سوريا بعد خطاب الأسد والقرار 1636
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
ربما لم تمر سوريا في تاريخها السياسي الحديث بظروف كالتي تمر بها اليوم،فهي وان تمكنت في العقود الاربعة الماضية من لعب دور مركزي في السياسات الاقليمية لظروف واعتبارات متعددة تبدو اليوم وكأنها تكافح للبقاء في وجه الاعاصير السياسية التي تجتاحها واحد تلو الآخر،وبصرف النظر عن الاسباب والوقائع المحيطة بهذه الضغوط،فقد اتى خطاب الرئيس بشار الأسد ليرسم ملامح السياسة الخارجية والداخلية التي ستنتهجها سوريا في المرحلة القادمة على الأقل في المدى المنظور.
فسوريا اليوم هي بأمس الحاجة لتكوين سياسات محددة تكفل لها البقاء كنظام سياسي بانتظار ما ستسفر عنه غبار الضغوط المحيطة بها من كل جهة، فالقرارات الدولية المتلاحقة وضعت دمشق تحت المجهر الدولي كما غيرها من عواصم دول المنطقة وبات الامر يتطلب جهدا مضاعفا للخروج من الازمة وان كانت تبدو في ملامحها الاساسية صعبة للغاية،لذا تبدو العبارات والمواقف الواردة في خطاب الاسد بمجملها مواقف مبدئية تجاه الكثير من القضايا ويمكن تسجيل العديد منها وأبرزها:
- ففي الشكل لم يأت الخطاب كما هدف بعض ممّن تدخل مؤخرا بمبادرات ووساطات بين دمشق ومن يمارس الضغوط عليها،بل اتى مغايرا للجو الذي ساد وهو ان سوريا بصدد تقديم تنازلات مجانية بهدف حفظ النظام ريثما تتاح الفرص لمشاريع اخرى ستكون سوريا فيها في وضع اكثر حرجا وأقل قوة وتماسكا.
- لقد اعطى الرئيس الاسد اشارات كثيرة باتجاهات متنوعة يستفاد من مجملها بأن سوريا لم تكن يوما بعيدة عن اجواء قراءة المواقف الاقليمية والدولية بدقة،وهي اليوم تدفع ثمن ممانعتها للسياسات الامريكية – الاسرائيلية في المنطقة،بمعنى وان كانت دمشق تدرك تماما ما يجب فعله في بعض الظروف فإنها لم تُقابل من واشنطن بمواقف وأثمان توازي واقعيتها السياسية بل قوبلت بسلسلة ضغوط ومطالب لا حصر ولا نهاية لها.
- ففي الجانب العراقي تعمّد الرئيس الاسد الى ادراج ما يشبه كشف حساب مع الادارة الامريكية لجهة سلة المطالب التي أتى بها وزير الخارجية الامريكية الاسبق كولن باول الى دمشق في ايار 2003 بعد غزو العراق، فسوريا التي تعتبر نفسها قدمت ما باستطاعتها تقديمه ضمن اطر محددة تكفل ما تبتغيه معظم شرائح المجتمع العراقي،ظل هذا الملف بمثابة السيف المسلط لابتزاز المزيد من المواقف السورية باتجاه بعض الملفات العربية وتحديدا اللبنانية والسورية.
- وعلى الرغم من موقع الملف الفلسطيني في السياسة الخارجية السورية ومدىاستخداماته العملية في سياق معالجة الصراع العربي الاسرائيلي لا سيما الجانب المتعلق بسوريا،فقد اتخذت دمشق مواقف مرنة في العديد من بعض مسارات الملف الفلسطيني وخففت الى حد كبير من مستوى دعمها للفصائل الفلسطينية المعارضة،ورغم ذلك ظلّت المطالب الامريكية الاسرائيلية سيفا مسلطا للمزيد من التنازلات السورية وهذا ما اوحى به خطاب الاسد ايضا،وعلى الرغم من ذكره بأن دمشق ترتضي ما يتفق الفلسطينيون عليه،فقد برر الاسد الضغوط الدولية عليه من باب المعاقبة على المواقف السورية باتجاه القضية الفلسطينية.
