مداخلة
الوفد اللبناني
أمام الندوة الدولية حول القضية الفلسطينية
حول
البند (6) من جدول الاعمال
مسار السلام الى أين؟
(الجزائر، 29-30/4/2003 )
رغم تشابك الصراع العربي - الصهيوني واتخاذه العديد من الابعاد الداخلية والخارجية لاطراف الصراع ، فان مجالات عدة قد فتحت لايجاد تسوية ما لهذا الصراع المستمر منذ اكثر من خمس وخمسين سنة.
وبصرف النظر عن وجود او عدم وجود مكونات نجاح التسوية واستمرارها ، فقد لجأت بعض الاطراف العربية الى اتفاقات ثنائية سلمية مع الدولة العبرية تاركة ورائها اطرافا اخرى لا زالت في قلب الصراع ومجالاته في ظل دوام تعثر سبل التسوية وازدياد عناصر فشلها.
وعلى الرغم من مرور ما يزيد عن عشر سنوات على بداية عملية التسوية السلمية الشاملة للصراع العربي- الصهيوني عام 1991، فإن المنطقة لا تزال أقرب إلى "حالة الحرب" منها إلى "حالة السلم"، خاصة أن الإطار السياسي لعلاقات الدول، والذي يفترض أنه "الموجه" للتفكير والتعامل مع التفاعلات المسلحة القائمة والمحتملة، لا يزال يتسم بالتعقيد الشديد، مع تحديد الدول المعنية خياراتها الإستراتيجية بشكل نهائي، مما أدى إلى استمرار "أجواء الحرب" في المنطقة. وتتمثل بعض مؤشرات ذلك فيما يلي :
1- أن الوضع القانوني لعلاقات الكيان الصهيوني مع كل من سوريا ولبنان لا يزال رسميا هو "حالة الحرب"، إضافة إلى علاقاته مع الدول العربية الأخرى عموما، وبخاصة العراق، إلا أنها حرب ساكنة محكومة باتفاقات هدنة تتضمن مناطق عازلة أو وقف إطلاق نار. وألقت هذه الأوضاع بتأثيراتها الحادة أحيانا على أشكال العلاقات العربية – "الإسرائيلية" الأخرى التي تحولت إلى علاقات سلمية انتهت فيها حالة الحرب في إطار معاهدة سلام، كعلاقات كل من مصر (1979)، والأردن (1994) بالكيان الصهيوني. بفعل الضغوط المستمرة على البلدين لتجميد علاقاتهما السلمية مع ذلك الكيان، أو حتى وقفها، في إطار المواقف العربية المشتركة، مع وجود "تساؤلات" مستمرة داخل البلدين الأخيرين، حول مواقفهما في حالة انفجار قتال مسلح واسع النطاق "إسرائيلي" – سوري، أو "إسرائيلي" – فلسطيني". فحالة الحرب ليست مجرد وصف قانوني .
2- أن التفكير شبه الرسمي السائد بشأن "خيار السلام"، ضمن "الخيارات الإستراتيجية" يحمل جوانب معقدة، فلم يحدث أن كان خيار السلام يمثل بالنسبة للكيان الصهيوني "الخيار الإستراتيجي" الرئيسي دون محددات، فاعتبارات الأمن تحتل أولوية متقدمة على مقتضيات السلام، واستخدام القوة المسلحة لا يتعارض في المفهوم "الإسرائيلي" مع المفاوضات السياسية، كما أن مفهوم الكيان الصهيوني للسلام نفسه يثير ارتباكات لا نهاية لها في المنطقة العربية، لا سيما في ظل وجود حكومة الليكود اليمينية المتطرفة، بزعامة الارهابي المجرم أرييل شارون في الحكم. وعلى الجانب العربي، تتعامل بعض الدول العربية مع مسألة "الخيارات الإستراتيجية" برمتها، بمنطق يحمل "ملامح لغوية" تقدم إيحاءات سياسية بأكثر مما تعبر عن واقع حقيقي في بعض الأحيان، فأحيانا تتم الإشارة إلى وجود "خيارات أخرى". ويطلق بعض قادة الدول العربية غير المجاورة للدولة العبرية تصريحات مباشرة تدعو لشن حرب. بينما تتعامل بعض الدول المجاورة مع "السلام" بنوع من التوجس نتيجة المواقف والشروط الاسرائيلية، التي لا يمكن أن يبنى على أساسها أي مفهوم حقيقي للسلام، لا سيما مع اندفاع المجتمع الصهيوني برمته أكثر نحو التطرّف، بما يثبت أنه غير ناضج لتقبّل فكرة السلام.
