة وجيزة لا تتجاوز الخامس عشر من كانون الأول القادم، وهي مهلة ضاغطة بحيث يصعب تصوّر أي تضييع للوقت وسط ضغوط البنود الباقية ومطالباتها الدقيقة التي لا تحتمل التأويل او التفسير، كما ان المهلة نفسها ربما تكون أقصر من ذلك في حال كان تقييم سلوك سوريا سلبيا من قبل اللجنة وعلى أي حال فهو بمثابة إنذار أخير.
- لقد وضع هذا القرار سوريا في عين العاصفة بعدما تبنى مجلس الأمن تقرير لجنة التحقيق الدولية وما أتى به، لجهة الاشتباه الذي يصل الى حد الاتهام وبذلك يعتبر القرار بمثابة القرار الظني الذي يستوجب المتابعة من إجراءات تحقيق وغيره كما ورد في المادة الثانية، ورغم ذلك فالقرار اشار في الفقرة الرابعة من الديباجه "أن التحقيق لم يتم الانتهاء منه بعد".
- ان اخطر ما ورد في القرار وضع سوريا في طريق التدويل المتقاطع مع مظاهر نزع السيادة، ذلك ما ورد في الفقرة (أ) من المادة الثالثة عبر اقامة شكل من اشكال الانتداب اللبناني على سوريا، فهو إذ يطالب بمنع سفر أشخاص أو تجميد أموالهم يحيل تحديد هوية هؤلاء إلى "اللجنة" أو "الحكومة اللبنانية"وهو ما يعتبر ايضا ربط نزاع يضاف الى سلسلة مشاريع الإشكالات في العلاقات اللبنانية - السورية القائمة حاليا.
- ومن مظاهر امكانية اختراق السيادة او الأماكن ذات الطابع السيادي، ما ورد في المادة الحادية عشرة لا سيما الفقرة (ب) :" يكون للجنة، في علاقاتها بسوريا، نفس الحقوق والسلطات المذكورة في الفقرة 3 من القرار 1595 2005 ، أي " في سبيل ضمان فاعلية اللجنة خلال اضطلاعها بمهماتها، يجب ان تحظى اللجنة بالتعاون الكامل من السلطات السورية، بما في ذلك الوصول الكامل الى كل المعلومات والأدلة من وثائق وافادات ومعلومات وادلة حسية متوافرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق" و" تملك اللجنة سلطة جمع اي معلومات وادلة اضافية، من وثائق ومعلومات وادلة حسية على حد سواء، ذات صلة بهذا العمل الارهابي، وكذلك مقابلة كل المسؤولين والاشخاص الآخرين في سوريا، عندما ترى اللجنة ان المقابلة ذات صلة بالتحقيق" و" تتمتع اللجنة بحرية التنقل في كامل الاراضي السورية ، بما في ذلك الوصول الى كل الاماكن والمنشآت التي ترتئي اللجنة انها ذات صلة بالتحقيق".
- ان مقاربة النصوص الواردة في القرارين 1595 و 1636 تظهر التشدد الواضح في الثاني مقارنة بالاول،علاوة على ان الاول قد حفظ ولو شكليا احترام السيادة اللبنانية في معرض تنظيم عمل اللجنة ، فيما الثاني لم يشر الى هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، بل اكتفى بتحديد كيفية التعاون من قبل سوريا مع اللجنة عبر الإحالة الى المادة الثالثة من القرار 1595 مع إسقاط أي اعتبار للسيادة.
- ومن حيث الصلاحيات التي تعتبر استثنائية على حساب السيادة السورية ما أعطيَّ للجنة ،وهي بوصفها لجنة لا نظام داخلي لها ولا آلية عمل محددة بل فريق عمل اشهرهم رئيسه، ما يعزز الانطباع بأن سلوك اللجنة ربما يكون مرتبطا بأمور اخرى وربما تخرج ايضا عن نطاق تحكّمها او التاثير فيها.
- لفد رتّب القرار سندا هاما للبنان في تغيير البيئة الامنية والقضائية التي سادت قبلا، فقد اقرَّ في الفقرة السادسة من الديباجة توصية لجنة التحقيق لجهة "الحاجة الى استمرار تقديم المساعدة الدولية الى السلطات اللبنانية ومعاونتها على كشف كل خفايا هذا العمل الإرهابي" وتضيف نفس الفقرة : "بأنه من الضروري أن يقوم المجتمع الدولي بجهد متواصل لإقامة برنامج للمساعدة والتعاون مع السلطات اللبنانية في ميدان الأمن والعدالة".