- وفي الشق اللبناني من الخطاب وهو بيت القصيد،فقد اتت المواقف بمستوى عالي المنسوب من التشدد تجاه العديد من الاطراف السياسية اللبنانية ان كانت رسمية او حزبية،وهو يعبر عن مرارة كبيرة من وجهة النظر السورية لعدم تقدير التضحيات السورية المقدمة للبنان خلال العقود الثلاث الماضية.وبصرف النظر عن بعض العبارات القاسية الواردة في الخطاب وان كانت في القسم المرتجل فيه فإنها تمثل انعطافا حادا في المواقف تجاه ما يمكن ان تكون عليه العلاقات اللبنانية السورية مستقبلا وتحديدا مع بعض الاطراف السياسية والحكومية،اذ ان التوصيف والتسمية تعني بشكل او بآخر عدم الرغبة الواضحة في التعامل مع هذا التيار او غيره لاحقا بل اغلاق الابواب بشكل مُحكم مع أي محاولات جرت او يمكن ان تجري لاحقا.ولم يقتصر الامر عند ذلك الحد فإن الرؤية السورية للأطراف اللبنانية هي مفروزة بين خطين عربي وغربي بشكل سيؤدي الى تموضع سياسي كبير في المرحلة القادمة بدأت ملامحة بانسحاب وزراء حركة امل وحزب الله من اجتماع الحكومة اللبنانية في معرض مناقشتها لخطاب الاسد.
- وعلى الرغم من الإشارات الواضحة على براءة سوريا من جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فان خطاب الاسد شدد على التعاون مع الشرعية الدولية في التحقيقات الجارية،وعلى الرغم من اشارته الى رفض ديتليف ميليس لكل المخارج السورية المقترحة لكيفية التعاون ونوعيته لجهة اجراءات التحقيق في اطار جامعة الدول العربية او في مقر للامم المتحدة في سوريا،فان الاسد لم يقفل الباب نهائيا على هذه المخارج وترك التكهنات مفتوحة ربما بانتظار ردات الفعل العربية والدولية على هذا الخطاب.
- وفي الجانب الداخلي للخطاب الذي بدا وكأنه محاولة لشد الوحدة الوطنية الداخلية عبر الاصلاحات وموضوع الجنسية السورية للأكراد وغيرها من القضايا،جميعها بدت موجّهة لجيل الشباب في اكثر من موضع باعتبارها شريحة اجتماعية يعوّل عليها في موازين القوى الداخلية.
ان مجمل مواقف الرئيس السوري تنم عن رؤية واضحة لخلفيات القرار 1636 وهي مبررة الى حد كبير، فالقراءة الدقيقة للقرار تظهر العديد من الامور التي تستحق الوقوف عندها وأبرزها:
- رغم ان العقوبات لم ترد في نص القرار الا ان الصياغة التي اتت بها بعض البنود تشير الى تهديد يُستشف منه ان المتابعة اللاحقة ستكون اشد قسوة واكثر فعالية. فالقرار وفقا لمنطوقه اتى ضمن الفصل السابع من الميثاق الذي يستوجب تطبيقه بالقوة اذا لزم الامر ولا يتطلب موافقة الدولة صاحبة العلاقة به، وعلى الرغم من ان الصيغة الاساسية كانت قد استندت في الفقرة الاخيرة على ان هذا القرار يستند الى المادة 41 من الميثاق،أي التدرج في العقوبات بدءا من الاقتصادية مرورا بقطع الاتصالات البرية والبحرية والجوية وصولا الى قطع العلاقات الدبلوماسية، فإن الصيغة الأصلية ايضا والتي صُرف النظر عنها كانت ترمي بشكل او بآخر الى المادة 42 من الميثاق ،أي استعمال القوة للتنفيذ وهي اشد انواع التنفيذ ضد أي دولة تهدد السلم والامن الدوليين كما جاء في العديد من فقرات القرار.
