موقع النفط في العلاقات الأمريكية الخليجية
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
تختصر السياسة النفطية الاميركية الخليجية بعاملين أساسيين: الأول، الاعتماد على العنصر العسكري الاميركي في تأمين إمدادات النفط من دول الخليج، وعدم السماح لأي دولة أخرى، إقليمية أو دولية، في تشكيل خطر على تدفق النفط من المنطقة. ولهذا يمكن اعتبار احتلال العراق للكويت والنفوذ الإقليمي الذي كان من الممكن أن يجنيه العراق من هذا الغزو والضغوط التي كان من الممكن أن يستعملها لرفع أسعار النفط، هي من أسباب الحرب على العراق في العام 1991. والعامل الثاني هو عدم السماح لأي دولة أخرى، حتى لو كانت حليفة أو صديقة، بالتفكير في إحلال نفسها محل الولايات المتحدة في لعب هذا الدور الاستراتيجي. وهذا يمكن أن يفسّر الفتور الواضح لإدارة الرئيس ريتشارد نيكسون في السبعينات تجاه دعوات شاه إيران المتكررة إلى السماح لبلاده، بدلاً من واشنطن، بلعب دور الشرطي في الخليج، وحراسة تدفق إمدادات النفط إلى الأسواق العالمية.
وقد تبلورت هذه السياسة بعد الانسحاب السياسي البريطاني من الخليج في أوائل السبعينات، ومفادها أن في الخليج اكبر احتياطيات نفطية في العالم، ولا تحتمل السياسة الدولية أو الاقتصاد العالمي أي انقطاعات للإمدادات النفطية من المنطقة. إلا أن هذه الانقطاعات واردة من خلال الاضطرابات السياسية أو الحروب. لذا، يجب توفير الغطاء العسكري الملائم لردع أي احتمال من هذا النوع، إما من خلال الدفاع عن أمن حقول النفط والمنشآت النفطية وطرق المواصلات، وإما بإتباع سياسة ردع استباقي لضعضعة الحكومات التي تنوي تهديد النظام الإقليمي، أو إسقاطها والهيمنة على ميزان القوة المحلي والإقليمي.
لقد غضّت واشنطن النظر عن احتمال قيام خطر محلي داخلي في أقطار الخليج نفسها يؤثّر على إمدادات النفط، ولم تعر انتباهاً كافياً للنفوذ المتزايد للقوى المحافظة والإسلامية في المنطقة، وبالذات في صفوف الشباب، وللعداء المتنامي لسياسة الولايات المتحدة وسمعتها في أذهان شرائح اجتماعية واسعة في المجتمع الخليجي. وعلى رغم تناغم السياسات النفطية الاميركية الخليجية وتوافقها قبل التاسع من أيلول 2001 وبالذات خلال الحرب العراقية - الإيرانية وأثناء احتلال العراق للكويت، إلا أن ثمة تباين واضح بين الطرفين ومنذ الحرب العربية - الإسرائيلية 1973، مفاده انه لا يمكن ضمان الإمدادات النفطية من دول الخليج.
لقد أدى هذا الشعور، الذي هيمن على سياسة الدول الصناعية خلال العقود الثلاثة الماضية، إلى تأسيس وكالة الطاقة الدولية، وبناء مخزون استراتيجي يفي بالاستهلاك المحلي في كل دولة عضو لمدة ثلاثة اشهر تقريباً، والتقدّم في مجال بدائل الطاقة والاستكشاف عن النفط خارج الخليج، وفرض الضرائب العالية على المنتجات النفطية المحلية في أوروبا واليابان، وتقنين استعمال الطاقة في ألاماكن العامة والمصانع والبيوت.
كما أدى هذا الخلاف الاستراتيجي إلى تباعد وجهات النظر واختلاف الرؤى بين الطرفين مع الوقت، وسمح لأطراف مختلفة بالاستفادة من هذا الخلاف واستغلاله لحسابها الخاص، فقد أطلقت الولايات المتحدة في أواخر السبعينات “مشروع الاستقلال” لإيقاف الاعتماد على نفط الخليج، بينما شرّع باقي الدول الصناعية، الضرائب الباهظة لتقليص استعمال المنتجات النفطية من جهة، وردف الموازنات بإيرادات ضخمة من خلال الضرائب غير المباشرة من جهة أخرى.
كما قاد الأعلام الغربي حملة على الدول النفطية متهماً إياها، مرة تلو الأخرى، بمحاولة خنق الغرب من خلال إيقاف الإمدادات ورفع الأسعار. وقد ذهبت سدى السياسات النفطية الايجابية لدول الخليج أثناء الحرب العراقية – الإيرانية وإثناء غزو الكويت، من تعويض النقص وعدم السماح لأي انقطاع في الأسواق، وكذلك إثناء العام 2004 حيث الارتفاع المذهل في الطلب على النفط، نتيجة للتحسن الكبير في الاقتصاد العالمي، وقيام جميع الأقطار الأعضاء في منظمة الأوبك بالإنتاج بأقصى الطاقات المتوافرة لديها، لتأمين الإمدادات وتلافي أي نقص للمستهلكين.