س - ما هي آثار التقرير في كل من سوريا ولبنان.
ج - لقد اتي القرار بصيغٍ مُحكمةٍ ومتشددة بحيث يصعب التفلّت من الالتزامات المفروضة فيه لجهة التعاون والمدة، وعليه ان التعاطي مع كيفية التنفيذ ونوعية التعاون تتطلب حكمة وتبصرا بالغتين باعتبار ان مرامي القرار ربما تكون له أبعادا كثيرة غير معلنة،واذا كان هناك ثمة وجهة نظر سورية تتوافق مع التوجس من هذه الخلفيات،فان إبعاد الأخطار تستوجب التعامل بطرق مختلفة عما اعتادت عليها دمشق سابقا؛فلا الظروف الإقليمية ولا الدولية مهيأة لتقديم المزيد من الفرص،كما ان الوضع السوري ليس بموقع قادر على تغيير موازين قوى او فرض تسويات.
وفي الجانب اللبناني المعني الأساس بالأهداف الحقيقية للقرار وهي كشف ملابسات الجريمة، يبدو أن الأمر يستلزم دقة متناهية في التعاطي مع مندرجات القرار، بحيث لا يُسمح للاستثمار السياسي ان يكون فاعلا في الاستفادة من تقاطع النية في كشف الجريمة مع المطالبة في الاقتصاص من سوريا على مواقفها وسياساتها الإقليمية، فالدول الصغيرة غالبا ما تدفع الثمن في حسابات الكبار دون الإلتفات إلى مصالحها الخاصة حتى وان كانت بمستوى جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما له من وزن دولي فاق حجم لبنان والمنطقة.
ان سياسة حفة الهاوية المعتمدة في المنطقة منذ زمن بعيد مرشحة للاستمرار بمزيد من الضغوط المترجمة بقرارات دولية كالقرار 1636 وما سيستتبعه لاحقا، وحتى لا يصبح هذا القرار مدخلا لفوضى بناءة في العديد من دول المنطقة على المعنيين به وجوب قراءته بتأنٍ، وترجمة هذه القراءة بمواقف مدروسة توصل الى حقيقة الاغتيال وتبعد فِتن الاقتتال
س – كما يبدو من مضمون القرار انه اعتمد في حيثياته الاساسية على تقرير المحقق الدولي ديتيلف ميليس،برأيكم هل يعتبر هذا التقرير وليد الظروف التي سبقته وما هو مضمونه وخلفياته؟
ج - بصرف النظر عن التوقيت المُحكم الذي صدر به تقرير ديتليف ميليس،فان ما جاء به يؤكد معطيات وظروف المرحلة التي سبقته،بمعنى وان علّق اللبنانيون وغيرهم الكثير من الآمال عليه،فلم يعطِ جديدا سوى بعض المفاصل التي تبدو مهمة رغم عدم نهائيتها باعتراف صاحب التقرير نفسه،ومهما يكن من امر الاهداف التي وقفت وراء تلك الصيغة او الصِيغ المسربة،فان التدقيق في بعض ما جاء به يؤسس لمرحلة لاحقة لا تقل اهمية وحسساسية عن التي سبقته،وفي هذا السياق يمكن تسجيل التالي:
- يعتبر التقرير من حيث الشكل اكثر من تقرير اجرائي وأقل من تنفيذي،بمعنى وان اتى مفصلا في بعض المواقع الا انه من الناحية العملية تكملة للتقرير الاجرائي الاول،وعلى الرغم من هذا التفصيل الوارد في بعض هذه المواقع الا انه لم يصل الى حد اعتباره نهائيا وقابلا للتنفيذ.
- ومن حيث الشكل ايضا يقسم التقرير الى شق لبناني وآخر غير لبناني وتحديدا سوري وفلسطيني.ففي الاول وضوح في سرد المعلومات والشهادات وفي الثاني سرد لبعض الوقائع والشهادات المتصلة وحذف لبعضها دون تبرير واضح ومعلل رغم اهمية الموضوع ووجوب الوقوف عنده.
- اما في المضمون،فقد أظهر التقرير العديد من القرائن التي توحي الى حد الاتهام الاجهزة الامنية اللبنانية والسورية في عملية الاغتيال وهو وان سمى البعض فقد حُذف بعضها الآخر دون ان يتمكن صاحب التقرير من التبرير المقنع،ما يوحي بخلفيات كثيرة يمكن ان تُستغل وتُستثمر سياسيا من جميع الافرقاء دون استثناء.
