العدالة الدولية ومحاكمها في القانون الدولي الجنائي
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
شهدت المجتمعات البشرية قديما وحديثا شتى صنوف الجرائم راح ضحيتها الملايين عبر العصور قبل أن توصَّف تلك الجرائم وتحددّ أطرا قانونية لمحاكمة المسؤولين عنها.ولعل ابرز ما ظهر من صور فظيعة ما سميَّ بالجرائم ضد الإنسانية والتي كانت من بين احد نتائجها المقابر الجماعية ذلك لإخفاء وطمس تلك الجرائم. تعتبر المقابر الجماعية نتاج ابادة جماعية أو لجرائم حرب داخلية أي بين أطراف داخل البلد الواحد أو نتاج حرب تشارك بها أكثر من دولة أو أكثر من طرف، وفي كلا الحالين فهي تعبير صارخ عن جرائم ترتكب بحق الإنسانية،وقد شهدت العديد من الدول هذه الجرائم قديما وحديثا،وقد شكلت المقابر الجماعية نوعا من أنواع التغطية وطمس للجرائم المرتكبة بحق كثيرين تحت مسميات ومبررات وحجج مختلفة وامتدّت عبر العصور وشملت أنظمة متنوعة عقائديا وسياسيا وغيرها من التصنيفات،إلا أن المشترك بينها جميعا أن الضحايا غالبا ما كانوا من المدنيين أو أسرى حرب أو معتقلين سياسيين ومهما وُصِفَت هذه الجرائم فتظل تأخذ جانب الجرائم ضد الإنسانية باعتبارها تطال أشخاصا وأفرادا وحتى جماعات من المفترض أنها تتمتع بحماية القانون الدولي الإنساني ، فما هو التكييف القانوني لهذه الجرائم وكيف تمّ التعاطي معها ؟ وعلى من تقع المسؤولية وهل هناك طرف يتحمل نتائج هذه الأفعال والتعويضات؟
أولا : محاكم جرائم السياسيين من قيصر إلى ميلوسوفيتش
قد لا يعتبر البعض أن مؤامرة قتل يوليوس قيصر عام 44 ق.م هي الأولى في تاريخ المحاكمات السياسية، لكنها على الأقل قلبت المعادلة السياسية ومثلت تاريخا مهما انتهى بانهيار الإمبراطورية الرومانية،كما مثلت أول اتهام جماعي لإمبراطور ديكتاتور بالاستبداد ما أسس فيما بعد لمبادئ وقواعد القانون الدولي الجزائي.ويرى باحثون كثر أن ما يسمى بالمجتمع الدولي لم يعرف جهازاً قضائياً جزائياً دولياً له قوة القانون من حيث القرار والتنفيذ رغم الحاجة لمحاكمة الجناة ذلك بهدف حفظ حقوق البشرية في الأمن والسلام، لذلك كانت مثل هذه القضايا الدولية الجنائية مهملة.
وتشيد حوادث التاريخ أن أول محاولة لإجراء محاكمة سياسية كانت نتيجة أطماع نبلاء روما، فحيث عد الكثير من الباحثين يوليوس قيصر إمبراطورا ديمقراطيا ساعد الشعب وأنتجت حقبته تعديلات مهمة على صعيد القانون الاجتماعي حيث أجرى إصلاحات كثيرة ووضع النظم التي تكفل دعم الديمقراطية، وعمل على تحسين التقويم الروماني، ومنح الجنسية الرومانية للعديد من الناس، وأعطى الفرصة للفقراء لتحسين طريقة معيشتهم، وأسس المكتبات العامة.وقد أزعجت انتصاراته نبلاء الرومان الذين لم يروا فيه إلا طاغية يتطلع لتنصيب نفسه ملكاً، وهذا ما أجج عليه مجلس الشيوخ الروماني الذي دعاه لتسريح جيشه، لكنه تحدى المجلس واجتاز نهر روبكوف عام 49 ق.م. وبذلك اندلعت الحرب الأهلية الرومانية التي كسبها وقضى على خصومه ولكن إلى حين، إذ تجمعوا عليه وتآمروا وقرروا قتله بما يشبه قرارا جزائيا فاتهمه قواده وأصدقاؤه (كاسيوس وبروتوس) بالاستبداد وبذلك قضي على ديكتاتور روما الديمقراطي[1]..
نموذج آخر يظهر في الثورة الفرنسية التي اختلف المؤرخون والباحثون حول إقرار إن كانت ثورة من أجل الشعب أم كانت ضده، فقد عدت الثورة الفرنسية التي انطلقت شرارتها الأولى في العام 1789 من أهم الأحداث في تاريخ فرنسا وأوروبا كلها،فقد اسقط الثوار سجن الباستيل رمز الطغيان في 14/7/1789 وبسقوطه زادت قوة الثوار حتى أصدروا الدستور الجديد الذي اتخذ من الحرية والإخاء والمساواة قواعد انطلق منها إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26/8/1789 ثم إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية في 22 /8/1892، وقد سبق إعلان الجمهورية سجن لويس السادس عشر في 13/8/ 1792ثم إعدامه في 21 /12/ 1893 ثم إعدام زوجته ماري أنطوانيت في 16/10/ 1793[2].
ونظراً لتكرار الجرائم وبخاصة خلال الحروب أو خلال حكم الأنظمة الاستبدادية، سعى المجتمع الدولي إلى إنشاء محكمة جنائية دولية تختص بالمحاكمات الجزائية ضد مرتكبي الجرائم الدولية، وقد أخذ الاهتمام بإنشاء هذه المحكمة يتزايد خلال السنوات الأخيرة من قبل المنظمات العالمية أو من خلال الاتفاقيات الدولية أو بعض توصيات الأمم المتحدة، بل إن عصبة الأمم نصّت في المادة (14) على أن "يعد المجلس مشروعات بشأن إنشاء محكمة دائمة للعدل الدولي ويقدمها إلى أعضاء العصبة للموافقة عليها".
وجاءت اتفاقية فرساي لتنص على محاكمة قيصر ألمانيا وكل شخص تابع للحكومة الألمانية اتهم بارتكاب جرائم حرب أمام محكمة خاصة ذات صفة دولية، أما ثاني محاولة لإنشاء محكمة دولية جنائية فكانت سنة 1937، على إثر اغتيال ملك يوغسلافيا ووزير خارجية فرنسا عام 1934، وهو ما دعا إلى عقد مؤتمر دولي عام 1937 في جنيف، أسفر عن إبرام اتفاقيتين دوليتين تهتم الأولى بعقوبات جرائم الإرهاب، والثانية تعنى بإنشاء محكمة جنائية دولية[3].
وبانتهاء الحرب العالمية الثانية وفي عهد الأمم المتحدة عقدت محكمة نورمبرغ 8/8/1945 للنظر في الجرائم التي ارتكبها القادة الألمان خلال الحرب، ثم أعلن بعد ذلك وتحديداً في 19/1/1946 عن إنشاء محكمة طوكيو استناداً إلى تصريح بوتسدام حيث أصدر القائد العام لقوات الحلفاء في اليابان قراراً بإنشاء هذه المحكمة للنظر في جرائم بعض الجنود اليابانيين في الشرق الأقصى.
إلا أن هاتين المحكمتين كانتا من باب الثأر أكثر منها في باب المحاكمات القانونية العادلة، ما جعل هاتين المحكمتين بلا معنى قانوني أو أي شرعية دولية، ذلك أن اليابان أصابها ضرر بالغ لم يلحق بدولة أخرى، إذ هاجمتها الولايات المتحدة الأمريكية بقنبلة ذرية على هيروشيما في 6/8/1945 حيث قضت على 180 ألف نسمة من جملة 340 ألفاً ( أي أكثر من نصف سُكان المدينة)، وكذلك شن الاتحاد السوفييتي حرباً طاحنة على اليابان ودخل العسكر السوفييتي منشوريا وكوريا، وفي 9/8/1945 أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة ذرية ثانية على مدينة ناغازاكي حيث سحقت 80 ألف ياباني. وبعد بضعة أيام وجدت اليابان نفسها مجبرة على الاستسلام، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي يجب معاقبة مجرميها منهم الرئيس وقائد القوات المسلحة والجنود الذين نفذوا جريمة الإبادة الجماعية بأسلحة فتاكة[4].
ورغم الانتقادات التي وجهت لمحكمتي نورمبرغ وطوكيو إلا أنهما اتخذتا أساساً لإنشاء قضاء جنائي دولي، حيث دعت الجمعية العامة لجنة القانون الدولي إلى إعداد مشروع يحدد الأعمال التي تعد في نظر فقه القانون جرائم مخلّة بسلم الإنسانية وأمنها. ودعوة الجمعية العامة هذه تعد أول محاولة في عهد الأمم المتحدة لإنشاء جهاز قضاء جنائي دولي لمحاكمة المتهمين بجرائم الإبادة أو غيرها من الجرائم الدولية.وعلى هذه الخلفية، جاء قرار تأسيس المحكمتين في يوغسلافيا ورواندا في منتصف التسعينيات وبدا أن تأييد تأسيس محكمة جنائية دولية دائمة قد اخذ طريق التنفيذ.
أولا : الجهود الحقوقية تعمق مفهوم الجريمة الدولية
تعرف الجريمة الدولية بأنها "واقعة إجرامية تخالف قواعد القانون الدولي وتهدد السلم والأمن الدوليين سواء ارتكبت بفعل الجاني الايجابي أو امتناعه عن القيام بفعل ـ الفعل السلبي ـ مع توافر القصد الجنائي".
وبناءً على ذلك، فإن للعناصر الواجب توافرها في الفعل كي يستوجب المساءلة الجنائية على الصعيد الدولي هي: الركن الشرعي ويقصد به النص القانوني الذي يجرم الواقعة ويستمد من الأعراف والمواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية الموقعة بين الدول. والركن المادي إي أن يكون الفعل المرتكب آو الامتناع عن فعل مخالفا للقانون الدولي، أي يشكل انتهاكا لأحكام هذا القانون سواء كانت مستمدة من العرف الدولي أم المعاهدات والمواثيق.
وان يكون الفعل ذا عنصر دولي، أي إن يشكل اعتداء على القيم والمصالح الأساسية للجنس البشري حتى لو ارتكب بدافع شخصي. وهذا الشرط يعد جوهريا، وذلك لان الفعل المستوجب للمساءلة الجنائية الدولية لابد أن يتضمن انتهاكا للقيم الأساسية في المجتمع الدولي سواء أكان المجني عليه فردا أم دولة أم المجتمع البشري بأسره.
والركن المعنوي إي اتجاه النية لارتكاب الجريمة الدولية على ما عرفها القانون وذلك بتوافر العلم والإرادة.
ويرتكب الفرد الجرائم الدولية إما لحسابه الخاص بوصفه شخصا عاديا، وإما لحساب دولته أو باسمها. ويستهدف الفرد الذي يرتكب الجرائم الدولية لحسابه الخاص أو بوصفه شخصا عاديا تحقيق منافع أو أهداف شخصية بحتة، وهذه الجرائم منها ما قرره العرف ومنها ما عرف بمواثيق دولية ومثال هذه الطائفة من الجرائم القرصنة والمتاجرة بالمخدرات وتزوير العملة والإرهاب.
أما الجرائم التي يرتكبها الفرد لحساب دولته فهي إما أن تقع بتشجيع دولته ورضائها أو بناء على طلبها وهذه الجرائم هي الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
وهذه الطائفة من الجرائم يبرز فيها الطابع الدولي بصورة واضحة فهي جرائم دولية بطبيعتها باعتبار أن الأفعال المكونة لتلك الجرائم لا يمكن أن ترتكب إلا بناء على خطة مرسومة من دولة ضد رعاياها أو ضد دولة أخرى أو رعايا تلك الدولة، ويرتكب إما عن طريق سلطاتها أو بطلب منها أو بتشجيعها ورضائها وهذه الأفعال تمس في الغالب المصالح الجوهرية للدولة الضحية أو مواطنيها بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين.
وتعد الجرائم ضد الإنسانية من أكثر جرائم هذه الطائفة انتشارا الآن، إذ أنها ترتكب خلال النزاعات المسلحة الدولية والداخلية على حد سواء كما أنها ترتكب في أوقات السلم. والضحايا في هذه الجرائم إما أن يكونوا رعايا الدولة التي ترتكب هذه الأفعال أو رعايا دولة أخرى.
لقد مر مفهوم الجرائم ضد الإنسانية بتطورات كثيرة، كان أولها في اتفاقية لاهاي 1907 من خلال شرط "مارتنز" الذي وضع الأساس لتجريم الأفعال التي تشكل حاليا جرائم ضد الإنسانية، خصوصاً أن الطائفة التي عمل شرط "مارتنز" على حمايتها هي طائفة السكان المدنيين الذين ليسوا طرفاً أساسياً في الحرب.
وينص شرط مارتنز على أنه "حتى صدور منظومة مدونة قانونية كاملة لقوانين الحرب، وفي الحالات التي لا تتضمن القواعد الموضوعية، فإن الدول المتعاقدة ترى الفرصة مناسبة للإعلان بأن السكان المتحاربين يظلون تحت سلطان وحماية مبادئ قوانين الأمم المؤسسة على ما هو مستقر بين الشعوب المتمدنة وقوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام. وباستعراض النص يلاحظ بأنه يهدف إلى حماية السكان المدنيين الذين يشكلون متطلباً أساسياً من متطلبات الجرائم ضد الإنسانية ـ كما سنوضح لاحقاً ـ مقارنة مع بقية النصوص الأخرى التي تعمل على تنظيم الأوضاع بين المتحاربين، إذ وضع النص معياراً يفترض عدم خرقه وإلا ارتكبت جريمة ضد الإنسانية، وهذا المعيار هو القوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام للإنسانية والمبادئ المستقرة بين الأمم المتمدنة.
ولم تعرف اتفاقية لاهاي القوانين الإنسانية في متنها أو في ملاحقها، كما لم تشر إلى مخالفات أو انتهاكات معينة على أنها جرائم ضد الإنسانية، ولم تنص على أي عقوبات جرمية لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم. ورغم ذلك فإن شرط مارتنز الوارد في الاتفاقية يعتبر سابقة استرشدت بها الاتفاقيات اللاحقة عند النص على حماية السكان المدنيين[5]. كما لم تتطرق معاهدة فرساي إلى الجرائم ضد الإنسانية بسبب معارضة بعض الدول بقيادة الولايات المتحدة إدراج انتهاك قوانين الإنسانية، وقوانين الحرب ضمن هذه المعاهدة، ولم توافق الولايات المتحدة على استخدام مصطلح الجرائم ضد الإنسانية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد تطور نقاش هذا الأمر في الفترة الأخيرة فخلال اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر روما لم يكن هناك أي خلاف بين الوفود على تضمين الجرائم ضد الإنسانية ضمن الجرائم المعاقب عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن ما أثار خلافاً بين الوفود المشاركة هو الوصول إلى تعريف محدد لهذه الجريمة.وقد تباينت الآراء في المؤتمر حول تعريف الجرائم ضد الإنسانية بسبب عدم وجود اتفاق موحد على تعريفها وكان محور الخلاف يتراوح بين رأيين:
- الرأي الأول: أصر على الأخذ بتعريف أكثر دقة وتفصيلاً من التعريف الذي جاءت به المواثيق السابقة، ذلك أن هذه المحكمة سوف تتعامل مع أوضاع محددة، واختصاص هذه المحكمة هو اختصاص عالمي بعكس المواثيق الأخرى.
- الرأي الثاني: طالب بتعريف واسع يتضمن تعريفاً مفصلاً لهذه الجريمة، وذلك انعكاساً للتطورات الكثيرة التي حصلت في المجتمع الدولي مؤخراً. وفي هذا السياق اقترح مؤيدو هذا الرأي الانتظار لحين انتهاء لجنة القانون الدولي من عملها في مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها واقتباس التعريف منها وذلك بسبب عدم وجود تعريف محدد للجرائم ضد الإنسانية بموجب المعاهدات.
وبعد مناقشات طويلة بين الوفود المشاركة، تم الاتفاق على تعريف للجرائم ضد الإنسانية ينص على أن يشكل "أي فعل من الأفعال جريمة ضد الإنسانية عندما يتم ارتكابها في إطار هجومي منهجي أو واسع النطاق والذي يتم توجيهه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين على علم بالهجوم، القتل العمد، الابادة، الاستعباد (الاسترقاق)، النفي أو الإبعاد والنقل ألقسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد من الحرية انتهاكاً للقواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الدعارة الإجبارية أو الحمل الإجباري، التعقيم الإجباري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي من نفس الخطورة، الاضطهاد السياسي أو العنصري أو الوطني أو القومي أو الثقافي لأي فئة أو جماعة محددة كما هو منصوص عليه في الفقرة رقم (3) وأي قواعد أخرى لا يجيزها القانون الدولي ارتباطاً بأي عمل مشار إليه في هذه الفقرة أو أي جريمة يتم ارتكابها وتدخل في اختصاص المحكمة الإجباري أو أي أعمال للإنسانية أخرى من نفس الشكل أو ما شابه والتي تسبب آلاماً أو معاناة شديدة أو إصابة بالغة لسلامة البدن أو العقل.
وقد احتوت هذه المادة على ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تتضمن تعداداً للجرائم ضد الإنسانية على نحو ما هو منصوص عليه في المواثيق السابقة، وبشكل خاص المواثيق الأساسية لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا مع توضيح للأوضاع التي ترتكب في إطارها الجرائم ضد الإنسانية، أما الفقرتان الثانية والثالثة فقد تناولتا تعريف بعض المصطلحات الموجودة في الفقرة الأولى بناء على طلب بعض الوفود وأشارت بعض الوفود إلى المعايير العامة التي تميز الجرائم ضد الإنسانية عن الجرائم العادية وذلك منعا لحدوث تداخل بين ولاية هذه المحاكم والمحاكم الوطنية.
إن أهم التطورات التي طرأت على تعريف الجرائم ضد الإنسانية في مؤتمر روما ما يلي:
وضع هذا التعريف معيارين إذا تحققا فان أي اعتداء على البشر يعتبر جريمة ضد الإنسانية، وهو أن يتم ارتكاب هذه الجريمة ضد السكان المدنيين، وان تكون هذه الاعتداءات جزءاً من اعتداءات واسعة النطاق أو منهجية.كما توسع هذا النظام كثيراً في قائمة الجرائم ضد الإنسانية، كما انه ترك المجال مفتوحاً لإضافة إي جرائم أخرى، وأدى هذا التوسع إلى إثارة حفيظة بعض الدول المشاركة في المؤتمر فيما يتعلق بتعارض هذه الجرائم مع المعتقدات الدينية أو القانون الوطني لبعض الدول[6].
عرف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الإنسانية ولم يقتصر على تعداد هذه الجرائم كما فعلت المحاكم السابقة، فأوضح المقصود بالكثير من المصطلحات الواردة في الفقرة الأولى مثل الابادة، الاستعباد، النقل الإجباري للسكان، التعذيب، الحمل الإجباري والاضطهاد.
واللافت أن ثمة تشابها بين الجرائم ضد الإنسانية والجرائم التي تخضع للاختصاص الداخلي لمحاكم الدول من حيث الأركان العامة للجريمة، فالقتل جريمة معاقب عليها في القوانين الداخلية، ومعاقب عليها كجريمة ضد الإنسانية إذا توفر فيها متطلبات معينة، ومعاقب عليها أيضا كجريمة حرب إذا كانت مرتكبة في زمن الحرب. وفي جميع هذه الأحوال لابد أن تتوفر الأركان القانونية للجريمة: الركن المادي والركن المعنوي والركن الشرعي، كما أن عوامل تحديد المسؤولية لها قد تتشابه أحيانا.
إن متطلبات الجرائم ضد الإنسانية هي عبارة عن معايير عامة تميزها عما يشابهها من الجرائم سواء في القوانين الداخلية أم في القانون الدولي، وتكمن أهمية هذه المعايير في منع التداخل بين اختصاص كل من القانون الدولي والقانون الداخلي من جهة، إذ أنها تدخل الجرائم ضد الإنسانية في نطاق الاختصاص القضائي الدولي، وتزيل التداخل والغموض بين الجرائم ضد الإنسانية وبقية الجرائم الدولية التي تتشابه معها من جهة أخرى مثل جرائم الحرب وجريمة الابادة الجماعية، وفي غياب تحديد هذه المعايير فإن خلطاً وغموضاً سوف يكتنف هذه الجرائم. فالمعايير العامة للجرائم ضد الإنسانية هي أربعة:
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح.
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالهجوم واسع النطاق والمنهجي.
ـ توجيه هذه الجرائم ضد السكان المدنيين.
ـ ارتكاب هذه الجرائم على أساس تمييزي.
إن أهم ما يميز هذه المعايير أن احدها قد يكون ذو أهمية كبيرة في مرحلة معينة أو نزاع معين، وقد يصبح اقل أهمية في نزاع آخر، ويبدو هذا واضحاً من خلال مقارنة تطلب النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في إطار النزاع المسلح، بينما ركز النظام الأساسي لمحكمة رواندا على الأسس التمييزية كمعيار لحدوث هذه الجرائم، وهذا التباين في الأسس ـ التي اعتمدت عليها المحكمتان ـ يعود إلى طبيعة كل من النزاعين اللذين نشأت في ظلهما هاتان المحكمتان فالنزاع في رواندا هو نزاع مبني على نزاع طائفي بين أقلية الهوتو وأغلبية التوتسي، بينما أراد النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة الإبقاء على الصلات مع القانون الدولي التقليدي ممثلاً بميثاق لندن الذي اشترط ارتكاب الجرائم في إطار النزاع المسلح، ولو أن النظام الأساسي لمحكمة رواندا قد اشترط نفس الشروط لأسفر ذلك بالضرورة عن إفلات مجرمين كثر من العقاب.
لقد انتقل الجدل إلى مرحلة جديدة حيث مضت حوارات روما إلى نقاش أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، ولم يربط هذا النظام الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح وذلك بسبب الخلاف الشديد بين الوفود المشاركة على الإبقاء على هذا الارتباط أو إزالته، وقد دار الجدال أساسا بين فريقين:
- الفريق الأول: أكد على ضرورة وجود نزاع مسلح لارتكاب هذه الجرائم وذهب بعض المؤيدين لهذا الفريق إلى ابعد من ذلك حيث اشترط أن يكون هذا النزاع دولياً. ولتأييد وجهة النظر هذه احتج الفريق بالنص على هذا في كل من محاكم نورمبيرج وطوكيو ويوغسلافيا السابقة كما احتج بقرار محكمة يوغسلافيا الجنائية الدولية في قضية نيكولنسن، وبأن القانون العرفي لم يتغير بسبب اعتماد صكوك حقوق الإنسان.
- الفريق الثاني: والذي يتكون من أغلبية الوفود المشاركة أكد بأن القانون الدولي التقليدي لا يتطلب النزاع المسلح كمتطلب أساسي للجرائم ضد الإنسانية، وأضاف أن تطلب هذا الارتباط في محاكم نورمبيرج وطوكيو ويوغسلافيا السابقة يعتبر قيداً على اختصاص هذه المحاكم ولكن امكانية حدوث الجرائم ضد الإنسانية في الحرب والسلم متساوية، وبرر هذا الفريق موقفه بعدم اشتراط ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح في كل من المادة الاولى من اتفاقية الابادة الجماعية وقانون مجلس الرقابة واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والنظام الأساسي لمحكمة رواندا وقرار محكمة الاستئناف لمحكمة يوغسلافيا السابقة في قضية تادتيش ومشروع المدونة الصادر عن لجنة القانون الدولي وقيل أيضا أن اشتراط ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية بالارتباط مع النزاع المسلح سوف يؤدي إلى خلط الجرائم ضد الإنسانية بجرائم الحرب.