3- أن الحرب لا تزال أقرب إلى الأذهان، لدى بعض قطاعات النخبة والرأي العام في الجانبين، من السلام، فلا تزال التقديرات الرسمية الصادرة عن جهات تقييم المواقف تميل نحو التحذير من مخاطر نشوب حرب في المنطقة، في تعاملها مع أي موقف طارئ، أو مفاجئ، أو تحرك عسكري محدود، أو حتى حساباتها للموازين القائمة، وعمليات بناء القوة المسلحة،وتنعكس هذه التقديرات بوضوح في تصريحات القيادات العسكرية "الصهيونية". كما أن التحليلات العسكرية الجارية تميل في معظمها إلى الاندفاع باتجاه تصور سيناريوهات "أسوأ حالة"، وبعض فئات الدائرة الأوسع للنخبة من السياسيين الحزبيين أو المثقفين الأيديولوجيين لا يزالون لا يصدقون أن خيار "الحرب الهجومية" قد
أصبح محاطا بمخاطر ومحاذير مانعة. ويبدو الرأي العام أحيانا أكثر تطرفا من الجميع في تصوراته لمسألة الحرب.
واذا كانت هذه الملامح تشكل رؤية العقد الاخير من تاريخ الصراع ومشاريعه السلمية وما احاط به من متغيرات وظروف، فان مستقبل مسار الصراع والسلام هو اشد خطرا وغموضا لما تشهده المنطقة من تداخل في ادوات الصراع وتوزيع لمغانمه المباشرة غير المباشرة .
فاذا كانت الخلفيات غير المعلنة لحرب الخليج الثانية جر العرب لمفاوضات مع الدولة العبرية والوصول بها الى ما وصلت اليه من تداعيات سلبية على مجمل الوضع العربي ؛ فان من الخلفيات غير المعلنة لحرب الخليج الثالثة الحاصلة الآن محاولة جرّ ما تبقى من الدول العربية والاسلامية الى تنازلات استراتيجية في هذا المجال .
ان تعثر المفاوضات على المسارين السوري واللبناني مع الدولة العبرية في المفاوضات الثنائية من خلال مؤتمر مدريد في منتصف التسعينات نتيجة لانحراف الدولة العبرية عن الاسس التي قامت عليها، أدّى الى تجميد عملية التسوية مع ابقاء العديد من الاشارات المتفرقة بين الحين والاخر للايحاء بان اهتماما اميركيا لا يزال يأخذ مجراه في هذا الصدد ؛ الا ان التدقيق في الوقائع يثبت عكس ذلك وبخاصة في الفترة التي وصل فيها الجمهوريون الى سدة الرئاسة الاميركية ووصول ارييل شارون الى رئاسة الحكومة العبرية، الامر الذي اكد الانطباع بأن تسوية مؤتمر مدريد قد ماتت ودفنت .
ان مسار التسوية ان كان هناك من مسار لها ، فهي محكومة حاليا بالكثير من القضايا التي لا تقل تعقيدا عما سبقها ، وهي بطبيعة الحال تستلزم جلاء العديد من القضايا الجارية حاليا او التي يجري تثبيتها، اما ابرزها فهي:
1) نتائج العدوان على العراق: لم يعد خافيا على احد ان ابرز الاهداف غير المعلنة في العدوان الاميركي البريطاني على العراق هي النتائج السياسية التي تطمح اليها الادارة الاميركية والكيان الصهيوني ، بحيث أنّ إنهاء المسألة العراقية سينجم عنه ترتيب اوضاع المنطقة وفقا للكيفية التي تخدم الاستراتيجية الصهيونية في فهمها لموضوع الصراع العربي - الصهيوني القائم اساسا على الخلفية الامنية بشكل مباشر ، وهذا يستدعي بالضرورة شطب
القوة العراقية بصرف النظر عن حجمها وتوجهاتها في الصراع ، كمقدمة للانقضاض على باقي الاطراف الاخرى .
