ماذا في خطاب سيد المقاومة ؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب
ليس من قبيل المصادفة أن يأتي خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بهذه الشدة في توصيف وتكييف الوقائع والملابسات التي أحاطت ببعض جوانب فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان؛ فالظروف التي يمر بها لبنان اليوم هي أكثر من استثنائية إن لم نقل مرحلة تأسيسية في وقت تمر به المنطقة في أدق الظروف وأصعبها منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى.فلبنان اليوم هو كلمة الفصل بين مشروعين متناقضين يرسما للمنطقة،فإما شرق أوسط جديد يولد على أنقاض الفوضى الأمريكية الخلاقة، وإما شرق جديد ترسمه معالم تنامي قوى الممانعة والمقاومة بعدما تمكنت هذه الأخيرة من هزيمة المشروع الأمريكي - الإسرائيلي في لبنان في حرب تموز الأخيرة.
فالمواقف المعلنة في الخطاب وإن تبدو في واجهتها الأساسية موجهة إلى قضايا لبنانية داخلية،فإن في جانبها الآخر تعكس انتقادا لاذعا لبعض أطراف السلطة وتصويبا مباشرا على السلوكيات السياسية لرئيس الحكومة وتياره السياسي بما يختص بالمواقف الرسمية للعدوان الإسرائيلي الذي مورس بضغوط على المقاومة أثناء العدوان وبعده وصلت في جوانب كثيرة منها حد الشبهة التي توصل بأصحابها ليس للمساءلة أو المحاسبة السياسية بل المحاكمة وفقا للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء.
وفي أي حال، لقد تضمّن الخطاب جملة أمور أقل ما يقال فيها تحديد المعارضة اللبنانية لخياراتها المرحلية والمستقبلية بشكل واضح ودقيق لجهة ما يمكن أن يكون عليه لبنان بسياساته الداخلية والخارجية،وبالتالي تحديد موقعه المفترض وسط تقارير كثيرة تشير إلى بداية انهيار المشروع الأمريكي في العراق تحديدا وما سيتركه من ظلال كثيفة على باقي المواقع الساخنة في فلسطين وأفغانستان ولبنان وبخاصة بعض صدور تقرير بيكر – هاملتون الأخير.
ففي الجانب الداخلي للخطاب يمكن تسجيل العديد من النقاط التي رسمت خارطة طريق المعارضة في الجانب التنفيذي لتحركها القادم،كما يبرز الإرادة والتصميم اللازمين لتحقيق الأهداف الرئيسة .وإذا كانت الصياغات اللغوية للخطاب تتسم بالشدة والحزم في مقاربة الأهداف والنتائج ،فإن الخطاب لم يغلق باب المفاوضات المحتملة ولو كان ذو هوامش محدودة التحرك؛وفي هذا الإطار يمكن تسجيل التالي:
- حتى تاريخه لم يتعد الخطاب حدود المطالبة بحكومة وحدة وطنية بثلث ضامن للمشاركة الحقيقية.وعلى الرغم من مستوى التحدّي في الخطاب السياسي لقوى الموالاة والإصرار على سياسة سد الأذن وإغماض العين عن الحجم الحقيقي للمعارضة وامكانات فعاليتها في التحرك الحالي ،فإن الخطاب حافظ على الحد الأدنى من طموحات أي معارضة تمتلك هذا الحجم من القوة الفعلية القادرة على فرض التغيير حتى بوسائل أخرى لم تستعمل بعد.
- وفي السياق نفسه إن ترك الباب مفتوحا على بعض الخيارات،فإن لغة الحزم كانت واضحة لجهة حث الحكومة على استغلال الفرصة الأخيرة قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية من التحرك وهي بطبيعة الأمر نقلة نوعية ستزيد الضغوط على الحكومة لقبول ما كانت ترفضه في الفترة الأولى؛باعتبار أن ما طرح من إمكانية توسيع الحكومة بنفس البيان الوزاري لم يعد مقبولا وبات الأمر يتعلق بتشكيل حكومة انتقالية يرأسها رئيس خارج الأكثرية النيابية الحالية على أن يكون من بين أهدافها الرئيسة إجراء انتخابات نيابية مبكرة،ما يعني أن هذه الحكومة ستخرج نهائيا من السلطة.