وقد أشارت محكمة رواندا الجنائية الدولية في قضية keyisbema ان جميع من يحافظون على النظام العام ويطبقون القانون بصورة شرعية هم غير مدنيين وكل فرد من أفراد القوات المسلحة التابعة لأحد أطراف النزاع هو مقاتل وكل مقاتل يقع في منطقة العدو هو أسير حرب وجميعهم لا يعتبرون من السكان المدنيين. بينما عرفت السكان المدنيين في قضية akayesu تعريفا موسعا ليشمل الأشخاص الذين لا يشاركون في العمليات العدائية، بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين استسلموا أو انسحبوا من القتال نتيجة المرض أو الإصابة أو الحجز أو إي سبب آخر.
إن مصطلح السكان المدنيين (civilian population) استخدم في تعريف الجرائم ضد الإنسانية للدلالة على أن هذه الجرائم ترتكب ضد المدنيين وليس ضد الإنسانية بحيث لا تقتصر على ضحية واحدة فقط فما هو مدى أهمية احتواء تعريف الجرائم ضد الإنسانية على هذا الاصطلاح,ولقد تمت الإشارة إلى هذا المتطلب بطريقتين:
الاولى: بشكل مباشر حيث نصت النظم الأساسية لمحكمة رواندا الجنائية الدولية والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ومشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها على أن الجرائم ضد الإنسانية يجب أن ترتكب في إطار هجوم منهجي وواسع النطاق. والثانية: بشكل غير مباشر حيث نص مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وامنها لعام 1954 على أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب من قبل سلطات الدولة أو من قبل فئة خاصة من الأفراد تعمل لحساب هذه السلطات ونص النظام الأساسي لمحكمة طوكيو بان القادة والمنظمين والباحثين والمشاركين في صياغة خطة معروفة يكونون مسئولين عن الأعمال التي ترتكب من أي شخص تنفيذا لهذه الخطة.
ثالثا: سوابق المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة
كانت محكمة نورمبيرج محكمة جنائية خاصة أنشأتها الدول المتحالفة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لمحاكمة كبار القادة النازيين، وهي بهذا تكون محكمة أقامها الغالبون لمحاكمة المغلوبين. أما بعد ذلك فقد لعبت الأمم المتحدة دورا رائدا في العمل على إنشاء مؤسسات دولية مخصصة لتعيين المسئولية الجنائية، وأقر مجلس الأمن إنشاء محكمتين جنائيتين دوليتين، الأولى هي المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة في العام 1993، والثانية هي المحكمة الدولية لرواندا في 1994 من اجل معاقبة انتهاكات القانون الدولي خلال نزاع يوغسلافيا، وجرائم الابادة الجماعية في رواندا خلال التسعينيات وهي الجرائم والانتهاكات التي أيقظت الضمير الدولي، ودفعته لإقامة هاتين المحكمتين اللتين تميزتا بأنهما لم يفرضهما المنتصرون لمحاكمة المهزومين، وبأنهما مؤقتتان تشكلتا لمحاكمة أناس بذواتهم في قضايا معينة، ولم تكن دائمة، وغير مخولتين بمحاكمة أي مجرم حرب في أي بلد غير الذي اختصت به.
1 - محكمة مجرمي يوغسلافيا
تأسست المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة في أيار 1993 بقرار من مجلس الأمن الدولي، وبموجب الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة للمحكمة الحق بموجب قانون إنشائها النظر في أي انتهاكات للمادة الثانية من معاهدات جنيف 1949 الخاصة بانتهاك قوانين وتقاليد الحرب، والمادة الرابعة الخاصة بالابادة الجماعية للجنس البشري، والمادة الخامسة الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية. وللمحكمة صلاحية إدانة الأشخاص في أي تهمة جنائية إذا ما ثبت أنهم خططوا أو اعدوا أو نفذوا جريمة، كما للمحكمة صلاحية إدانة أي قائد أو مسئول أعلى إذا ما ارتكب احد مرؤوسيه جريمة كان يعلم أو كان يتوجب عليه أن يعلم أن المرؤوس كان على وشك ارتكاب هكذا جريمة أو كان على وشك ارتكابها وأخفق في منع وقوع الجريمة أو معاقبة منفذيها.
وعقدت المحكمة جلسات للنظر في اتهامات موجهة ضد أفراد وأخرى موجهة ضد مجموعات مدنيين وعسكريين من الاثنيات الرئيسة الثلاث التي شاركت في النزاعات المسلحة في البلقان. وأدانت المحكمة مواطنين عاديين اتهموا بارتكاب جرائم تتعلق بالنزاعات، وسياسيين بارزين وقادة عسكريين كبار. وتفاوتت الأحكام ما بين السجن لسبع سنوات إلى خمسين سنة. ونظرت المحكمة منذ الإعلان عن تأسيسها في أكثر من خمس عشرة قضية ضد نحو ثلاثين متهما، وكان من أبرز الأحكام التي أصدرتها الحكم بحق الجنرال الصربي كرادزيتش الذي يمثل نقطة تحول هامة منذ الحرب العالمية الثانية باعتباره أول حكم يقرر العقاب على جريمة الابادة الجماعية للجنس البشري.
وفي حيثياته لإنشاء المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة أكد مجلس الأمن أن الهدف من إنشاء المحكمة هو حفظ السلم والأمن في أوروبا، خاصة يوغسلافيا السابقة لأن محاكمة مجرمي الحرب سيؤدي إلى صفاء النفوس لأن أي جريمة يترتب عليها رد فعل الانتقام ومحاكمة من ارتكب هذه الجرائم سيقضي على جرائم الحرب وعلى الرغبة في الانتقام خصوصا وإذا كان من يرتكب الجرائم يعرف انه ليس فوق القانون. ويمكن القول ان المحكمة تمثل أنموذجا مصغرا للعالم، إذ جاء تشكيلها ليمثل كل العالم بجميع قاراته فهناك قاض من أميركا الشمالية وآخر من أميركا الجنوبية واثنان من الوطن العربي وأخر من الصين ومن استراليا وانكلترا وفرنسا وايطاليا بالإضافة إلى قاضيين واحد من باكستان والأخر من جامايكا. ما يجعل المحكمة تختلف عن محكمة نورمبيرج[7].
بدأت المحكمة أعمالها في أيار 1996 بالنظر في قضية جندي صربي كان يدير معسكرا للاعتقال، ومنذ ذلك الوقت أخذت تطال أسماء كبيرة من بينهم جنرال صربي بوسني ساهم في تنظيم مذبحة سربرنيتشا وقادة قوميون صرب وكروات متورطون في مذابح المسلمين ومساعدون كبار لميلوسيفيتش مثل رئيس أركان القوات الصربية،وتمثل قضايا الادعاء أكثر أوجه النجاح للمحاكمات، على الرغم من نجاح أكثر من مجرم حرب في البوسنة من الفرار، لأن هذه المحاكمات وبدلا من أن تحرض على مزيد من التعصب القومي في المنطقة، فقد أصبح العديد من المجرمين الرئيسيين في حروب البلقان وراء القضبان[8].
2 - محكمة رواندا
في غضون مئة يوم سنة 1994 قضى حوالي 800 ألف رواندي من قبيلة التوتسي ومن المعتدلين في قبيلة الهوتي نحبهم في مجازر الابادة الجماعية الشرسة التي وقعت في رواندا، وفر العديد من مرتكبي تلك الجرائم من رواندا، واثر ذلك قامت الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الامن الدولي بتأسيس المحكمة الدولية لجرائم الحرب في رواندا بغية رفع الدعاوى القضائية ضد منظمي جرائم الابادة الجماعية في هذه الدولة الأفريقية ومعاقبتهم في تشرين الثاني عام 1994.
وتمكنت المحكمة الدولية حتى اليوم في توقيف عشرات من كبار المسؤولين وآخرين يعتقد بأنهم مسؤولون عن ارتكاب هذه الجرائم، وأصدرت المحكمة الدولية لوائح الاتهام ضدهم، إلا أن عشرات آخرين من هؤلاء المسؤولين عن تلك الجرائم ما زالوا أحرارا طليقين ويمنح النظام الأساسي الحق للمحكمة في محاكمة الأفراد المتهمين بالابادة الجماعية البند الثاني من النظام الأساسي وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية البند الثالث وجرائم حرب معينة تطبق على الصراعات المسلحة الداخلية البند الرابع. ومثل المحكمة الدولية الخاصة لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، فان هذه المحكمة تحدد المسؤولية الجنائية الفردية والجماعية لمرتكبي تلك المجازر، ونتيجة لاختلاف الأحداث على ارض الواقع فان النظام الأساسي لكل من المحكمتين يختلف عن الآخر وذلك فيما يتصل بالقضايا التي تنظرها كل محكمة على حدة كما أسلفنا.
ـ قضية جين ـ بول اكايسو والتي تعتبر أول محاكمة دولية لجرائم الابادة في التاريخ. كان اكايسو عمدة إقليم تابا في رواندا، ووجهت المحكمة تهمة الابادة الجماعية له بسبب المجازر البشرية التي ارتكبها الهوتو ضد التوتسي والهوتو المعتدلين من الإقليم الذي يديره، بالإضافة إلى تهم أخرى مثل الجرائم ضد الإنسانية بما في ذلك التصفية العرقية والقتل والاغتصاب والتعذيب.وحددت المحكمة تعريفها في هذه المحاكمة لمفهوم الابادة الجماعية، بأنها الأفعال التي يرتكبها الأشخاص أو المجموعات ضد أخرى بهدف القضاء عليهم، وقد يكون هؤلاء الآخرون أقلية عرقية أو دينية أو قومية. والأقلية العرقية كما عرفتها المحكمة هي "مجموعة يتحدث أفرادها لغة مشتركة ويمارسون ثقافة مشتركة". أما الأقلية الدينية "فهي تلك المجموعات التي تشترك في معتقد ديني واحد" والأقلية القومية هي "المجموعة التي تشترك ضمنيا في رباط قانوني يعتمد على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات المتبادلة".وأدانت المحكمة اكايسو لارتكابه جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية تتضمن مجموعة مختلفة من الجرائم بما في ذلك الاغتصاب وأصدرت أحكاما تاريخية عقابا على الاغتصاب كجريمة ضد الإنسانية وكأداة للابادة الجماعية.كما مثل أمام المحكمة ومقرها مدينة اروشا في تنزانيا تارسيس رينزاهو المتهم بالمشاركة في أعمال ابادة جماعية عام 1994 عندما كان حاكما لمدينة كيغالي التي أزهق الهوتو فيها وحولها أرواح ما يزيد على 450 ألفا من التوتسي.
والمعيار الذي تبنته المحكمة في قضية اوكايسو وعملت به في المحاكمات الأخرى والذي ينص على أن المتهم يجب أن يكون ناشطا في مجال "دعم جهود الحرب" حتى يجرم بموجب البند الرابع من النظام التأسيسي للمحكمة،وفي تبنيها لهذا المعيار يبدو ان المحكمة استنتجت وجود أعمال ابادة جماعية في رواندا بموازاة نزاع مسلح، وان كل الجرائم التي ارتكبها المتهمون قد وقعت أثناء عمليات الابادة الجماعية، وليس كجزء من النزاع المسلح، حتى عندما يكون القادة العسكريون هم المتهمون. وهذا يشكل سابقة خطيرة في محاكمة مرتكبي جرائم الحرب في النزاعات المسلحة المحلية الأخرى.
إن أهم الأحكام التي أصدرتها المحكمة إدانة ثلاثة من رجال الإعلام بارتكاب جرائم ابادة جماعية من خلال الإيعاز للآخرين بالمشاركة في موجة القتل التي اجتاحت رواندا. وثبت للمحكمة أن المتهمين قد أجرموا باستخدام محطة إذاعة محلية وصحيفة لإثارة الكراهية ضد قبيلة التوتسي التي تشكل أقلية في البلاد وتوجيه وتشجيع حملات القتل الجماعي.
والحكم الذي صدر في الثالث من كانون الثاني 2004 يشكل سابقة من نوعه منذ محاكمات نورمبيرج الذي يحمّل متهمين مسؤولية الابادة الجماعية من خلال السيطرة على أجهزة الإعلام. وهو يتجاوز في مضمونه الحكم الذي صدر بحق الناشر النازي يوليو سترايخر العام 1946، وهو يشكل سابقة في تقرير أن المؤسسات الإعلامية يمكن أن تخضع للمحاكمة للجرائم التي وجهت مستمعيها وقراءها لارتكابها.
وبالرغم من أن المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة ونظيرتها المحكمة الدولية لجرائم الحرب في رواندا مؤقتتان ودورهما في التاريخ مؤقت، إلا أنهما نجحتا في إرساء حجر الأساس لمجتمع دولي متحضر، حيث كان العالم قبل إنشاء هاتين المحكمتين يبدو وكأنه غابة، إذا ما قورن بالمجتمعات الداخلية وأوصلت المحكمتان رسالة واضحة لكل من يريد أن يعيث في الأرض فسادا، أو يهين آدمية الإنسان وكرامته، فحوى هذه الرسالة انه لا احد فوق القانون، ولا احد مطلقا فوقه في المجال الدولي، وهذا تحول تاريخي مهم للغاية، وكونه طبق في يوغسلافيا وفي رواندا، فإنها بداية سبقها تمهيد وتحضير لإنشاء محكمة مجرمي حرب دائمة تنظر في قضايا الابادة البشرية وانتهاك كرامة الإنسان.
3 - المحاكم المختلطة
هناك عدة سوابق في هذا المجال،كان أخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975و1979،وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكمومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين،وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية.كما ان تعيين القضاة الأجانب يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة،واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية.إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000 ،وقد أنشأت في العام 2002 مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996،مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما تتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.
أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/ 1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة،بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975 ،وعمدت الأمم المتحدة على إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
رابعا : المحكمة الجنائية الدولية
يشكل الأول من حزيران من العام 2002 نقطة تحوّل في تاريخ الإنسانية، كونه بمثابة انتصار لإرادة المجتمع الدولي، ففي ذلك اليوم، دخل النظام الأساسي للمحكمته الجنائية الدولية حيز التنفيذذ بعد أن أصبح العدد الضروري من الدول المصادقة عليه متوافراً، تطبيقاً لنفس المادة (126) من النظام الأساسي، الذي يشترط وجوب مصادقة ستين دولة.والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو خلاصة لجهد تاريخي طويل يمكن إيجازه بما يلي:
ـ 1919 أطلقت فكرة «... الجرائم ضد الإنسانية...» بموجب البنود 227 ـ 229 من معاهدة فرساي التي أبرمت بين ألمانيا والقوى المتحالفة في إعقاب الحرب العالمية الأولى. وفي العام نفسه أوصت اللجنة المكلفة بالبحث عن مسؤولية مرتكبي الجرائم وتطبيقات العقوبات الجنائية بخصوص الجرائم التي ارتكبت بحق الأرض من قبل السلطات التركية في ذلك الوقت.
ـ 1945 أنشأت القوى المتحالفة محكمتي نورمبرغ وطوكيو.
ـ 1948 أعطت الاتفاقية الدولية الخاصة بمنع وقوع جريمة الإبادة الجماعية الصلاحية لقضاء جنائي دولي بهدف محاكمة أشخاص متهمين بارتكاب جرائم الحرب.
ـ 1950 جرت محاولات في إطار الأمم المتحدة لوضع مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية.
ـ 1973 نصت الاتفاقية الدولية للقضاء على قمع جريمة الفصل العنصري على إمكانية تقديم الأشخاص المتهمين بارتكاب تلك الجريمة إلى محكمة جنائية دولية.
ـ 1980 تم وضع مشروع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلا أن ذلك المشروع لم يكتب له النجاح.
ـ 1990 بعد عشر سنوات توصلت لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة على اتفاق مبدئي واسع حول ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية ذات غرض محدد خاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة.
ـ 1994 تشكلت محكمة جنائية دولية خاصة بالجرائم التي ارتكبت في رواندا.
ـ 1998 إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ـ 2002 أصبح النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نافذ المفعول بعد مصادقة ستين دولة عليه.
ـ 2003 البدء الفعلي لعمل المحكمة الجنائية الدولية.
وقبل التطرق لهذه المحكمة وعلاقتها بالأنظمة القضائية الوطنية من المفيد بحث العلاقة بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من جهة والمبادئ والمفاهيم المقررة بموجب أحكام القانون الدولي الإنساني من جهة أخرى والتي تظهر العديد من الأطر أهمها:
- ان الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وخصوصاً جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، هي نفس الجرائم التي تحرمها اتفاقيات جنيف الاربعة.
- ان المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تفترض بأن تقوم الدول التي صادقت عليه بمراجعة تشريعاتها وقوانينها الوطنية لكي تتلاءم وتتواءم مع النظام الأساسي لهذه المحكمة وحيث إن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت مؤسسة دولية دائمة. كونها أنشئت بموجب معاهدة لغرض التحقيق ومحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورة، وهي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، الأمر الذي يقتضي البحث في إشكالية العلاقة ما بين نظام هذه المحكمة والأنظمة القضائية الوطنية. مع التنويه بأن العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الدولية، تعرضت لتداعيات وإشكاليات عديدة خصوصاً في الفترة الأخيرة ومن أهمها: أحداث أيلول 2001، احتلال العراق، السيادة الوطنية لكل دولة على حدة، تقديم الأشخاص للمحكمة الجنائية الدولية ومبدأ خطر تسليم المواطنين، سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم الدولة الطرف، عدم سقوط الجرائم بالتقادم، عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين، حق العفو، والعقوبات. وفي هذا الإطار هناك ثمة إشكاليات تستحق التوقف منها:
- أولاً: هل يشكل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مساساً بالسيادة الوطنية؟
أثار البعض بأن المادة (4) من النظام الأساسي الخاصة بممارسة المحكمة الجنائية الدولية لوظائفها وسلطاتها يمثل انتهاكاً للسيادة الوطنية للدولة بالسماح لجهة أجنبية بممارسة اختصاص أصيل مرهون بسلطاتها القضائية. وبهذا الخصوص نشير بداية لما ورد في الفقرة العاشرة من ديباجة النظام الأساسي والتي تؤكد على أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية وهي ذات العبارة التي تورد صراحة في المادة الأولى من هذا النظام.
كما نصت المادة (17) من النظام الأساسي على أن المحكمة الجنائية الدولية لا تحل محل الاختصاصات القضائية الوطنية، وإنما تتدخل حصراً حينما لا تتوافر لدى الدول الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك.
وعليه فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يشجع الدول على ممارسة سلطاتها القضائية على الجرائم الداخلة ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ولا يجوز للمحكمة ممارسة سلطاتها القضائية إلا إعمالاً للأحكام الواردة في المادة (17.(
وفي الواقع إن الاتفاقية المنشأة بمعاهدة دولية يتجدد فيها المبدأ الأساسي في قانون المعاهدات "مبدأ الرضى" فالدول في هذه الحالة لا تتعامل مع محكمة أجنبية أو ولاية قضاء أجنبي، وإنما تتعامل مع جهاز قضائي دولي شاركت في إنشائه كدولة طرف وتساهم في الاجراءات الخاصة بتسييره باعتباره أحد أعضاء جمعية الدول الأطراف كتعيين القضاة مثلاً. ومن هنا فلا يمكن القول أن الدولة تتنازل عن الاختصاص لولاية قضاء أجنبي، وإنما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية امتداداً لولاية القضاء الوطني إذ أن الأصل أن كل دولة ملزمة بمحاكمة مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام ومن ثم لا ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية إذا قامت الدولة بواجبها في الاضطلاع أو المحاكمة، أما إذا لم ترغب الدولة أو كانت غير قادرة على الاضطلاع بواجبها فإنها تحيل بذلك اختصاصها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ونخلص من ذلك إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تشمل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول بل ان لدول الأطراف ذاتها هي التي أنشأت تلك المحكمة بإرادتها بموجب اتفاقية دولية ورد النص فيها صراحة على أن المحكمة الجنائية الدولية "... ذات اختصاص تكميلي وليس سيادة على القضاء الوطني"
ثانياً: في إطار العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الوطنية تثار إشكالية خطر تسليم رعايا الدولة إلى قضاء أجنبي وهو المبدأ الوارد في دساتير العديد من دول العالم، ومدى تعارض هذا المبدأ مع الالتزام بتقديم رعايا لدولة إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا انعقد لها الاختصاص في إجراء المحاكمة.
وهنا ينبغي أن نميز ما بين ".. الإحالة إلى المحكمة.." والذي هو تقديم الدولة لشخص ما إلى المحكمة و".. التسليم.." الذي هو تسليم الدولة لشخص ما إلى دولة أخرى، هذه التفرقة الواردة صراحة في نص المادة (102) من النظام الأساسي يدفعنا إلى القول بأن التسليم إلى دولة أخرى ذات سيادة يختلف تماماً عن الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية كهيئة دولية أنشئت بموجب القانون الدولي وبمشاركة الدول المعنية وموافقتها.
وهذه التفرقة تطرح تساؤلاً آخر مفاده هل المحكمة الجنائية الدولية تعد محكمة أجنبية؟ وبهذا الصدد نقول إنها ليست محكمة أجنبية إنما هي امتداد لولاية القضاء الوطني.
ثالثاً: سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم دولة طرف
لما كانت الفقرة الرابعة من المادة (99) من النظام الأساسي تجيز للمدعي العام أن يباشر بعض أعمال التحقيق دون حضور سلطات الدولة الموجه إليها الطلب وداخل إقليم هذه الدولة، وأن بوسعه على وجه الخصوص جمع إفادات الشهود وإجراء المعاينة. فواقعا إن قيام المدعي العام بمثل هذه الصلاحيات لا يشكل مساساً بالسيادة الوطنية للدول، وسندنا في ذلك نص المادتين 54، 57/3 وأحكام الباب التاسع من النظام الأساسي المتعلق بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية التي نصت على بعض الأحكام الإجرائية التي تكفل احترام السيادة الوطنية عند ممارسة المدعي العام لاختصاصاته، وما حكم الفقرة الرابعة من المادة (99) إلا استثناء من هذه القاعدة، والمشروط أولاً بأن تكون الدولة الطرف الموجه إليها الطلب هي دولة ادعت ارتكاب جريمة في إقليمها، وكان هناك قرار بشأن القبول بموجب المادة (18) أو المادة (19) وثانياً، فإن المدعي العام ملزم بإجراء كافة المشاورات الممكنة مع الدولة الطرف الموجه إليها الطلب قبل مباشرة إجراءاته.
رابعاً: عدم سقوط الجرائم بالتقادم
لما كانت المادة (29) تقضي بعدم سقوط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم في حين تعالج الأنظمة القضائية الوطنية مسألة التقادم.وللرد على ذلك نقول إن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بمقتضى العرف الدولي لا تسقط بمقتضى المدة فضلاً عن أن اتفاقية 1968 صاغت هذه القاعدة العرفية في اتفاقية دولية تحظر انطباق التقادم على مثل هذه الجرائم، ومن ثم فإن الدول بالتصديق على نظام روما الأساسي تقبل بحكم هذه المادة التي تقرر حكماً خاصاً لنوع معين من الجرائم هي الجرائم الأشد خطورة على الصعيد الدولي، ومن ثم فإنه ليس هناك ثمة تعارض بين السيادة الوطنية وعدم سقوط الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالتقادم.
خامساً: عدم جواز المحاكمة عن الجريمة مرتين
أثيرت إشكالية خاصة بالمادة (20) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مع القواعد الواردة في الأنظمة القضائية الوطنية التي تنص على عدم جواز محاكمة الشخص عن الجرم مرتين.
نجد أن الفقرة الثالثة من المادة (20) أجابت عن ذلك بأن حدوث الحالات التي يجوز فيها محاكمة الشخص الذي سبق له أن حوكم أمام القضاء الوطني في الحالات التالية:
ـ إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية من جرائم تدخل في اختصاص المحكمة.