2) تداعيات العدوان على العراق: وكما هو واضح في الاساس في السر والعلن ، ان حدود الطموحات الاميركية- الصهيونية لن تقف عند حدود النفط العراقي وامكاناته الهائلة، فان ما يخطط له سيشمل المنطقة بأسرها ، بحيث لن توفرا اي فرصة لزجّ الاطراف العربية والاسلامية في معركة وفقا للتوقيت الاميركي - الصهيوني ؛ وبالكيفية التي تخدم توجهات الكيان الصهيوني المباشرة. وهنا لا بد من الاشارة الى ان هذه المشاريع ليست بجديدة ولا هي بسر على احد .
ان الضغوط الاميركية - الصهيونية ستزداد شيئا فشيئا على كل الاطراف المعنية بشكل فعلي في الصراع العربي الصهيوني، كلما اقتربت نهايات نتائج العدوان على العراق ، مما سيؤسس لوقائع جديدة في المنطقة لن يكون لها اي علاقة بمسار التسوية ، ان كان الطرفان الاميركي و"الاسرائيلي" ما زالا يفكران بها حتى الآن .
3) النظام الاقليمي الشرق اوسطي: ان استمرار اي تسوية ما بين العرب والكيان الصهيوني مرتبطة ايضا بالنظام الاقليمي الجاري التحضير له على قاعدة النتائج المحتملة لغزو العراق ، وفي ظل ما يحاك له وسط اختلال كبير وواضح في موازين القوى لمصلحة الكيان العبري ، والسلام في هذه الحالة لن يكون سوى تسوية مفروضة غير قابلة للحياة .
ان مسار السلام في الشرق الاوسط يبدو ضربا من ضروب الخيال في هذه المرحلة بالذات للعديد من الاعتبارات والخلفيات ابرزها :
- ان الاتفاقيات التي عقدت بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني لم توصل الى سلام حقيقي الا بين الموقعين عليها، وباتت شعوب الدول العربية بعيدة كل البعد عن هذه التسويات المجتزأة ، بل جذرت العداء الذي اتّخذ اشكالا متعددة ، تمثلت بالانتفاضة الفلسطينية في الداخل كتعبير عن رفض هذه التسويات وعدم جدواها في الوصول الى ما تهدف اليها .
- ان الموقف المتخذ من قبل سوريا ولبنان تجاه عملية السلام وشروطها ، هو انعكاس للموقف المبدئي الذي دخلا به الى مفاوضات مدريد وما تبعها، ويمثل السقف الذي لا يمكن اختراقه او التنازل عنه ؛ لاعتبرات كثيرة ابرزها ، ان الموقف اللبناني والسوري يمثل قرارات الشرعية الدولية بدءا من قرار التقسيم (181) مرورا بحق العودة للاجئين الفلسطينيين ( 194) وانتهاءا بالقرارات ( 242 و338و 425) . الامر الذي تتهرب منه الدولة العبرية والادارة الاميركية ، ما يزيد الامر تعقيدا وغموضا بمسار التسوية السلمية.
- ان ما آل اليه "اتفاق اوسلو" بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية وما تبعه من تنازلات قدّمها الجانب الفلسطيني قد ادى الى تصلب صهيوني متزايد قي شروطه ومطالبه ، حتى بات مشروع الدولة الفلسطينية مرتبط بخرائط طرق لا ارض لها الا في عقول المنظمين لها والقابلين بها. اضافة الى ذلك ان انطلاقة الانتفاضة في الداخل وتمكنها حتى الآن من كسر رتابة الصراع في الداخل ، قد ادى الى تأسيس حالة من العداء مع الصهيونيين يصعب تصور السلام معه في هذه الظروف.