- وان ركّز التقرير على الاجهزة الامنية في كلا البلدين فقد حاول الايحاء من خلال بعض العبارات والمعاني وعبر كيفية سرد بعض القرائن،امكانية ادخال بعض المواقع السياسية في البلدين ضمن دائرة الشبهات.وعلى الرغم من نفي ميليس لذلك فقد ابقى الباب مفتوحا للعديد من الاجتهادات والتأويلات حول بعض الصِيغ او الاشارات الواردة في التقرير.
- وعلى الرغم من الضجة التي اثيرت لجهة صحة شهادة احد الشهود وملاءتها القانونية ، فقد ظّلت ركنا من الاركان الاساسية للتقرير،وعلى الرغم من عدم ظهور قرائن الهواتف الخلوية واتصالاتها قبل الجريمة وبعدها سوى قبل اعداد التقرير بفترة وجيزة،فقد شكّلت هذه القرائن في نظر التقرير ادلّة لا يرقى الشك اليها من خلال تسريب بعض كلمات او عبارات وردت بها دون الافصاح عما ورد بها تحديدا، وهو اسلوب شائع بين المحققين بغية عدم ايضاح الواقعة ولهدف استكشاف المزيد ومعرفة ردود الفعل عليها،وهذا ما بدا جليا من خلال اسلوب عمل ميليس نفسه ونجاحه الى حد بعيد في مثل تلك الطرق.
- ورغم كل ما ورد فيه من تفصيل ممل في بعض المواقع واقتضاب مثير للتأويل في بعضه الآخر، ورغم القرائن التي سُردت بشكل ادلّة دامغة،فقد اكد ميليس ان قرينة البراءة قائمة بمن فيهم الجنرالات الاربعة الموقوفون.وعلى الرغم من تأكيد حذف بعض الوقائع والاسماء وتبرير ميليس لذلك، ظل في التقرير الكثير من علامات الاستفهام التي يمكن التوقف عندها ووجوب متابعتها باعتراف ميليس نفسه.
س – برأيكم ما هي تداعيات هذا التقرير على لبنان؟
ج - ان مجمل تلك النقاط قد رسمت خارطة طريق للمرحلة القادمة اقله حتى منتصف كانون الاول المقبل وعليه فان جملة تداعيات ستحصل على الصعيدين اللبناني والاقليمي، ففي الشق اللبناني يمكن تسجيل الآتي:
- لقد شكل صدور التقرير بداية لتموضع سياسي جديد في لبنان سيعيد خلط الاوراق وربما التحالفات في فترات لاحقة على قاعدة الفرز الذي سيحصل نتيجة تباين بعض مواقف الاطراف الرئيسة من بعض القضايا الناشئة التي اظهرها التقرير لا سيما اتهام سوريا والموقف من الضغوط الدولية عليها.
- كما ان التقرير سيزيد من حماسة الاستقطاب السياسي نحو بعض الملفات الداخلية لا سيما المواقع الدستورية،ومحاولة اطراف بتسريع وتيرة المطالبة بالتغييرات المفترضة على قاعدة الاغلبية بعد الانتخابات النيابية وما افرزتها .
- وان كانت الحقيقة ووجوب اظهارها مطلبا يُجمع اللبنانيون عليه الا ان الوسيلة لاظهار تلك الحقيقة ستكون مظهرا للتباين،فرغم اشارة التقرير لامكانية متابعة الملف لاحقا عبر السلطات القضائية والامنية اللبنانية بمساعدة دولية ثمة تصميم من بعض الاطراف على محكمة دولية يقابله آخر على وجوب التريث وعدم الممانعة ان اقتضت الضرورة لذلك،واللافت في هذا السياق ان التقرير رغم وضوحه في النص على امكانية المساعدة الدولية الا ان معطياته وتداعياته ستتجه نحو محكمة مختلطة لبنانية – دولية ترضي طرفا وتفسح مجالا لمخرجٍ للطرف الآخر.
- وان كان اللبنانيون جميعا هم فعلا وواقعا متضررون من الاختلالات الامنية،فان كثيرا من الاطراف غير اللبنانية ستجد مساحة واسعة لتنفيذ واستثمار هذه الاختلالات لاهداف متعددة ومتنوعة قابلة للصرف المحلي والاقليمي.
- لقد وضع التقرير بشكل او بآخر رابطا معنويا وموضوعيا بين القرار 1595 و1559 ، بحيث ان تقرير القرار الأول سيساعد كثيرا في ايجاد البيئة لمحاولة تنفيذ القرار الثاني رغم ارتباطه بظروف اخرى.