ـ إذا لم تجر الإجراءات بصورة تتسم بالاستقلال أو للنزاهة وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في هذه الظروف على نحو لا يتفق مع النية لتقديم الشخص المعني للعدالة.
سادساً: حق العفو
نشير في هذا المجال إلى أن حق العفو المعقود في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والواردة في المادة (110) هو العفو عن العقوبة وليس العفو الشامل عن الجريمة الذي لا يتقرر في معظم الدول إلا بالقانون.
وهو حق إقليمي للدولة ولا يتعارض ذلك مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بشرط ألا يكون الهدف من إصدار دولة ما لقوانين العفو، مساعدة بعض مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من الإفلات من العقوبات.
سابعاً: العقوبات
حيث أن النظام الأساسي لا ينص على عقوبة الإعدام بل المؤبد، فقد حسمت هذه الإشكالية في ضوء المادة (80) من النظام الأساسي التي تمنح الدول حق توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية إذا ما تمت محاكمة الشخص أمام المحاكم الوطنية، وبالتالي فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يحول دون تطبيق أحكام الإعدام على الجرائم الداخلة في اختصاصه ما دامت الدولة الطرف هي التي تضطلع بالمحاكمة على الصعيد الوطني.
وبعد أن استعرضتا الإشكاليات التي تفرضها العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والأنظمة القضائية الوطنية نخلص كما يلي:
ـ المحكمة الجنائية الدولية هي امتداد للاختصاص الجنائي الوطني وعند التصديق على النظام الأساسي من قبل السلطة البرلمانية الوطنية تصبح جزءاً من القانون الوطني.
ـ المحكمة الجنائية الدولية لا تتعدى على السيادة الوطنية أو تتخطى نظم القضاء الوطني طالما كان الأخير قادراً وراغباً في مباشرة التزاماته القانونية الدولية.
ـ يمتد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل الدول الأعضاء ويتم ممارسة اختصاص المحكمة بالتكامل مع اختصاص نظم القضاء الوطني للدول الأعضاء.
ـ الاختصاص الجنائي الوطني دائماً تكون له الأولوية على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تستطيع (المحكمة) ممارسة اختصاصها في حالتين هما:
أ ـ الأولى عند انهيار النظام القضائي الوطني.
ب ـ عند رفض أو فشل النظام القضائي الوطني في القيام بالتزاماته القانونية بالتحقيق ومحاكمة الأشخاص المشتبه بارتكابهم الجرائم الثلاث الموجودة حالياً في اختصاص المحكمة الجنائية.
ـ كما تظهر قواعد أسبقية نظم القضاء الوطني على التكامل الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، من حيث قيام النظم القضائية الوطنية بمباشرة طلبات التعاون المشتملة على القبض وتسليم المشتبه بهم.
ـ من حيث القانون الواجب التطبيق يجوز للمحكمة بالإضافة للمصادر القانونية الأخرى أن تطبق قواعد القانون العامة المستمدة من القوانين الوطنية للأنظمة القانونية بشرط عدم تعارضها مع قانون المحكمة الجنائية الدولية وهذا يعزز مبدأ التكامل.
ـ وحيث أن المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة مكملة للاختصاص الجنائي الوطني، فإن تسليم الدول الأطراف شخصياً إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إنقاذا للمعاهدة:
أـ لا يقلل من سيادتها الوطنية.
ب ـ لا ينتهك السيادة الوطنية لدولة أخرى مثل دولة جنسية الجاني أو المجني عليه.
ج ـ لا ينتهك حقوق الشخص الذي تنقل محاكمته الى الاختصاص الجنائي المختص.
واستنادا الى ما سبق نجد أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وفي إطار علاقته بالأنظمة القضائية الوطنية يحكمه مبدأ التكاملية والتعاون ولا يترتب عليه المسّ بالسيادة الوطنية للدول الأطراف، إلا أن كل ذلك لا ينفي بأن هناك محاولات التفاف على هذه المحكمة وخصوصاً بعد أحداث 11 ايلول التي تركت آثارها على العديد من القضايا الخاصة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وكذلك مبادئ القانون الدولي الإنساني والقضاء الجنائي الدولي الذي تمثل في هذه المحكمة عنوانه في هذه المرحلة من حياة البشرية، ومن ضمن تلك المحاولات قيام الولايات المتحدة بإبرام عدد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأطراف بهدف افراغ المعاهدة من مضمونها، واحتجاج الدول الكبرى باتفاقيات جنيف واللجوء إلى القضاء الجنائي الدولي مع أن بعضها هي التي تنتهك تلك الاتفاقيات ولعل ما جرى في العراق وفلسطين خير دليل على ذلك.
خامسا :ملاحظات على نظام المحكمة المختلطة الخاصة بلبنان
نتيجة للدروس التي تم استخلاصها من تجربة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا الايجابية منها والسلبية، برز إلى الوجود نموذج جديد للعدالة الدولية: المحاكم المختلطة والتي تعمل تحت إشراف مشترك من الأمم المتحدة والدول المعنية. وتشكل هذه الطريقة محاولة للمزج بين فوائد المتابعات الوطنية مثل القرب الجغرافي والنفسي إلى الضحايا، والأثر الايجابي على مؤسسات الدولة المحلية مع فوائد المشاركة الدولية كالموارد والموظفين والأمن. وقد أقيمت المحاكم المختلطة في سيراليون المحكمة الخاصة، المقامة بالبلد والتي شرعت مؤخراً في أعمالها، وتتكون من قضاة محليين وقضاة دوليين يطبقون كلاً من القانون الوطني والقانون الدولي. وهناك نوع آخر من النموذج المختلط في تيمور الشرقية. كما أن إمكانية إقامة المحاكم المختلطة أكبر من المحاكم الدولية الصرف، فعلى سبيل المثال تبلغ تكلفة ميزانية المحكمة الخاصة لسيراليون تقريبا خُمس الميزانية السنوية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا. وتمتاز كذلك المحاكم المختلطة بكونها تقام على أراضي الدولة المعنية إن لم يكن هناك سبب يمنع ذلك، كما أن موظفيها ينتمون بشكل عام إلى الدولة عينها وتجد مساندة مباشرة من لدن الأنظمة القانونية الوطنية. ومن المحتمل أن يصبح النموذج المختلط أكثر انتشارا خلال السنوات القليلة المقبلة، باعتبارها توفر حلا للأنظمة الوطنية الواسعة الامتداد والقليلة التجهيزات.
وفي الوقت نفسه، قد تواجه هذه المحاكم المختلطة انعدام التعاون من طرف الدولة التي تقام عليها أو من طرف دول أخرى، إلا أن العلاقة مع مجلس الأمن وسلطات "الباب السابع" من ميثاق الأمم المتحدة يمكن أن تسد بعض الثغرات. كما أن الرغبة في اكتساب الاستقلال المحلي إلى أقصى حد أدى إلى نتائج عكسية لصعوبة العثور في بلد عدالته مشكوك فيها على موظفين ذوي خبرة ومدربين بشكل مناسب. وأخيرا، وكما هو الشأن بالنسبة إلى المحاكم الدولية، قد تثير المحاكم المختلطة آمالا وطنية تتجاوز ما هو ممكن عمليا بالنظر إلى الموارد المحدودة والقيود الداخلية التي ترجع إلى عملية العدالة القضائية.
فالمحاكم المختلطة هي بطبيعتها مواءمة القوانين الدولية والوطنية بهدف الوصول إلى الحقيقة والعدالة في أمر ما، وهي تنشأ باتفاقات خاصة بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، تحدد فيها كل الأمور المتعلقة بالمحكمة لجهة التشكيل والقوانين التي تلجأ إليها إضافة إلى قواعد الأجراء والتنفيذ.
أما لجهة السوابق[9] فثمة العديد منها، كان آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975 و1979، وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات، ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من قاضيين دوليين، وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر المحاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية. كما آن تعيين القضاة الأجانب يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة، واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين، وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية. إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000، وقد أنشئت في العام 2002 وهي مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996، مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما يتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.
أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة، بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975، وعمدت الأمم المتحدة إلى إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في الحالة اللبنانية كمحكمة مختلطة تنعقد على الأراضي اللبنانية، فتستلزم العديد من الإجراءات، أولها إبرام اتفاق بهذا الشأن بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة والذي لا يصبح نافذا إلا بإبرام مجلس النواب له وفقا لنص المادة 52 من الدستور اللبناني. كما يتوجب على المجلس النيابي إصدار قانون خاص مراعاة للمادة 20 من الدستور التي تنص على "السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة". وكذلك منع قوانين العفو ووقف العمل بالحصانات القضائية، وكذلك تحديد مدة التوقيف الاحتياطي في جرائم القتل والجرائم ضد أمن الدولة والجرائم المسماة خطرة. كما تتطلب مثل هذه المحاكم تعديلات لبعض القوانين لتتلاءم مع المعايير الدولية كإلغاء عقوبة الإعدام.
وإذا كان هناك من سبب يمكن أن تواجه انعقاد المحكمة المختلطة على الأراضي اللبنانية لدواع مختلفة كما هو مشار في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، فمن الممكن انعقادها خارج لبنان وهو أمر بدوره يستلزم بعض الإجراءات، منها وجوب توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة توضع بموجبه أصول المحاكمة وقواعدها وتحدد فيه صلاحية المحكمة المادية والشخصية والزمنية. على أن ينص الاتفاق على تطبيق الأصول والإجراءات الجزائية اللبنانية مع بعض التعديلات التي تقتضيها المحاكمات المتوافقة مع المعايير الدولية والتي تتطلبها المحاكمة العادلة، والمراجعة أمام هيئة قضائية عليا. وكذلك توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة على أن تمنح المحكمة المختلطة حق إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين مهما كانت جنسياتهم وعلى أن تتولى الأمم المتحدة مهمة التفاوض مع الدول التي يتبين أن أحد رعاياها ضالع في عملية الاغتيال أو التفجيرات وذلك بهدف تسليمه إلى المحكمة المذكورة. إضافة إلى قضايا التعويضات الناجمة عن الأذى الذي لحق بالمتضررين من جريمة الاغتيال.
إن المحكمة اللبنانية الدولية ستكون موضع متابعة ومراقبة شديدتين نظرا للقضية التي تنظر فيها وما لها من ارتدادات داخلية وخارجية، كما تعتبر تحديا كبيرا للكثير من المواقع الدولية التي تدخلت بهذه القضية بشكل أو بآخر تحت ذرائع ومبررات متنوعة ومتعددة، ولذلك فسوف تأخذ قسطا كبيرا من المتابعات بهدف الوصول إلى مبتغاها، إضافة إلى أن القرار المتخذ بشأنها واضح لجهة دعم القضاء اللبناني لجهة النقلة النوعية التي ستساعده في أخذ موقعه المفترض في هذه القضية وغيرها.
أن التداخلات السياسية في مثل تلك المحاكم تعتبر من الأمور المعتادة، فمجلس الأمن مثلا كان أجاز لنفسه حق التدخل في المحكمة الجزائية الدولية من خلال الطلب إلى القضاة بتعليق ملاحقة الشخص المتهم لمدة عامين.
وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في تقييم ما ورد في النظام الأساسي للمحكمة المقترحة،فما هي المقاربات والملاحظات التي يمكن استخلاصها في سياق التعليق على نصوصها.
- في التسمية تمّ اللجوء إلى تغيير اسم المحكمة من المختلطة إلى المحكمة الخاصة بلبنان،ما يوحي وكأن لبنان بأكمله بيئة مناسبة لإقتراف الجرائم الإرهابية،ونزع صفة الخصوصية عن المحكمة المختلطة التي هدفت الى محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري.
- لجهة الاحتذاء بالسوابق فثمة اتجاه للأخذ بما توصلت إليه الأمم المتحدة من إنشاء محكمة مختلطة لتيمور الشرقية التي غلب عليها الطابع الدولي أكثر من المختلط،بمعنى أن نظام المحكمة لتيمور أسس بيئة مناسبة لتغيير وتعديل القوانين المحلية بما يتناسب مع ظروف التدخل الدولي آنذاك لإنشاء نظم قانونية جديدة.واخطر ما في ذلك من إمكانية تطبيق هذا الخيار على الواقع اللبناني بما يحمله من إمكانية تعديل الكثير من القوانين اللبنانية وهذا ما أتى في بعض المواد التي سنشير إليها لاحقا.
- لم يؤخذ بالنموذج الكمبودي على سبيل المثال،ففي تلك المحكمة يلاحظ الغلبة للبيئة القانونية المحلية حيث عدد القضاة في كلا الدرجتين هم أكثر من القضاة الدوليين،وكذلك تعيين القضاة الدوليين يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة وكذلك تعيين المدعي العام الرديف،بينما في نظام المحكمة الخاصة في لبنان فالأمر معكوس تماما.
- ليس ثمة أية سابقة أن أنشأت محكمة خاصة دولية أو ذات طابع دولي بهدف محاكمة مرتكبي جريمة سياسية ويبدو من توصيف الجريمة في الأساس على أنها عمل إرهابي هدفه إتاحة الفرصة لمجلس الأمن التدخل لأهداف سياسية متعلقة ببعض دول المنطقة.
- وخلافا لمحاكم أخرى لن تنظر المحكمة في جرائم تعتبر عادة جرائم ضد القانون الدولي كجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وفي ما يتعلّق بجريمة الإرهاب التي تتكرر بشكل واضح في قرارات مجلس الأمن فليس هناك تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذه الجريمة أو عقاب معيّن لها. وليس هناك سابقة لمحكمة دولية أن نظرت في جريمة وصفت بأنها عمل إرهابي. لذلك لا مناص من تطبيق القانون اللبناني على جريمة هي في الأساس من اختصاص القضاء اللبناني. وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من مسودة النظام الأساسي للمحكمة المقترح.
- لقد تمَّ التنازل عن كل ما حفظه مجلس الأمن في قراره الرقم 1595، الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية، للسلطات اللبنانية من سيادة بالنسبة إلى إدارة التحقيق وتطبيق القانون في شأن الأعمال الجرمية التي رافقت اغتيال الرئيس الحريري وآخرين، إذ نصَّت المادة (4) من مسودة النظام الأساسي للمحكمة «عند تعيين المدعي العام وفي فترة لا تتعدّى الشهرين، ستطلب المحكمة الخاصة من السلطات القضائية الوطنية المسؤولة عن قضية الهجوم الإرهابي على رئيس الوزراء رفيق الحريري وآخرين، الخضوع لاختصاصها»، وكذلك سوف تحيل السلطات اللبنانية بناء على طلب المحكمة الخاصة الموقوفين ونتائج كل التحقيقات ونسخ عن سجل المحكمة. وبناء على طلب المحكمة أيضاً، «ستخضع السلطة الوطنية المعنية لاختصاص المحكمة».
- إن كفّ يد القضاء اللبناني بصورة فورية وقبل انتهاء التحقيق يعتبر مخالفاً لقرار مجلس الأمن الرقم 1644 الذي أقرّ في البند (6) منه طلب الحكومة اللبنانية بأن «يحاكم من توجّه لهم في آخر المطاف تهمة الضلوع في هذا العمل الإرهابي أمام محكمة ذات طابع دولي....»، فهل بلغ التحقيق آخر المطاف؟ وهل يجوز اختصار التحقيق أو النيل من وحدته من طريق إحالته على مدّعي عام المحكمة الخاصة قبل تمامه؟.
- ثمة ثغرات كبيرة لجهة القانون الواجب التطبيق من الناحية الإجرائية والتي تثير الشبهة وعلامات الاستفهام. فبالنسبة إلى إجراءات المحاكمة وقواعد الإثبات إذ أن مسودة نظام المحكمة لم تلحظ قواعد معينة لأصول المحاكمات وقبول الأدلة. إذ ترك لقضاة المحكمة الخاصة وفقا للمادة (28) وضع نظام إجراءات بعد تأليفها وهو أمر يمثّل سابقة خطيرة في القضاء الجزائي.
- في المادتين (13) و(16) منه، أخذ مشروع النظام بصورة عامة المعايير الدولية للمحاكمات الجنائية الدولية وبخاصة لجهة حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، بيد انه اغفل الإشارة إلى حق الموقوف في طلب تخلية سبيله من المدعي العام لدى المحكمة الخاصة ضمن مهلة زمنية معقولة إذا لم تتوافر لدى المدعي العام أدلّة في حقه تجيز استمرار التوقيف. وهذه فجوة مهمة جدّاً بالنسبة إلى مصير الضباط الموقوفين.
- إن أخطر ما في مسودة نظام المحكمة الخاصة توسيع صلاحيات المحكمة بحيث تمتد، بالإضافة إلى جريمة اغتيال الرئيس الحريري، إلى أعمال أخرى مماثلة في طبيعتها وخطورتها «حصلت في لبنان بين الأول من تشرين الأول 2004 و31 كانون الأول 2005 أو أي تاريخ لاحق يقرر باتفاق الأطراف المعنية وموافقة مجلس الأمن». إن توسيع صلاحية المحكمة هذا، بالإضافة إلى أنه يتعدّى منطوق قرار مجلس الأمن الرقم 1664 الذي هو المستند الأساسي في إنشاء المحكمة الدولية، والذي يحصر ولاية المحكمة «بالتفجير الإرهابي الذي أدّى إلى مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وآخرين» على أن تُنشأ «محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع من تثبت مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الإرهابية».
- إن توسيع صلاحية المحكمة في الزمان وبالنسبة إلى أفعال جرمية يترك لاستنساب المحكمة تبنّي معايير التشابه في الطبيعة والخطورة مع الأعمال الجرمية التي أودت بحياة الرئيس الحريري، يخالف مبادئ أساسية في القانون الجزائي وخاصة أن قرار مجلس الأمن الرقم 1664 اعتمد كون المحكمة ذات الطابع الدولي يجب أن تستند إلى «أعلى المعايير الدولية في القضاء الجنائي». إن قرار توسيع اختصاص المحكمة إلى أعمال جرمية قد ترتكب مستقبلاً ويترك للمحكمة القرار في شأن اختصاصها للنظر فيها يصعب تجريده من أهداف سياسية.
- ليس ثمة أية هيئة قضائية أو إدارية يمكن مراجعتها في حال مخاصمة أحد القضاة أو موظفي المحكمة لأسباب إدارية أو مالية.
- لم تحدد المادة (5) من مشروع الاتفاق، كيفية تمويل المحكمة.
ثمة الكثير من النصوص الغامضة والملتبسة القابلة للتأويل وبالتالي إمكانية استثمارها السياسي باتجاهات تحرف عمل المحكمة عن الوصول إلى الحقيقة.وبخاصة التوسع في إمكانية شمل الجرائم وما يمكن ربطها بها.فماذا على سبيل المثال لو توصلت المحكمة إلى استنتاج مفاده أن أي عملية نفذت ضد إسرائيل هي عملا ارهابيا وبالتالي سيكون الموضوع من صلاحيتها للنظر به.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها ومن الصعب الإجابة عليها من دون النظر إلى الخلفيات السياسية التي تستهدفها القوى الدولية من إنشاء مثل هذه المحاكم.ثمة جرائم كثيرة وكبيرة افتعلت ونفذت عبر التاريخ لتمرير أشياء أخرى ليس لها علاقة بالمحاكمات التي جرت لها لاحقا،والثابت في التاريخ أن كل الجرائم الكبيرة التي تنفذ ليس لكشفها لاحقا بقدر ما تكون تغطية لتمرير مؤامرت بحجم الجريمة المرتكبة!.
سادسا الأبعاد القانونية والسياسية للقرار 1757 وتداعياته
توَّج القرار 1757 سلسلة قرارات دولية وضعت قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري على مفترق طرق،متعدد الاحتمالات ومتنوع الوسائل،ورغم أن الهدف المعلن على الأقل هو واحد،فإن ما ينذر ويلوح في الأفق ربما يكون غير ذلك،فماذا في القرار 1757 ؟وما هي بيئته القانونية والسياسية ؟وما هي تداعياته المحلية والإقليمية؟وهل ستتمكن المحكمة في النهاية من تقديم إجابات وبالتالي أحكام على سيل من الأسئلة الملتبسة الطويلة والمتنوعة بتنوع الأطراف المشاركين فيها؟.ففي الشكل أولا يمكن تسجيل عدة ملاحظات أبرزها:
- أتى القرار 1757 مقتضبا ومرتكزا على سيل من القرارات الدولية ذات الصلة بالموضوع الأساس بدءا بالقرار 1595 الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية ،مرورا بالقرارات 1636 و1644 و1664 وصولا إلى 1748 ،إضافة إلى عدد من المذكرات والمراسلات والتقارير ما يوحي أن ثمة محاولة للربط والوصل بين جميع عناصر القضية من وسائل إجرائية وموضوعية تهدف في النهاية لتكوين شبكة دفاع قانونية للبيئة التي ستنطلق منها المحكمة لجهة التأسيس والتكوين وصولا للإجراءات والأحكام.
- حاول نص القرار أن يكون متوازنا لجهة الارتكاز القانوني في الشق اللبناني المتعلق بالأسباب الموجبة لنقل موضوع الإقرار إلى مجلس الأمن وبالتحديد الفصل السابع،فالقرار أشار "إلى الإحاطة التي قدّمها المستشار القانوني - للأمين العام للأمم المتحدة - في الثاني من أيار 2007 والتي لاحظ فيها أنّ إنشاء المحكمة عن طريق العملية الدستورية تواجه معوقات جدية، لكنه لاحظ أيضا أن جميع الأطراف المعنية جددّت تأكيد اتفاقها المبدئي على إنشاء المحكمة". فالقرار وإن أقر بإجماع اللبنانيين على مبدأ إنشاء المحكمة لم يشر إلى الأسباب الحقيقية لعدم إقرارها في المؤسسات الدستورية اللبنانية إلا عرضاً عند الإشارة إلى مذكرة الأغلبية النيابية مع إغفال تام للمذكرة المقابلة المتعلقة بتحفظات المعارضة على مشروع النظام الأساسي للمحكمة، كما أن ثمة لغط والتباس كبيرين حصلا في موضوع عرض مذكرة رئيس الجمهورية على مجلس الأمن في إثناء المداولات التي جرت قبيل صدور القرار 1757.
- تمَّ إعادة التركيز على ذكر الارتكاز على الفصل السابع في صدور القرار ".. يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويقرر.."، رغم استناده على مجموعة قرارات سابقة صُنفت ضمن الفصل السابع،ذلك في معرض التأكيد على لزوم ما لا يلزم.
- ثمة تعددٌّ في تسمية المحكمة في نص القرار رغم اختلاف أنواعها وسبل تشكيلها وتكوينها وآثارها،فتارة تورد تحت اسم " إنشاء محكمة ذات طابع دولي" وتارة تذكر" إنشاء محكمة خاصة للبنان" وتارة أخرى "المحكمة الخاصة ".ولكل واحدة منها دلالاتها وخلفياتها الخاصة
- وفي الشكل أيضا لكن له من الدلالات الكثيرة الفارقة أن القرار لم يصدر بإجماع أعضاء مجلس الأمن الدولي وهي سابقة في هذه القضية بالذات،فجميع القرارات السابقة وكذلك بيانات رئاسة مجلس الأمن ذات الصلة صدرت بالإجماع ،علاوة على أن ثمة إصرار واضح قد جرى على الإجماع باستثناء هذا القرار الذي يبدو وكأنه رُتب على عجلّ،ففي حسبة بسيطة تظهر أن الخمس دول التي لم تصوِّت على القرار تشكّل عمليا نصف سكان الكرة الأرضية.