- إن اللافت في الخطاب ما تناوله سماحة الأمين العام عن الحكومة المقبلة وبالتحديد عن حصة حزب الله في الوزارة، بمعنى أن الحزب مستعد لتقديم مقاعده الوزارية لحلفائه وهي ليست بقضية مستهجنة ؛ففي الأساس لقد بذلت هذه الأكثرية بالتحديد جهودا كبيرة لإقناع قيادة حزب الله للمشاركة في هذه الحكومة والتي سبقتها أيضا،على قاعدة المصداقية التي يتمتع بها حزب الله في مقاربته للقضايا، كما انه أمر من شأنه أن يعطي ضمانات كبيرة للقرارات الاستثنائية التي يمكن أن تتخذها أية حكومة يشارك فيها.فقيادة الحزب هي زاهدة لجهة القبول بأي منصب وزاري أو إداري في مؤسسات الدولة،وما دخوله للندوة النيابية سابقا إلا في إطار تصويب العمل الحكومي في إطار المراقبة والتشريع؛كما يمكن مقاربة العديد من الأسباب والاعتبارات التي أملت عليه اتخاذ القرار لدخول الندوة النيابية في الأساس،إذ كان الهمّ الأساسي التفرغ للتحرير ولإدراكه أن إصرار بعض من كانوا في السلطة سابقا ولاحقا على إدخاله في الحياة السياسية الداخلية هدفه ليس مشاركة الحزب بل محاولة إبعاده قدر الإمكان عن أهدافه الأساسية وهي التحرير.
- لقد كان الهاجس الأول والأخير للخطاب هو التأكيد على وأد الفتنة المذهبية التي يحاول من في السلطة إشعالها في الداخل وهي بطبيعة الأمر من أركان استراتيجية الفوضى الخلاقة التي يديرها المحافظون الجدد في الشرق الأوسط الكبير – الجديد؛وهي خطة مكشوفة الأهداف والأدوات،فزيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليسا رايس،قبل شهرين إلى كل من مصر والسعودية والأردن ولبنان قبلا واجتماعها الشهير مع وزراء الخارجية العرب الثمانية في القاهرة أفضى إلى تصريح شهير لها،إما مشروعنا الشرق أوسطي وإما الفوضى الخلاقة في العراق وفلسطين ولبنان،كما استتبعها العاهل الأردني ببشارة الحروب الأهلية في المنطقة.ومنذ ذلك التاريخ بدأت الأدوات اللبنانية سرا وعلانية المضي في هذا الاتجاه إلى أن وصلت الأمور إلى ما عليه الآن من تحريض مذهبي إعلامي وعملي وصل إلى حد التنفيذ الفعلي له عبر اغتيال الشهيد أحمد حمود مؤخرا ،إضافة إلى العديد من الأفعال الممنهجة والمدروسة التي تصب في هذا الإطار.فالتأكيد على شمولية المعارضة بتلاوينها السياسية والدينية وحتى المذهبية وسلمية تحركها والتأكيد بشكل واضح وصريح بعدم امكانية الرد على أي عمل استفزازي بنفس الأسلوب إنما هو حرص على وأد الفتنة التي يسعى إليها الطرف الآخر عبر محاولة جر قوى المعارضة بشكل عام والمقاومة بشكل خاص إلى زواريب السياسة الداخلية اللبنانية،ظنا منهم أنها الطريقة الوحيدة التي يمكن النيل منها بعدما فشلت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في ذلك.
- إن السابقة التي تضمنها الخطاب ذات بُعد استقلالي واضح، إذ أكد أن حزب الله مثلما يرفض وصاية الأمريكيين وأعداء لبنان، فإنه يرفض وصاية "الشقيق والصديق" في تلميح غير مباشر إلى سوريا وإيران وهي المرة الأولى التي يُطلق فيها مثل هذا الموقف،الأمر الذي ينبغي سماعه جيدا من الطرف الآخر.
وفي الجانب الآخر من الخطاب الذي له علاقة مباشرة بسياسة لبنان الخارجية وتحديدا بموقع لبنان من الصراع العربي الإسرائيلي،فكانت المفاجأة الفارقة في إفشاء بعض أسرار سلوكيات رئيس الحكومة وبعض القيادات خلال العدوان الإسرائيلي،إذ كانت بمثابة الشعرة التي قسمت ظهر البعير،بعد سلسلة من الوقائع والمواقف الملتبسة التي أفقدت كل ما له علاقة بالثقة الواجب توفرها بأي علاقة سياسية ولو في حدودها الدنيا.وفي هذا الإطار يمكن تسجيل التالي:
- إن الإشارة إلى من طلب من الإدارة الأمريكية بشكل رسمي التذرع بعملية "الوعد الصادق" لتنفيذ العدوان على لبنان،ومن ثم ممارسة الضغوط على المقاومة خلال العدوان لتسليم سلاحها أو بمعنى آخر الاستسلام،أمر من شانه كشف خبايا وخفايا تلك المرحلة التي بدأت فصولها تتكشف شيئا فشيئا،سيما بعد نشر العديد من التقارير الغربية حول تلك المرحلة ومنها تقرير"سيمور هيرش" الشهير وكذلك تقرير" انطوني كوردسمان".