- اما الجانب الاكثر اهمية في هذا السياق، هو ما حققته المقاومة الوطنية اللبنانية من انجازات هائلة باجبار الدولة العبرية على الانسحاب من معظم الاراضي اللبنانية المحتلة دون قيد او شرط، وهي سابقة في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني ، الامر الذي اسس قاعدة ونموذجا يحتذى به في الصراع مع الكيان الصهيوني، كما ساعدت بشكل مباشر على اظهار روح العداء المكبوتة لدى الجماهير العربية ضد هذا الكيان، الامر الذي سيزيد الامر تعقيدا في وجه كل باحث عن تسوية بأي شروط وبأي تنازلات .
ان مسار السلام ومستقبله في ظل هذه الظروف السالفة الذكر امر مستحيل ، وهولا يشبه الا خرائط الطرق المفخخة التي ترسمها الدولة العبرية وتعلنها الادارة الاميركية ، وهي بالتالي ستؤسس لمزيد من الصراعات التي لا يمكن حصرها ومعرفة نهاياتها. الا ان الامر الذي يمكن معرفته والذي يمكن ان يوصل الطرف العربي الى نتيجة لمصلحته هو الاقتداء
بالنموذج اللبناني للصراع مع اسرائيل الذي اثبت جدواه بأقل كلفة ممكنة وبأقصر وقت ممكن وبأكثر نتائج محققة .
صحيح ان ظروف الدول العربية وما يحيط بها لا يتناسب مع حجم طموحات جماهيرها ، الا ان الارادة والتصميم والاستفادة من كافة الدروس الماضية كفيل بتحقيق الكثير؛ وأخيرا هل لا زال شعار الصراع مع اسرائل ، صراع وجود ام حدود قائما ؟ ام ان ما طرأ من متغيرات قد غيّب هذا الشعار؟ وبالتالي وجوب البحث عن تسوية ما ؛ ان حركة التاريخ هي دائما الى الامام ، ولا يظهر فيه جليا الا القضايا المحقة المستندة الى الشرعية والقانون، الا ان الحق والقانون ليسا كافيين، ومن شروط كسب الحق ، هي القوة في عالم تتنازعه المصالح . ومن هنا ان اي تسوية ليست مستندة الى هذه العناصر لن يكتب لها النجاح الا في عقول الراكضين وراءها .
الوفد اللبناني
أمام الندوة الدولية حول القضية الفلسطينية
حول
البند (6) من جدول الاعمال
مسار السلام الى أين؟
(الجزائر، 29-30/4/2003 )
رغم تشابك الصراع العربي - الصهيوني واتخاذه العديد من الابعاد الداخلية والخارجية لاطراف الصراع ، فان مجالات عدة قد فتحت لايجاد تسوية ما لهذا الصراع المستمر منذ اكثر من خمس وخمسين سنة.
وبصرف النظر عن وجود او عدم وجود مكونات نجاح التسوية واستمرارها ، فقد لجأت بعض الاطراف العربية الى اتفاقات ثنائية سلمية مع الدولة العبرية تاركة ورائها اطرافا اخرى لا زالت في قلب الصراع ومجالاته في ظل دوام تعثر سبل التسوية وازدياد عناصر فشلها.
وعلى الرغم من مرور ما يزيد عن عشر سنوات على بداية عملية التسوية السلمية الشاملة للصراع العربي- الصهيوني عام 1991، فإن المنطقة لا تزال أقرب إلى "حالة الحرب" منها إلى "حالة السلم"، خاصة أن الإطار السياسي لعلاقات الدول، والذي يفترض أنه "الموجه" للتفكير والتعامل مع التفاعلات المسلحة القائمة والمحتملة، لا يزال يتسم بالتعقيد الشديد، مع تحديد الدول المعنية خياراتها الإستراتيجية بشكل نهائي، مما أدى إلى استمرار "أجواء الحرب" في المنطقة. وتتمثل بعض مؤشرات ذلك فيما يلي :
1- أن الوضع القانوني لعلاقات الكيان الصهيوني مع كل من سوريا ولبنان لا يزال رسميا هو "حالة الحرب"، إضافة إلى علاقاته مع الدول العربية الأخرى عموما، وبخاصة العراق، إلا أنها حرب ساكنة محكومة باتفاقات هدنة تتضمن مناطق عازلة أو وقف إطلاق نار. وألقت هذه الأوضاع بتأثيراتها الحادة أحيانا على أشكال العلاقات العربية – "الإسرائيلية" الأخرى التي تحولت إلى علاقات سلمية انتهت فيها حالة الحرب في إطار معاهدة سلام، كعلاقات كل من مصر (1979)، والأردن (1994) بالكيان الصهيوني. بفعل الضغوط المستمرة على البلدين لتجميد علاقاتهما السلمية مع ذلك الكيان، أو حتى وقفها، في إطار المواقف العربية المشتركة، مع وجود "تساؤلات" مستمرة داخل البلدين الأخيرين، حول مواقفهما في حالة انفجار قتال مسلح واسع النطاق "إسرائيلي" – سوري، أو "إسرائيلي" – فلسطيني". فحالة الحرب ليست مجرد وصف قانوني .