إلا أنه على رغم انكماش حدة الانتقادات في الفترة الأخيرة، واعتراف كبار المسؤولين في الدول الصناعية بأن السبب الرئيس وراء ارتفاع الأسعار في العام 2004، هو زيادة الطلب وانخفاض الطاقة الإنتاجية الفائضة إلى مستويات دنيا، تبقى الانتقادات مستمرة وتبقى الدراسات والخطط والمشروعات قائمة، من اجل تقليص الاعتماد على نفط الخليج ومحاولة إيجاد مصادر طاقة بديلة.
ومع تنامي أهمية مشكلات البيئة لدى الرأي العام الغربي، وجدت دول الخليج نفسها مرة أخرى في خلاف مع معظم الدول الصناعية (باستثناء الولايات المتحدة) حول هذه المسألة الحيوية ذات الأبعاد المهمة على الريع النفطي في العقود المقبلة. وبرزت هذه الخلافات بشكل واضح في المفاوضات حول اتفاقية كيوتو. وقد تم غض النظر عن الموضوع مؤخرا، نظراً للموقف السلبي لإدارة الرئيس جورج بوش والكونغرس الاميركي في الاتفاقية:
وقد أفرزت أحداث 11 أيلول 2001 تداعيات عدة على الساحة الدولية، أبرزها قرار الولايات المتحدة شن حرب عالمية مفتوحة على الإرهاب وعلى جميع الدول والمنظمات والمؤسسات التي تحددها وتعرّفها هي وحدها، بأنها تشكل خطراً محتملاً على الولايات المتحدة، وبالذات في جنوب آسيا والشرق الأوسط.
وتفاديا لانعكاسات هذا الملف على تدفق النفط دعت تيارات سياسية اميريكية فاعلة في السنوات الماضية بالتلويح بالاعتماد على النفط الروسي ونفط غرب أفريقيا بدلاً من نفط الخليج. إلا أن حقيقة الأمر هي إن الولايات المتحدة، تحافظ على نسب مستقرة في وارداتها النفطية من الدول المنتجة. وتشكل كل من السعودية والمكسيك وكندا وفنزويلا حوالي 15 في المئة من الاستيراد السنوي (اي حوالى 60 في المئة من مجموع الاستيراد)، مع بعض التفاوت بين سنة وأخرى.
هدف استراتيجي لا تجاري
ان فكرة استغناء الولايات المتحدة عن النفط العربي لا تعني الكثير على صعيد الصناعة النفطية العالمية، في حال تنفيذها، وهذا أمر مستبعد. فالولايات المتحدة تستورد حوالي 2،50 مليون برميل يومياً من نفط الشرق الأوسط، منها حوالي 1،50 مليون برميل يومياً من السعودية والبقية من العراق والكويت والجزائر. إن إي استغناء عن نفط الشرق الأوسط سيعني تغييراً في التجارة النفطية العالمية، اذ سيتجه نفط دول أخرى إلى الولايات المتحدة لتحلّ محل النفط العربي، بينما سيتجه النفط العربي إلى تلك المناطق لتعوض النفط الذي اتجه إلى الولايات المتحدة.
وتبنى دعاة اليمين الجديد في العامين الأخيرين مقولة إن تغيير النظام العراقي سيساعد على انعتاق النفط العراقي وغزوه للأسواق العالمية ومن ثم انهيار الأسعار، وبأن الاحتياطي العراقي هو البديل من النفط السعودي. ثم تبين لاحقاً أن ادعاءات اليمين الجديد عن النفط العراقي، لم تختلف كثيراً عن مزاعمه حول أسلحة الدمار الشامل. ولا يُعرف ما اذا كان هذا التضليل الذي ورد على لسان كبار المسؤولين الاميركيين، مثل نائب وزير الدفاع بول ولفوفيتز، مبنياً على جهل، أم أنه كان مقصوداً. الأصح أنه مغالطة مقصودة من اجل كسب موافقة الكونغرس والرأي العام على شن الحرب ضد العراق. وكما هو معروف، فإن العراق يصارع اليوم من اجل الارتقاء إلى مستوى الطاقة الإنتاجية نفسها التي كانت له أيام النظام السابق والبالغة 2،80 مليون برميل يومياً.
هناك أيضا كلام عن إحلال البدائل محل النفط. إلا أن النفط، لا يزال مصدر الطاقة الأساس للمواصلات، وهناك ما لا يقل عن نصف مليار سيارة وعربة وشاحنة في طرق العالم اليوم، وهذا الرقم في ازدياد مستمر وبالذات مع الطفرة الاقتصادية المهمة في الصين والهند وغيرها من الدول النامية الصناعية. وقد بنى الساسة الغربيون آمالهم على السيارة الهجينة التي تعتمد على خلايا الوقود والكهرباء والطاقة الشمسية والهيدروجين. ولكن لا يتوقع أن يحصل أي اختراق تجاري كبير لهذا البديل في المستقبل المنظور، أي قبل عقدين من الزمن.