- إن كشف النقاب عن طلب رئيس الحكومة من قيادة الجيش مصادرة سلاح المقاومة أثناء العدوان لهو أمر خطير،وهذا ما أكده المعاون السياسي للامين العام لحزب الله حسين خليل بوجود شهود ومنهم الرئيس نبيه بري ومعاونه السياسي النائب علي خليل،بعد نفي الرئيس السنيورة بصيغة "التهريج السياسي" والذي لم يتضمن أي رد جدي على الاتهامات التي سيقت له مباشرة. وكذلك نصف النفي لقيادة الجيش ما يعني النفي في معرض التأكيد.ما يشكل خرقا للفقرة السادسة من البيان الوزاري التي يرأس حكومتها،إضافة إلى ما يمكن مساءلته وفقا لقانون العقوبات اللبناني .
- وعلى الرغم من كل تلك الفصول المثيرة التي بدأت تتكشف بعدما كانت تُتداول وبشكل غير مباشر في معرض ردود الأفعال السياسية،فإن أمورا كثيرة ذات صلة بالموضوع ستتوضح لاحقا ما يعني أن كثيرا من الأمور باتت غير قابلة لإصلاح ذات البّين بين طرفي المعارضة والموالاة،إذ باتت الأهداف ووسائل تنفيذها واضحة تماما.
- إن طبيعة الخطاب الاستراتيجية قد وضعت المعارضة في خط سير غير قابل للرجوع وهذا ما يتحمله فريق السلطة بعد رفضه كل المبادرات السابقة،كما فعل في جميع المحاولات السابقة إن كان في مؤتمر الحوار الوطني أو جلسات التشاور التي لم تعد تنفع كما ورد في الخطاب ،باعتبار أن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين.
- ان سياسة نفض اليد التي اعتمدها رئيس الحكومة في اليوم الأول للعدوان لا سيما في بيان مجلس الوزراء الشهير والذي ترك المقاومة لمصيرها لهو أبلغ دليل على ما سيق له في الخطاب هذا إذا تجاوزنا مواقفه الشهيرة قبل العدوان في قمة الخرطوم ومعارضته الشديدة لعدم ادراج الدعم للمقاومة في بيان القمة، معطوفا على موقفه أيضا في اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت إبان العدوان والذي كرر النغمة نفسها،ابان حفلة الدموع الشهيرة التي سبقت حفلة الشاي الذائعة الصيت في ثكنة مرجعين.معطوفة ايضا على تصريحات القيادات الأسرائيلية ودعهما المستميت لعدم إسقاط الحكومة والتي توّجتها في بيانها الأخير عبر الاجتماع المصغر للحكومة الاسرائيلية والتي اعتبرت فيه ان سقوط حكومة السنيورة سيشكل خطرا على اسرائيل وهي مقدمة لحرب قادمة مع حزب الله.اضافة الى ذلك وحتى لا ينسى من تخونهم الذاكرة ،نذكر بما قالته وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبني ليفني بعد حفلة البكاء ،"ان على السنيورة أن يكفكف الدموع وعمل ما يجب ان يعمله".
إن طبيعة تحرك المعارضة في فصله النوعي الثاني سيكون مؤثرا وربما قاضيا بشكل متسارع لن يتوقعه البعض،فهل سيعود من بيدهم السلطة إلى رشدهم قبل فوات الأوان،أم أن قد سبق السيف العزل.إن تجارب الحكام مع معارضاتها في كافة دول العالم مريرة جدا وغالبا ما انتهت بالضربة القاضية؛فالتاريخ لم يرحم أحدا وقف بوجه شعبه،كما الجغرافيا لم تبق لهم مرقدا يؤنس نهايتهم،فهل سيتكرر مشهد نوري السعيد وتكون العبرة للقريب والبعيد؟.
