28‏/02‏/2008

الانتفاضة الفلسطينية : ظروفها وعوامل نجاحها

الانتفاضة الفلسطينية : ظروفها وعوامل نجاحها
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية
في الجامعة اللبنانية


ورقة عمل المجلس النيابي اللبناني الى ندوة البرلمان الجزائري المنعقدة في الجزائر ما بين 28و30 نيسان / ابريل 2003 .
ان التدقيق في تاريخ استقلال الشعوب ، يظهر بشكل جازم الدور الاساسي والهام الذي لعبته حركات المقاومة والانتفاضات الشعبية في تحرير شعوبها من الاحتلال والاستعمار ، خصوصا عندما تتوفر الارادة والتصميم على المجابهة والاستعداد لدفع ضريبة الدم لنيل الحرية والاستقلال اللذان يعتبران الاساس في بناء الامة والدولة. وكما كل الامم والشعوب التي سبقت الفلسطينيين في هذا المجال ، فقد سجلت سلسلة الانتفاضات الشعبية الفلسطينية ان كانت منظمة او غير منظمة حالات هامة قي دوام احياء القضية الفلسطينية وعدم نسيانها وسط ظروف قاسية لفت مسيرة نضالها .
وفي الواقع تعتبر الانتفاضة الفلسطينية الثانية الاكثر دموية وعنفا عما سبقها نظرا للعديد من الاعتبارات المتصلة بظروف الشعب الفلسطيني وما يحيط به، وكذلك لظروف السلطة الفلسطينية وما مشت بها من مسارات تفاوضية غير واضحة المعالم والاهداف، ووسط تفلت اسرائيلي واضح من عملية التسوية في ظل سيطرة صقور الليكود على السلطة في اسرائيل .
اولا : ظروف الانتفاضة
ان استعراض الظروف القاسية التي تمر بها الانتفاضة الفلسطينية تعطي فكرة واضحة عن القوة الكامنة في الشعب الفلسطيني ومدى تصميمه على الوصول الى ما يصبو اليه باعتباره الطريق والخيار الوحيد الذي سيوصله الى مبتغاه، وأبرز هذه الظروف هي:
- تزامن الانتفاضة مع عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض وتبني هذه الادارة خطا استراتيجيا متشددا ، وسعيها لصياغة بيئة دولية وبيئات إقليمية تستجيب للمصالح الأميركية؛ وكان نصيب الوطنن العربي من هذا الخط الاستراتيجي المتشدد ، النظر إلى الإقليم ككيان واحد والبحث عن تحقيق استقرار قائم على تسوية سياسية للصراع العربي - الإسرائيلي بشروط إسرائيلية تمنح إسرائيل أفضلية في الإقليم وعلى السيطرة على النفط العربي عبر التركيز على الملف العراقي ، لذا رأت في الانتفاضة عقبة في وجه تحقيق الاستقرار المنشود وفي وجه تحقيق إجماع عربي حول برنامج الإدارة فرض عقوبات "ذكية" على العراق فسعت عبر تبنيها لرؤية رئيس الحكومة الاسرائيليى\ة ارئيل شارون التي تعطي الأولوية للأمن الإسرائيلي والتي ترفض التحدث السياسي مع السلطة الوطنية الفلسطينية قبل وقف ما يسميه "دورة العنف " ، الامر الذي يقوض مشاريعها في العراق وغيرها .
- تردد وارتباك عربي رسمي إزاء الانتفاضة ودعم الصمود الفلسطيني حيث شاب تعاطي الدول العربية مع الملف الفلسطيني المراوغة والغموض ، فقد تبنت دعم الانتفاضة ولكنها لم ترسل من الدعم المقرر إلا مبالغ زهيدة من المقرر اصلا، في وقت فاقت فيه خسائر الفلسطينيين المليارات وبلغ العجز المالي في السلطة الوطنية الفلسطينية حدا دفع أطرافا دولية إلى التحذير من خطورة الوضع ومن اقتراب السلطة الوطنية الفلسطينية من الانهيار الكامل, ناهيك عن حالة الجوع التي يعيش الفلسطينيون تحت وطأتها .