إن كثيرا من العوامل يمكن ان تتحكم بالعلاقات النفطية الخليجية الاميركية، فمنها ما له صلة مباشرة بأحداث 11 أيلول ومنها ما هو امتداد للسياسات النفطية التقليدية: فقد كان من نتائج تلك الأحداث ازدياد الوجود والنفوذ الاميركيين في الشرق الأوسط، سياسياً وعسكرياً واقتصاديا، ومحاولة فرض شروط معينة، تعتبرها واشنطن جزءاً أساسياً من حملتها العالمية ضد الإرهاب، ووسيلة ضرورية لتغيير المنطقة من حالة التحجر السياسي والفكري التي هي فيه، والذي دفع إلى بروز ونمو ظاهرة الإرهاب التي نشهدها خلال هذه الفترة والتي تدفع ثمنها أكثر من أي طرف آخر، المجتمعات العربية من خلال عشرات الضحايا يومياً والعزلة السياسية على الساحة الدولية والآثار الاقتصادية السلبية.
ويأخذ الوجود الاميركي مناخات واتجاهات مختلفة، ليست بالضرورة منسقة ومتراتبة ، لكنها على صلة عضوية بالسياسة الاميركية في الخليج فالمعلومات الدقيقة والموثوقة عن هذه الأمور وأسبابها وأهدافها وتداعياتها غير شفافة وغير متوافرة بصورة عامة ومتواصلة.
كما دخل عامل جديد في السياسة الاميركية في المنطقة في الآونة الأخيرة، وهو محاولة مشاركة إسرائيل في المشروعات النفطية. فبعد احتلال العراق، سرت أخبار حول إعادة فتح خط أنبوب كركوك/ حيفا، وكأن المشروع سيتم تنفيذه حالا وسيتم تصدير النفط العراقي عبر ميناء حيفا في فترة قصيرة جدا. ولم تكن هذه الأخبار مجرد تكهنات صحافية، فقد تبين من خلال مقالات متعددة انه كان هناك نوع من التفاهم ما بين بعض القيادات العراقية وبعض المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة حول هذا الأمر. ومن الواضح، في ظل الجو السياسي الحالي في العراق وفي ظل غياب تسوية عادلة للصراع العربي الإسرائيلي وقرار الجامعة العربية بخصوص تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أن مشروعا من هذا النوع غير ممكن، وذلك للمعارضة الشديدة التي سيلقاها من قبل فئات واسعة في العراق، وبالذات لأنه يمر في المنطقة الغربية من البلاد.
وهناك محاولة أخرى، هي اتفاق إسرائيل مع الشركات الغربية التي تشتري النفط الروسي او نفط بحر قزوين لاستعمال أراضيها كممر ترانزيت لهذا النفط. وللوهلة الاولى، يتبين أن هذه المحاولة هي لكسر الاعتماد على قناة السويس. إلا أن الهدف الآخر، غير المعلن، هو السماح للناقلات التي ترسو في الموانىء الإسرائيلية بالعمل في الموانىء الخليجية، ومن ثم كسر واختراق المقاطعة العربية في هذا المجال الحيوي. لكن هذه العملية لم تنجح. ومن الواضح أن التوجه في عملية التطبيع التي تقودها الولايات المتحدة منذ فترة، ولكن بصورة أوسع منذ أيلول 2001 هو إدخال إسرائيل من الباب الخلفي في مشروعات الشرق الأوسط الكبير وعلى الرغم من فشل هذه السياسة في مشروعات الطاقة، فإنها تتكرر اليوم في مشروعات الكهرباء الإقليمية في الدول المجاورة لإسرائيل.
إن اعتماد واشنطن على نفط الخليج هو اعتماد أساسي ففي العام 2003، مثلاً، بلغت كمية النفط الخام المصدّرة إلى الولايات المتحدة حوالي 10 مليون برميل يومياً. وارتفعت هذه الكمية إلى حوالي 11 مليون برميل يومياً في العام 2004. وهناك أيضا حوالي 1.50 مليون برميل من المنتوجات النفطية التي يتم استيرادها أيضا، معظمها من أوروبا أو من دول أميركا اللاتينية. وإذا أخذنا بالحسبان أن مجموع الاستهلاك الاميركي من النفط الخام هو اليوم حوالي 21 مليون برميل يومياً، وان مجمل النفط السعودي المصدّر هو حوالي 1.5 مليون برميل يومياً، يضاف إليه حوالي مليون برميل يومياً من النفط الكويتي والجزائري والعراقي، نجد عندئذ ان مجمل النفط العربي إلى الولايات المتحدة هو حوالي 12 في المئة من مجموع الاستهلاك النفطي.