وإذا كان ثمة ملاحظات في الشكل على نص القرار،فإن العديد منها يمكن أن تسجل في مضمون القرار والتي سترتّب مظاهر وتداعيات وسلوكيات لبنانية وإقليمية مختلفة لاحقا،ما يؤثر على جوهر القضية نفسها وهي كشف قتلة الرئيس رفيق الحريري،ومن بين هذه الملاحظات:
- لقد وُصِفتْ جريمة الاغتيال بالعمل "الإرهابي" وهي وردت أربع مرات في متن القرار.وعلى الرغم من أن هذه الجريمة تعتبر من أبشع الجرائم وأكثرها أثرا وتداعيات،فثمة خلاف دولي واضح وفي الأمم المتحدة تحديدا على التعريف والتوصيف والتكييف القانوني للعمل الإرهابي،فكيف يمكن توصيف هذه الجريمة بالإرهابية استنادا إلى معايير غير موجودة في الأساس أو غير مُتفق عليها في الأعراف والقوانين الدولية ذات الصلة.
- وعلى الرغم من حجم ودور وموقع الرئيس رفيق الحريري في السياسات المحلية والإقليمية والدولية ،ثمة مفارقة وسابقة أن اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً وفي الفصل السابع تحديدا ودون إجماع أعضاء المجلس اعتبر فيه :" أنّ هذا العمل الإرهابي والآثار المترتبة عليه يشكّل تهديداً للسلام والأمن الدوليين".
- لقد تجاوز مجلس الأمن لكثير من الأهداف والمبادئ التي قامت عليها الأمم المتحدة وبخاصة الفقرة (7) من المادة (2) التي تنص على أن :" ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخّل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما،وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرِّضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق".وتأسيسا على الاتفاق الموقع بين الحومة اللبنانية والأمم المتحدة حول مشروع النظام الأساسي للمحكمة ،فان صاحب الصلاحية والسلطان في إقرارها الأساسي هي آليات محددة في الدستور اللبناني،وإذا كان ثمة ظروف سياسية معروفة قد اعترضت طريق الإقرار الدستوري في لبنان،فليس ثمة ما يجبر أو يفرض على مجلس الأمن إقرارها في الفصل السابع سيما وأن آليات الإقرار في الفصل السابع لها محددات خاصة ليس ثمة إجماع عليها في مجلس الأمن والمتعلقة بتعريض الأمن والسلم الدوليين للخطر.علاوة على ذلك إن هذا الأجراء أي الإقرار هو مخالف لنص وروح المادة (102) من ميثاق الأمم المتحدة التي تعتبر الأمانة العامة بمثابة المستودع التي تودع فيه الاتفاقات الدولية بعد إبرامها بين الدول والأمم المتحدة وفقا للأصول القانونية والدستورية المعتمدة في كل دولة.كما انه ليس في هذا الميثاق ما يجبر أو يحدد المواقيت أو الآليات التي يفترض إتباعها لإبرام الاتفاقات بين الدول والأمم المتحدة على قاعدة حفظ سيادات الدول على سلطانها الداخلي والخارجي إلا في حالات محددة وهي غير متوفرة في هذه القضية وليس عليها إجماع داخلي لبناني أو إقليمي أو دولي لجهة اللجوء للفصل السابع باعتبارها قضية تهدد الأمن والسلم الدوليين.
- ثمة لبس في توصيف القرار على انه فعلا في الفصل السابع أم لا، ففي النص يصنف مجلس الأمن القرار نفسه في الفصل السابع الذي لا يستلزم موافقة الأطراف المعنية فيه لتطبيقه، بينما في بعض الصياغات يتم اللجوء الى عبارات ومصطلحات يبقي للحكومة اللبنانية أمر البت في بعض المسائل على سبيل المثال الفقرة (ب) من المادة (1) : "... إذا أبلغ الأمين العام أنّ اتفاق المقر لم يبرم ....، فإنه يحدد موقع مقر المحكمة بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، ويكون ذلك رهن بإبرام اتفاق مقر بين الأمم المتحدة والدولة التي ستستضيف المحكمة".فمن جهة إن تحديد المقر سيتم "بالتشاور" أي ثمة رأي للدولة اللبنانية وان لم يكن ملزماً وهذا ما يتناقض مع مرامي وغايات الفصل السابع للميثاق ألأممي، بيد انه في المقابل ربط موضوع مقر المحكمة باتفاق بين الأمم المتحدة والدولة المضيفة بمعنى أن عملية التشاور يمكن أن تبقى قائمة حتى إبرام الاتفاق بين الأمم المتحدة والدولة المضيفة.وفي نفس السياق أيضا المادة (2) التي تشير إلى :" يطلب إلى الأمين العام أن يتخذ، بتنسيق مع الحكومة اللبنانية عند الاقتضاء، الإجراءات والتدابير اللازمة لإنشاء المحكمة الخاصة في موعد قريب" أي "التنسيق" و"عند الاقتضاء" وهي اقل مرتبة من التشاور إذ أن التنسيق يتمُّ عادة في المسائل الإجرائية التي تمَّ إقرارها في الأساس وكذلك الاقتضاء إذا كان ثمة حاجة لذلك.
- وعطفا على ما سبق قوله،إن إقرار القرار 1757 وفقا للفصل السابع يشكل سابقة لجهة حلول مجلس الأمن محل السلطات التشريعية للدول في مجال إبرام المعاهدات الدولية،وهي قضية مخالفة للميثاق ألأممي،وأمر من شأنه حيازة مجلس الأمن في الوقت نفسه على مسارين ينبغي أن يكونا غير مرتبطين في جهة واحدة وهما اتخاذ أمرين تقريري وتنفيذي في آن معا. إذ أن إجراء كهذا أمر من شأنه التدخّل في مسائل من صميم سيادات الدول وبخاصة القضايا التشريعية وإبرام المعاهدات ومجالسها والتي توصّف في علم القانون الدستوري على أن هذه المجالس التشريعية تعتبر أم المؤسسات الدستورية في الدول وتسمو على ما عداها من سلطات باعتبارها تمثيل مباشر للشعب.وعندها ستفسح المجال أمام عرف يقضي بالتدخل لإقرار قوانين ومعاهدات ولو اختلف عليها أصحاب الشأن الداخليين.
وإذا كانت هذه الملاحظات السالفة الذكر توجّه إلى القرار شكلا ومضمونا،فما هي خلفياته تداعياته المستقبلية؟ وفي هذا الإطار ندرج بعض أهمها:
- أنّ مسألة نظام المحكمة مفصولة من الناحية الوظيفية عن الاتفاقية الثنائية الموقعة بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة المطلوب إبرامها فالأمران مرتبطان بهدف واحد وهو جلاء الحقيقة وتبيانها في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري،فصحيح أن نظام المحكمة هي بمثابة الآلية التي يمكن إصدارها بطريقة أخرى غير مقررة في الأساس حصرا بالمؤسسات الدستورية اللبنانية وهذا ما انطوى عليه جملة القرارات الصادرة والمؤسسة للمحكمة ونظامها الأساسي كالقرارات 1595 و1644 و1664 وجميعها مُدّرجة ضمن الفصل السابع.وصحيح أيضاً أنَّ إقرار المحكمة في الفصل السابع يمكن أن يكون متدرِّجا وليس بالضرورة البدء في المادة (42) وما يليها أي استعمال القوة بوجه من يعرقل سير عملها أو لا يتجاوب مع متطلباتها أو آليات إجراءاتها. إلا أن الصحيح أيضا أن التدرّج في فرض العقوبات الزاجرة في الفصل السابع أتى في سياق "حتمي" لا اختياري أو استنسابي وهو مرتبط أولا وأخيرا بالمزاج السياسي الدولي ومن يتحكّم به في دهاليز مجلس الأمن الدولي.إذ ليس ثمة سابقة دولية اتخذت في مجلس الأمن وفقا للمادة (41) مثلا والقاضية بالحصار البحري والبري وقطع العلاقات الدبلوماسية إلا واستكملت بإجراءات عقابية عسكرية لاحقة،وكأنه يمكن القول أن المادة (41) وضعت لالتقاط الأنفاس وتنظيم الأوضاع والأجواء قبل اللجوء إلى العقوبات العسكرية وفقا للمادة (42).وعليه يمكن القول إن المآل الأخير لهذه الخطوة ليست برأينا سوى مقدمة لإمكانية استعمال القوة ضد من يعنيهم الأمر.
- وإن بدا مجلس الأمن قد حافظ على الصيغة الأساسية لنظام المحكمة التي لم تُقر في الأطر الدستورية اللبنانية، فان المضيَّ به وفقا لهذا الشكل من الإقرار يعني فيما يعنيه إبقاء آلية التنفيذ اللاحقة غير محددة عمليا،فكيف يمكن مثلا إجبار طرف لبناني أو غير لبناني لن يتعاون أو يتجاوب مع متطلبات المحكمة على الرضوخ؟إن الجواب ببساطة استعمال القوة فمن سيستعملها في هذه الحالة السلطات اللبنانية أم غيرها؟وإذا كان الأمر متعلقا بلبنانيين وتطال رموزاً معينة كيف سيتمُّ التعامّل مع هذه القضيّة؟ وإذا كان الأمر متعلقاً بغير لبنانيين هل ستكون السلطات اللبنانية هي مشروع صِدام مع دول أخرى؟وإذا كان ثمة نية باستعمال الأمم المتحدة لقواتها الموجودة في جنوب لبنان مثلا وسيلة متاحة لتنفيذ متطلبات المحكمة فما هو مصير هذه القوات نفسها وكيف سيكون التعامل معها من بعض الأطراف اللبنانيين؟
- بات من الواضح جدا أن الإسراع في نقل المحكمة إلى مجلس الأمن وإقرارها ضمن الفصل السابع في هذه الظروف تحديدا هو تدويل الوضع اللبناني برمته،وفتحه على احتمالات كثيرة من الصعب التنبؤ بنتائجها وتداعياتها القريبة والبعيدة إلا أن أقل ما يقال فيها وضع لبنان على لائحة الاستثمارات السياسية الإقليمية والدولية وإعادته إلى أجواء سني الحرب الماضية التي باتت محفورة في ذاكرة اللبنانيين.
- إن إقرار المحكمة بهذا الشكل يعني أنَّ القوى الخارجية الفاعلة في هذه القضية وضعت اللبنانيين أمام مبدأ الغالب والمغلوب وهي صيغة غالبا ما كلّفت لبنان أزمات وطنية حادة كانت بمثابة الوقت المستقطع لتمرير أمور إقليمية أخرى لا علاقة للبنانيين بها.فجميع الأطراف الدولية والإقليمية لها مصلحة حقيقية في تقطيع الوقت عبر المحكمة بهدف الوصول إلى مبادئ عامّة لمشاريع حلول لقضايا أكبر من لبنان وأكبر من الأهداف التي أُنشأت من أجلها المحكمة.
- إن إقرار المحكمة على توقيت الاستحقاقات الداخلية اللبنانية علامة فارقة في نية القوى الدولية تهريب هذه الاستحقاقات ووضع اللبنانيين أمام خيارات أحلاها مر،فانتخابات الرئاسة مرتبطة بالتوافق الداخلي الذي لم يكن ينقصه سوى هذا الانقسام الحاد على إقرار نظام المحكمة.
- إن المعني الرئيس بهذا الإقرار هو سوريا تحديداً.فسوريا التي تعاونت وباعتراف رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج برامرتز في تقاريره السابقة، أكدت على لسان مسؤوليها سابقا أنها ليست معنية بموضوع المحكمة واعتبرتها مشروع اتفاقية لم تشارك بها،ويأتي هذا الإقرار في الفصل السابع ليلزم سوريا بما ستؤول إليه الأمور لاحقا،سيما وان الانفتاح الأمريكي على سوريا حاليا يستلزم بعض الكوابح الضرورية مستقبلا في عمليات الابتزاز السياسي ،إذ أن المحكمة وإجراءاتها بحسب رأي البعض ستكون عدة الشّغل اللازمة للحوار أو بمعنى أدق التفاوض بين دمشق وواشنطن على قضايا عديدة ومتنوعة من بينها لبنان والعراق والعلاقة مع إيران وعلى رأس هذه المواضيع كلها ملفات الصراع العربي - الإسرائيلي بتفاصيله المملة.
- إن إقرار المحكمة وآلية تنفيذ إجراءاتها لاحقا ستنشئ أجواءً تصادمية داخلية وخارجية لن تتمكن السلطة من القيام بها منفردة،الأمر الذي سيستدعي اللجوء إلى خيارات أخرى على الأرجح ستكون قوات اليونفيل من بينها بعد تعزيز مقومات تحركها من الناحية القانونية وفقا للقرار 1701 ،وما يعزز هذا الاحتمال ما أقدم عليه مؤخرا مجلس الأمن في قرار رئاسي بتشكيل بعثة لتقصي الحقائق بين لبنان وسوريا،وبذلك ستكون الخطوات الدولية متلازمة ومترافقة مع بعضها البعض في هذا الاتجاه ما يُنذر بإمكانية تغيّرات دراماتيكية سريعة يمكن أن تعيد خلط الأوراق في المنطقة كلها.
- ثمة توجّس وخوف كبيرين بأن إقرار المحكمة في الفصل السابع سينسحب على الوضع القانوني لقوات الطوارئ في جنوب لبنان، ربطا بسوابق مماثلة على الصعيد الدولي وان اختلفت تسمية ونوعية المحاكم.فجميع القوات التي أنشأت في يوغسلافيا السابقة وراوندا وتيمور الشرقية والتي ترافقت مع محاكم دولية خاصة ومختلطة أنشأت استنادا إلى الفصل السابع،بتبريرات متنوعة ومختلفة وبخاصة حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في جرائم غير مماثلة.إن الحالات السابقة السالفة الذكر لم تمكن أصحابها من الوصول إلى الأهداف المرجوة وبخاصة في قضية سلوفودان ميلوسوفيتش، فيوغسلاقيا قُسمت قبل أن يتوفى هذا الأخير في سجنه وقبل صدور أي حكم بحقه.فهل سيكون الوضع في لبنان متشابها أو مماثلا؟.
إن قدر الدول الصغيرة أن تبقى دائما فريسة سهلة للأهواء والأنواء الإقليمية والدولية،فهل سيكون إقرار المحكمة في الفصل السابع بداية لفصول سوداء أخرى في تاريخ لبنان السياسي المعاصر، وأمر من شأنه فتح مصير لبنان على بدايات لا يعرف أحدا نهاياتها؟ إن استقراء تاريخ محاولات الوصول للعدالة الدولية يؤكد ذلك!.
سابعا: ملاحظات على انتقائية الشرعية الدولية
بصرف النظر عن الصورة الوردية التي تظهرها بعض السلوكيات الدولية المتعلقة بمحاولة ايجاد بيئة قانونية للعدالة الدولية، ثمة واقع مغاير ومخالف لما هو سائد منطلقه ازدواجية التعامل الدولي وانتقائيته،ما يرسم صورة قاتمة لمستقبل ومصير العدالة الدولية،وفي هذا المجال يمكن رصد العديد من الملاحظات ابرزها:
- لقد صورت المحاولات الدولية لايجاد البيئة القانونية لتنفيذ العدالة الدولية على انها جادة ومقبولة من اطراف المجتمع الدولي،الا ان الامر يبدو مجافيا للواقع،فثمة اسئلة كثيرة تثار في هذا المحال ومنها هل ان من مصلحة الدول الكبرى المتنفذة على الصعيد الدولي انشاء آليات قانونية للمحاسبة في الوقت التي هي نفسها ترتكب الجرائم والمحرمات؟وهل يمكن الجمع بين وظيفة القاضي والجلاد في آن معا؟وفي نهاية الامر ومهما كانت خلفية البيئة القانونية للعدالة الدولية هل يمكن فصلها عمليا عن التوازنات الدولية ومصالح الفاعلين فيها؟.
- لم يكن هناك تعاطيا جديا مع انشاء المحكمة الجنائة الدولية وبخاصة من الولايات المتحدة،اذ سرعان ما تراجعت عن التوقيع خوفا من محاكمة جنودها ومسؤوليها امام هذه المحكمة كما فعلت اسرائيل الامر عينه وللأسباب ذاتها.
- ورغم اهمية الفكرة ووجوب التسريع في انجازها فقد تأخرت خطوات التنفيذ طويلا ولا يزال هناك مزيدا من الوقت لكي تأخذ المحكمة موقعها القانوني المفترض،وان تكون ملجأ قانونيا نهائيا لجرائم الحرب وغيرها.
[1] - ونجد لاحقا أن يوليوس قيصر قد يكون شكّل حلقة أساسية في التاريخ السياسي الأوروبي وقد يكون الركيزة الأولى للحداثة الاوروبية، أي وفق نموذج روما، هيئة قضائية استثنائية يقرّها ويحددها مجلس شيوخ SENAT، وهو ما لا يمتّ بأي صلة طبعاً بالاستيلاء على السلطة المطلقة والتوتاليتارية على طريقة القرن العشرين.
[2] - ويعلق روبرت دارنتون أستاذ تاريخ أوروبا الحديث في جامعة برنستون قائلاً: وإذا كانت الثورة قد أعلنت حقوق الإنسان والمواطن فإنها لم تلبث أن أهدرت هذه الحقوق بما ارتكبته من جرائم ومذابح وموجات إرهاب اجتاحت فرنسا كلها بعد 5 سنوات فقط من إعلان تلك الحقوق لدرجة أن بعض المؤرخين البريطانيين مثل ألفريد كوبان كان يصف إعلانات حقوق الإنسان والمواطن بأنها مجرد أسطورة.ويقول المؤرخ الفرنسي بيير كارون الذي أصدر عام 1935 كتابًا عن المذابح التي حدثت في السجون الباريسية إبان عهد الثورة في 2 /9/ 1792.. يقول فيه: كان لهذه المذابح طابع شعائري جارف، وقد بدأت بالهجوم على بعض السجون بزعم القضاء على بعض المؤامرات التي كانت تدبر فيها للإطاحة بالثورة، وأقام «الدهماء» من أنفسهم محكمين وقضاة ومحلفين في فناء هذه السجون، حيث كان السجناء يقدمون للمحاكمة واحدًا بعد الآخر فتوجه إليهم التهم ويحكم لهم أو عليهم ليس تبعًا للأدلة والشواهد؛ وإنما تبعًا لمظهرهم العام وسلوكهم وشخصيتهم بل وتكوينهم الجسدي. كما كان أي تردد أو أي اضطراب يظهر على الشخص يعد دليلاً للإدانة وعلى ثبوت التهمة فيحكم عليه بالإعدام، وكان الذي يتولى المحاكمة وإصدار الحكم شخصًا عاديًا، كما كانت أحكامه تقابل بالتصفيق والصياح من الجماهير الذين تجمعوا من الشوارع المحيطة وأصبحوا بمثابة محلفين، وتمثلت نتائج الثورة في انعقاد المؤتمر الوطني عام 1892 الذي قرر إلغاء الملكية وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة ماري أنطوانيت وكثير من الأشراف والنبلاء، كما قرر إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى ووضع السلطات التنفيذية للدولة في يد مجلس رئاسي مكون من 5 أعضاء، وكانت هذه نموذجا لمحاكمة مجرمي حرب ولكن بسلطة ثورية ديكتاتورية.راجع خالد أبو بكر، الثورة الفرنسية.. في الميزان،دون تاريخ.
[3] - لم تنفذ أي من هاتين الاتفاقيتين لعدم بلوغ نصاب التصديق المطلوب انذاك إضافة لنشوب الحرب العالمية الثانية التي أعادت إلى الواجهة موضوع إنشاء محكمة دولية جنائية حيث دعت سنة 1943 هيئات دولية في لندن إلى هذا الأمر، ومنها: المؤتمر الدولي في لندن، اللجنة الدولية لإصلاح القانون الجزائي، وذلك من خلال عقد مؤتمر يحضره ممثلو الحلفاء.
[4] - عبد الرحيم الخليف، القانون الجنائي الدولي من المحاكم المؤقتة إلى المحاكم الدائمة،ص 121 وما يليها.
[5] - ويعود ظهور مصطلح الجرائم ضد الانسانية الى التصريح الذي صدر عن حكومات كل من فرنسا وروسيا وبريطانيا العظمى في 28 يونيو 1915 والذي أعلن فيه أن ارتكاب تركيا للمذابح أدى إلى موت مليون أرمني، وطالبت هذه الدول بمحاكمة جميع الأتراك المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم. وفي هذا الإطار تقدمت روسيا بمشروع لتسمية هذه الجرائم بـ "الجرائم ضد المسيحية والحضارة" لتضفي عليها طابعاً دينياً خالصاً، ولكن عارضت كل من فرنسا وبريطانيا اللتان كانتا في ذلك الوقت إمبراطوريتان عظيمتان هذه التسمية، لأن كل من هاتين الإمبراطوريتين كانتا تضمان عدداً كبيراً من المسلمين بين سكانها، الأمر الذي أدى إلى إطلاق مصطلح الجرائم ضد الإنسانية على هذه المذابح.
[6] - فمثلاً تحفظت بعض الدول على الحمل الإجباري بعض الدول لتعارضه مع الديانة الإسلامية والمسيحية على حد سواء، وكذلك على جريمة التعذيب لتعارضها مع الحدود كعقوبة في الشريعة الإسلامية.
[7] - لقد انتقل تركيز العالم نحو المحكمة الدولية حين دخل الزعيم اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش قاعة المحكمة وهو يطلق عبارات السخط في فبراير عام 2002، وبعد مداولات مطولة وجهت المحكمة ستين تهمة ابادة جماعية وجرائم أخرى ضده ولعل تلك اللحظة كانت أهم لحظة بالنسبة للعدالة الدولية منذ عقود طويلة. وشكلت هذه المحاكمة علامة فارقة إذ أن ميلوسيفيتش المتهم بارتكاب جرائم التطهير العرقي وجرائم ضد الجنس البشري في كوسوفو وكرواتيا، هو أول زعيم دولة سابق يقف أمام محكمة جرائم الحرب الدولية. وبالتالي فان نجاح المحاكمة من فشلها سيشكل الجهود المستقبلية لمعاقبة أكثر مجرمي الحرب دموية حتى يقرر سياسيو المستقبل اختيار العدالة كواحد من المناهج السياسية لحكوماتهم.
[8] - وحالة ميلوسيفيتش مثال ساطع على فائدة هذه المحاكمات،باعتبار إن إلقاء القبض عليه آنذاك وتقديمه للمحاكمة مثل نجاحا باهرا إذ لم يعد آنذاك شخصية مؤثرة كما انها نجحت في استبعاده عن الحياة السياسية في البلقان وظل في السجن حتى وفاته مظلع العام 2006.
[9] - لمزيد من التفلصيل حول العدالة الدولية ،راجع خليل حسين، قضايا دولية معاصرة،دار المنهل اللبناني ،بيروت، 2007،ص ص 372 وما يليها.
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
شهدت المجتمعات البشرية قديما وحديثا شتى صنوف الجرائم راح ضحيتها الملايين عبر العصور قبل أن توصَّف تلك الجرائم وتحددّ أطرا قانونية لمحاكمة المسؤولين عنها.ولعل ابرز ما ظهر من صور فظيعة ما سميَّ بالجرائم ضد الإنسانية والتي كانت من بين احد نتائجها المقابر الجماعية ذلك لإخفاء وطمس تلك الجرائم. تعتبر المقابر الجماعية نتاج ابادة جماعية أو لجرائم حرب داخلية أي بين أطراف داخل البلد الواحد أو نتاج حرب تشارك بها أكثر من دولة أو أكثر من طرف، وفي كلا الحالين فهي تعبير صارخ عن جرائم ترتكب بحق الإنسانية،وقد شهدت العديد من الدول هذه الجرائم قديما وحديثا،وقد شكلت المقابر الجماعية نوعا من أنواع التغطية وطمس للجرائم المرتكبة بحق كثيرين تحت مسميات ومبررات وحجج مختلفة وامتدّت عبر العصور وشملت أنظمة متنوعة عقائديا وسياسيا وغيرها من التصنيفات،إلا أن المشترك بينها جميعا أن الضحايا غالبا ما كانوا من المدنيين أو أسرى حرب أو معتقلين سياسيين ومهما وُصِفَت هذه الجرائم فتظل تأخذ جانب الجرائم ضد الإنسانية باعتبارها تطال أشخاصا وأفرادا وحتى جماعات من المفترض أنها تتمتع بحماية القانون الدولي الإنساني ، فما هو التكييف القانوني لهذه الجرائم وكيف تمّ التعاطي معها ؟ وعلى من تقع المسؤولية وهل هناك طرف يتحمل نتائج هذه الأفعال والتعويضات؟
أولا : محاكم جرائم السياسيين من قيصر إلى ميلوسوفيتش
قد لا يعتبر البعض أن مؤامرة قتل يوليوس قيصر عام 44 ق.م هي الأولى في تاريخ المحاكمات السياسية، لكنها على الأقل قلبت المعادلة السياسية ومثلت تاريخا مهما انتهى بانهيار الإمبراطورية الرومانية،كما مثلت أول اتهام جماعي لإمبراطور ديكتاتور بالاستبداد ما أسس فيما بعد لمبادئ وقواعد القانون الدولي الجزائي.ويرى باحثون كثر أن ما يسمى بالمجتمع الدولي لم يعرف جهازاً قضائياً جزائياً دولياً له قوة القانون من حيث القرار والتنفيذ رغم الحاجة لمحاكمة الجناة ذلك بهدف حفظ حقوق البشرية في الأمن والسلام، لذلك كانت مثل هذه القضايا الدولية الجنائية مهملة.