- وللتأكيد على ما سبق لجهة نية مجلس الامن التشدد في هذا المجال ما استند اليه القرار كذلك في ديباجته من الاشارة الى القرارين 1373 لعام 2001 و1566 لعام 2004 المتعلقين بالاعمال الارهابية وتهديد الامن والسلم الدوليين، واللذين يجبرا جميع الدول المنضمة الى الامم المتحدة كما التي خارجها وجوب تقديم كل التسهيلات الممكنة لتطبيق أي عقوبات يمكن ان تُفرض استنادا الى هذين القرارين.
- لقد صدر القرار بإجماع أصوات الدول الخمسة عشرة رغم ما حكيَّ عن معارضة كل من بكين وموسكو لمشروع القرار الأساسي،وعلى الرغم من موافقة هاتين الأخيرتين في التصويت الا ان الامر كان مشروطا بوجوب التعاون السوري مع لجنة التحقيق ودون شروط، ما يشير الى عدم امكانية استمرار الدعم الروسي والصيني لسوريا لاحقا.
- ان المدة الممنوحة عمليا لدمشق في هذا السياق هي مهلة وجيزة لا تتجاوز الخامس عشر من كانون الأول القادم، وهي مهلة ضاغطة بحيث يصعب تصوّر أي تضييع للوقت وسط ضغوط البنود الباقية ومطالباتها الدقيقة التي لا تحتمل التأويل او التفسير، كما ان المهلة نفسها ربما تكون أقصر من ذلك في حال كان تقييم سلوك سوريا سلبيا وهذا ما اشار اليه الرئيس الفرنسي في معرض تعليقه على خطاب الاسد ،وعلى أي حال فهو بمثابة إنذار أخير.
- لقد وضع هذا القرار سوريا في عين العاصفة بعدما تبنى مجلس الأمن تقرير لجنة التحقيق الدولية وما أتى به، لجهة الاشتباه الذي يصل الى حد الاتهام وبذلك يعتبر القرار بمثابة القرار الظني الذي يستوجب المتابعة من إجراءات تحقيق وغيره كما ورد في المادة الثانية، ورغم ذلك فالقرار اشار في الفقرة الرابعة من الديباجه "أن التحقيق لم يتم الانتهاء منه بعد".
- ان اخطر ما ورد في القرار وضع سوريا في طريق التدويل المتقاطع مع مظاهر نزع السيادة، ذلك ما ورد في الفقرة (أ) من المادة الثالثة عبر اقامة شكل من اشكال الانتداب اللبناني على سوريا ، فهو إذ يطالب بمنع سفر أشخاص أو تجميد أموالهم يحيل تحديد هوية هؤلاء إلى "اللجنة" أو "الحكومة اللبنانية"وهو ما يعتبر ايضا ربط نزاع يضاف الى سلسلة مشاريع الإشكالات في العلاقات اللبنانية - السورية القائمة حاليا.
- ومن مظاهر امكانية اختراق السيادة او الأماكن ذات الطابع السيادي، ما ورد في المادة الحادية عشرة لا سيما الفقرة (ب) :" يكون للجنة، في علاقاتها بسوريا، نفس الحقوق والسلطات المذكورة في الفقرة 3 من القرار 1595 تاريح 2005 ، أي " في سبيل ضمان فاعلية اللجنة خلال اضطلاعها بمهماتها، يجب ان تحظى اللجنة بالتعاون الكامل من السلطات السورية، بما في ذلك الوصول الكامل الى كل المعلومات والأدلة من وثائق وافادات ومعلومات وادلة حسية متوافرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق" و" تملك اللجنة سلطة جمع اي معلومات وادلة اضافية، من وثائق ومعلومات وادلة حسية على حد سواء، ذات صلة بهذا العمل الارهابي، وكذلك مقابلة كل المسؤولين والاشخاص الآخرين في سوريا، عندما ترى اللجنة ان المقابلة ذات صلة بالتحقيق" و" تتمتع اللجنة بحرية التنقل في كامل الاراضي السورية ، بما في ذلك الوصول الى كل الاماكن والمنشآت التي ترتئي اللجنة انها ذات صلة بالتحقيق".