2- أن التفكير شبه الرسمي السائد بشأن "خيار السلام"، ضمن "الخيارات الإستراتيجية" يحمل جوانب معقدة، فلم يحدث أن كان خيار السلام يمثل بالنسبة للكيان الصهيوني "الخيار الإستراتيجي" الرئيسي دون محددات، فاعتبارات الأمن تحتل أولوية متقدمة على مقتضيات السلام، واستخدام القوة المسلحة لا يتعارض في المفهوم "الإسرائيلي" مع المفاوضات السياسية، كما أن مفهوم الكيان الصهيوني للسلام نفسه يثير ارتباكات لا نهاية لها في المنطقة العربية، لا سيما في ظل وجود حكومة الليكود اليمينية المتطرفة، بزعامة الارهابي المجرم أرييل شارون في الحكم. وعلى الجانب العربي، تتعامل بعض الدول العربية مع مسألة "الخيارات الإستراتيجية" برمتها، بمنطق يحمل "ملامح لغوية" تقدم إيحاءات سياسية بأكثر مما تعبر عن واقع حقيقي في بعض الأحيان، فأحيانا تتم الإشارة إلى وجود "خيارات أخرى". ويطلق بعض قادة الدول العربية غير المجاورة للدولة العبرية تصريحات مباشرة تدعو لشن حرب. بينما تتعامل بعض الدول المجاورة مع "السلام" بنوع من التوجس نتيجة المواقف والشروط الاسرائيلية، التي لا يمكن أن يبنى على أساسها أي مفهوم حقيقي للسلام، لا سيما مع اندفاع المجتمع الصهيوني برمته أكثر نحو التطرّف، بما يثبت أنه غير ناضج لتقبّل فكرة السلام.
3- أن الحرب لا تزال أقرب إلى الأذهان، لدى بعض قطاعات النخبة والرأي العام في الجانبين، من السلام، فلا تزال التقديرات الرسمية الصادرة عن جهات تقييم المواقف تميل نحو التحذير من مخاطر نشوب حرب في المنطقة، في تعاملها مع أي موقف طارئ، أو مفاجئ، أو تحرك عسكري محدود، أو حتى حساباتها للموازين القائمة، وعمليات بناء القوة المسلحة،وتنعكس هذه التقديرات بوضوح في تصريحات القيادات العسكرية "الصهيونية". كما أن التحليلات العسكرية الجارية تميل في معظمها إلى الاندفاع باتجاه تصور سيناريوهات "أسوأ حالة"، وبعض فئات الدائرة الأوسع للنخبة من السياسيين الحزبيين أو المثقفين الأيديولوجيين لا يزالون لا يصدقون أن خيار "الحرب الهجومية" قد
أصبح محاطا بمخاطر ومحاذير مانعة. ويبدو الرأي العام أحيانا أكثر تطرفا من الجميع في تصوراته لمسألة الحرب.
واذا كانت هذه الملامح تشكل رؤية العقد الاخير من تاريخ الصراع ومشاريعه السلمية وما احاط به من متغيرات وظروف، فان مستقبل مسار الصراع والسلام هو اشد خطرا وغموضا لما تشهده المنطقة من تداخل في ادوات الصراع وتوزيع لمغانمه المباشرة غير المباشرة .