وتشيد حوادث التاريخ أن أول محاولة لإجراء محاكمة سياسية كانت نتيجة أطماع نبلاء روما، فحيث عد الكثير من الباحثين يوليوس قيصر إمبراطورا ديمقراطيا ساعد الشعب وأنتجت حقبته تعديلات مهمة على صعيد القانون الاجتماعي حيث أجرى إصلاحات كثيرة ووضع النظم التي تكفل دعم الديمقراطية، وعمل على تحسين التقويم الروماني، ومنح الجنسية الرومانية للعديد من الناس، وأعطى الفرصة للفقراء لتحسين طريقة معيشتهم، وأسس المكتبات العامة.وقد أزعجت انتصاراته نبلاء الرومان الذين لم يروا فيه إلا طاغية يتطلع لتنصيب نفسه ملكاً، وهذا ما أجج عليه مجلس الشيوخ الروماني الذي دعاه لتسريح جيشه، لكنه تحدى المجلس واجتاز نهر روبكوف عام 49 ق.م. وبذلك اندلعت الحرب الأهلية الرومانية التي كسبها وقضى على خصومه ولكن إلى حين، إذ تجمعوا عليه وتآمروا وقرروا قتله بما يشبه قرارا جزائيا فاتهمه قواده وأصدقاؤه (كاسيوس وبروتوس) بالاستبداد وبذلك قضي على ديكتاتور روما الديمقراطي[1]..
نموذج آخر يظهر في الثورة الفرنسية التي اختلف المؤرخون والباحثون حول إقرار إن كانت ثورة من أجل الشعب أم كانت ضده، فقد عدت الثورة الفرنسية التي انطلقت شرارتها الأولى في العام 1789 من أهم الأحداث في تاريخ فرنسا وأوروبا كلها،فقد اسقط الثوار سجن الباستيل رمز الطغيان في 14/7/1789 وبسقوطه زادت قوة الثوار حتى أصدروا الدستور الجديد الذي اتخذ من الحرية والإخاء والمساواة قواعد انطلق منها إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26/8/1789 ثم إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية في 22 /8/1892، وقد سبق إعلان الجمهورية سجن لويس السادس عشر في 13/8/ 1792ثم إعدامه في 21 /12/ 1893 ثم إعدام زوجته ماري أنطوانيت في 16/10/ 1793[2].
ونظراً لتكرار الجرائم وبخاصة خلال الحروب أو خلال حكم الأنظمة الاستبدادية، سعى المجتمع الدولي إلى إنشاء محكمة جنائية دولية تختص بالمحاكمات الجزائية ضد مرتكبي الجرائم الدولية، وقد أخذ الاهتمام بإنشاء هذه المحكمة يتزايد خلال السنوات الأخيرة من قبل المنظمات العالمية أو من خلال الاتفاقيات الدولية أو بعض توصيات الأمم المتحدة، بل إن عصبة الأمم نصّت في المادة (14) على أن "يعد المجلس مشروعات بشأن إنشاء محكمة دائمة للعدل الدولي ويقدمها إلى أعضاء العصبة للموافقة عليها".
وجاءت اتفاقية فرساي لتنص على محاكمة قيصر ألمانيا وكل شخص تابع للحكومة الألمانية اتهم بارتكاب جرائم حرب أمام محكمة خاصة ذات صفة دولية، أما ثاني محاولة لإنشاء محكمة دولية جنائية فكانت سنة 1937، على إثر اغتيال ملك يوغسلافيا ووزير خارجية فرنسا عام 1934، وهو ما دعا إلى عقد مؤتمر دولي عام 1937 في جنيف، أسفر عن إبرام اتفاقيتين دوليتين تهتم الأولى بعقوبات جرائم الإرهاب، والثانية تعنى بإنشاء محكمة جنائية دولية[3].
وبانتهاء الحرب العالمية الثانية وفي عهد الأمم المتحدة عقدت محكمة نورمبرغ 8/8/1945 للنظر في الجرائم التي ارتكبها القادة الألمان خلال الحرب، ثم أعلن بعد ذلك وتحديداً في 19/1/1946 عن إنشاء محكمة طوكيو استناداً إلى تصريح بوتسدام حيث أصدر القائد العام لقوات الحلفاء في اليابان قراراً بإنشاء هذه المحكمة للنظر في جرائم بعض الجنود اليابانيين في الشرق الأقصى.
إلا أن هاتين المحكمتين كانتا من باب الثأر أكثر منها في باب المحاكمات القانونية العادلة، ما جعل هاتين المحكمتين بلا معنى قانوني أو أي شرعية دولية، ذلك أن اليابان أصابها ضرر بالغ لم يلحق بدولة أخرى، إذ هاجمتها الولايات المتحدة الأمريكية بقنبلة ذرية على هيروشيما في 6/8/1945 حيث قضت على 180 ألف نسمة من جملة 340 ألفاً ( أي أكثر من نصف سُكان المدينة)، وكذلك شن الاتحاد السوفييتي حرباً طاحنة على اليابان ودخل العسكر السوفييتي منشوريا وكوريا، وفي 9/8/1945 أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة ذرية ثانية على مدينة ناغازاكي حيث سحقت 80 ألف ياباني. وبعد بضعة أيام وجدت اليابان نفسها مجبرة على الاستسلام، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي يجب معاقبة مجرميها منهم الرئيس وقائد القوات المسلحة والجنود الذين نفذوا جريمة الإبادة الجماعية بأسلحة فتاكة[4].
ورغم الانتقادات التي وجهت لمحكمتي نورمبرغ وطوكيو إلا أنهما اتخذتا أساساً لإنشاء قضاء جنائي دولي، حيث دعت الجمعية العامة لجنة القانون الدولي إلى إعداد مشروع يحدد الأعمال التي تعد في نظر فقه القانون جرائم مخلّة بسلم الإنسانية وأمنها. ودعوة الجمعية العامة هذه تعد أول محاولة في عهد الأمم المتحدة لإنشاء جهاز قضاء جنائي دولي لمحاكمة المتهمين بجرائم الإبادة أو غيرها من الجرائم الدولية.وعلى هذه الخلفية، جاء قرار تأسيس المحكمتين في يوغسلافيا ورواندا في منتصف التسعينيات وبدا أن تأييد تأسيس محكمة جنائية دولية دائمة قد اخذ طريق التنفيذ.
أولا : الجهود الحقوقية تعمق مفهوم الجريمة الدولية
تعرف الجريمة الدولية بأنها "واقعة إجرامية تخالف قواعد القانون الدولي وتهدد السلم والأمن الدوليين سواء ارتكبت بفعل الجاني الايجابي أو امتناعه عن القيام بفعل ـ الفعل السلبي ـ مع توافر القصد الجنائي".
وبناءً على ذلك، فإن للعناصر الواجب توافرها في الفعل كي يستوجب المساءلة الجنائية على الصعيد الدولي هي: الركن الشرعي ويقصد به النص القانوني الذي يجرم الواقعة ويستمد من الأعراف والمواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية الموقعة بين الدول. والركن المادي إي أن يكون الفعل المرتكب آو الامتناع عن فعل مخالفا للقانون الدولي، أي يشكل انتهاكا لأحكام هذا القانون سواء كانت مستمدة من العرف الدولي أم المعاهدات والمواثيق.
وان يكون الفعل ذا عنصر دولي، أي إن يشكل اعتداء على القيم والمصالح الأساسية للجنس البشري حتى لو ارتكب بدافع شخصي. وهذا الشرط يعد جوهريا، وذلك لان الفعل المستوجب للمساءلة الجنائية الدولية لابد أن يتضمن انتهاكا للقيم الأساسية في المجتمع الدولي سواء أكان المجني عليه فردا أم دولة أم المجتمع البشري بأسره.
والركن المعنوي إي اتجاه النية لارتكاب الجريمة الدولية على ما عرفها القانون وذلك بتوافر العلم والإرادة.
ويرتكب الفرد الجرائم الدولية إما لحسابه الخاص بوصفه شخصا عاديا، وإما لحساب دولته أو باسمها. ويستهدف الفرد الذي يرتكب الجرائم الدولية لحسابه الخاص أو بوصفه شخصا عاديا تحقيق منافع أو أهداف شخصية بحتة، وهذه الجرائم منها ما قرره العرف ومنها ما عرف بمواثيق دولية ومثال هذه الطائفة من الجرائم القرصنة والمتاجرة بالمخدرات وتزوير العملة والإرهاب.
أما الجرائم التي يرتكبها الفرد لحساب دولته فهي إما أن تقع بتشجيع دولته ورضائها أو بناء على طلبها وهذه الجرائم هي الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
وهذه الطائفة من الجرائم يبرز فيها الطابع الدولي بصورة واضحة فهي جرائم دولية بطبيعتها باعتبار أن الأفعال المكونة لتلك الجرائم لا يمكن أن ترتكب إلا بناء على خطة مرسومة من دولة ضد رعاياها أو ضد دولة أخرى أو رعايا تلك الدولة، ويرتكب إما عن طريق سلطاتها أو بطلب منها أو بتشجيعها ورضائها وهذه الأفعال تمس في الغالب المصالح الجوهرية للدولة الضحية أو مواطنيها بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين.
وتعد الجرائم ضد الإنسانية من أكثر جرائم هذه الطائفة انتشارا الآن، إذ أنها ترتكب خلال النزاعات المسلحة الدولية والداخلية على حد سواء كما أنها ترتكب في أوقات السلم. والضحايا في هذه الجرائم إما أن يكونوا رعايا الدولة التي ترتكب هذه الأفعال أو رعايا دولة أخرى.
لقد مر مفهوم الجرائم ضد الإنسانية بتطورات كثيرة، كان أولها في اتفاقية لاهاي 1907 من خلال شرط "مارتنز" الذي وضع الأساس لتجريم الأفعال التي تشكل حاليا جرائم ضد الإنسانية، خصوصاً أن الطائفة التي عمل شرط "مارتنز" على حمايتها هي طائفة السكان المدنيين الذين ليسوا طرفاً أساسياً في الحرب.
وينص شرط مارتنز على أنه "حتى صدور منظومة مدونة قانونية كاملة لقوانين الحرب، وفي الحالات التي لا تتضمن القواعد الموضوعية، فإن الدول المتعاقدة ترى الفرصة مناسبة للإعلان بأن السكان المتحاربين يظلون تحت سلطان وحماية مبادئ قوانين الأمم المؤسسة على ما هو مستقر بين الشعوب المتمدنة وقوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام. وباستعراض النص يلاحظ بأنه يهدف إلى حماية السكان المدنيين الذين يشكلون متطلباً أساسياً من متطلبات الجرائم ضد الإنسانية ـ كما سنوضح لاحقاً ـ مقارنة مع بقية النصوص الأخرى التي تعمل على تنظيم الأوضاع بين المتحاربين، إذ وضع النص معياراً يفترض عدم خرقه وإلا ارتكبت جريمة ضد الإنسانية، وهذا المعيار هو القوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام للإنسانية والمبادئ المستقرة بين الأمم المتمدنة.
ولم تعرف اتفاقية لاهاي القوانين الإنسانية في متنها أو في ملاحقها، كما لم تشر إلى مخالفات أو انتهاكات معينة على أنها جرائم ضد الإنسانية، ولم تنص على أي عقوبات جرمية لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم. ورغم ذلك فإن شرط مارتنز الوارد في الاتفاقية يعتبر سابقة استرشدت بها الاتفاقيات اللاحقة عند النص على حماية السكان المدنيين[5]. كما لم تتطرق معاهدة فرساي إلى الجرائم ضد الإنسانية بسبب معارضة بعض الدول بقيادة الولايات المتحدة إدراج انتهاك قوانين الإنسانية، وقوانين الحرب ضمن هذه المعاهدة، ولم توافق الولايات المتحدة على استخدام مصطلح الجرائم ضد الإنسانية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد تطور نقاش هذا الأمر في الفترة الأخيرة فخلال اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر روما لم يكن هناك أي خلاف بين الوفود على تضمين الجرائم ضد الإنسانية ضمن الجرائم المعاقب عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن ما أثار خلافاً بين الوفود المشاركة هو الوصول إلى تعريف محدد لهذه الجريمة.وقد تباينت الآراء في المؤتمر حول تعريف الجرائم ضد الإنسانية بسبب عدم وجود اتفاق موحد على تعريفها وكان محور الخلاف يتراوح بين رأيين:
- الرأي الأول: أصر على الأخذ بتعريف أكثر دقة وتفصيلاً من التعريف الذي جاءت به المواثيق السابقة، ذلك أن هذه المحكمة سوف تتعامل مع أوضاع محددة، واختصاص هذه المحكمة هو اختصاص عالمي بعكس المواثيق الأخرى.
- الرأي الثاني: طالب بتعريف واسع يتضمن تعريفاً مفصلاً لهذه الجريمة، وذلك انعكاساً للتطورات الكثيرة التي حصلت في المجتمع الدولي مؤخراً. وفي هذا السياق اقترح مؤيدو هذا الرأي الانتظار لحين انتهاء لجنة القانون الدولي من عملها في مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها واقتباس التعريف منها وذلك بسبب عدم وجود تعريف محدد للجرائم ضد الإنسانية بموجب المعاهدات.
وبعد مناقشات طويلة بين الوفود المشاركة، تم الاتفاق على تعريف للجرائم ضد الإنسانية ينص على أن يشكل "أي فعل من الأفعال جريمة ضد الإنسانية عندما يتم ارتكابها في إطار هجومي منهجي أو واسع النطاق والذي يتم توجيهه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين على علم بالهجوم، القتل العمد، الابادة، الاستعباد (الاسترقاق)، النفي أو الإبعاد والنقل ألقسري للسكان، السجن أو الحرمان الشديد من الحرية انتهاكاً للقواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الدعارة الإجبارية أو الحمل الإجباري، التعقيم الإجباري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي من نفس الخطورة، الاضطهاد السياسي أو العنصري أو الوطني أو القومي أو الثقافي لأي فئة أو جماعة محددة كما هو منصوص عليه في الفقرة رقم (3) وأي قواعد أخرى لا يجيزها القانون الدولي ارتباطاً بأي عمل مشار إليه في هذه الفقرة أو أي جريمة يتم ارتكابها وتدخل في اختصاص المحكمة الإجباري أو أي أعمال للإنسانية أخرى من نفس الشكل أو ما شابه والتي تسبب آلاماً أو معاناة شديدة أو إصابة بالغة لسلامة البدن أو العقل.
وقد احتوت هذه المادة على ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تتضمن تعداداً للجرائم ضد الإنسانية على نحو ما هو منصوص عليه في المواثيق السابقة، وبشكل خاص المواثيق الأساسية لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا مع توضيح للأوضاع التي ترتكب في إطارها الجرائم ضد الإنسانية، أما الفقرتان الثانية والثالثة فقد تناولتا تعريف بعض المصطلحات الموجودة في الفقرة الأولى بناء على طلب بعض الوفود وأشارت بعض الوفود إلى المعايير العامة التي تميز الجرائم ضد الإنسانية عن الجرائم العادية وذلك منعا لحدوث تداخل بين ولاية هذه المحاكم والمحاكم الوطنية.
إن أهم التطورات التي طرأت على تعريف الجرائم ضد الإنسانية في مؤتمر روما ما يلي:
وضع هذا التعريف معيارين إذا تحققا فان أي اعتداء على البشر يعتبر جريمة ضد الإنسانية، وهو أن يتم ارتكاب هذه الجريمة ضد السكان المدنيين، وان تكون هذه الاعتداءات جزءاً من اعتداءات واسعة النطاق أو منهجية.كما توسع هذا النظام كثيراً في قائمة الجرائم ضد الإنسانية، كما انه ترك المجال مفتوحاً لإضافة إي جرائم أخرى، وأدى هذا التوسع إلى إثارة حفيظة بعض الدول المشاركة في المؤتمر فيما يتعلق بتعارض هذه الجرائم مع المعتقدات الدينية أو القانون الوطني لبعض الدول[6].
عرف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الإنسانية ولم يقتصر على تعداد هذه الجرائم كما فعلت المحاكم السابقة، فأوضح المقصود بالكثير من المصطلحات الواردة في الفقرة الأولى مثل الابادة، الاستعباد، النقل الإجباري للسكان، التعذيب، الحمل الإجباري والاضطهاد.
واللافت أن ثمة تشابها بين الجرائم ضد الإنسانية والجرائم التي تخضع للاختصاص الداخلي لمحاكم الدول من حيث الأركان العامة للجريمة، فالقتل جريمة معاقب عليها في القوانين الداخلية، ومعاقب عليها كجريمة ضد الإنسانية إذا توفر فيها متطلبات معينة، ومعاقب عليها أيضا كجريمة حرب إذا كانت مرتكبة في زمن الحرب. وفي جميع هذه الأحوال لابد أن تتوفر الأركان القانونية للجريمة: الركن المادي والركن المعنوي والركن الشرعي، كما أن عوامل تحديد المسؤولية لها قد تتشابه أحيانا.
إن متطلبات الجرائم ضد الإنسانية هي عبارة عن معايير عامة تميزها عما يشابهها من الجرائم سواء في القوانين الداخلية أم في القانون الدولي، وتكمن أهمية هذه المعايير في منع التداخل بين اختصاص كل من القانون الدولي والقانون الداخلي من جهة، إذ أنها تدخل الجرائم ضد الإنسانية في نطاق الاختصاص القضائي الدولي، وتزيل التداخل والغموض بين الجرائم ضد الإنسانية وبقية الجرائم الدولية التي تتشابه معها من جهة أخرى مثل جرائم الحرب وجريمة الابادة الجماعية، وفي غياب تحديد هذه المعايير فإن خلطاً وغموضاً سوف يكتنف هذه الجرائم. فالمعايير العامة للجرائم ضد الإنسانية هي أربعة:
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح.
ـ ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالهجوم واسع النطاق والمنهجي.
ـ توجيه هذه الجرائم ضد السكان المدنيين.
ـ ارتكاب هذه الجرائم على أساس تمييزي.
إن أهم ما يميز هذه المعايير أن احدها قد يكون ذو أهمية كبيرة في مرحلة معينة أو نزاع معين، وقد يصبح اقل أهمية في نزاع آخر، ويبدو هذا واضحاً من خلال مقارنة تطلب النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في إطار النزاع المسلح، بينما ركز النظام الأساسي لمحكمة رواندا على الأسس التمييزية كمعيار لحدوث هذه الجرائم، وهذا التباين في الأسس ـ التي اعتمدت عليها المحكمتان ـ يعود إلى طبيعة كل من النزاعين اللذين نشأت في ظلهما هاتان المحكمتان فالنزاع في رواندا هو نزاع مبني على نزاع طائفي بين أقلية الهوتو وأغلبية التوتسي، بينما أراد النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة الإبقاء على الصلات مع القانون الدولي التقليدي ممثلاً بميثاق لندن الذي اشترط ارتكاب الجرائم في إطار النزاع المسلح، ولو أن النظام الأساسي لمحكمة رواندا قد اشترط نفس الشروط لأسفر ذلك بالضرورة عن إفلات مجرمين كثر من العقاب.
لقد انتقل الجدل إلى مرحلة جديدة حيث مضت حوارات روما إلى نقاش أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، ولم يربط هذا النظام الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح وذلك بسبب الخلاف الشديد بين الوفود المشاركة على الإبقاء على هذا الارتباط أو إزالته، وقد دار الجدال أساسا بين فريقين:
- الفريق الأول: أكد على ضرورة وجود نزاع مسلح لارتكاب هذه الجرائم وذهب بعض المؤيدين لهذا الفريق إلى ابعد من ذلك حيث اشترط أن يكون هذا النزاع دولياً. ولتأييد وجهة النظر هذه احتج الفريق بالنص على هذا في كل من محاكم نورمبيرج وطوكيو ويوغسلافيا السابقة كما احتج بقرار محكمة يوغسلافيا الجنائية الدولية في قضية نيكولنسن، وبأن القانون العرفي لم يتغير بسبب اعتماد صكوك حقوق الإنسان.
- الفريق الثاني: والذي يتكون من أغلبية الوفود المشاركة أكد بأن القانون الدولي التقليدي لا يتطلب النزاع المسلح كمتطلب أساسي للجرائم ضد الإنسانية، وأضاف أن تطلب هذا الارتباط في محاكم نورمبيرج وطوكيو ويوغسلافيا السابقة يعتبر قيداً على اختصاص هذه المحاكم ولكن امكانية حدوث الجرائم ضد الإنسانية في الحرب والسلم متساوية، وبرر هذا الفريق موقفه بعدم اشتراط ارتباط الجرائم ضد الإنسانية بالنزاع المسلح في كل من المادة الاولى من اتفاقية الابادة الجماعية وقانون مجلس الرقابة واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والنظام الأساسي لمحكمة رواندا وقرار محكمة الاستئناف لمحكمة يوغسلافيا السابقة في قضية تادتيش ومشروع المدونة الصادر عن لجنة القانون الدولي وقيل أيضا أن اشتراط ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية بالارتباط مع النزاع المسلح سوف يؤدي إلى خلط الجرائم ضد الإنسانية بجرائم الحرب.
وقد أشارت محكمة رواندا الجنائية الدولية في قضية keyisbema ان جميع من يحافظون على النظام العام ويطبقون القانون بصورة شرعية هم غير مدنيين وكل فرد من أفراد القوات المسلحة التابعة لأحد أطراف النزاع هو مقاتل وكل مقاتل يقع في منطقة العدو هو أسير حرب وجميعهم لا يعتبرون من السكان المدنيين. بينما عرفت السكان المدنيين في قضية akayesu تعريفا موسعا ليشمل الأشخاص الذين لا يشاركون في العمليات العدائية، بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين استسلموا أو انسحبوا من القتال نتيجة المرض أو الإصابة أو الحجز أو إي سبب آخر.
إن مصطلح السكان المدنيين (civilian population) استخدم في تعريف الجرائم ضد الإنسانية للدلالة على أن هذه الجرائم ترتكب ضد المدنيين وليس ضد الإنسانية بحيث لا تقتصر على ضحية واحدة فقط فما هو مدى أهمية احتواء تعريف الجرائم ضد الإنسانية على هذا الاصطلاح,ولقد تمت الإشارة إلى هذا المتطلب بطريقتين:
الاولى: بشكل مباشر حيث نصت النظم الأساسية لمحكمة رواندا الجنائية الدولية والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ومشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها على أن الجرائم ضد الإنسانية يجب أن ترتكب في إطار هجوم منهجي وواسع النطاق. والثانية: بشكل غير مباشر حيث نص مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وامنها لعام 1954 على أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب من قبل سلطات الدولة أو من قبل فئة خاصة من الأفراد تعمل لحساب هذه السلطات ونص النظام الأساسي لمحكمة طوكيو بان القادة والمنظمين والباحثين والمشاركين في صياغة خطة معروفة يكونون مسئولين عن الأعمال التي ترتكب من أي شخص تنفيذا لهذه الخطة.