- ان مقاربة النصوص الواردة في القرارين 1595 و 1636 تظهر التشدد الواضح في الثاني مقارنة بالاول،علاوة على ان الاول قد حفظ ولو شكليا احترام السيادة اللبنانية في معرض تنظيم عمل اللجنة ، فيما الثاني لم يشر الى هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، بل اكتفى بتحديد كيفية التعاون من قبل سوريا مع اللجنة عبر الإحالة الى المادة الثالثة من القرار 1595 مع إسقاط أي اعتبار للسيادة.
- ومن حيث الصلاحيات التي تعتبر استثنائية على حساب السيادة السورية ما أعطيَّ للجنة ،وهي بوصفها لجنة لا نظام داخلي لها ولا آلية عمل محددة بل فريق عمل اشهرهم رئيسه، ما يعزز الانطباع بأن سلوك اللجنة ربما يكون مرتبطا بأمور اخرى وربما تخرج ايضا عن نطاق تحكّمها او التاثير فيها.
- لفد رتّب القرار سندا هاما للبنان في تغيير البيئة الامنية والقضائية التي سادت قبلا، فقد اقرَّ في الفقرة السادسة من الديباجة توصية لجنة التحقيق لجهة "الحاجة الى استمرار تقديم المساعدة الدولية الى السلطات اللبنانية ومعاونتها على كشف كل خفايا هذا العمل الإرهابي" وتضيف نفس الفقرة : "بأنه من الضروري أن يقوم المجتمع الدولي بجهد متواصل لإقامة برنامج للمساعدة والتعاون مع السلطات اللبنانية في ميدان الأمن والعدالة" وهذا ما فسره الخطاب بأن لبنان بات ممرا وممولا ومستقرا لحياكة المؤمرات على سوريا.
لقد اتي القرار بصيغٍ مُحكمةٍ ومتشددة بحيث يصعب التفلّت من الالتزامات المفروضة فيه لجهة التعاون والمدة، وعليه ان التعاطي مع كيفية التنفيذ ونوعية التعاون تتطلب حكمة وتبصرا بالغتين باعتبار ان مرامي القرار ربما تكون له أبعادا كثيرة غير معلنة،واذا كان هناك ثمة وجهة نظر سورية تتوافق مع التوجس من هذه الخلفيات،فان إبعاد الأخطار تستوجب التعامل بطرق مختلفة عما اعتادت عليها دمشق سابقا؛فلا الظروف الإقليمية ولا الدولية مهيأة لتقديم المزيد من الفرص،كما ان الوضع السوري ليس بموقع القادر على تغيير موازين قوى او فرض تسويات.
وفي الجانب اللبناني المعني الأساس بالأهداف الحقيقية للقرار وهي كشف ملابسات الجريمة، يبدو أن الأمر يستلزم دقة متناهية في التعاطي مع مندرجات القرار، بحيث لا يُسمح للاستثمار السياسي ان يكون فاعلا في الاستفادة من تقاطع النية في كشف الجريمة مع المطالبة في الاقتصاص من سوريا على مواقفها وسياساتها الإقليمية، فالدول الصغيرة غالبا ما تدفع الثمن في حسابات الكبار دون الإلتفات إلى مصالحها الخاصة حتى وان كانت بمستوى جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما له من وزن دولي فاق حجم لبنان والمنطقة.
ان سياسة حفة الهاوية المعتمدة في المنطقة منذ زمن بعيد مرشحة للاستمرار بمزيد من الضغوط المترجمة بقرارات دولية كالقرار 1636 وما سيستتبعه لاحقا، وحتى لا يصبح هذا القرار مدخلا لفوضى بناءة في العديد من دول المنطقة على المعنيين به وجوب قراءته بتأنٍ، وترجمة هذه القراءة بمواقف مدروسة توصل الى حقيقة الاغتيال وتبعد فتن الاقتتال.
وكما اسلفنا ان المنطقة تقف على مفترق طرق بالغ الصعوبة ما يستوجب مخارج عملية قابلة للحياة ليس في كشف ملابسات جريمة الاغتيال بل ايضا اجتراح الحلول للقضية الاساس وهي ملفات الصراع العربي الاسرائيلي المستثمرة بدقة عبر جريمة الاغتيال.فما الذي يلوح في الافق النموذج العراقي ام نموذج اسقاط 17 ايار 1983 ؟في كلا الامرين ثمة اثمان ستدفع!.