كما دلّت تجارب السنوات الثلاث الماضية أن ضمان الإمدادات النفطية هو في صلب السياسة النفطية السعودية، وجزء أساسي من سياستها النفطية التطويرية والتخزينية والتسويقية. والأمر لا يتعلق بمصلحة الولايات المتحدة فقط، بل ينصبّ في صلب سياسة ومصالح السعودية النفطية، إذ أن للمملكة احتياطيات نفطية هائلة ويهمها، كأي منتج كبير، أن يبقى النفط مصدراً أساسيا للطاقة أطول فترة ممكنة من دون انقطاع الإمدادات ومن دون خضات في الأسعار.
أما من الجانب الخليجي، فتختلف أهداف سياسة الطاقة، إذ يمكن أن ينشأ خلاف نتيجة إصرار واشنطن على سياسة إنتاجية معينة لخدمة أهداف قصيرة المدى وذات صلة بالأوضاع الداخلية الاميركية. مثل الضغط على الأسعار في الانتخابات الرئاسية، في حين أن دول الخليج تحاول إن تنسق مع باقي دول الأوبك للحصول على قرارات جماعية ذات مصداقية في المدى المتوسط او البعيد.
وهناك احتمال بأن تستعمل دول الخليج، السياسة النفطية، لا لقطع الإمدادات أو غير ذلك، بل من خلال عدم التجاوب مع بعض الدعوات الاميركية العلنية، وذلك تعبيراً عن عدم الرضا عن بعض السياسات التي تتبناها واشنطن تجاه المنطقة في فترة معينة.
أما لجهة البدائل والخيارات فهي محدودة من الناحية العملية أمام دول الخليج في مجال العلاقات النفطية مع الولايات المتحدة، لكن الأمر يمكن تجاوزه في مجالين مهمين، أولهنا الإصلاح الداخلي، والثاني تنويع العلاقات السياسية والاقتصادية وتوطيدها مع أطراف متعددة.
ان موضوع الإصلاحات، هو جزء مكمل ومتكامل من موضوع الحرب ضد الإرهاب، لا يقل عنه أهمية في نظر المسؤولين الاميركيين، وسيتم التعامل معه بصورة واسعة ومكثفة في السنوات المقبلة، كما ستكون له آثار محددة على العلاقات النفطية بين الطرفين.
ليست الأزمات النفطية، مهما كان نوعها أو حجمها، من مصلحة الدول النفطية، كما انها ليست من مصلحة الولايات المتحدة او باقي الدول الصناعية الغربية، ناهيك بالدول النامية. فلا الانقطاعات تفيد، ولا الزيادة السريعة في الأسعار تفيد، ولا الانخفاض الشديد في الأسعار يفيد، ولا استقرار الأسعار على مستوى متدن لفترة طويلة يفيد. المهم هو إيجاد القاعدة المناسبة لتسويق النفط والتعامل معه كسلعة تجارية مع الأخذ بالحسبان انه أيضا سلعة استراتيجية. ان الضرر على دول الخليج من الخضات والتقلبات السريعة والشديدة هو تسريع اللجوء إلى مصادر بديلة من نفطها أولاً، ومن النفط عموماً.
إلا أن الخيارات والبدائل هذه جميعها تبقى محدودة الأثر والفائدة لدول الخليج ما دام اقتصادها أحادي الجانب، يعتمد أولا وأساسا على الريع النفطي. كما أن الحماية التي توفرها الولايات المتحدة لأمن الخليج، تحدّ في نهاية المطاف من البدائل الاستراتيجية المتوافرة لها على الصعيدين الاقليمي والدولي.
ولكن الخيارات محدودة أيضا أمام الولايات المتحدة. فلا يمكن تصور القبول بسياسة الأمر الواقع الداخلية بعد أحداث 11 أيلول، ولا بسياسة توازن القوى الإقليمية التقليدية بعد الحروب والصراعات التي نشبت، ولا فرض الليبرالية بالوسائل العسكرية والهيمنة من قبل الدول الكبرى، ولا الاستمرار في سياسة اللامبالاة التي يعانيها الشعب الفلسطيني. هذا لا يعني انه سيتم الاستغناء أو التهميش لهذه الأمور. فمن الممكن جداً، على سبيل المثال، ان نتصور نشوب أزمة إقليمية أو دولية في القريب العاجل في حال لجوء الولايات المتحدة أو إسرائيل إلى الحل العسكري لمعالجة الملف النووي الإيراني. كما انه من الممكن جداً أن نتصوّر حدوث خلافات مهمة ووجهات نظر متباينة عميقة، بين بعض دول الخليج والعراق في حال عدم التوصل إلى حل مقبول ومعقول لمشكلتي الديون والتعويضات، أو في حال تبني العراق سياسة الباب المفتوح نفطياً.
إلا انه في نهاية المطاف، وخلاصة الأمر، إن استقرار الإمدادات النفطية ينبع أولاً وأخيرا من استقرار دول المنطقة. وهنا تكمن مسؤولية الدول الكبرى في المساهمة مع الدول الإقليمية في بناء نظام إقليمي متوازن القوى وأكثر مرونة مما هو عليه الآن، يضمن توفير حل عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي والتعامل بعقلانية وحكمة أكثر مع العراق وإيران، ويدفع بالإصلاحات في المنطقة من خلال الأطر المؤسسية.