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب
ليس من قبيل المصادفة أن يأتي خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بهذه الشدة في توصيف وتكييف الوقائع والملابسات التي أحاطت ببعض جوانب فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان؛ فالظروف التي يمر بها لبنان اليوم هي أكثر من استثنائية إن لم نقل مرحلة تأسيسية في وقت تمر به المنطقة في أدق الظروف وأصعبها منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى.فلبنان اليوم هو كلمة الفصل بين مشروعين متناقضين يرسما للمنطقة،فإما شرق أوسط جديد يولد على أنقاض الفوضى الأمريكية الخلاقة، وإما شرق جديد ترسمه معالم تنامي قوى الممانعة والمقاومة بعدما تمكنت هذه الأخيرة من هزيمة المشروع الأمريكي - الإسرائيلي في لبنان في حرب تموز الأخيرة.
فالمواقف المعلنة في الخطاب وإن تبدو في واجهتها الأساسية موجهة إلى قضايا لبنانية داخلية،فإن في جانبها الآخر تعكس انتقادا لاذعا لبعض أطراف السلطة وتصويبا مباشرا على السلوكيات السياسية لرئيس الحكومة وتياره السياسي بما يختص بالمواقف الرسمية للعدوان الإسرائيلي الذي مورس بضغوط على المقاومة أثناء العدوان وبعده وصلت في جوانب كثيرة منها حد الشبهة التي توصل بأصحابها ليس للمساءلة أو المحاسبة السياسية بل المحاكمة وفقا للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء.
وفي أي حال، لقد تضمّن الخطاب جملة أمور أقل ما يقال فيها تحديد المعارضة اللبنانية لخياراتها المرحلية والمستقبلية بشكل واضح ودقيق لجهة ما يمكن أن يكون عليه لبنان بسياساته الداخلية والخارجية،وبالتالي تحديد موقعه المفترض وسط تقارير كثيرة تشير إلى بداية انهيار المشروع الأمريكي في العراق تحديدا وما سيتركه من ظلال كثيفة على باقي المواقع الساخنة في فلسطين وأفغانستان ولبنان وبخاصة بعض صدور تقرير بيكر – هاملتون الأخير.
ففي الجانب الداخلي للخطاب يمكن تسجيل العديد من النقاط التي رسمت خارطة طريق المعارضة في الجانب التنفيذي لتحركها القادم،كما يبرز الإرادة والتصميم اللازمين لتحقيق الأهداف الرئيسة .وإذا كانت الصياغات اللغوية للخطاب تتسم بالشدة والحزم في مقاربة الأهداف والنتائج ،فإن الخطاب لم يغلق باب المفاوضات المحتملة ولو كان ذو هوامش محدودة التحرك؛وفي هذا الإطار يمكن تسجيل التالي:
- حتى تاريخه لم يتعد الخطاب حدود المطالبة بحكومة وحدة وطنية بثلث ضامن للمشاركة الحقيقية.وعلى الرغم من مستوى التحدّي في الخطاب السياسي لقوى الموالاة والإصرار على سياسة سد الأذن وإغماض العين عن الحجم الحقيقي للمعارضة وامكانات فعاليتها في التحرك الحالي ،فإن الخطاب حافظ على الحد الأدنى من طموحات أي معارضة تمتلك هذا الحجم من القوة الفعلية القادرة على فرض التغيير حتى بوسائل أخرى لم تستعمل بعد.
- وفي السياق نفسه إن ترك الباب مفتوحا على بعض الخيارات،فإن لغة الحزم كانت واضحة لجهة حث الحكومة على استغلال الفرصة الأخيرة قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية من التحرك وهي بطبيعة الأمر نقلة نوعية ستزيد الضغوط على الحكومة لقبول ما كانت ترفضه في الفترة الأولى؛باعتبار أن ما طرح من إمكانية توسيع الحكومة بنفس البيان الوزاري لم يعد مقبولا وبات الأمر يتعلق بتشكيل حكومة انتقالية يرأسها رئيس خارج الأكثرية النيابية الحالية على أن يكون من بين أهدافها الرئيسة إجراء انتخابات نيابية مبكرة،ما يعني أن هذه الحكومة ستخرج نهائيا من السلطة.