ثالثا: سوابق المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة
كانت محكمة نورمبيرج محكمة جنائية خاصة أنشأتها الدول المتحالفة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لمحاكمة كبار القادة النازيين، وهي بهذا تكون محكمة أقامها الغالبون لمحاكمة المغلوبين. أما بعد ذلك فقد لعبت الأمم المتحدة دورا رائدا في العمل على إنشاء مؤسسات دولية مخصصة لتعيين المسئولية الجنائية، وأقر مجلس الأمن إنشاء محكمتين جنائيتين دوليتين، الأولى هي المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة في العام 1993، والثانية هي المحكمة الدولية لرواندا في 1994 من اجل معاقبة انتهاكات القانون الدولي خلال نزاع يوغسلافيا، وجرائم الابادة الجماعية في رواندا خلال التسعينيات وهي الجرائم والانتهاكات التي أيقظت الضمير الدولي، ودفعته لإقامة هاتين المحكمتين اللتين تميزتا بأنهما لم يفرضهما المنتصرون لمحاكمة المهزومين، وبأنهما مؤقتتان تشكلتا لمحاكمة أناس بذواتهم في قضايا معينة، ولم تكن دائمة، وغير مخولتين بمحاكمة أي مجرم حرب في أي بلد غير الذي اختصت به.
1 - محكمة مجرمي يوغسلافيا
تأسست المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة في أيار 1993 بقرار من مجلس الأمن الدولي، وبموجب الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة للمحكمة الحق بموجب قانون إنشائها النظر في أي انتهاكات للمادة الثانية من معاهدات جنيف 1949 الخاصة بانتهاك قوانين وتقاليد الحرب، والمادة الرابعة الخاصة بالابادة الجماعية للجنس البشري، والمادة الخامسة الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية. وللمحكمة صلاحية إدانة الأشخاص في أي تهمة جنائية إذا ما ثبت أنهم خططوا أو اعدوا أو نفذوا جريمة، كما للمحكمة صلاحية إدانة أي قائد أو مسئول أعلى إذا ما ارتكب احد مرؤوسيه جريمة كان يعلم أو كان يتوجب عليه أن يعلم أن المرؤوس كان على وشك ارتكاب هكذا جريمة أو كان على وشك ارتكابها وأخفق في منع وقوع الجريمة أو معاقبة منفذيها.
وعقدت المحكمة جلسات للنظر في اتهامات موجهة ضد أفراد وأخرى موجهة ضد مجموعات مدنيين وعسكريين من الاثنيات الرئيسة الثلاث التي شاركت في النزاعات المسلحة في البلقان. وأدانت المحكمة مواطنين عاديين اتهموا بارتكاب جرائم تتعلق بالنزاعات، وسياسيين بارزين وقادة عسكريين كبار. وتفاوتت الأحكام ما بين السجن لسبع سنوات إلى خمسين سنة. ونظرت المحكمة منذ الإعلان عن تأسيسها في أكثر من خمس عشرة قضية ضد نحو ثلاثين متهما، وكان من أبرز الأحكام التي أصدرتها الحكم بحق الجنرال الصربي كرادزيتش الذي يمثل نقطة تحول هامة منذ الحرب العالمية الثانية باعتباره أول حكم يقرر العقاب على جريمة الابادة الجماعية للجنس البشري.
وفي حيثياته لإنشاء المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة أكد مجلس الأمن أن الهدف من إنشاء المحكمة هو حفظ السلم والأمن في أوروبا، خاصة يوغسلافيا السابقة لأن محاكمة مجرمي الحرب سيؤدي إلى صفاء النفوس لأن أي جريمة يترتب عليها رد فعل الانتقام ومحاكمة من ارتكب هذه الجرائم سيقضي على جرائم الحرب وعلى الرغبة في الانتقام خصوصا وإذا كان من يرتكب الجرائم يعرف انه ليس فوق القانون. ويمكن القول ان المحكمة تمثل أنموذجا مصغرا للعالم، إذ جاء تشكيلها ليمثل كل العالم بجميع قاراته فهناك قاض من أميركا الشمالية وآخر من أميركا الجنوبية واثنان من الوطن العربي وأخر من الصين ومن استراليا وانكلترا وفرنسا وايطاليا بالإضافة إلى قاضيين واحد من باكستان والأخر من جامايكا. ما يجعل المحكمة تختلف عن محكمة نورمبيرج[7].
بدأت المحكمة أعمالها في أيار 1996 بالنظر في قضية جندي صربي كان يدير معسكرا للاعتقال، ومنذ ذلك الوقت أخذت تطال أسماء كبيرة من بينهم جنرال صربي بوسني ساهم في تنظيم مذبحة سربرنيتشا وقادة قوميون صرب وكروات متورطون في مذابح المسلمين ومساعدون كبار لميلوسيفيتش مثل رئيس أركان القوات الصربية،وتمثل قضايا الادعاء أكثر أوجه النجاح للمحاكمات، على الرغم من نجاح أكثر من مجرم حرب في البوسنة من الفرار، لأن هذه المحاكمات وبدلا من أن تحرض على مزيد من التعصب القومي في المنطقة، فقد أصبح العديد من المجرمين الرئيسيين في حروب البلقان وراء القضبان[8].
2 - محكمة رواندا
في غضون مئة يوم سنة 1994 قضى حوالي 800 ألف رواندي من قبيلة التوتسي ومن المعتدلين في قبيلة الهوتي نحبهم في مجازر الابادة الجماعية الشرسة التي وقعت في رواندا، وفر العديد من مرتكبي تلك الجرائم من رواندا، واثر ذلك قامت الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الامن الدولي بتأسيس المحكمة الدولية لجرائم الحرب في رواندا بغية رفع الدعاوى القضائية ضد منظمي جرائم الابادة الجماعية في هذه الدولة الأفريقية ومعاقبتهم في تشرين الثاني عام 1994.
وتمكنت المحكمة الدولية حتى اليوم في توقيف عشرات من كبار المسؤولين وآخرين يعتقد بأنهم مسؤولون عن ارتكاب هذه الجرائم، وأصدرت المحكمة الدولية لوائح الاتهام ضدهم، إلا أن عشرات آخرين من هؤلاء المسؤولين عن تلك الجرائم ما زالوا أحرارا طليقين ويمنح النظام الأساسي الحق للمحكمة في محاكمة الأفراد المتهمين بالابادة الجماعية البند الثاني من النظام الأساسي وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية البند الثالث وجرائم حرب معينة تطبق على الصراعات المسلحة الداخلية البند الرابع. ومثل المحكمة الدولية الخاصة لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، فان هذه المحكمة تحدد المسؤولية الجنائية الفردية والجماعية لمرتكبي تلك المجازر، ونتيجة لاختلاف الأحداث على ارض الواقع فان النظام الأساسي لكل من المحكمتين يختلف عن الآخر وذلك فيما يتصل بالقضايا التي تنظرها كل محكمة على حدة كما أسلفنا.
ـ قضية جين ـ بول اكايسو والتي تعتبر أول محاكمة دولية لجرائم الابادة في التاريخ. كان اكايسو عمدة إقليم تابا في رواندا، ووجهت المحكمة تهمة الابادة الجماعية له بسبب المجازر البشرية التي ارتكبها الهوتو ضد التوتسي والهوتو المعتدلين من الإقليم الذي يديره، بالإضافة إلى تهم أخرى مثل الجرائم ضد الإنسانية بما في ذلك التصفية العرقية والقتل والاغتصاب والتعذيب.وحددت المحكمة تعريفها في هذه المحاكمة لمفهوم الابادة الجماعية، بأنها الأفعال التي يرتكبها الأشخاص أو المجموعات ضد أخرى بهدف القضاء عليهم، وقد يكون هؤلاء الآخرون أقلية عرقية أو دينية أو قومية. والأقلية العرقية كما عرفتها المحكمة هي "مجموعة يتحدث أفرادها لغة مشتركة ويمارسون ثقافة مشتركة". أما الأقلية الدينية "فهي تلك المجموعات التي تشترك في معتقد ديني واحد" والأقلية القومية هي "المجموعة التي تشترك ضمنيا في رباط قانوني يعتمد على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات المتبادلة".وأدانت المحكمة اكايسو لارتكابه جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية تتضمن مجموعة مختلفة من الجرائم بما في ذلك الاغتصاب وأصدرت أحكاما تاريخية عقابا على الاغتصاب كجريمة ضد الإنسانية وكأداة للابادة الجماعية.كما مثل أمام المحكمة ومقرها مدينة اروشا في تنزانيا تارسيس رينزاهو المتهم بالمشاركة في أعمال ابادة جماعية عام 1994 عندما كان حاكما لمدينة كيغالي التي أزهق الهوتو فيها وحولها أرواح ما يزيد على 450 ألفا من التوتسي.
والمعيار الذي تبنته المحكمة في قضية اوكايسو وعملت به في المحاكمات الأخرى والذي ينص على أن المتهم يجب أن يكون ناشطا في مجال "دعم جهود الحرب" حتى يجرم بموجب البند الرابع من النظام التأسيسي للمحكمة،وفي تبنيها لهذا المعيار يبدو ان المحكمة استنتجت وجود أعمال ابادة جماعية في رواندا بموازاة نزاع مسلح، وان كل الجرائم التي ارتكبها المتهمون قد وقعت أثناء عمليات الابادة الجماعية، وليس كجزء من النزاع المسلح، حتى عندما يكون القادة العسكريون هم المتهمون. وهذا يشكل سابقة خطيرة في محاكمة مرتكبي جرائم الحرب في النزاعات المسلحة المحلية الأخرى.
إن أهم الأحكام التي أصدرتها المحكمة إدانة ثلاثة من رجال الإعلام بارتكاب جرائم ابادة جماعية من خلال الإيعاز للآخرين بالمشاركة في موجة القتل التي اجتاحت رواندا. وثبت للمحكمة أن المتهمين قد أجرموا باستخدام محطة إذاعة محلية وصحيفة لإثارة الكراهية ضد قبيلة التوتسي التي تشكل أقلية في البلاد وتوجيه وتشجيع حملات القتل الجماعي.
والحكم الذي صدر في الثالث من كانون الثاني 2004 يشكل سابقة من نوعه منذ محاكمات نورمبيرج الذي يحمّل متهمين مسؤولية الابادة الجماعية من خلال السيطرة على أجهزة الإعلام. وهو يتجاوز في مضمونه الحكم الذي صدر بحق الناشر النازي يوليو سترايخر العام 1946، وهو يشكل سابقة في تقرير أن المؤسسات الإعلامية يمكن أن تخضع للمحاكمة للجرائم التي وجهت مستمعيها وقراءها لارتكابها.
وبالرغم من أن المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة ونظيرتها المحكمة الدولية لجرائم الحرب في رواندا مؤقتتان ودورهما في التاريخ مؤقت، إلا أنهما نجحتا في إرساء حجر الأساس لمجتمع دولي متحضر، حيث كان العالم قبل إنشاء هاتين المحكمتين يبدو وكأنه غابة، إذا ما قورن بالمجتمعات الداخلية وأوصلت المحكمتان رسالة واضحة لكل من يريد أن يعيث في الأرض فسادا، أو يهين آدمية الإنسان وكرامته، فحوى هذه الرسالة انه لا احد فوق القانون، ولا احد مطلقا فوقه في المجال الدولي، وهذا تحول تاريخي مهم للغاية، وكونه طبق في يوغسلافيا وفي رواندا، فإنها بداية سبقها تمهيد وتحضير لإنشاء محكمة مجرمي حرب دائمة تنظر في قضايا الابادة البشرية وانتهاك كرامة الإنسان.
3 - المحاكم المختلطة
هناك عدة سوابق في هذا المجال،كان أخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975و1979،وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكمومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي ومن قاضيين دوليين،وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر محاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية.كما ان تعيين القضاة الأجانب يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة،واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية.إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000 ،وقد أنشأت في العام 2002 مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996،مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما تتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.
أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/ 1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة،بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975 ،وعمدت الأمم المتحدة على إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
رابعا : المحكمة الجنائية الدولية
يشكل الأول من حزيران من العام 2002 نقطة تحوّل في تاريخ الإنسانية، كونه بمثابة انتصار لإرادة المجتمع الدولي، ففي ذلك اليوم، دخل النظام الأساسي للمحكمته الجنائية الدولية حيز التنفيذذ بعد أن أصبح العدد الضروري من الدول المصادقة عليه متوافراً، تطبيقاً لنفس المادة (126) من النظام الأساسي، الذي يشترط وجوب مصادقة ستين دولة.والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو خلاصة لجهد تاريخي طويل يمكن إيجازه بما يلي:
ـ 1919 أطلقت فكرة «... الجرائم ضد الإنسانية...» بموجب البنود 227 ـ 229 من معاهدة فرساي التي أبرمت بين ألمانيا والقوى المتحالفة في إعقاب الحرب العالمية الأولى. وفي العام نفسه أوصت اللجنة المكلفة بالبحث عن مسؤولية مرتكبي الجرائم وتطبيقات العقوبات الجنائية بخصوص الجرائم التي ارتكبت بحق الأرض من قبل السلطات التركية في ذلك الوقت.
ـ 1945 أنشأت القوى المتحالفة محكمتي نورمبرغ وطوكيو.
ـ 1948 أعطت الاتفاقية الدولية الخاصة بمنع وقوع جريمة الإبادة الجماعية الصلاحية لقضاء جنائي دولي بهدف محاكمة أشخاص متهمين بارتكاب جرائم الحرب.
ـ 1950 جرت محاولات في إطار الأمم المتحدة لوضع مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية.
ـ 1973 نصت الاتفاقية الدولية للقضاء على قمع جريمة الفصل العنصري على إمكانية تقديم الأشخاص المتهمين بارتكاب تلك الجريمة إلى محكمة جنائية دولية.
ـ 1980 تم وضع مشروع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلا أن ذلك المشروع لم يكتب له النجاح.
ـ 1990 بعد عشر سنوات توصلت لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة على اتفاق مبدئي واسع حول ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية ذات غرض محدد خاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة.
ـ 1994 تشكلت محكمة جنائية دولية خاصة بالجرائم التي ارتكبت في رواندا.
ـ 1998 إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ـ 2002 أصبح النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نافذ المفعول بعد مصادقة ستين دولة عليه.
ـ 2003 البدء الفعلي لعمل المحكمة الجنائية الدولية.
وقبل التطرق لهذه المحكمة وعلاقتها بالأنظمة القضائية الوطنية من المفيد بحث العلاقة بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية من جهة والمبادئ والمفاهيم المقررة بموجب أحكام القانون الدولي الإنساني من جهة أخرى والتي تظهر العديد من الأطر أهمها:
- ان الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وخصوصاً جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، هي نفس الجرائم التي تحرمها اتفاقيات جنيف الاربعة.
- ان المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تفترض بأن تقوم الدول التي صادقت عليه بمراجعة تشريعاتها وقوانينها الوطنية لكي تتلاءم وتتواءم مع النظام الأساسي لهذه المحكمة وحيث إن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت مؤسسة دولية دائمة. كونها أنشئت بموجب معاهدة لغرض التحقيق ومحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورة، وهي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، الأمر الذي يقتضي البحث في إشكالية العلاقة ما بين نظام هذه المحكمة والأنظمة القضائية الوطنية. مع التنويه بأن العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الدولية، تعرضت لتداعيات وإشكاليات عديدة خصوصاً في الفترة الأخيرة ومن أهمها: أحداث أيلول 2001، احتلال العراق، السيادة الوطنية لكل دولة على حدة، تقديم الأشخاص للمحكمة الجنائية الدولية ومبدأ خطر تسليم المواطنين، سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم الدولة الطرف، عدم سقوط الجرائم بالتقادم، عدم جواز المحاكمة عن الجريمة ذاتها مرتين، حق العفو، والعقوبات. وفي هذا الإطار هناك ثمة إشكاليات تستحق التوقف منها:
- أولاً: هل يشكل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مساساً بالسيادة الوطنية؟
أثار البعض بأن المادة (4) من النظام الأساسي الخاصة بممارسة المحكمة الجنائية الدولية لوظائفها وسلطاتها يمثل انتهاكاً للسيادة الوطنية للدولة بالسماح لجهة أجنبية بممارسة اختصاص أصيل مرهون بسلطاتها القضائية. وبهذا الخصوص نشير بداية لما ورد في الفقرة العاشرة من ديباجة النظام الأساسي والتي تؤكد على أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية وهي ذات العبارة التي تورد صراحة في المادة الأولى من هذا النظام.
كما نصت المادة (17) من النظام الأساسي على أن المحكمة الجنائية الدولية لا تحل محل الاختصاصات القضائية الوطنية، وإنما تتدخل حصراً حينما لا تتوافر لدى الدول الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك.
وعليه فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يشجع الدول على ممارسة سلطاتها القضائية على الجرائم الداخلة ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ولا يجوز للمحكمة ممارسة سلطاتها القضائية إلا إعمالاً للأحكام الواردة في المادة (17.(
وفي الواقع إن الاتفاقية المنشأة بمعاهدة دولية يتجدد فيها المبدأ الأساسي في قانون المعاهدات "مبدأ الرضى" فالدول في هذه الحالة لا تتعامل مع محكمة أجنبية أو ولاية قضاء أجنبي، وإنما تتعامل مع جهاز قضائي دولي شاركت في إنشائه كدولة طرف وتساهم في الاجراءات الخاصة بتسييره باعتباره أحد أعضاء جمعية الدول الأطراف كتعيين القضاة مثلاً. ومن هنا فلا يمكن القول أن الدولة تتنازل عن الاختصاص لولاية قضاء أجنبي، وإنما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية امتداداً لولاية القضاء الوطني إذ أن الأصل أن كل دولة ملزمة بمحاكمة مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام ومن ثم لا ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية إذا قامت الدولة بواجبها في الاضطلاع أو المحاكمة، أما إذا لم ترغب الدولة أو كانت غير قادرة على الاضطلاع بواجبها فإنها تحيل بذلك اختصاصها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ونخلص من ذلك إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تشمل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول بل ان لدول الأطراف ذاتها هي التي أنشأت تلك المحكمة بإرادتها بموجب اتفاقية دولية ورد النص فيها صراحة على أن المحكمة الجنائية الدولية "... ذات اختصاص تكميلي وليس سيادة على القضاء الوطني"
ثانياً: في إطار العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والأنظمة القضائية الوطنية تثار إشكالية خطر تسليم رعايا الدولة إلى قضاء أجنبي وهو المبدأ الوارد في دساتير العديد من دول العالم، ومدى تعارض هذا المبدأ مع الالتزام بتقديم رعايا لدولة إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا انعقد لها الاختصاص في إجراء المحاكمة.
وهنا ينبغي أن نميز ما بين ".. الإحالة إلى المحكمة.." والذي هو تقديم الدولة لشخص ما إلى المحكمة و".. التسليم.." الذي هو تسليم الدولة لشخص ما إلى دولة أخرى، هذه التفرقة الواردة صراحة في نص المادة (102) من النظام الأساسي يدفعنا إلى القول بأن التسليم إلى دولة أخرى ذات سيادة يختلف تماماً عن الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية كهيئة دولية أنشئت بموجب القانون الدولي وبمشاركة الدول المعنية وموافقتها.
وهذه التفرقة تطرح تساؤلاً آخر مفاده هل المحكمة الجنائية الدولية تعد محكمة أجنبية؟ وبهذا الصدد نقول إنها ليست محكمة أجنبية إنما هي امتداد لولاية القضاء الوطني.
ثالثاً: سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم دولة طرف
لما كانت الفقرة الرابعة من المادة (99) من النظام الأساسي تجيز للمدعي العام أن يباشر بعض أعمال التحقيق دون حضور سلطات الدولة الموجه إليها الطلب وداخل إقليم هذه الدولة، وأن بوسعه على وجه الخصوص جمع إفادات الشهود وإجراء المعاينة. فواقعا إن قيام المدعي العام بمثل هذه الصلاحيات لا يشكل مساساً بالسيادة الوطنية للدول، وسندنا في ذلك نص المادتين 54، 57/3 وأحكام الباب التاسع من النظام الأساسي المتعلق بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية التي نصت على بعض الأحكام الإجرائية التي تكفل احترام السيادة الوطنية عند ممارسة المدعي العام لاختصاصاته، وما حكم الفقرة الرابعة من المادة (99) إلا استثناء من هذه القاعدة، والمشروط أولاً بأن تكون الدولة الطرف الموجه إليها الطلب هي دولة ادعت ارتكاب جريمة في إقليمها، وكان هناك قرار بشأن القبول بموجب المادة (18) أو المادة (19) وثانياً، فإن المدعي العام ملزم بإجراء كافة المشاورات الممكنة مع الدولة الطرف الموجه إليها الطلب قبل مباشرة إجراءاته.
رابعاً: عدم سقوط الجرائم بالتقادم
لما كانت المادة (29) تقضي بعدم سقوط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم في حين تعالج الأنظمة القضائية الوطنية مسألة التقادم.وللرد على ذلك نقول إن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بمقتضى العرف الدولي لا تسقط بمقتضى المدة فضلاً عن أن اتفاقية 1968 صاغت هذه القاعدة العرفية في اتفاقية دولية تحظر انطباق التقادم على مثل هذه الجرائم، ومن ثم فإن الدول بالتصديق على نظام روما الأساسي تقبل بحكم هذه المادة التي تقرر حكماً خاصاً لنوع معين من الجرائم هي الجرائم الأشد خطورة على الصعيد الدولي، ومن ثم فإنه ليس هناك ثمة تعارض بين السيادة الوطنية وعدم سقوط الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالتقادم.
خامساً: عدم جواز المحاكمة عن الجريمة مرتين
أثيرت إشكالية خاصة بالمادة (20) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مع القواعد الواردة في الأنظمة القضائية الوطنية التي تنص على عدم جواز محاكمة الشخص عن الجرم مرتين.
نجد أن الفقرة الثالثة من المادة (20) أجابت عن ذلك بأن حدوث الحالات التي يجوز فيها محاكمة الشخص الذي سبق له أن حوكم أمام القضاء الوطني في الحالات التالية:
ـ إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية من جرائم تدخل في اختصاص المحكمة.
ـ إذا لم تجر الإجراءات بصورة تتسم بالاستقلال أو للنزاهة وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في هذه الظروف على نحو لا يتفق مع النية لتقديم الشخص المعني للعدالة.
سادساً: حق العفو
نشير في هذا المجال إلى أن حق العفو المعقود في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والواردة في المادة (110) هو العفو عن العقوبة وليس العفو الشامل عن الجريمة الذي لا يتقرر في معظم الدول إلا بالقانون.
وهو حق إقليمي للدولة ولا يتعارض ذلك مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بشرط ألا يكون الهدف من إصدار دولة ما لقوانين العفو، مساعدة بعض مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من الإفلات من العقوبات.
سابعاً: العقوبات
حيث أن النظام الأساسي لا ينص على عقوبة الإعدام بل المؤبد، فقد حسمت هذه الإشكالية في ضوء المادة (80) من النظام الأساسي التي تمنح الدول حق توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية إذا ما تمت محاكمة الشخص أمام المحاكم الوطنية، وبالتالي فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يحول دون تطبيق أحكام الإعدام على الجرائم الداخلة في اختصاصه ما دامت الدولة الطرف هي التي تضطلع بالمحاكمة على الصعيد الوطني.