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
تختصر السياسة النفطية الاميركية الخليجية بعاملين أساسيين: الأول، الاعتماد على العنصر العسكري الاميركي في تأمين إمدادات النفط من دول الخليج، وعدم السماح لأي دولة أخرى، إقليمية أو دولية، في تشكيل خطر على تدفق النفط من المنطقة. ولهذا يمكن اعتبار احتلال العراق للكويت والنفوذ الإقليمي الذي كان من الممكن أن يجنيه العراق من هذا الغزو والضغوط التي كان من الممكن أن يستعملها لرفع أسعار النفط، هي من أسباب الحرب على العراق في العام 1991. والعامل الثاني هو عدم السماح لأي دولة أخرى، حتى لو كانت حليفة أو صديقة، بالتفكير في إحلال نفسها محل الولايات المتحدة في لعب هذا الدور الاستراتيجي. وهذا يمكن أن يفسّر الفتور الواضح لإدارة الرئيس ريتشارد نيكسون في السبعينات تجاه دعوات شاه إيران المتكررة إلى السماح لبلاده، بدلاً من واشنطن، بلعب دور الشرطي في الخليج، وحراسة تدفق إمدادات النفط إلى الأسواق العالمية.
وقد تبلورت هذه السياسة بعد الانسحاب السياسي البريطاني من الخليج في أوائل السبعينات، ومفادها أن في الخليج اكبر احتياطيات نفطية في العالم، ولا تحتمل السياسة الدولية أو الاقتصاد العالمي أي انقطاعات للإمدادات النفطية من المنطقة. إلا أن هذه الانقطاعات واردة من خلال الاضطرابات السياسية أو الحروب. لذا، يجب توفير الغطاء العسكري الملائم لردع أي احتمال من هذا النوع، إما من خلال الدفاع عن أمن حقول النفط والمنشآت النفطية وطرق المواصلات، وإما بإتباع سياسة ردع استباقي لضعضعة الحكومات التي تنوي تهديد النظام الإقليمي، أو إسقاطها والهيمنة على ميزان القوة المحلي والإقليمي.
لقد غضّت واشنطن النظر عن احتمال قيام خطر محلي داخلي في أقطار الخليج نفسها يؤثّر على إمدادات النفط، ولم تعر انتباهاً كافياً للنفوذ المتزايد للقوى المحافظة والإسلامية في المنطقة، وبالذات في صفوف الشباب، وللعداء المتنامي لسياسة الولايات المتحدة وسمعتها في أذهان شرائح اجتماعية واسعة في المجتمع الخليجي. وعلى رغم تناغم السياسات النفطية الاميركية الخليجية وتوافقها قبل التاسع من أيلول 2001 وبالذات خلال الحرب العراقية - الإيرانية وأثناء احتلال العراق للكويت، إلا أن ثمة تباين واضح بين الطرفين ومنذ الحرب العربية - الإسرائيلية 1973، مفاده انه لا يمكن ضمان الإمدادات النفطية من دول الخليج.
لقد أدى هذا الشعور، الذي هيمن على سياسة الدول الصناعية خلال العقود الثلاثة الماضية، إلى تأسيس وكالة الطاقة الدولية، وبناء مخزون استراتيجي يفي بالاستهلاك المحلي في كل دولة عضو لمدة ثلاثة اشهر تقريباً، والتقدّم في مجال بدائل الطاقة والاستكشاف عن النفط خارج الخليج، وفرض الضرائب العالية على المنتجات النفطية المحلية في أوروبا واليابان، وتقنين استعمال الطاقة في ألاماكن العامة والمصانع والبيوت.
كما أدى هذا الخلاف الاستراتيجي إلى تباعد وجهات النظر واختلاف الرؤى بين الطرفين مع الوقت، وسمح لأطراف مختلفة بالاستفادة من هذا الخلاف واستغلاله لحسابها الخاص، فقد أطلقت الولايات المتحدة في أواخر السبعينات “مشروع الاستقلال” لإيقاف الاعتماد على نفط الخليج، بينما شرّع باقي الدول الصناعية، الضرائب الباهظة لتقليص استعمال المنتجات النفطية من جهة، وردف الموازنات بإيرادات ضخمة من خلال الضرائب غير المباشرة من جهة أخرى.
كما قاد الأعلام الغربي حملة على الدول النفطية متهماً إياها، مرة تلو الأخرى، بمحاولة خنق الغرب من خلال إيقاف الإمدادات ورفع الأسعار. وقد ذهبت سدى السياسات النفطية الايجابية لدول الخليج أثناء الحرب العراقية – الإيرانية وإثناء غزو الكويت، من تعويض النقص وعدم السماح لأي انقطاع في الأسواق، وكذلك إثناء العام 2004 حيث الارتفاع المذهل في الطلب على النفط، نتيجة للتحسن الكبير في الاقتصاد العالمي، وقيام جميع الأقطار الأعضاء في منظمة الأوبك بالإنتاج بأقصى الطاقات المتوافرة لديها، لتأمين الإمدادات وتلافي أي نقص للمستهلكين.