- إن اللافت في الخطاب ما تناوله سماحة الأمين العام عن الحكومة المقبلة وبالتحديد عن حصة حزب الله في الوزارة، بمعنى أن الحزب مستعد لتقديم مقاعده الوزارية لحلفائه وهي ليست بقضية مستهجنة ؛ففي الأساس لقد بذلت هذه الأكثرية بالتحديد جهودا كبيرة لإقناع قيادة حزب الله للمشاركة في هذه الحكومة والتي سبقتها أيضا،على قاعدة المصداقية التي يتمتع بها حزب الله في مقاربته للقضايا، كما انه أمر من شأنه أن يعطي ضمانات كبيرة للقرارات الاستثنائية التي يمكن أن تتخذها أية حكومة يشارك فيها.فقيادة الحزب هي زاهدة لجهة القبول بأي منصب وزاري أو إداري في مؤسسات الدولة،وما دخوله للندوة النيابية سابقا إلا في إطار تصويب العمل الحكومي في إطار المراقبة والتشريع؛كما يمكن مقاربة العديد من الأسباب والاعتبارات التي أملت عليه اتخاذ القرار لدخول الندوة النيابية في الأساس،إذ كان الهمّ الأساسي التفرغ للتحرير ولإدراكه أن إصرار بعض من كانوا في السلطة سابقا ولاحقا على إدخاله في الحياة السياسية الداخلية هدفه ليس مشاركة الحزب بل محاولة إبعاده قدر الإمكان عن أهدافه الأساسية وهي التحرير.
- لقد كان الهاجس الأول والأخير للخطاب هو التأكيد على وأد الفتنة المذهبية التي يحاول من في السلطة إشعالها في الداخل وهي بطبيعة الأمر من أركان استراتيجية الفوضى الخلاقة التي يديرها المحافظون الجدد في الشرق الأوسط الكبير – الجديد؛وهي خطة مكشوفة الأهداف والأدوات،فزيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليسا رايس،قبل شهرين إلى كل من مصر والسعودية والأردن ولبنان قبلا واجتماعها الشهير مع وزراء الخارجية العرب الثمانية في القاهرة أفضى إلى تصريح شهير لها،إما مشروعنا الشرق أوسطي وإما الفوضى الخلاقة في العراق وفلسطين ولبنان،كما استتبعها العاهل الأردني ببشارة الحروب الأهلية في المنطقة.ومنذ ذلك التاريخ بدأت الأدوات اللبنانية سرا وعلانية المضي في هذا الاتجاه إلى أن وصلت الأمور إلى ما عليه الآن من تحريض مذهبي إعلامي وعملي وصل إلى حد التنفيذ الفعلي له عبر اغتيال الشهيد أحمد حمود مؤخرا ،إضافة إلى العديد من الأفعال الممنهجة والمدروسة التي تصب في هذا الإطار.فالتأكيد على شمولية المعارضة بتلاوينها السياسية والدينية وحتى المذهبية وسلمية تحركها والتأكيد بشكل واضح وصريح بعدم امكانية الرد على أي عمل استفزازي بنفس الأسلوب إنما هو حرص على وأد الفتنة التي يسعى إليها الطرف الآخر عبر محاولة جر قوى المعارضة بشكل عام والمقاومة بشكل خاص إلى زواريب السياسة الداخلية اللبنانية،ظنا منهم أنها الطريقة الوحيدة التي يمكن النيل منها بعدما فشلت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في ذلك.
- إن السابقة التي تضمنها الخطاب ذات بُعد استقلالي واضح، إذ أكد أن حزب الله مثلما يرفض وصاية الأمريكيين وأعداء لبنان، فإنه يرفض وصاية "الشقيق والصديق" في تلميح غير مباشر إلى سوريا وإيران وهي المرة الأولى التي يُطلق فيها مثل هذا الموقف،الأمر الذي ينبغي سماعه جيدا من الطرف الآخر.
وفي الجانب الآخر من الخطاب الذي له علاقة مباشرة بسياسة لبنان الخارجية وتحديدا بموقع لبنان من الصراع العربي الإسرائيلي،فكانت المفاجأة الفارقة في إفشاء بعض أسرار سلوكيات رئيس الحكومة وبعض القيادات خلال العدوان الإسرائيلي،إذ كانت بمثابة الشعرة التي قسمت ظهر البعير،بعد سلسلة من الوقائع والمواقف الملتبسة التي أفقدت كل ما له علاقة بالثقة الواجب توفرها بأي علاقة سياسية ولو في حدودها الدنيا.وفي هذا الإطار يمكن تسجيل التالي:
- إن الإشارة إلى من طلب من الإدارة الأمريكية بشكل رسمي التذرع بعملية "الوعد الصادق" لتنفيذ العدوان على لبنان،ومن ثم ممارسة الضغوط على المقاومة خلال العدوان لتسليم سلاحها أو بمعنى آخر الاستسلام،أمر من شانه كشف خبايا وخفايا تلك المرحلة التي بدأت فصولها تتكشف شيئا فشيئا،سيما بعد نشر العديد من التقارير الغربية حول تلك المرحلة ومنها تقرير"سيمور هيرش" الشهير وكذلك تقرير" انطوني كوردسمان".