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
ربما لم تمر سوريا في تاريخها السياسي الحديث بظروف كالتي تمر بها اليوم،فهي وان تمكنت في العقود الاربعة الماضية من لعب دور مركزي في السياسات الاقليمية لظروف واعتبارات متعددة تبدو اليوم وكأنها تكافح للبقاء في وجه الاعاصير السياسية التي تجتاحها واحد تلو الآخر،وبصرف النظر عن الاسباب والوقائع المحيطة بهذه الضغوط،فقد اتى خطاب الرئيس بشار الأسد ليرسم ملامح السياسة الخارجية والداخلية التي ستنتهجها سوريا في المرحلة القادمة على الأقل في المدى المنظور.
فسوريا اليوم هي بأمس الحاجة لتكوين سياسات محددة تكفل لها البقاء كنظام سياسي بانتظار ما ستسفر عنه غبار الضغوط المحيطة بها من كل جهة، فالقرارات الدولية المتلاحقة وضعت دمشق تحت المجهر الدولي كما غيرها من عواصم دول المنطقة وبات الامر يتطلب جهدا مضاعفا للخروج من الازمة وان كانت تبدو في ملامحها الاساسية صعبة للغاية،لذا تبدو العبارات والمواقف الواردة في خطاب الاسد بمجملها مواقف مبدئية تجاه الكثير من القضايا ويمكن تسجيل العديد منها وأبرزها:
- ففي الشكل لم يأت الخطاب كما هدف بعض ممّن تدخل مؤخرا بمبادرات ووساطات بين دمشق ومن يمارس الضغوط عليها،بل اتى مغايرا للجو الذي ساد وهو ان سوريا بصدد تقديم تنازلات مجانية بهدف حفظ النظام ريثما تتاح الفرص لمشاريع اخرى ستكون سوريا فيها في وضع اكثر حرجا وأقل قوة وتماسكا.
- لقد اعطى الرئيس الاسد اشارات كثيرة باتجاهات متنوعة يستفاد من مجملها بأن سوريا لم تكن يوما بعيدة عن اجواء قراءة المواقف الاقليمية والدولية بدقة،وهي اليوم تدفع ثمن ممانعتها للسياسات الامريكية – الاسرائيلية في المنطقة،بمعنى وان كانت دمشق تدرك تماما ما يجب فعله في بعض الظروف فإنها لم تُقابل من واشنطن بمواقف وأثمان توازي واقعيتها السياسية بل قوبلت بسلسلة ضغوط ومطالب لا حصر ولا نهاية لها.
- ففي الجانب العراقي تعمّد الرئيس الاسد الى ادراج ما يشبه كشف حساب مع الادارة الامريكية لجهة سلة المطالب التي أتى بها وزير الخارجية الامريكية الاسبق كولن باول الى دمشق في ايار 2003 بعد غزو العراق، فسوريا التي تعتبر نفسها قدمت ما باستطاعتها تقديمه ضمن اطر محددة تكفل ما تبتغيه معظم شرائح المجتمع العراقي،ظل هذا الملف بمثابة السيف المسلط لابتزاز المزيد من المواقف السورية باتجاه بعض الملفات العربية وتحديدا اللبنانية والسورية.
- وعلى الرغم من موقع الملف الفلسطيني في السياسة الخارجية السورية ومدىاستخداماته العملية في سياق معالجة الصراع العربي الاسرائيلي لا سيما الجانب المتعلق بسوريا،فقد اتخذت دمشق مواقف مرنة في العديد من بعض مسارات الملف الفلسطيني وخففت الى حد كبير من مستوى دعمها للفصائل الفلسطينية المعارضة،ورغم ذلك ظلّت المطالب الامريكية الاسرائيلية سيفا مسلطا للمزيد من التنازلات السورية وهذا ما اوحى به خطاب الاسد ايضا،وعلى الرغم من ذكره بأن دمشق ترتضي ما يتفق الفلسطينيون عليه،فقد برر الاسد الضغوط الدولية عليه من باب المعاقبة على المواقف السورية باتجاه القضية الفلسطينية.