إلا أنه على رغم انكماش حدة الانتقادات في الفترة الأخيرة، واعتراف كبار المسؤولين في الدول الصناعية بأن السبب الرئيس وراء ارتفاع الأسعار في العام 2004، هو زيادة الطلب وانخفاض الطاقة الإنتاجية الفائضة إلى مستويات دنيا، تبقى الانتقادات مستمرة وتبقى الدراسات والخطط والمشروعات قائمة، من اجل تقليص الاعتماد على نفط الخليج ومحاولة إيجاد مصادر طاقة بديلة.
ومع تنامي أهمية مشكلات البيئة لدى الرأي العام الغربي، وجدت دول الخليج نفسها مرة أخرى في خلاف مع معظم الدول الصناعية (باستثناء الولايات المتحدة) حول هذه المسألة الحيوية ذات الأبعاد المهمة على الريع النفطي في العقود المقبلة. وبرزت هذه الخلافات بشكل واضح في المفاوضات حول اتفاقية كيوتو. وقد تم غض النظر عن الموضوع مؤخرا، نظراً للموقف السلبي لإدارة الرئيس جورج بوش والكونغرس الاميركي في الاتفاقية:
وقد أفرزت أحداث 11 أيلول 2001 تداعيات عدة على الساحة الدولية، أبرزها قرار الولايات المتحدة شن حرب عالمية مفتوحة على الإرهاب وعلى جميع الدول والمنظمات والمؤسسات التي تحددها وتعرّفها هي وحدها، بأنها تشكل خطراً محتملاً على الولايات المتحدة، وبالذات في جنوب آسيا والشرق الأوسط.
وتفاديا لانعكاسات هذا الملف على تدفق النفط دعت تيارات سياسية اميريكية فاعلة في السنوات الماضية بالتلويح بالاعتماد على النفط الروسي ونفط غرب أفريقيا بدلاً من نفط الخليج. إلا أن حقيقة الأمر هي إن الولايات المتحدة، تحافظ على نسب مستقرة في وارداتها النفطية من الدول المنتجة. وتشكل كل من السعودية والمكسيك وكندا وفنزويلا حوالي 15 في المئة من الاستيراد السنوي (اي حوالى 60 في المئة من مجموع الاستيراد)، مع بعض التفاوت بين سنة وأخرى.
هدف استراتيجي لا تجاري
ان فكرة استغناء الولايات المتحدة عن النفط العربي لا تعني الكثير على صعيد الصناعة النفطية العالمية، في حال تنفيذها، وهذا أمر مستبعد. فالولايات المتحدة تستورد حوالي 2،50 مليون برميل يومياً من نفط الشرق الأوسط، منها حوالي 1،50 مليون برميل يومياً من السعودية والبقية من العراق والكويت والجزائر. إن إي استغناء عن نفط الشرق الأوسط سيعني تغييراً في التجارة النفطية العالمية، اذ سيتجه نفط دول أخرى إلى الولايات المتحدة لتحلّ محل النفط العربي، بينما سيتجه النفط العربي إلى تلك المناطق لتعوض النفط الذي اتجه إلى الولايات المتحدة.
وتبنى دعاة اليمين الجديد في العامين الأخيرين مقولة إن تغيير النظام العراقي سيساعد على انعتاق النفط العراقي وغزوه للأسواق العالمية ومن ثم انهيار الأسعار، وبأن الاحتياطي العراقي هو البديل من النفط السعودي. ثم تبين لاحقاً أن ادعاءات اليمين الجديد عن النفط العراقي، لم تختلف كثيراً عن مزاعمه حول أسلحة الدمار الشامل. ولا يُعرف ما اذا كان هذا التضليل الذي ورد على لسان كبار المسؤولين الاميركيين، مثل نائب وزير الدفاع بول ولفوفيتز، مبنياً على جهل، أم أنه كان مقصوداً. الأصح أنه مغالطة مقصودة من اجل كسب موافقة الكونغرس والرأي العام على شن الحرب ضد العراق. وكما هو معروف، فإن العراق يصارع اليوم من اجل الارتقاء إلى مستوى الطاقة الإنتاجية نفسها التي كانت له أيام النظام السابق والبالغة 2،80 مليون برميل يومياً.
هناك أيضا كلام عن إحلال البدائل محل النفط. إلا أن النفط، لا يزال مصدر الطاقة الأساس للمواصلات، وهناك ما لا يقل عن نصف مليار سيارة وعربة وشاحنة في طرق العالم اليوم، وهذا الرقم في ازدياد مستمر وبالذات مع الطفرة الاقتصادية المهمة في الصين والهند وغيرها من الدول النامية الصناعية. وقد بنى الساسة الغربيون آمالهم على السيارة الهجينة التي تعتمد على خلايا الوقود والكهرباء والطاقة الشمسية والهيدروجين. ولكن لا يتوقع أن يحصل أي اختراق تجاري كبير لهذا البديل في المستقبل المنظور، أي قبل عقدين من الزمن.