- إن كشف النقاب عن طلب رئيس الحكومة من قيادة الجيش مصادرة سلاح المقاومة أثناء العدوان لهو أمر خطير،وهذا ما أكده المعاون السياسي للامين العام لحزب الله حسين خليل بوجود شهود ومنهم الرئيس نبيه بري ومعاونه السياسي النائب علي خليل،بعد نفي الرئيس السنيورة بصيغة "التهريج السياسي" والذي لم يتضمن أي رد جدي على الاتهامات التي سيقت له مباشرة. وكذلك نصف النفي لقيادة الجيش ما يعني النفي في معرض التأكيد.ما يشكل خرقا للفقرة السادسة من البيان الوزاري التي يرأس حكومتها،إضافة إلى ما يمكن مساءلته وفقا لقانون العقوبات اللبناني .
- وعلى الرغم من كل تلك الفصول المثيرة التي بدأت تتكشف بعدما كانت تُتداول وبشكل غير مباشر في معرض ردود الأفعال السياسية،فإن أمورا كثيرة ذات صلة بالموضوع ستتوضح لاحقا ما يعني أن كثيرا من الأمور باتت غير قابلة لإصلاح ذات البّين بين طرفي المعارضة والموالاة،إذ باتت الأهداف ووسائل تنفيذها واضحة تماما.
- إن طبيعة الخطاب الاستراتيجية قد وضعت المعارضة في خط سير غير قابل للرجوع وهذا ما يتحمله فريق السلطة بعد رفضه كل المبادرات السابقة،كما فعل في جميع المحاولات السابقة إن كان في مؤتمر الحوار الوطني أو جلسات التشاور التي لم تعد تنفع كما ورد في الخطاب ،باعتبار أن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين.
- ان سياسة نفض اليد التي اعتمدها رئيس الحكومة في اليوم الأول للعدوان لا سيما في بيان مجلس الوزراء الشهير والذي ترك المقاومة لمصيرها لهو أبلغ دليل على ما سيق له في الخطاب هذا إذا تجاوزنا مواقفه الشهيرة قبل العدوان في قمة الخرطوم ومعارضته الشديدة لعدم ادراج الدعم للمقاومة في بيان القمة، معطوفا على موقفه أيضا في اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت إبان العدوان والذي كرر النغمة نفسها،ابان حفلة الدموع الشهيرة التي سبقت حفلة الشاي الذائعة الصيت في ثكنة مرجعين.معطوفة ايضا على تصريحات القيادات الأسرائيلية ودعهما المستميت لعدم إسقاط الحكومة والتي توّجتها في بيانها الأخير عبر الاجتماع المصغر للحكومة الاسرائيلية والتي اعتبرت فيه ان سقوط حكومة السنيورة سيشكل خطرا على اسرائيل وهي مقدمة لحرب قادمة مع حزب الله.اضافة الى ذلك وحتى لا ينسى من تخونهم الذاكرة ،نذكر بما قالته وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبني ليفني بعد حفلة البكاء ،"ان على السنيورة أن يكفكف الدموع وعمل ما يجب ان يعمله".
إن طبيعة تحرك المعارضة في فصله النوعي الثاني سيكون مؤثرا وربما قاضيا بشكل متسارع لن يتوقعه البعض،فهل سيعود من بيدهم السلطة إلى رشدهم قبل فوات الأوان،أم أن قد سبق السيف العزل.إن تجارب الحكام مع معارضاتها في كافة دول العالم مريرة جدا وغالبا ما انتهت بالضربة القاضية؛فالتاريخ لم يرحم أحدا وقف بوجه شعبه،كما الجغرافيا لم تبق لهم مرقدا يؤنس نهايتهم،فهل سيتكرر مشهد نوري السعيد وتكون العبرة للقريب والبعيد؟.