س – وهل برأيكم سيكون له تداعيات اقليمية وبخاصة سورية اكبر؟
واذا كانت تداعيات التقرير على الواقع اللبناني تبدو بهذه الحساسية في بعض الجوانب،فان تداعياته الاقليمية لا تقل حراجة ودقة،فما اسسَّ له التقرير قد وضع المنطقة على مفترق طرق خطر جدا تبدو فيه الخيارات محدودة ان لم تكن معدومة،وهي بالضرورة تتطلب قراءات متأنية ومدروسة،وفي الشق الاقليمي يمكن تسجيل التالي:
- لقد وضع التقرير سوريا في عين العاصفة وفتح ابوابا مشرعة على احتمالات كثيرة اقلها ملامسة النظام السياسي بعد الامني، وشكّل البيئة القانونية الضاغطة على سوريا والمنطقة عبر مشروع القرار الامريكي الفرنسي في مجلس الامن وتحديدا من باب الفصل السابع.
- وعلى الرغم من شدة الضغوط فان التقرير وما افرزه من مواقف دولية قد ظهَّر انطباعا بأن وقتا اضافيا قد يبدو ضائعا أُعطيَّ لدمشق،لا لايجاد المخارج بقدر ما هو إتقاء الضغوط المقابلة من بعض القوى الكبرى كروسيا والصين اذا تمكنت سوريا من حسم بعض خياراتها باتجاه استثمار علاقة طهران بهاتين القوتين.بمعنى ان هذا الخيار ليس ملكا لسوريا ولا تملك القدرة منفردة على استثماره بمعزل عن الرغبة والقدرة الايرانية وما لهذه الاخيرة من مصلحة في الدعم او عدمه على قاعدة استثماره في مندرجات القرار 1559 وما يشكله من ربط بالملف النووي.
- ان ذكر الجبهة الشعبية – القيادة العامة في التقرير وان كان بشكل عرضي رغم توضيح ميليس لهذا التظهير، الا انه من الناحية العملية يشكل حالة ربط نزاعٍ مع مندرجات القرار 1559 المتعلق بالسلاح الفلسطيني وقد بدأت آليات هذا الربط وعِدّته اذا جاز التعبير بالظهور.
- وفي المقلب الآخر،فان التقرير لم يذكر اسرائيل لا من قريب ولا من بعيد،بل ان التوضيحات وردود الفعل على التقرير قد وضعها فوق الشبهات كما مكّنها من الظهور بمظهر القادرة على اعطاء المعلومات والقرائن وحتى الأدلة للفصل في هذا اللغز المحيّر!
ان جريمة بهذا الحجم من الاستهدافات وما يتقاطع فيها،تتطلب تحقيقا وبالتالي تقريرا ومحكمة وقرارا اكبر بكثير من الجهد والموضوعية المبذولين.صحيح ان ميليس نفسه قد اعترف بأنه لم يكن قادرا على اعطاء اكثر من ذلك في هذه المدة والظروف المحيطة وان الامر يتطلب المزيد من الوقت والجهد الذي سيمتد ربما الى سنوات؛ لكن الصحيح ايضا ان لبنان.
س – ذكرتم في معرض تحليلكم للتقرير ان ثمة مؤشرات لمتابعة القضاء اللبناني بمساعدة دولية لكشف ملابسات جريمة الاغتيال،برأيكم ما هي خيارات لبنان القانونية في هذا المجال؟
ج - من الواضح ان توصية التقرير بمتابعة الموضوع لبنانيا مع مؤازرة دولية لا يعتبر تنصلا من الموضوع وانما الابتعاد عن بعض الخيارات الاخرى التي تعتبر مكلفة من الناحية المادية للامم المتحدة كمثال المحكمة الدولية الخاصة كالتي اُنشِأت لمحاكمة زعماء يوغسلافيا السابقة،وا غيرها من الخيارات كمحكمة الجزاء الدولية التي دونها بعض العقبات،ويبدو ان نظرة تقريبية لما يمكن ان تصل اليها المواقف في لبنان من المرجح ان تؤول الى الاتفاق على محكمة مختلطة للعديد من الاعتبارات من بينها ان تفسير توصية التقرير هي الاقرب لهذه المحكمة،وايضا باعتبارها من الممكن ان تكون حلا توفيقيا بين مختلف الفرقاء.فما هي سوابق هذه المحاكم وما هي ميّزاتها؟وهل من الممكن ان تتطابق او تتوافق مع احتياجات الوصول الى الحقيقة في لبنان؟
هناك عدة سوابق في هذا المجال،كان آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة الى الخمير الحمر ابان الحرب الاهلية الكمبودية بين الاعوام 1975و1979،وقد صدر قرار عن الامم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكمومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من اجراءات ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين،وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبرغرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية.كما ان تعيين القضاة الاجانب يتم من قبل المجلس العدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الامين العام للامم المتحدة،واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالاجماع في المستويين واذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية.اضافة الى ان الاجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع اجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الاخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الامن 1315 تاريخ 14/7/2000 ،وقد انشأت في العام 2002 مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للتظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996،مع ملاحظة بعض التعديلات ايضا على القوانين الوطنية بما تتوافق والمعايير الدولية لاجراءات المحاكمة والاحكام.