فاذا كانت الخلفيات غير المعلنة لحرب الخليج الثانية جر العرب لمفاوضات مع الدولة العبرية والوصول بها الى ما وصلت اليه من تداعيات سلبية على مجمل الوضع العربي ؛ فان من الخلفيات غير المعلنة لحرب الخليج الثالثة الحاصلة الآن محاولة جرّ ما تبقى من الدول العربية والاسلامية الى تنازلات استراتيجية في هذا المجال .
ان تعثر المفاوضات على المسارين السوري واللبناني مع الدولة العبرية في المفاوضات الثنائية من خلال مؤتمر مدريد في منتصف التسعينات نتيجة لانحراف الدولة العبرية عن الاسس التي قامت عليها، أدّى الى تجميد عملية التسوية مع ابقاء العديد من الاشارات المتفرقة بين الحين والاخر للايحاء بان اهتماما اميركيا لا يزال يأخذ مجراه في هذا الصدد ؛ الا ان التدقيق في الوقائع يثبت عكس ذلك وبخاصة في الفترة التي وصل فيها الجمهوريون الى سدة الرئاسة الاميركية ووصول ارييل شارون الى رئاسة الحكومة العبرية، الامر الذي اكد الانطباع بأن تسوية مؤتمر مدريد قد ماتت ودفنت .
ان مسار التسوية ان كان هناك من مسار لها ، فهي محكومة حاليا بالكثير من القضايا التي لا تقل تعقيدا عما سبقها ، وهي بطبيعة الحال تستلزم جلاء العديد من القضايا الجارية حاليا او التي يجري تثبيتها، اما ابرزها فهي:
1) نتائج العدوان على العراق: لم يعد خافيا على احد ان ابرز الاهداف غير المعلنة في العدوان الاميركي البريطاني على العراق هي النتائج السياسية التي تطمح اليها الادارة الاميركية والكيان الصهيوني ، بحيث أنّ إنهاء المسألة العراقية سينجم عنه ترتيب اوضاع المنطقة وفقا للكيفية التي تخدم الاستراتيجية الصهيونية في فهمها لموضوع الصراع العربي - الصهيوني القائم اساسا على الخلفية الامنية بشكل مباشر ، وهذا يستدعي بالضرورة شطب
القوة العراقية بصرف النظر عن حجمها وتوجهاتها في الصراع ، كمقدمة للانقضاض على باقي الاطراف الاخرى .
2) تداعيات العدوان على العراق: وكما هو واضح في الاساس في السر والعلن ، ان حدود الطموحات الاميركية- الصهيونية لن تقف عند حدود النفط العراقي وامكاناته الهائلة، فان ما يخطط له سيشمل المنطقة بأسرها ، بحيث لن توفرا اي فرصة لزجّ الاطراف العربية والاسلامية في معركة وفقا للتوقيت الاميركي - الصهيوني ؛ وبالكيفية التي تخدم توجهات الكيان الصهيوني المباشرة. وهنا لا بد من الاشارة الى ان هذه المشاريع ليست بجديدة ولا هي بسر على احد .
ان الضغوط الاميركية - الصهيونية ستزداد شيئا فشيئا على كل الاطراف المعنية بشكل فعلي في الصراع العربي الصهيوني، كلما اقتربت نهايات نتائج العدوان على العراق ، مما سيؤسس لوقائع جديدة في المنطقة لن يكون لها اي علاقة بمسار التسوية ، ان كان الطرفان الاميركي و"الاسرائيلي" ما زالا يفكران بها حتى الآن .
3) النظام الاقليمي الشرق اوسطي: ان استمرار اي تسوية ما بين العرب والكيان الصهيوني مرتبطة ايضا بالنظام الاقليمي الجاري التحضير له على قاعدة النتائج المحتملة لغزو العراق ، وفي ظل ما يحاك له وسط اختلال كبير وواضح في موازين القوى لمصلحة الكيان العبري ، والسلام في هذه الحالة لن يكون سوى تسوية مفروضة غير قابلة للحياة .