- وفي الشق اللبناني من الخطاب وهو بيت القصيد،فقد اتت المواقف بمستوى عالي المنسوب من التشدد تجاه العديد من الاطراف السياسية اللبنانية ان كانت رسمية او حزبية،وهو يعبر عن مرارة كبيرة من وجهة النظر السورية لعدم تقدير التضحيات السورية المقدمة للبنان خلال العقود الثلاث الماضية.وبصرف النظر عن بعض العبارات القاسية الواردة في الخطاب وان كانت في القسم المرتجل فيه فإنها تمثل انعطافا حادا في المواقف تجاه ما يمكن ان تكون عليه العلاقات اللبنانية السورية مستقبلا وتحديدا مع بعض الاطراف السياسية والحكومية،اذ ان التوصيف والتسمية تعني بشكل او بآخر عدم الرغبة الواضحة في التعامل مع هذا التيار او غيره لاحقا بل اغلاق الابواب بشكل مُحكم مع أي محاولات جرت او يمكن ان تجري لاحقا.ولم يقتصر الامر عند ذلك الحد فإن الرؤية السورية للأطراف اللبنانية هي مفروزة بين خطين عربي وغربي بشكل سيؤدي الى تموضع سياسي كبير في المرحلة القادمة بدأت ملامحة بانسحاب وزراء حركة امل وحزب الله من اجتماع الحكومة اللبنانية في معرض مناقشتها لخطاب الاسد.
- وعلى الرغم من الإشارات الواضحة على براءة سوريا من جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فان خطاب الاسد شدد على التعاون مع الشرعية الدولية في التحقيقات الجارية،وعلى الرغم من اشارته الى رفض ديتليف ميليس لكل المخارج السورية المقترحة لكيفية التعاون ونوعيته لجهة اجراءات التحقيق في اطار جامعة الدول العربية او في مقر للامم المتحدة في سوريا،فان الاسد لم يقفل الباب نهائيا على هذه المخارج وترك التكهنات مفتوحة ربما بانتظار ردات الفعل العربية والدولية على هذا الخطاب.
- وفي الجانب الداخلي للخطاب الذي بدا وكأنه محاولة لشد الوحدة الوطنية الداخلية عبر الاصلاحات وموضوع الجنسية السورية للأكراد وغيرها من القضايا،جميعها بدت موجّهة لجيل الشباب في اكثر من موضع باعتبارها شريحة اجتماعية يعوّل عليها في موازين القوى الداخلية.
ان مجمل مواقف الرئيس السوري تنم عن رؤية واضحة لخلفيات القرار 1636 وهي مبررة الى حد كبير، فالقراءة الدقيقة للقرار تظهر العديد من الامور التي تستحق الوقوف عندها وأبرزها:
- رغم ان العقوبات لم ترد في نص القرار الا ان الصياغة التي اتت بها بعض البنود تشير الى تهديد يُستشف منه ان المتابعة اللاحقة ستكون اشد قسوة واكثر فعالية. فالقرار وفقا لمنطوقه اتى ضمن الفصل السابع من الميثاق الذي يستوجب تطبيقه بالقوة اذا لزم الامر ولا يتطلب موافقة الدولة صاحبة العلاقة به، وعلى الرغم من ان الصيغة الاساسية كانت قد استندت في الفقرة الاخيرة على ان هذا القرار يستند الى المادة 41 من الميثاق،أي التدرج في العقوبات بدءا من الاقتصادية مرورا بقطع الاتصالات البرية والبحرية والجوية وصولا الى قطع العلاقات الدبلوماسية، فإن الصيغة الأصلية ايضا والتي صُرف النظر عنها كانت ترمي بشكل او بآخر الى المادة 42 من الميثاق ،أي استعمال القوة للتنفيذ وهي اشد انواع التنفيذ ضد أي دولة تهدد السلم والامن الدوليين كما جاء في العديد من فقرات القرار.
- وللتأكيد على ما سبق لجهة نية مجلس الامن التشدد في هذا المجال ما استند اليه القرار كذلك في ديباجته من الاشارة الى القرارين 1373 لعام 2001 و1566 لعام 2004 المتعلقين بالاعمال الارهابية وتهديد الامن والسلم الدوليين، واللذين يجبرا جميع الدول المنضمة الى الامم المتحدة كما التي خارجها وجوب تقديم كل التسهيلات الممكنة لتطبيق أي عقوبات يمكن ان تُفرض استنادا الى هذين القرارين.