- سلبية ألموقف الاوروبي الواضحة المتحصنة وراء حيادية مفتعلة وغير منصفة مع ميل إلى تفهم دوافع العنف الإسرائيلي والتذرع بأنه يرد على "العنف" الفلسطيني ضد المدنيين الإسرائيليين, ومساومات روسيا الاتحادية وجمهورية الصين مع الإدارة الأميركية الجديدة على قاعدة "الربط" بين القضايا والملفات وتبادل المصالح وفق نظرية تقاسم المصالح على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ثانيا :عوامل نجاح الانتفاضة
كي تحقق الانتفاضة أهدافها في الاستقلال وازالة الاحتلال والاستيطان وتوفر حل عادل لقضية اللاجئين، غليها الاستمرار لفترات طويلة، وهذا ممكن في حال توافر عوامل محددة. وأبرز هذه العوامل: قدرة الانتفاضة على تنظيم وتوظيف العوامل الإيجابية الكامنة في الصراع وتوجيه حركة المجتمع الفلسطيني ليتمكن من التعايش مع ظروف المواجهة ولفترة طويلة ، وقد تمكن المجتمع الفلسطيني عبر نضاله الطويل من توفير عناصر ايجابية كثيرة في تصديه للمئروع الصهيوني وأبرها:
- نجحت الأمهات الفلسطينيات في نقل إدراك الهوية إلى الأطفال في سن مبكرة, إذ لا يكاد الفلسطيني يبلغ الثانية من العمر حتى يعلم أنه فلسطيني من قرية كذا أو مدينة كذا وأن الصهاينة سلبوا أرضه, وهذا أوجد أرضية للنضال الفلسطيني وأمده بالشباب والمناضلين, وعكس إلى حد بعيد اتجاه ذلك التقدير القائل بعدم امتلاك العرب أرضية لمواجهة تبعات الحروب (تحمل تبعات الصراع: قتلى, أرامل, أيتام, خراب اقتصاد, حياة قلقة.. إلخ) .
- الخبرة النضالية التي وفرتها تجربة الانتفاضة الأولى (1987) من التعليم في المنازل إلى تفعيل الاقتصاد المنزلي وزراعة الحدائق المنزلية، والتكافل الاجتماعي الشديد, جعلته البيئة الريفية الغالبة في فلسطين ممكنا وتلقائيا.
- التركيبة العمرية التي يغلب عليها الشباب بحيويته واندفاعه.
- المكاسب التي حققها النضال الفلسطيني: الاعتراف الدولي بالشعب الفلسطيني وبحقوقه السياسية, وعودة القيادة مع حوالي 100 ألف من ذوي الخبرة التنظيمية والسياسية والعسكرية والعلمية إلى فلسطين.
- ازدياد عمليات الحصار والإغلاق وتقطيع الأراضي الفلسطينية بالمستوطنات والطرق الالتفافية, بالإضافة إلى النقص في لقمة العيش..جميعها زادت الفلسطينيين كرها للكيان الصهيوني وتصميما على الاستقلال وأفسحت أمام الشباب فرصة المشاركة في الانتفاضة.
- تهرب إسرائيل من تنفيذ الاتفاقات المرحلية وعدم الإقرار بالمطالب الفلسطينية. ففي عرضها بشأن الحل النهائي لم يترك للفلسطينيين إلا خيار المجابهة، مما زاد من قوة الكفاح وروح المجابهة بين الفلسطينيين.
- التوتر والفصام الذي اخترق روح الجندي الإسرائيلي نتيجة تحوله من "مقاتل" إلى "قاتل" يطلق الرصاص على مدنيين عزل.
- وجود وسائل الإعلام وبخاصة القنوات الفضائية, ودورها في تقييد أيدي قوات الاحتلال والمساعدة على افشال خططها.
ان جميع تلك العناصر هي من الضرورات لاكمال النجاحات التي حققتها الانتقاضة الفلسطينية ، الا ان توظيفها بشكل سليم يبدو امرا ملحا في بعض الاتجاهات االموضوعية الأخرى ومنها :
- تمسك القيادة الفلسطينية بجوهر المطالب والحقوق الفلسطينية وعدم تقديم المزيد من التنازلات المرهقة لها وللانتفاضة .
- تفعيل الأطر والمؤسسات الوطنية والتأسيس لقيام دولة مستقلة كاملة السيادة.