ان مسار السلام في الشرق الاوسط يبدو ضربا من ضروب الخيال في هذه المرحلة بالذات للعديد من الاعتبارات والخلفيات ابرزها :
- ان الاتفاقيات التي عقدت بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني لم توصل الى سلام حقيقي الا بين الموقعين عليها، وباتت شعوب الدول العربية بعيدة كل البعد عن هذه التسويات المجتزأة ، بل جذرت العداء الذي اتّخذ اشكالا متعددة ، تمثلت بالانتفاضة الفلسطينية في الداخل كتعبير عن رفض هذه التسويات وعدم جدواها في الوصول الى ما تهدف اليها .
- ان الموقف المتخذ من قبل سوريا ولبنان تجاه عملية السلام وشروطها ، هو انعكاس للموقف المبدئي الذي دخلا به الى مفاوضات مدريد وما تبعها، ويمثل السقف الذي لا يمكن اختراقه او التنازل عنه ؛ لاعتبرات كثيرة ابرزها ، ان الموقف اللبناني والسوري يمثل قرارات الشرعية الدولية بدءا من قرار التقسيم (181) مرورا بحق العودة للاجئين الفلسطينيين ( 194) وانتهاءا بالقرارات ( 242 و338و 425) . الامر الذي تتهرب منه الدولة العبرية والادارة الاميركية ، ما يزيد الامر تعقيدا وغموضا بمسار التسوية السلمية.
- ان ما آل اليه "اتفاق اوسلو" بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية وما تبعه من تنازلات قدّمها الجانب الفلسطيني قد ادى الى تصلب صهيوني متزايد قي شروطه ومطالبه ، حتى بات مشروع الدولة الفلسطينية مرتبط بخرائط طرق لا ارض لها الا في عقول المنظمين لها والقابلين بها. اضافة الى ذلك ان انطلاقة الانتفاضة في الداخل وتمكنها حتى الآن من كسر رتابة الصراع في الداخل ، قد ادى الى تأسيس حالة من العداء مع الصهيونيين يصعب تصور السلام معه في هذه الظروف.
- اما الجانب الاكثر اهمية في هذا السياق، هو ما حققته المقاومة الوطنية اللبنانية من انجازات هائلة باجبار الدولة العبرية على الانسحاب من معظم الاراضي اللبنانية المحتلة دون قيد او شرط، وهي سابقة في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني ، الامر الذي اسس قاعدة ونموذجا يحتذى به في الصراع مع الكيان الصهيوني، كما ساعدت بشكل مباشر على اظهار روح العداء المكبوتة لدى الجماهير العربية ضد هذا الكيان، الامر الذي سيزيد الامر تعقيدا في وجه كل باحث عن تسوية بأي شروط وبأي تنازلات .
ان مسار السلام ومستقبله في ظل هذه الظروف السالفة الذكر امر مستحيل ، وهولا يشبه الا خرائط الطرق المفخخة التي ترسمها الدولة العبرية وتعلنها الادارة الاميركية ، وهي بالتالي ستؤسس لمزيد من الصراعات التي لا يمكن حصرها ومعرفة نهاياتها. الا ان الامر الذي يمكن معرفته والذي يمكن ان يوصل الطرف العربي الى نتيجة لمصلحته هو الاقتداء
بالنموذج اللبناني للصراع مع اسرائيل الذي اثبت جدواه بأقل كلفة ممكنة وبأقصر وقت ممكن وبأكثر نتائج محققة .
صحيح ان ظروف الدول العربية وما يحيط بها لا يتناسب مع حجم طموحات جماهيرها ، الا ان الارادة والتصميم والاستفادة من كافة الدروس الماضية كفيل بتحقيق الكثير؛ وأخيرا هل لا زال شعار الصراع مع اسرائل ، صراع وجود ام حدود قائما ؟ ام ان ما طرأ من متغيرات قد غيّب هذا الشعار؟ وبالتالي وجوب البحث عن تسوية ما ؛ ان حركة التاريخ هي دائما الى الامام ، ولا يظهر فيه جليا الا القضايا المحقة المستندة الى الشرعية والقانون، الا ان الحق والقانون ليسا كافيين، ومن شروط كسب الحق ، هي القوة في عالم تتنازعه المصالح . ومن هنا ان اي تسوية ليست مستندة الى هذه العناصر لن يكتب لها النجاح الا في عقول الراكضين وراءها .