- لقد صدر القرار بإجماع أصوات الدول الخمسة عشرة رغم ما حكيَّ عن معارضة كل من بكين وموسكو لمشروع القرار الأساسي،وعلى الرغم من موافقة هاتين الأخيرتين في التصويت الا ان الامر كان مشروطا بوجوب التعاون السوري مع لجنة التحقيق ودون شروط، ما يشير الى عدم امكانية استمرار الدعم الروسي والصيني لسوريا لاحقا.
- ان المدة الممنوحة عمليا لدمشق في هذا السياق هي مهلة وجيزة لا تتجاوز الخامس عشر من كانون الأول القادم، وهي مهلة ضاغطة بحيث يصعب تصوّر أي تضييع للوقت وسط ضغوط البنود الباقية ومطالباتها الدقيقة التي لا تحتمل التأويل او التفسير، كما ان المهلة نفسها ربما تكون أقصر من ذلك في حال كان تقييم سلوك سوريا سلبيا وهذا ما اشار اليه الرئيس الفرنسي في معرض تعليقه على خطاب الاسد ،وعلى أي حال فهو بمثابة إنذار أخير.
- لقد وضع هذا القرار سوريا في عين العاصفة بعدما تبنى مجلس الأمن تقرير لجنة التحقيق الدولية وما أتى به، لجهة الاشتباه الذي يصل الى حد الاتهام وبذلك يعتبر القرار بمثابة القرار الظني الذي يستوجب المتابعة من إجراءات تحقيق وغيره كما ورد في المادة الثانية، ورغم ذلك فالقرار اشار في الفقرة الرابعة من الديباجه "أن التحقيق لم يتم الانتهاء منه بعد".
- ان اخطر ما ورد في القرار وضع سوريا في طريق التدويل المتقاطع مع مظاهر نزع السيادة، ذلك ما ورد في الفقرة (أ) من المادة الثالثة عبر اقامة شكل من اشكال الانتداب اللبناني على سوريا ، فهو إذ يطالب بمنع سفر أشخاص أو تجميد أموالهم يحيل تحديد هوية هؤلاء إلى "اللجنة" أو "الحكومة اللبنانية"وهو ما يعتبر ايضا ربط نزاع يضاف الى سلسلة مشاريع الإشكالات في العلاقات اللبنانية - السورية القائمة حاليا.
- ومن مظاهر امكانية اختراق السيادة او الأماكن ذات الطابع السيادي، ما ورد في المادة الحادية عشرة لا سيما الفقرة (ب) :" يكون للجنة، في علاقاتها بسوريا، نفس الحقوق والسلطات المذكورة في الفقرة 3 من القرار 1595 تاريح 2005 ، أي " في سبيل ضمان فاعلية اللجنة خلال اضطلاعها بمهماتها، يجب ان تحظى اللجنة بالتعاون الكامل من السلطات السورية، بما في ذلك الوصول الكامل الى كل المعلومات والأدلة من وثائق وافادات ومعلومات وادلة حسية متوافرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق" و" تملك اللجنة سلطة جمع اي معلومات وادلة اضافية، من وثائق ومعلومات وادلة حسية على حد سواء، ذات صلة بهذا العمل الارهابي، وكذلك مقابلة كل المسؤولين والاشخاص الآخرين في سوريا، عندما ترى اللجنة ان المقابلة ذات صلة بالتحقيق" و" تتمتع اللجنة بحرية التنقل في كامل الاراضي السورية ، بما في ذلك الوصول الى كل الاماكن والمنشآت التي ترتئي اللجنة انها ذات صلة بالتحقيق".
- ان مقاربة النصوص الواردة في القرارين 1595 و 1636 تظهر التشدد الواضح في الثاني مقارنة بالاول،علاوة على ان الاول قد حفظ ولو شكليا احترام السيادة اللبنانية في معرض تنظيم عمل اللجنة ، فيما الثاني لم يشر الى هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، بل اكتفى بتحديد كيفية التعاون من قبل سوريا مع اللجنة عبر الإحالة الى المادة الثالثة من القرار 1595 مع إسقاط أي اعتبار للسيادة.