اما السايقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الامن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/ 1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة،بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الانسانية المرتكبة منذ العام 1975 ،وعمدت الأمم المتحدة على إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
واذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في الحالة اللبنانية كمحكمة مختلطة تنعقد على الاراضي اللبنانية،فتستلزم العديد من الاجراءات اولها قرار من مجلس الامن باعتباره اكمالا لمندرجات القرار 1595 أاضافة الى ابرام اتفاق بهذا الشأن بين الحكومة اللبنانية والامم المتحدة والذي لا يصبح نافذا الا بابرام مجلس النواب له وفقا لنص المادة 52 من الدستور اللبناني.كما يتوجب على المجلس النيابي اصدار قانون خاص مراعاة للمادة 20 من الدستور التي تنص على " السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة". وكذلك منع قوانين العفو ووقف العمل بالحصانات القضائية،وكذلك تحديد مدة التوقيف الاحتياطي في جرائم القتل والجرائم ضد امن الدولة والجرائم المسماة خطرة.كما تتطلب مثل هذه المحاكم تعديلات لبعض القوانين لتتلاءم مع المعايير الدولية كالغاء عقوبة الاعدام.
واذا كان هناك من سبب يمكن ان تواجه انعقاد المحكمة المختلطة على الاراضي اللبنانية لدواع مختلفةـ فمن الممكن انعقادها خارج لبنان وهو امر بدوره يستلزم بعض الاجراءات ومنها، وجوب توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة توضع بموجبه أصول المحاكمة وقواعدها وتحدد فيه صلاحية المحكمة المادية والشخصية والزمنية.على ان ينص الاتفاق على تطبيق الأصول والاجراءات الجزائية اللبنانية مع بعض التعديلات التي تقتضيها المحاكمات المتوافقة مع المعايير الدولية والتي تتطلبها المحاكمة العادلة، والمراجعة أمام هيئة قضائية عليا . وكذلك توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة على أن تمنح المحكمة المختلطة حق إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين مهما كانت جنسياتهم وعلى أن تتولى الأمم المتحدة مهمة التفاوض مع الدول التي يتبيّن أن أحد رعاياها ضالع في عملية الاغتيال أو التفجيرات وذلك بهدف تسليمه إلى المحكمة المذكورة.اضافة الى قضايا التعوشات الناجمة عن الاذى الذي لحق بالمتضررين من جريمة الاغتيال.
طبعا هناك العديد من الخيارات القانونية المتاحة امام لبنان،منها المحاكمة امام المجلس العدلي اللبناني،لكن دونه عقبات لاسيما لجهة تحفط الفريق المطالب بمحكمة دولية خاصة وفي هذا الاطار له بعض المبررات،ولكن مهما يكن من امر فان الخيارات جميعها ليست سهلة وليست بالضرورة القادرة على الوصول الى الحقيقة المطلقة بجريمة الاغتيال،سيما وان بعض الجرائم الكبيرة غالبا ما تتقاطع مصالح دول كبرى فيها ما يعقّد الكثير من الاجراءات لفك ملابساتها ورموزها.
ومهما يكن من شكل المحكمة والاجراءات التي ستتبعها للوصول الى الحقيقة،فان الرئيس رفيق الحريري قد ذهب بأبشع جرائم العصر،وان المهم في هذا الامر ليس كشف الحقيقة فقط وانما العمل على تحصين الوحدة الوطنية اللبنانية التي كانت همّ الشهيد الدائم ولأنها اولوية من اولوياته قد ذهب ضحيتها كغيره من كبار لبنان.