إن كثيرا من العوامل يمكن ان تتحكم بالعلاقات النفطية الخليجية الاميركية، فمنها ما له صلة مباشرة بأحداث 11 أيلول ومنها ما هو امتداد للسياسات النفطية التقليدية: فقد كان من نتائج تلك الأحداث ازدياد الوجود والنفوذ الاميركيين في الشرق الأوسط، سياسياً وعسكرياً واقتصاديا، ومحاولة فرض شروط معينة، تعتبرها واشنطن جزءاً أساسياً من حملتها العالمية ضد الإرهاب، ووسيلة ضرورية لتغيير المنطقة من حالة التحجر السياسي والفكري التي هي فيه، والذي دفع إلى بروز ونمو ظاهرة الإرهاب التي نشهدها خلال هذه الفترة والتي تدفع ثمنها أكثر من أي طرف آخر، المجتمعات العربية من خلال عشرات الضحايا يومياً والعزلة السياسية على الساحة الدولية والآثار الاقتصادية السلبية.
ويأخذ الوجود الاميركي مناخات واتجاهات مختلفة، ليست بالضرورة منسقة ومتراتبة ، لكنها على صلة عضوية بالسياسة الاميركية في الخليج فالمعلومات الدقيقة والموثوقة عن هذه الأمور وأسبابها وأهدافها وتداعياتها غير شفافة وغير متوافرة بصورة عامة ومتواصلة.
كما دخل عامل جديد في السياسة الاميركية في المنطقة في الآونة الأخيرة، وهو محاولة مشاركة إسرائيل في المشروعات النفطية. فبعد احتلال العراق، سرت أخبار حول إعادة فتح خط أنبوب كركوك/ حيفا، وكأن المشروع سيتم تنفيذه حالا وسيتم تصدير النفط العراقي عبر ميناء حيفا في فترة قصيرة جدا. ولم تكن هذه الأخبار مجرد تكهنات صحافية، فقد تبين من خلال مقالات متعددة انه كان هناك نوع من التفاهم ما بين بعض القيادات العراقية وبعض المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة حول هذا الأمر. ومن الواضح، في ظل الجو السياسي الحالي في العراق وفي ظل غياب تسوية عادلة للصراع العربي الإسرائيلي وقرار الجامعة العربية بخصوص تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أن مشروعا من هذا النوع غير ممكن، وذلك للمعارضة الشديدة التي سيلقاها من قبل فئات واسعة في العراق، وبالذات لأنه يمر في المنطقة الغربية من البلاد.
وهناك محاولة أخرى، هي اتفاق إسرائيل مع الشركات الغربية التي تشتري النفط الروسي او نفط بحر قزوين لاستعمال أراضيها كممر ترانزيت لهذا النفط. وللوهلة الاولى، يتبين أن هذه المحاولة هي لكسر الاعتماد على قناة السويس. إلا أن الهدف الآخر، غير المعلن، هو السماح للناقلات التي ترسو في الموانىء الإسرائيلية بالعمل في الموانىء الخليجية، ومن ثم كسر واختراق المقاطعة العربية في هذا المجال الحيوي. لكن هذه العملية لم تنجح. ومن الواضح أن التوجه في عملية التطبيع التي تقودها الولايات المتحدة منذ فترة، ولكن بصورة أوسع منذ أيلول 2001 هو إدخال إسرائيل من الباب الخلفي في مشروعات الشرق الأوسط الكبير وعلى الرغم من فشل هذه السياسة في مشروعات الطاقة، فإنها تتكرر اليوم في مشروعات الكهرباء الإقليمية في الدول المجاورة لإسرائيل.
إن اعتماد واشنطن على نفط الخليج هو اعتماد أساسي ففي العام 2003، مثلاً، بلغت كمية النفط الخام المصدّرة إلى الولايات المتحدة حوالي 10 مليون برميل يومياً. وارتفعت هذه الكمية إلى حوالي 11 مليون برميل يومياً في العام 2004. وهناك أيضا حوالي 1.50 مليون برميل من المنتوجات النفطية التي يتم استيرادها أيضا، معظمها من أوروبا أو من دول أميركا اللاتينية. وإذا أخذنا بالحسبان أن مجموع الاستهلاك الاميركي من النفط الخام هو اليوم حوالي 21 مليون برميل يومياً، وان مجمل النفط السعودي المصدّر هو حوالي 1.5 مليون برميل يومياً، يضاف إليه حوالي مليون برميل يومياً من النفط الكويتي والجزائري والعراقي، نجد عندئذ ان مجمل النفط العربي إلى الولايات المتحدة هو حوالي 12 في المئة من مجموع الاستهلاك النفطي.
كما دلّت تجارب السنوات الثلاث الماضية أن ضمان الإمدادات النفطية هو في صلب السياسة النفطية السعودية، وجزء أساسي من سياستها النفطية التطويرية والتخزينية والتسويقية. والأمر لا يتعلق بمصلحة الولايات المتحدة فقط، بل ينصبّ في صلب سياسة ومصالح السعودية النفطية، إذ أن للمملكة احتياطيات نفطية هائلة ويهمها، كأي منتج كبير، أن يبقى النفط مصدراً أساسيا للطاقة أطول فترة ممكنة من دون انقطاع الإمدادات ومن دون خضات في الأسعار.