- ومن حيث الصلاحيات التي تعتبر استثنائية على حساب السيادة السورية ما أعطيَّ للجنة ،وهي بوصفها لجنة لا نظام داخلي لها ولا آلية عمل محددة بل فريق عمل اشهرهم رئيسه، ما يعزز الانطباع بأن سلوك اللجنة ربما يكون مرتبطا بأمور اخرى وربما تخرج ايضا عن نطاق تحكّمها او التاثير فيها.
- لفد رتّب القرار سندا هاما للبنان في تغيير البيئة الامنية والقضائية التي سادت قبلا، فقد اقرَّ في الفقرة السادسة من الديباجة توصية لجنة التحقيق لجهة "الحاجة الى استمرار تقديم المساعدة الدولية الى السلطات اللبنانية ومعاونتها على كشف كل خفايا هذا العمل الإرهابي" وتضيف نفس الفقرة : "بأنه من الضروري أن يقوم المجتمع الدولي بجهد متواصل لإقامة برنامج للمساعدة والتعاون مع السلطات اللبنانية في ميدان الأمن والعدالة" وهذا ما فسره الخطاب بأن لبنان بات ممرا وممولا ومستقرا لحياكة المؤمرات على سوريا.
لقد اتي القرار بصيغٍ مُحكمةٍ ومتشددة بحيث يصعب التفلّت من الالتزامات المفروضة فيه لجهة التعاون والمدة، وعليه ان التعاطي مع كيفية التنفيذ ونوعية التعاون تتطلب حكمة وتبصرا بالغتين باعتبار ان مرامي القرار ربما تكون له أبعادا كثيرة غير معلنة،واذا كان هناك ثمة وجهة نظر سورية تتوافق مع التوجس من هذه الخلفيات،فان إبعاد الأخطار تستوجب التعامل بطرق مختلفة عما اعتادت عليها دمشق سابقا؛فلا الظروف الإقليمية ولا الدولية مهيأة لتقديم المزيد من الفرص،كما ان الوضع السوري ليس بموقع القادر على تغيير موازين قوى او فرض تسويات.
وفي الجانب اللبناني المعني الأساس بالأهداف الحقيقية للقرار وهي كشف ملابسات الجريمة، يبدو أن الأمر يستلزم دقة متناهية في التعاطي مع مندرجات القرار، بحيث لا يُسمح للاستثمار السياسي ان يكون فاعلا في الاستفادة من تقاطع النية في كشف الجريمة مع المطالبة في الاقتصاص من سوريا على مواقفها وسياساتها الإقليمية، فالدول الصغيرة غالبا ما تدفع الثمن في حسابات الكبار دون الإلتفات إلى مصالحها الخاصة حتى وان كانت بمستوى جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما له من وزن دولي فاق حجم لبنان والمنطقة.
ان سياسة حفة الهاوية المعتمدة في المنطقة منذ زمن بعيد مرشحة للاستمرار بمزيد من الضغوط المترجمة بقرارات دولية كالقرار 1636 وما سيستتبعه لاحقا، وحتى لا يصبح هذا القرار مدخلا لفوضى بناءة في العديد من دول المنطقة على المعنيين به وجوب قراءته بتأنٍ، وترجمة هذه القراءة بمواقف مدروسة توصل الى حقيقة الاغتيال وتبعد فتن الاقتتال.
وكما اسلفنا ان المنطقة تقف على مفترق طرق بالغ الصعوبة ما يستوجب مخارج عملية قابلة للحياة ليس في كشف ملابسات جريمة الاغتيال بل ايضا اجتراح الحلول للقضية الاساس وهي ملفات الصراع العربي الاسرائيلي المستثمرة بدقة عبر جريمة الاغتيال.فما الذي يلوح في الافق النموذج العراقي ام نموذج اسقاط 17 ايار 1983 ؟في كلا الامرين ثمة اثمان ستدفع!.