- إعادة تشكيل مؤسسات السلطة الوطنية على قاعدة الوحدة الوطنية ومشاركة كل التيارات فيها دون استثناء لاحد على قواعد واضحة الاهداف والمعالم .
- استثمار الظرف الراهن (الحصار والعزل) والتأسيس للانفصال الاقتصادي عن إسرائيل.
- إعادة النظر وباستمرار في أساليب وأدوات المواجهة لتخفيض مستوى الخسائر البشرية .
- محاولة الاستفادة من تجارب الغير في مقاومة الاحتلال، وأبرزها اساليب المقاومة الوطنية اللبنانية ونجاحاتها الموصوفة في اجبار اسرائيل على الانسحاب من معظم الاراضي اللبنانية المحتلة .
ان توفر تلك الخلفية الهامة للانتفاضة امر من شأنه توفير فرص نجاح هائلة لما تطمح اليه ، الا ان هناك جوانب اخرى يجب تفعيلها وعدم الركون لليأس من امكانية الاستفادة منها مهما بلغ حد التهرب من جهاتها المعنية بها وأبرزها:
- حث الدول العربية بضغط من جماهيرها على توفير الدعم السياسي الواضح وتوجيه رسالة واضحة إلى إسرائيل بإعلان التمسك باتفاقية الدفاع العربي المشترك وبتنفيذها وإدراج فلسطين ضمن الدول التي يجب حمايتها من العدوان, ورسالة إلى الولايات المتحدة تعكس مزاج الشعب العربي من السلوك الأميركي المستخف بمشاعرهم ومصالحهم واتخاذ إجراءات عملية ضد المصالح الأميركية في المنطقة, والقيام بشرح طبيعة الانتفاضة وحقوق الفلسطينيين في استعادة حقوقهم المسلوبة.
- دعم اقتصادي مالي يسمح ليس فقط بإقامة بنية تحتية خدماتية لقيام دولة فلسطينية مستقلة اقتصاديا بل وخلق قاعدة صناعية - زراعية عبر الاستثمار في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية لتوفير فرص عمل للأيدي العاملة الفلسطينية يتيح لها الاستغناء عن العمل في إسرائيل وانفصال الاقتصاد الفلسطيني عن الإسرائيلي وفتح الأسواق العربية أمام المنتجات الفلسطينية كي تجنبها الكساد والخسائر وتسمح لها بالتكامل مع الاقتصاديات العربية خاصة في دول الطوق .
- تشديد المقاطعة العربية مع إسرائيل وتجميد كل أشكال الاتصال معها .
ربما تكون هذه الافكار والمقترحات ضربا من ضروب التنطلع الى الماضي بعدما تجاوزت الاحداث المتسارعة في المنطقة الكثير من المعطيات والوقائع ، الا ان ما يهيء له في المنطقة العربية وبخاصة في العراق بعد فلسطين لا يقل خطرا عن الاحداث التي مرت بها المنطقة منذ خمسة وخمسين عاما، ومن هنا تبرز اهمية ودور المقاومة والانتفاضات الشعبية في تغيير احوالها ، ويبدو ان الصورة ستتكرر في غير الاراضي الفلسطينية لتشمل العراق قريبا.
ان تجارب دول الاحتلال مع الدول والشعوب المضطهدة والمستعمرة هي تجارب مريرة وقاسية في آن معا في كل العصور، بل ان بعض التجارب الرائدة في المقاومة تظل ضوءا منيرا وساطعا في طريق حركات التحرر ، وتظل مثالا يحتذى به ، كثورة المليون شهيد في الجزائر ورمزها "جميلة بوحيرد" ، والمقاومة الوطنية في لبنان ، ...وتطول اللائحة ولن تنتهي طالما هناك قوة ظالمة غاشمة وشعوب محتلة ومقهورة.
صحيح ان للحق غطاء شرعي وقانوني ، الا ان القانون في شرعة الغاب لا معنى ولا قيمة اخلاقية او رمزية له، وتبقى القوة الى جانب الحق والشرعية هي المطلوب، وقوة الارادة في المقاومة والانتقاضة لدى الشعوب المقهورة تبقى اقوى بكثير من كل المدافع والصواريخ .