وبعد أن استعرضتا الإشكاليات التي تفرضها العلاقة ما بين النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والأنظمة القضائية الوطنية نخلص كما يلي:
ـ المحكمة الجنائية الدولية هي امتداد للاختصاص الجنائي الوطني وعند التصديق على النظام الأساسي من قبل السلطة البرلمانية الوطنية تصبح جزءاً من القانون الوطني.
ـ المحكمة الجنائية الدولية لا تتعدى على السيادة الوطنية أو تتخطى نظم القضاء الوطني طالما كان الأخير قادراً وراغباً في مباشرة التزاماته القانونية الدولية.
ـ يمتد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل الدول الأعضاء ويتم ممارسة اختصاص المحكمة بالتكامل مع اختصاص نظم القضاء الوطني للدول الأعضاء.
ـ الاختصاص الجنائي الوطني دائماً تكون له الأولوية على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تستطيع (المحكمة) ممارسة اختصاصها في حالتين هما:
أ ـ الأولى عند انهيار النظام القضائي الوطني.
ب ـ عند رفض أو فشل النظام القضائي الوطني في القيام بالتزاماته القانونية بالتحقيق ومحاكمة الأشخاص المشتبه بارتكابهم الجرائم الثلاث الموجودة حالياً في اختصاص المحكمة الجنائية.
ـ كما تظهر قواعد أسبقية نظم القضاء الوطني على التكامل الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، من حيث قيام النظم القضائية الوطنية بمباشرة طلبات التعاون المشتملة على القبض وتسليم المشتبه بهم.
ـ من حيث القانون الواجب التطبيق يجوز للمحكمة بالإضافة للمصادر القانونية الأخرى أن تطبق قواعد القانون العامة المستمدة من القوانين الوطنية للأنظمة القانونية بشرط عدم تعارضها مع قانون المحكمة الجنائية الدولية وهذا يعزز مبدأ التكامل.
ـ وحيث أن المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة مكملة للاختصاص الجنائي الوطني، فإن تسليم الدول الأطراف شخصياً إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إنقاذا للمعاهدة:
أـ لا يقلل من سيادتها الوطنية.
ب ـ لا ينتهك السيادة الوطنية لدولة أخرى مثل دولة جنسية الجاني أو المجني عليه.
ج ـ لا ينتهك حقوق الشخص الذي تنقل محاكمته الى الاختصاص الجنائي المختص.
واستنادا الى ما سبق نجد أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وفي إطار علاقته بالأنظمة القضائية الوطنية يحكمه مبدأ التكاملية والتعاون ولا يترتب عليه المسّ بالسيادة الوطنية للدول الأطراف، إلا أن كل ذلك لا ينفي بأن هناك محاولات التفاف على هذه المحكمة وخصوصاً بعد أحداث 11 ايلول التي تركت آثارها على العديد من القضايا الخاصة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وكذلك مبادئ القانون الدولي الإنساني والقضاء الجنائي الدولي الذي تمثل في هذه المحكمة عنوانه في هذه المرحلة من حياة البشرية، ومن ضمن تلك المحاولات قيام الولايات المتحدة بإبرام عدد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأطراف بهدف افراغ المعاهدة من مضمونها، واحتجاج الدول الكبرى باتفاقيات جنيف واللجوء إلى القضاء الجنائي الدولي مع أن بعضها هي التي تنتهك تلك الاتفاقيات ولعل ما جرى في العراق وفلسطين خير دليل على ذلك.
خامسا :ملاحظات على نظام المحكمة المختلطة الخاصة بلبنان
نتيجة للدروس التي تم استخلاصها من تجربة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا الايجابية منها والسلبية، برز إلى الوجود نموذج جديد للعدالة الدولية: المحاكم المختلطة والتي تعمل تحت إشراف مشترك من الأمم المتحدة والدول المعنية. وتشكل هذه الطريقة محاولة للمزج بين فوائد المتابعات الوطنية مثل القرب الجغرافي والنفسي إلى الضحايا، والأثر الايجابي على مؤسسات الدولة المحلية مع فوائد المشاركة الدولية كالموارد والموظفين والأمن. وقد أقيمت المحاكم المختلطة في سيراليون المحكمة الخاصة، المقامة بالبلد والتي شرعت مؤخراً في أعمالها، وتتكون من قضاة محليين وقضاة دوليين يطبقون كلاً من القانون الوطني والقانون الدولي. وهناك نوع آخر من النموذج المختلط في تيمور الشرقية. كما أن إمكانية إقامة المحاكم المختلطة أكبر من المحاكم الدولية الصرف، فعلى سبيل المثال تبلغ تكلفة ميزانية المحكمة الخاصة لسيراليون تقريبا خُمس الميزانية السنوية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا. وتمتاز كذلك المحاكم المختلطة بكونها تقام على أراضي الدولة المعنية إن لم يكن هناك سبب يمنع ذلك، كما أن موظفيها ينتمون بشكل عام إلى الدولة عينها وتجد مساندة مباشرة من لدن الأنظمة القانونية الوطنية. ومن المحتمل أن يصبح النموذج المختلط أكثر انتشارا خلال السنوات القليلة المقبلة، باعتبارها توفر حلا للأنظمة الوطنية الواسعة الامتداد والقليلة التجهيزات.
وفي الوقت نفسه، قد تواجه هذه المحاكم المختلطة انعدام التعاون من طرف الدولة التي تقام عليها أو من طرف دول أخرى، إلا أن العلاقة مع مجلس الأمن وسلطات "الباب السابع" من ميثاق الأمم المتحدة يمكن أن تسد بعض الثغرات. كما أن الرغبة في اكتساب الاستقلال المحلي إلى أقصى حد أدى إلى نتائج عكسية لصعوبة العثور في بلد عدالته مشكوك فيها على موظفين ذوي خبرة ومدربين بشكل مناسب. وأخيرا، وكما هو الشأن بالنسبة إلى المحاكم الدولية، قد تثير المحاكم المختلطة آمالا وطنية تتجاوز ما هو ممكن عمليا بالنظر إلى الموارد المحدودة والقيود الداخلية التي ترجع إلى عملية العدالة القضائية.
فالمحاكم المختلطة هي بطبيعتها مواءمة القوانين الدولية والوطنية بهدف الوصول إلى الحقيقة والعدالة في أمر ما، وهي تنشأ باتفاقات خاصة بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، تحدد فيها كل الأمور المتعلقة بالمحكمة لجهة التشكيل والقوانين التي تلجأ إليها إضافة إلى قواعد الأجراء والتنفيذ.
أما لجهة السوابق[9] فثمة العديد منها، كان آخرها المحكمة المختلطة في كمبوديا الخاصة بمحاكمة الجرائم المنسوبة إلى الخمير الحمر إبان الحرب الأهلية الكمبودية بين الأعوام 1975 و1979، وقد صدر قرار عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/5/2003 يتضمن الموافقة على الاتفاق الموقع بينها والحكومة الكمبودية على شكل المحكمة وما يتعلق بها من إجراءات، ونص الاتفاق على إنشاء غرفة قضائية أولية غير عادية، مؤلفة من ثلاثة قضاة كمبوديين يعينون بقرار من مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من قاضيين دوليين، وكذلك إنشاء محكمة عليا تنظر كمحكمة استئناف وكمرجع أخير وتعتبر غرفة من غرف محكمة التمييز وتتشكل من أربعة قضاة كمبوديين يعينون أيضا من قبل مجلس القضاء الأعلى ومن ثلاثة قضاة أجانب. ويعهد إلى هذا القضاء الخاص أمر المحاكمة ومنها جرائم الإرهاب. وتوكل مهمات الملاحقة الجزائية والاتهام أمام هذا القضاء إلى هيئة اتهامية مختلطة مؤلفة من نائب عام كمبودي ومن نائب عام دولي يختاره مجلس القضاء الأعلى الكمبودي من بين لائحة مؤلفة من شخصيتين متخصصتين يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى الحكومة الكمبودية. كما آن تعيين القضاة الأجانب يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة مقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة، واللافت في هذه المحاكم صدور القرارات بالإجماع في المستويين، وإذا تعذر بالغالبية شرط وجود قاض دولي بين المؤيدين على الحكم ضمانا للعدالة والصدقية. إضافة إلى أن الإجراءات ستتبع قانون العقوبات الكمبودي مع إجراء بعض التعديلات عليه بما يتوافق مع بعض معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأي حصانة قضائية أو أي عفو عام أو خاص.
والسابقة الأخرى المحكمة المختلطة في سيراليون وفقا لقرار مجلس الأمن 1315 تاريخ 14/7/2000، وقد أنشئت في العام 2002 وهي مؤلفة من قضاة سيراليونيين ودوليين للنظر بالجرائم الخطيرة التي حدثت في العام 1996، مع ملاحظة بعض التعديلات أيضا على القوانين الوطنية بما يتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام.
أما السابقة الثالثة فهي المحكمة الخاصة المختلطة في تيمور الشرقية المنشأة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1272 تاريخ 25/11/1999 الذي وضع تيمور تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة، بهدف محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ العام 1975، وعمدت الأمم المتحدة إلى إنشاء قضاء خاص تألف من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين للأمم المتحدة تم تعيينهم من قبلها، والذي ينظم هذا القضاء وفقا لقواعد القانون الدولي التي تحكم المحاكمات العادلة والنزيهة والمنصوص عليها خصوصا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في الحالة اللبنانية كمحكمة مختلطة تنعقد على الأراضي اللبنانية، فتستلزم العديد من الإجراءات، أولها إبرام اتفاق بهذا الشأن بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة والذي لا يصبح نافذا إلا بإبرام مجلس النواب له وفقا لنص المادة 52 من الدستور اللبناني. كما يتوجب على المجلس النيابي إصدار قانون خاص مراعاة للمادة 20 من الدستور التي تنص على "السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة". وكذلك منع قوانين العفو ووقف العمل بالحصانات القضائية، وكذلك تحديد مدة التوقيف الاحتياطي في جرائم القتل والجرائم ضد أمن الدولة والجرائم المسماة خطرة. كما تتطلب مثل هذه المحاكم تعديلات لبعض القوانين لتتلاءم مع المعايير الدولية كإلغاء عقوبة الإعدام.
وإذا كان هناك من سبب يمكن أن تواجه انعقاد المحكمة المختلطة على الأراضي اللبنانية لدواع مختلفة كما هو مشار في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، فمن الممكن انعقادها خارج لبنان وهو أمر بدوره يستلزم بعض الإجراءات، منها وجوب توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة توضع بموجبه أصول المحاكمة وقواعدها وتحدد فيه صلاحية المحكمة المادية والشخصية والزمنية. على أن ينص الاتفاق على تطبيق الأصول والإجراءات الجزائية اللبنانية مع بعض التعديلات التي تقتضيها المحاكمات المتوافقة مع المعايير الدولية والتي تتطلبها المحاكمة العادلة، والمراجعة أمام هيئة قضائية عليا. وكذلك توقيع اتفاق مع الأمم المتحدة على أن تمنح المحكمة المختلطة حق إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين مهما كانت جنسياتهم وعلى أن تتولى الأمم المتحدة مهمة التفاوض مع الدول التي يتبين أن أحد رعاياها ضالع في عملية الاغتيال أو التفجيرات وذلك بهدف تسليمه إلى المحكمة المذكورة. إضافة إلى قضايا التعويضات الناجمة عن الأذى الذي لحق بالمتضررين من جريمة الاغتيال.
إن المحكمة اللبنانية الدولية ستكون موضع متابعة ومراقبة شديدتين نظرا للقضية التي تنظر فيها وما لها من ارتدادات داخلية وخارجية، كما تعتبر تحديا كبيرا للكثير من المواقع الدولية التي تدخلت بهذه القضية بشكل أو بآخر تحت ذرائع ومبررات متنوعة ومتعددة، ولذلك فسوف تأخذ قسطا كبيرا من المتابعات بهدف الوصول إلى مبتغاها، إضافة إلى أن القرار المتخذ بشأنها واضح لجهة دعم القضاء اللبناني لجهة النقلة النوعية التي ستساعده في أخذ موقعه المفترض في هذه القضية وغيرها.
أن التداخلات السياسية في مثل تلك المحاكم تعتبر من الأمور المعتادة، فمجلس الأمن مثلا كان أجاز لنفسه حق التدخل في المحكمة الجزائية الدولية من خلال الطلب إلى القضاة بتعليق ملاحقة الشخص المتهم لمدة عامين.
وإذا كانت هذه السوابق يمكن الاحتذاء بها في تقييم ما ورد في النظام الأساسي للمحكمة المقترحة،فما هي المقاربات والملاحظات التي يمكن استخلاصها في سياق التعليق على نصوصها.
- في التسمية تمّ اللجوء إلى تغيير اسم المحكمة من المختلطة إلى المحكمة الخاصة بلبنان،ما يوحي وكأن لبنان بأكمله بيئة مناسبة لإقتراف الجرائم الإرهابية،ونزع صفة الخصوصية عن المحكمة المختلطة التي هدفت الى محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري.
- لجهة الاحتذاء بالسوابق فثمة اتجاه للأخذ بما توصلت إليه الأمم المتحدة من إنشاء محكمة مختلطة لتيمور الشرقية التي غلب عليها الطابع الدولي أكثر من المختلط،بمعنى أن نظام المحكمة لتيمور أسس بيئة مناسبة لتغيير وتعديل القوانين المحلية بما يتناسب مع ظروف التدخل الدولي آنذاك لإنشاء نظم قانونية جديدة.واخطر ما في ذلك من إمكانية تطبيق هذا الخيار على الواقع اللبناني بما يحمله من إمكانية تعديل الكثير من القوانين اللبنانية وهذا ما أتى في بعض المواد التي سنشير إليها لاحقا.
- لم يؤخذ بالنموذج الكمبودي على سبيل المثال،ففي تلك المحكمة يلاحظ الغلبة للبيئة القانونية المحلية حيث عدد القضاة في كلا الدرجتين هم أكثر من القضاة الدوليين،وكذلك تعيين القضاة الدوليين يتم من قبل المجلس ألعدلي الكمبودي بناء على لائحة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة وكذلك تعيين المدعي العام الرديف،بينما في نظام المحكمة الخاصة في لبنان فالأمر معكوس تماما.
- ليس ثمة أية سابقة أن أنشأت محكمة خاصة دولية أو ذات طابع دولي بهدف محاكمة مرتكبي جريمة سياسية ويبدو من توصيف الجريمة في الأساس على أنها عمل إرهابي هدفه إتاحة الفرصة لمجلس الأمن التدخل لأهداف سياسية متعلقة ببعض دول المنطقة.
- وخلافا لمحاكم أخرى لن تنظر المحكمة في جرائم تعتبر عادة جرائم ضد القانون الدولي كجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وفي ما يتعلّق بجريمة الإرهاب التي تتكرر بشكل واضح في قرارات مجلس الأمن فليس هناك تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذه الجريمة أو عقاب معيّن لها. وليس هناك سابقة لمحكمة دولية أن نظرت في جريمة وصفت بأنها عمل إرهابي. لذلك لا مناص من تطبيق القانون اللبناني على جريمة هي في الأساس من اختصاص القضاء اللبناني. وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من مسودة النظام الأساسي للمحكمة المقترح.
- لقد تمَّ التنازل عن كل ما حفظه مجلس الأمن في قراره الرقم 1595، الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية، للسلطات اللبنانية من سيادة بالنسبة إلى إدارة التحقيق وتطبيق القانون في شأن الأعمال الجرمية التي رافقت اغتيال الرئيس الحريري وآخرين، إذ نصَّت المادة (4) من مسودة النظام الأساسي للمحكمة «عند تعيين المدعي العام وفي فترة لا تتعدّى الشهرين، ستطلب المحكمة الخاصة من السلطات القضائية الوطنية المسؤولة عن قضية الهجوم الإرهابي على رئيس الوزراء رفيق الحريري وآخرين، الخضوع لاختصاصها»، وكذلك سوف تحيل السلطات اللبنانية بناء على طلب المحكمة الخاصة الموقوفين ونتائج كل التحقيقات ونسخ عن سجل المحكمة. وبناء على طلب المحكمة أيضاً، «ستخضع السلطة الوطنية المعنية لاختصاص المحكمة».
- إن كفّ يد القضاء اللبناني بصورة فورية وقبل انتهاء التحقيق يعتبر مخالفاً لقرار مجلس الأمن الرقم 1644 الذي أقرّ في البند (6) منه طلب الحكومة اللبنانية بأن «يحاكم من توجّه لهم في آخر المطاف تهمة الضلوع في هذا العمل الإرهابي أمام محكمة ذات طابع دولي....»، فهل بلغ التحقيق آخر المطاف؟ وهل يجوز اختصار التحقيق أو النيل من وحدته من طريق إحالته على مدّعي عام المحكمة الخاصة قبل تمامه؟.
- ثمة ثغرات كبيرة لجهة القانون الواجب التطبيق من الناحية الإجرائية والتي تثير الشبهة وعلامات الاستفهام. فبالنسبة إلى إجراءات المحاكمة وقواعد الإثبات إذ أن مسودة نظام المحكمة لم تلحظ قواعد معينة لأصول المحاكمات وقبول الأدلة. إذ ترك لقضاة المحكمة الخاصة وفقا للمادة (28) وضع نظام إجراءات بعد تأليفها وهو أمر يمثّل سابقة خطيرة في القضاء الجزائي.
- في المادتين (13) و(16) منه، أخذ مشروع النظام بصورة عامة المعايير الدولية للمحاكمات الجنائية الدولية وبخاصة لجهة حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، بيد انه اغفل الإشارة إلى حق الموقوف في طلب تخلية سبيله من المدعي العام لدى المحكمة الخاصة ضمن مهلة زمنية معقولة إذا لم تتوافر لدى المدعي العام أدلّة في حقه تجيز استمرار التوقيف. وهذه فجوة مهمة جدّاً بالنسبة إلى مصير الضباط الموقوفين.
- إن أخطر ما في مسودة نظام المحكمة الخاصة توسيع صلاحيات المحكمة بحيث تمتد، بالإضافة إلى جريمة اغتيال الرئيس الحريري، إلى أعمال أخرى مماثلة في طبيعتها وخطورتها «حصلت في لبنان بين الأول من تشرين الأول 2004 و31 كانون الأول 2005 أو أي تاريخ لاحق يقرر باتفاق الأطراف المعنية وموافقة مجلس الأمن». إن توسيع صلاحية المحكمة هذا، بالإضافة إلى أنه يتعدّى منطوق قرار مجلس الأمن الرقم 1664 الذي هو المستند الأساسي في إنشاء المحكمة الدولية، والذي يحصر ولاية المحكمة «بالتفجير الإرهابي الذي أدّى إلى مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وآخرين» على أن تُنشأ «محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع من تثبت مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الإرهابية».
- إن توسيع صلاحية المحكمة في الزمان وبالنسبة إلى أفعال جرمية يترك لاستنساب المحكمة تبنّي معايير التشابه في الطبيعة والخطورة مع الأعمال الجرمية التي أودت بحياة الرئيس الحريري، يخالف مبادئ أساسية في القانون الجزائي وخاصة أن قرار مجلس الأمن الرقم 1664 اعتمد كون المحكمة ذات الطابع الدولي يجب أن تستند إلى «أعلى المعايير الدولية في القضاء الجنائي». إن قرار توسيع اختصاص المحكمة إلى أعمال جرمية قد ترتكب مستقبلاً ويترك للمحكمة القرار في شأن اختصاصها للنظر فيها يصعب تجريده من أهداف سياسية.
- ليس ثمة أية هيئة قضائية أو إدارية يمكن مراجعتها في حال مخاصمة أحد القضاة أو موظفي المحكمة لأسباب إدارية أو مالية.
- لم تحدد المادة (5) من مشروع الاتفاق، كيفية تمويل المحكمة.
ثمة الكثير من النصوص الغامضة والملتبسة القابلة للتأويل وبالتالي إمكانية استثمارها السياسي باتجاهات تحرف عمل المحكمة عن الوصول إلى الحقيقة.وبخاصة التوسع في إمكانية شمل الجرائم وما يمكن ربطها بها.فماذا على سبيل المثال لو توصلت المحكمة إلى استنتاج مفاده أن أي عملية نفذت ضد إسرائيل هي عملا ارهابيا وبالتالي سيكون الموضوع من صلاحيتها للنظر به.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها ومن الصعب الإجابة عليها من دون النظر إلى الخلفيات السياسية التي تستهدفها القوى الدولية من إنشاء مثل هذه المحاكم.ثمة جرائم كثيرة وكبيرة افتعلت ونفذت عبر التاريخ لتمرير أشياء أخرى ليس لها علاقة بالمحاكمات التي جرت لها لاحقا،والثابت في التاريخ أن كل الجرائم الكبيرة التي تنفذ ليس لكشفها لاحقا بقدر ما تكون تغطية لتمرير مؤامرت بحجم الجريمة المرتكبة!.
سادسا الأبعاد القانونية والسياسية للقرار 1757 وتداعياته
توَّج القرار 1757 سلسلة قرارات دولية وضعت قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري على مفترق طرق،متعدد الاحتمالات ومتنوع الوسائل،ورغم أن الهدف المعلن على الأقل هو واحد،فإن ما ينذر ويلوح في الأفق ربما يكون غير ذلك،فماذا في القرار 1757 ؟وما هي بيئته القانونية والسياسية ؟وما هي تداعياته المحلية والإقليمية؟وهل ستتمكن المحكمة في النهاية من تقديم إجابات وبالتالي أحكام على سيل من الأسئلة الملتبسة الطويلة والمتنوعة بتنوع الأطراف المشاركين فيها؟.ففي الشكل أولا يمكن تسجيل عدة ملاحظات أبرزها:
- أتى القرار 1757 مقتضبا ومرتكزا على سيل من القرارات الدولية ذات الصلة بالموضوع الأساس بدءا بالقرار 1595 الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية ،مرورا بالقرارات 1636 و1644 و1664 وصولا إلى 1748 ،إضافة إلى عدد من المذكرات والمراسلات والتقارير ما يوحي أن ثمة محاولة للربط والوصل بين جميع عناصر القضية من وسائل إجرائية وموضوعية تهدف في النهاية لتكوين شبكة دفاع قانونية للبيئة التي ستنطلق منها المحكمة لجهة التأسيس والتكوين وصولا للإجراءات والأحكام.
- حاول نص القرار أن يكون متوازنا لجهة الارتكاز القانوني في الشق اللبناني المتعلق بالأسباب الموجبة لنقل موضوع الإقرار إلى مجلس الأمن وبالتحديد الفصل السابع،فالقرار أشار "إلى الإحاطة التي قدّمها المستشار القانوني - للأمين العام للأمم المتحدة - في الثاني من أيار 2007 والتي لاحظ فيها أنّ إنشاء المحكمة عن طريق العملية الدستورية تواجه معوقات جدية، لكنه لاحظ أيضا أن جميع الأطراف المعنية جددّت تأكيد اتفاقها المبدئي على إنشاء المحكمة". فالقرار وإن أقر بإجماع اللبنانيين على مبدأ إنشاء المحكمة لم يشر إلى الأسباب الحقيقية لعدم إقرارها في المؤسسات الدستورية اللبنانية إلا عرضاً عند الإشارة إلى مذكرة الأغلبية النيابية مع إغفال تام للمذكرة المقابلة المتعلقة بتحفظات المعارضة على مشروع النظام الأساسي للمحكمة، كما أن ثمة لغط والتباس كبيرين حصلا في موضوع عرض مذكرة رئيس الجمهورية على مجلس الأمن في إثناء المداولات التي جرت قبيل صدور القرار 1757.
- تمَّ إعادة التركيز على ذكر الارتكاز على الفصل السابع في صدور القرار ".. يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويقرر.."، رغم استناده على مجموعة قرارات سابقة صُنفت ضمن الفصل السابع،ذلك في معرض التأكيد على لزوم ما لا يلزم.