أما من الجانب الخليجي، فتختلف أهداف سياسة الطاقة، إذ يمكن أن ينشأ خلاف نتيجة إصرار واشنطن على سياسة إنتاجية معينة لخدمة أهداف قصيرة المدى وذات صلة بالأوضاع الداخلية الاميركية. مثل الضغط على الأسعار في الانتخابات الرئاسية، في حين أن دول الخليج تحاول إن تنسق مع باقي دول الأوبك للحصول على قرارات جماعية ذات مصداقية في المدى المتوسط او البعيد.
وهناك احتمال بأن تستعمل دول الخليج، السياسة النفطية، لا لقطع الإمدادات أو غير ذلك، بل من خلال عدم التجاوب مع بعض الدعوات الاميركية العلنية، وذلك تعبيراً عن عدم الرضا عن بعض السياسات التي تتبناها واشنطن تجاه المنطقة في فترة معينة.
أما لجهة البدائل والخيارات فهي محدودة من الناحية العملية أمام دول الخليج في مجال العلاقات النفطية مع الولايات المتحدة، لكن الأمر يمكن تجاوزه في مجالين مهمين، أولهنا الإصلاح الداخلي، والثاني تنويع العلاقات السياسية والاقتصادية وتوطيدها مع أطراف متعددة.
ان موضوع الإصلاحات، هو جزء مكمل ومتكامل من موضوع الحرب ضد الإرهاب، لا يقل عنه أهمية في نظر المسؤولين الاميركيين، وسيتم التعامل معه بصورة واسعة ومكثفة في السنوات المقبلة، كما ستكون له آثار محددة على العلاقات النفطية بين الطرفين.
ليست الأزمات النفطية، مهما كان نوعها أو حجمها، من مصلحة الدول النفطية، كما انها ليست من مصلحة الولايات المتحدة او باقي الدول الصناعية الغربية، ناهيك بالدول النامية. فلا الانقطاعات تفيد، ولا الزيادة السريعة في الأسعار تفيد، ولا الانخفاض الشديد في الأسعار يفيد، ولا استقرار الأسعار على مستوى متدن لفترة طويلة يفيد. المهم هو إيجاد القاعدة المناسبة لتسويق النفط والتعامل معه كسلعة تجارية مع الأخذ بالحسبان انه أيضا سلعة استراتيجية. ان الضرر على دول الخليج من الخضات والتقلبات السريعة والشديدة هو تسريع اللجوء إلى مصادر بديلة من نفطها أولاً، ومن النفط عموماً.
إلا أن الخيارات والبدائل هذه جميعها تبقى محدودة الأثر والفائدة لدول الخليج ما دام اقتصادها أحادي الجانب، يعتمد أولا وأساسا على الريع النفطي. كما أن الحماية التي توفرها الولايات المتحدة لأمن الخليج، تحدّ في نهاية المطاف من البدائل الاستراتيجية المتوافرة لها على الصعيدين الاقليمي والدولي.
ولكن الخيارات محدودة أيضا أمام الولايات المتحدة. فلا يمكن تصور القبول بسياسة الأمر الواقع الداخلية بعد أحداث 11 أيلول، ولا بسياسة توازن القوى الإقليمية التقليدية بعد الحروب والصراعات التي نشبت، ولا فرض الليبرالية بالوسائل العسكرية والهيمنة من قبل الدول الكبرى، ولا الاستمرار في سياسة اللامبالاة التي يعانيها الشعب الفلسطيني. هذا لا يعني انه سيتم الاستغناء أو التهميش لهذه الأمور. فمن الممكن جداً، على سبيل المثال، ان نتصور نشوب أزمة إقليمية أو دولية في القريب العاجل في حال لجوء الولايات المتحدة أو إسرائيل إلى الحل العسكري لمعالجة الملف النووي الإيراني. كما انه من الممكن جداً أن نتصوّر حدوث خلافات مهمة ووجهات نظر متباينة عميقة، بين بعض دول الخليج والعراق في حال عدم التوصل إلى حل مقبول ومعقول لمشكلتي الديون والتعويضات، أو في حال تبني العراق سياسة الباب المفتوح نفطياً.
إلا انه في نهاية المطاف، وخلاصة الأمر، إن استقرار الإمدادات النفطية ينبع أولاً وأخيرا من استقرار دول المنطقة. وهنا تكمن مسؤولية الدول الكبرى في المساهمة مع الدول الإقليمية في بناء نظام إقليمي متوازن القوى وأكثر مرونة مما هو عليه الآن، يضمن توفير حل عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي والتعامل بعقلانية وحكمة أكثر مع العراق وإيران، ويدفع بالإصلاحات في المنطقة من خلال الأطر المؤسسية.