- ثمة تعددٌّ في تسمية المحكمة في نص القرار رغم اختلاف أنواعها وسبل تشكيلها وتكوينها وآثارها،فتارة تورد تحت اسم " إنشاء محكمة ذات طابع دولي" وتارة تذكر" إنشاء محكمة خاصة للبنان" وتارة أخرى "المحكمة الخاصة ".ولكل واحدة منها دلالاتها وخلفياتها الخاصة
- وفي الشكل أيضا لكن له من الدلالات الكثيرة الفارقة أن القرار لم يصدر بإجماع أعضاء مجلس الأمن الدولي وهي سابقة في هذه القضية بالذات،فجميع القرارات السابقة وكذلك بيانات رئاسة مجلس الأمن ذات الصلة صدرت بالإجماع ،علاوة على أن ثمة إصرار واضح قد جرى على الإجماع باستثناء هذا القرار الذي يبدو وكأنه رُتب على عجلّ،ففي حسبة بسيطة تظهر أن الخمس دول التي لم تصوِّت على القرار تشكّل عمليا نصف سكان الكرة الأرضية.
وإذا كان ثمة ملاحظات في الشكل على نص القرار،فإن العديد منها يمكن أن تسجل في مضمون القرار والتي سترتّب مظاهر وتداعيات وسلوكيات لبنانية وإقليمية مختلفة لاحقا،ما يؤثر على جوهر القضية نفسها وهي كشف قتلة الرئيس رفيق الحريري،ومن بين هذه الملاحظات:
- لقد وُصِفتْ جريمة الاغتيال بالعمل "الإرهابي" وهي وردت أربع مرات في متن القرار.وعلى الرغم من أن هذه الجريمة تعتبر من أبشع الجرائم وأكثرها أثرا وتداعيات،فثمة خلاف دولي واضح وفي الأمم المتحدة تحديدا على التعريف والتوصيف والتكييف القانوني للعمل الإرهابي،فكيف يمكن توصيف هذه الجريمة بالإرهابية استنادا إلى معايير غير موجودة في الأساس أو غير مُتفق عليها في الأعراف والقوانين الدولية ذات الصلة.
- وعلى الرغم من حجم ودور وموقع الرئيس رفيق الحريري في السياسات المحلية والإقليمية والدولية ،ثمة مفارقة وسابقة أن اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً وفي الفصل السابع تحديدا ودون إجماع أعضاء المجلس اعتبر فيه :" أنّ هذا العمل الإرهابي والآثار المترتبة عليه يشكّل تهديداً للسلام والأمن الدوليين".
- لقد تجاوز مجلس الأمن لكثير من الأهداف والمبادئ التي قامت عليها الأمم المتحدة وبخاصة الفقرة (7) من المادة (2) التي تنص على أن :" ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخّل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما،وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرِّضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق".وتأسيسا على الاتفاق الموقع بين الحومة اللبنانية والأمم المتحدة حول مشروع النظام الأساسي للمحكمة ،فان صاحب الصلاحية والسلطان في إقرارها الأساسي هي آليات محددة في الدستور اللبناني،وإذا كان ثمة ظروف سياسية معروفة قد اعترضت طريق الإقرار الدستوري في لبنان،فليس ثمة ما يجبر أو يفرض على مجلس الأمن إقرارها في الفصل السابع سيما وأن آليات الإقرار في الفصل السابع لها محددات خاصة ليس ثمة إجماع عليها في مجلس الأمن والمتعلقة بتعريض الأمن والسلم الدوليين للخطر.علاوة على ذلك إن هذا الأجراء أي الإقرار هو مخالف لنص وروح المادة (102) من ميثاق الأمم المتحدة التي تعتبر الأمانة العامة بمثابة المستودع التي تودع فيه الاتفاقات الدولية بعد إبرامها بين الدول والأمم المتحدة وفقا للأصول القانونية والدستورية المعتمدة في كل دولة.كما انه ليس في هذا الميثاق ما يجبر أو يحدد المواقيت أو الآليات التي يفترض إتباعها لإبرام الاتفاقات بين الدول والأمم المتحدة على قاعدة حفظ سيادات الدول على سلطانها الداخلي والخارجي إلا في حالات محددة وهي غير متوفرة في هذه القضية وليس عليها إجماع داخلي لبناني أو إقليمي أو دولي لجهة اللجوء للفصل السابع باعتبارها قضية تهدد الأمن والسلم الدوليين.
- ثمة لبس في توصيف القرار على انه فعلا في الفصل السابع أم لا، ففي النص يصنف مجلس الأمن القرار نفسه في الفصل السابع الذي لا يستلزم موافقة الأطراف المعنية فيه لتطبيقه، بينما في بعض الصياغات يتم اللجوء الى عبارات ومصطلحات يبقي للحكومة اللبنانية أمر البت في بعض المسائل على سبيل المثال الفقرة (ب) من المادة (1) : "... إذا أبلغ الأمين العام أنّ اتفاق المقر لم يبرم ....، فإنه يحدد موقع مقر المحكمة بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، ويكون ذلك رهن بإبرام اتفاق مقر بين الأمم المتحدة والدولة التي ستستضيف المحكمة".فمن جهة إن تحديد المقر سيتم "بالتشاور" أي ثمة رأي للدولة اللبنانية وان لم يكن ملزماً وهذا ما يتناقض مع مرامي وغايات الفصل السابع للميثاق ألأممي، بيد انه في المقابل ربط موضوع مقر المحكمة باتفاق بين الأمم المتحدة والدولة المضيفة بمعنى أن عملية التشاور يمكن أن تبقى قائمة حتى إبرام الاتفاق بين الأمم المتحدة والدولة المضيفة.وفي نفس السياق أيضا المادة (2) التي تشير إلى :" يطلب إلى الأمين العام أن يتخذ، بتنسيق مع الحكومة اللبنانية عند الاقتضاء، الإجراءات والتدابير اللازمة لإنشاء المحكمة الخاصة في موعد قريب" أي "التنسيق" و"عند الاقتضاء" وهي اقل مرتبة من التشاور إذ أن التنسيق يتمُّ عادة في المسائل الإجرائية التي تمَّ إقرارها في الأساس وكذلك الاقتضاء إذا كان ثمة حاجة لذلك.
- وعطفا على ما سبق قوله،إن إقرار القرار 1757 وفقا للفصل السابع يشكل سابقة لجهة حلول مجلس الأمن محل السلطات التشريعية للدول في مجال إبرام المعاهدات الدولية،وهي قضية مخالفة للميثاق ألأممي،وأمر من شأنه حيازة مجلس الأمن في الوقت نفسه على مسارين ينبغي أن يكونا غير مرتبطين في جهة واحدة وهما اتخاذ أمرين تقريري وتنفيذي في آن معا. إذ أن إجراء كهذا أمر من شأنه التدخّل في مسائل من صميم سيادات الدول وبخاصة القضايا التشريعية وإبرام المعاهدات ومجالسها والتي توصّف في علم القانون الدستوري على أن هذه المجالس التشريعية تعتبر أم المؤسسات الدستورية في الدول وتسمو على ما عداها من سلطات باعتبارها تمثيل مباشر للشعب.وعندها ستفسح المجال أمام عرف يقضي بالتدخل لإقرار قوانين ومعاهدات ولو اختلف عليها أصحاب الشأن الداخليين.
وإذا كانت هذه الملاحظات السالفة الذكر توجّه إلى القرار شكلا ومضمونا،فما هي خلفياته تداعياته المستقبلية؟ وفي هذا الإطار ندرج بعض أهمها:
- أنّ مسألة نظام المحكمة مفصولة من الناحية الوظيفية عن الاتفاقية الثنائية الموقعة بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة المطلوب إبرامها فالأمران مرتبطان بهدف واحد وهو جلاء الحقيقة وتبيانها في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري،فصحيح أن نظام المحكمة هي بمثابة الآلية التي يمكن إصدارها بطريقة أخرى غير مقررة في الأساس حصرا بالمؤسسات الدستورية اللبنانية وهذا ما انطوى عليه جملة القرارات الصادرة والمؤسسة للمحكمة ونظامها الأساسي كالقرارات 1595 و1644 و1664 وجميعها مُدّرجة ضمن الفصل السابع.وصحيح أيضاً أنَّ إقرار المحكمة في الفصل السابع يمكن أن يكون متدرِّجا وليس بالضرورة البدء في المادة (42) وما يليها أي استعمال القوة بوجه من يعرقل سير عملها أو لا يتجاوب مع متطلباتها أو آليات إجراءاتها. إلا أن الصحيح أيضا أن التدرّج في فرض العقوبات الزاجرة في الفصل السابع أتى في سياق "حتمي" لا اختياري أو استنسابي وهو مرتبط أولا وأخيرا بالمزاج السياسي الدولي ومن يتحكّم به في دهاليز مجلس الأمن الدولي.إذ ليس ثمة سابقة دولية اتخذت في مجلس الأمن وفقا للمادة (41) مثلا والقاضية بالحصار البحري والبري وقطع العلاقات الدبلوماسية إلا واستكملت بإجراءات عقابية عسكرية لاحقة،وكأنه يمكن القول أن المادة (41) وضعت لالتقاط الأنفاس وتنظيم الأوضاع والأجواء قبل اللجوء إلى العقوبات العسكرية وفقا للمادة (42).وعليه يمكن القول إن المآل الأخير لهذه الخطوة ليست برأينا سوى مقدمة لإمكانية استعمال القوة ضد من يعنيهم الأمر.
- وإن بدا مجلس الأمن قد حافظ على الصيغة الأساسية لنظام المحكمة التي لم تُقر في الأطر الدستورية اللبنانية، فان المضيَّ به وفقا لهذا الشكل من الإقرار يعني فيما يعنيه إبقاء آلية التنفيذ اللاحقة غير محددة عمليا،فكيف يمكن مثلا إجبار طرف لبناني أو غير لبناني لن يتعاون أو يتجاوب مع متطلبات المحكمة على الرضوخ؟إن الجواب ببساطة استعمال القوة فمن سيستعملها في هذه الحالة السلطات اللبنانية أم غيرها؟وإذا كان الأمر متعلقا بلبنانيين وتطال رموزاً معينة كيف سيتمُّ التعامّل مع هذه القضيّة؟ وإذا كان الأمر متعلقاً بغير لبنانيين هل ستكون السلطات اللبنانية هي مشروع صِدام مع دول أخرى؟وإذا كان ثمة نية باستعمال الأمم المتحدة لقواتها الموجودة في جنوب لبنان مثلا وسيلة متاحة لتنفيذ متطلبات المحكمة فما هو مصير هذه القوات نفسها وكيف سيكون التعامل معها من بعض الأطراف اللبنانيين؟
- بات من الواضح جدا أن الإسراع في نقل المحكمة إلى مجلس الأمن وإقرارها ضمن الفصل السابع في هذه الظروف تحديدا هو تدويل الوضع اللبناني برمته،وفتحه على احتمالات كثيرة من الصعب التنبؤ بنتائجها وتداعياتها القريبة والبعيدة إلا أن أقل ما يقال فيها وضع لبنان على لائحة الاستثمارات السياسية الإقليمية والدولية وإعادته إلى أجواء سني الحرب الماضية التي باتت محفورة في ذاكرة اللبنانيين.
- إن إقرار المحكمة بهذا الشكل يعني أنَّ القوى الخارجية الفاعلة في هذه القضية وضعت اللبنانيين أمام مبدأ الغالب والمغلوب وهي صيغة غالبا ما كلّفت لبنان أزمات وطنية حادة كانت بمثابة الوقت المستقطع لتمرير أمور إقليمية أخرى لا علاقة للبنانيين بها.فجميع الأطراف الدولية والإقليمية لها مصلحة حقيقية في تقطيع الوقت عبر المحكمة بهدف الوصول إلى مبادئ عامّة لمشاريع حلول لقضايا أكبر من لبنان وأكبر من الأهداف التي أُنشأت من أجلها المحكمة.
- إن إقرار المحكمة على توقيت الاستحقاقات الداخلية اللبنانية علامة فارقة في نية القوى الدولية تهريب هذه الاستحقاقات ووضع اللبنانيين أمام خيارات أحلاها مر،فانتخابات الرئاسة مرتبطة بالتوافق الداخلي الذي لم يكن ينقصه سوى هذا الانقسام الحاد على إقرار نظام المحكمة.
- إن المعني الرئيس بهذا الإقرار هو سوريا تحديداً.فسوريا التي تعاونت وباعتراف رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج برامرتز في تقاريره السابقة، أكدت على لسان مسؤوليها سابقا أنها ليست معنية بموضوع المحكمة واعتبرتها مشروع اتفاقية لم تشارك بها،ويأتي هذا الإقرار في الفصل السابع ليلزم سوريا بما ستؤول إليه الأمور لاحقا،سيما وان الانفتاح الأمريكي على سوريا حاليا يستلزم بعض الكوابح الضرورية مستقبلا في عمليات الابتزاز السياسي ،إذ أن المحكمة وإجراءاتها بحسب رأي البعض ستكون عدة الشّغل اللازمة للحوار أو بمعنى أدق التفاوض بين دمشق وواشنطن على قضايا عديدة ومتنوعة من بينها لبنان والعراق والعلاقة مع إيران وعلى رأس هذه المواضيع كلها ملفات الصراع العربي - الإسرائيلي بتفاصيله المملة.
- إن إقرار المحكمة وآلية تنفيذ إجراءاتها لاحقا ستنشئ أجواءً تصادمية داخلية وخارجية لن تتمكن السلطة من القيام بها منفردة،الأمر الذي سيستدعي اللجوء إلى خيارات أخرى على الأرجح ستكون قوات اليونفيل من بينها بعد تعزيز مقومات تحركها من الناحية القانونية وفقا للقرار 1701 ،وما يعزز هذا الاحتمال ما أقدم عليه مؤخرا مجلس الأمن في قرار رئاسي بتشكيل بعثة لتقصي الحقائق بين لبنان وسوريا،وبذلك ستكون الخطوات الدولية متلازمة ومترافقة مع بعضها البعض في هذا الاتجاه ما يُنذر بإمكانية تغيّرات دراماتيكية سريعة يمكن أن تعيد خلط الأوراق في المنطقة كلها.
- ثمة توجّس وخوف كبيرين بأن إقرار المحكمة في الفصل السابع سينسحب على الوضع القانوني لقوات الطوارئ في جنوب لبنان، ربطا بسوابق مماثلة على الصعيد الدولي وان اختلفت تسمية ونوعية المحاكم.فجميع القوات التي أنشأت في يوغسلافيا السابقة وراوندا وتيمور الشرقية والتي ترافقت مع محاكم دولية خاصة ومختلطة أنشأت استنادا إلى الفصل السابع،بتبريرات متنوعة ومختلفة وبخاصة حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في جرائم غير مماثلة.إن الحالات السابقة السالفة الذكر لم تمكن أصحابها من الوصول إلى الأهداف المرجوة وبخاصة في قضية سلوفودان ميلوسوفيتش، فيوغسلاقيا قُسمت قبل أن يتوفى هذا الأخير في سجنه وقبل صدور أي حكم بحقه.فهل سيكون الوضع في لبنان متشابها أو مماثلا؟.
إن قدر الدول الصغيرة أن تبقى دائما فريسة سهلة للأهواء والأنواء الإقليمية والدولية،فهل سيكون إقرار المحكمة في الفصل السابع بداية لفصول سوداء أخرى في تاريخ لبنان السياسي المعاصر، وأمر من شأنه فتح مصير لبنان على بدايات لا يعرف أحدا نهاياتها؟ إن استقراء تاريخ محاولات الوصول للعدالة الدولية يؤكد ذلك!.
سابعا: ملاحظات على انتقائية الشرعية الدولية
بصرف النظر عن الصورة الوردية التي تظهرها بعض السلوكيات الدولية المتعلقة بمحاولة ايجاد بيئة قانونية للعدالة الدولية، ثمة واقع مغاير ومخالف لما هو سائد منطلقه ازدواجية التعامل الدولي وانتقائيته،ما يرسم صورة قاتمة لمستقبل ومصير العدالة الدولية،وفي هذا المجال يمكن رصد العديد من الملاحظات ابرزها:
- لقد صورت المحاولات الدولية لايجاد البيئة القانونية لتنفيذ العدالة الدولية على انها جادة ومقبولة من اطراف المجتمع الدولي،الا ان الامر يبدو مجافيا للواقع،فثمة اسئلة كثيرة تثار في هذا المحال ومنها هل ان من مصلحة الدول الكبرى المتنفذة على الصعيد الدولي انشاء آليات قانونية للمحاسبة في الوقت التي هي نفسها ترتكب الجرائم والمحرمات؟وهل يمكن الجمع بين وظيفة القاضي والجلاد في آن معا؟وفي نهاية الامر ومهما كانت خلفية البيئة القانونية للعدالة الدولية هل يمكن فصلها عمليا عن التوازنات الدولية ومصالح الفاعلين فيها؟.
- لم يكن هناك تعاطيا جديا مع انشاء المحكمة الجنائة الدولية وبخاصة من الولايات المتحدة،اذ سرعان ما تراجعت عن التوقيع خوفا من محاكمة جنودها ومسؤوليها امام هذه المحكمة كما فعلت اسرائيل الامر عينه وللأسباب ذاتها.
- ورغم اهمية الفكرة ووجوب التسريع في انجازها فقد تأخرت خطوات التنفيذ طويلا ولا يزال هناك مزيدا من الوقت لكي تأخذ المحكمة موقعها القانوني المفترض،وان تكون ملجأ قانونيا نهائيا لجرائم الحرب وغيرها.
[1] - ونجد لاحقا أن يوليوس قيصر قد يكون شكّل حلقة أساسية في التاريخ السياسي الأوروبي وقد يكون الركيزة الأولى للحداثة الاوروبية، أي وفق نموذج روما، هيئة قضائية استثنائية يقرّها ويحددها مجلس شيوخ SENAT، وهو ما لا يمتّ بأي صلة طبعاً بالاستيلاء على السلطة المطلقة والتوتاليتارية على طريقة القرن العشرين.
[2] - ويعلق روبرت دارنتون أستاذ تاريخ أوروبا الحديث في جامعة برنستون قائلاً: وإذا كانت الثورة قد أعلنت حقوق الإنسان والمواطن فإنها لم تلبث أن أهدرت هذه الحقوق بما ارتكبته من جرائم ومذابح وموجات إرهاب اجتاحت فرنسا كلها بعد 5 سنوات فقط من إعلان تلك الحقوق لدرجة أن بعض المؤرخين البريطانيين مثل ألفريد كوبان كان يصف إعلانات حقوق الإنسان والمواطن بأنها مجرد أسطورة.ويقول المؤرخ الفرنسي بيير كارون الذي أصدر عام 1935 كتابًا عن المذابح التي حدثت في السجون الباريسية إبان عهد الثورة في 2 /9/ 1792.. يقول فيه: كان لهذه المذابح طابع شعائري جارف، وقد بدأت بالهجوم على بعض السجون بزعم القضاء على بعض المؤامرات التي كانت تدبر فيها للإطاحة بالثورة، وأقام «الدهماء» من أنفسهم محكمين وقضاة ومحلفين في فناء هذه السجون، حيث كان السجناء يقدمون للمحاكمة واحدًا بعد الآخر فتوجه إليهم التهم ويحكم لهم أو عليهم ليس تبعًا للأدلة والشواهد؛ وإنما تبعًا لمظهرهم العام وسلوكهم وشخصيتهم بل وتكوينهم الجسدي. كما كان أي تردد أو أي اضطراب يظهر على الشخص يعد دليلاً للإدانة وعلى ثبوت التهمة فيحكم عليه بالإعدام، وكان الذي يتولى المحاكمة وإصدار الحكم شخصًا عاديًا، كما كانت أحكامه تقابل بالتصفيق والصياح من الجماهير الذين تجمعوا من الشوارع المحيطة وأصبحوا بمثابة محلفين، وتمثلت نتائج الثورة في انعقاد المؤتمر الوطني عام 1892 الذي قرر إلغاء الملكية وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة ماري أنطوانيت وكثير من الأشراف والنبلاء، كما قرر إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى ووضع السلطات التنفيذية للدولة في يد مجلس رئاسي مكون من 5 أعضاء، وكانت هذه نموذجا لمحاكمة مجرمي حرب ولكن بسلطة ثورية ديكتاتورية.راجع خالد أبو بكر، الثورة الفرنسية.. في الميزان،دون تاريخ.
[3] - لم تنفذ أي من هاتين الاتفاقيتين لعدم بلوغ نصاب التصديق المطلوب انذاك إضافة لنشوب الحرب العالمية الثانية التي أعادت إلى الواجهة موضوع إنشاء محكمة دولية جنائية حيث دعت سنة 1943 هيئات دولية في لندن إلى هذا الأمر، ومنها: المؤتمر الدولي في لندن، اللجنة الدولية لإصلاح القانون الجزائي، وذلك من خلال عقد مؤتمر يحضره ممثلو الحلفاء.
[4] - عبد الرحيم الخليف، القانون الجنائي الدولي من المحاكم المؤقتة إلى المحاكم الدائمة،ص 121 وما يليها.
[5] - ويعود ظهور مصطلح الجرائم ضد الانسانية الى التصريح الذي صدر عن حكومات كل من فرنسا وروسيا وبريطانيا العظمى في 28 يونيو 1915 والذي أعلن فيه أن ارتكاب تركيا للمذابح أدى إلى موت مليون أرمني، وطالبت هذه الدول بمحاكمة جميع الأتراك المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم. وفي هذا الإطار تقدمت روسيا بمشروع لتسمية هذه الجرائم بـ "الجرائم ضد المسيحية والحضارة" لتضفي عليها طابعاً دينياً خالصاً، ولكن عارضت كل من فرنسا وبريطانيا اللتان كانتا في ذلك الوقت إمبراطوريتان عظيمتان هذه التسمية، لأن كل من هاتين الإمبراطوريتين كانتا تضمان عدداً كبيراً من المسلمين بين سكانها، الأمر الذي أدى إلى إطلاق مصطلح الجرائم ضد الإنسانية على هذه المذابح.
[6] - فمثلاً تحفظت بعض الدول على الحمل الإجباري بعض الدول لتعارضه مع الديانة الإسلامية والمسيحية على حد سواء، وكذلك على جريمة التعذيب لتعارضها مع الحدود كعقوبة في الشريعة الإسلامية.
[7] - لقد انتقل تركيز العالم نحو المحكمة الدولية حين دخل الزعيم اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش قاعة المحكمة وهو يطلق عبارات السخط في فبراير عام 2002، وبعد مداولات مطولة وجهت المحكمة ستين تهمة ابادة جماعية وجرائم أخرى ضده ولعل تلك اللحظة كانت أهم لحظة بالنسبة للعدالة الدولية منذ عقود طويلة. وشكلت هذه المحاكمة علامة فارقة إذ أن ميلوسيفيتش المتهم بارتكاب جرائم التطهير العرقي وجرائم ضد الجنس البشري في كوسوفو وكرواتيا، هو أول زعيم دولة سابق يقف أمام محكمة جرائم الحرب الدولية. وبالتالي فان نجاح المحاكمة من فشلها سيشكل الجهود المستقبلية لمعاقبة أكثر مجرمي الحرب دموية حتى يقرر سياسيو المستقبل اختيار العدالة كواحد من المناهج السياسية لحكوماتهم.
[8] - وحالة ميلوسيفيتش مثال ساطع على فائدة هذه المحاكمات،باعتبار إن إلقاء القبض عليه آنذاك وتقديمه للمحاكمة مثل نجاحا باهرا إذ لم يعد آنذاك شخصية مؤثرة كما انها نجحت في استبعاده عن الحياة السياسية في البلقان وظل في السجن حتى وفاته مظلع العام 2006.
[9] - لمزيد من التفلصيل حول العدالة الدولية ،راجع خليل حسين، قضايا دولية معاصرة،دار المنهل اللبناني ،بيروت، 2007،ص ص 372 وما يليها.