كتاب العدوان الاسرائيلي على لبنان الخلفيات والابعاد / د.خليل حسين

الدكتور خليل حسين
العدوان الاسرائيلي على لبنان الخلفيات والابعاد
دار المنهل اللبنتني
الطبعة الاولى 2006

مقدمة


نُفذ العدوان الإسرائيلي على لبنان في مرحلة مفصلية من تاريخ منطقة تعج بالصراعات والمشاريع والاستحقاقات.وبصرف النظر عن الأهداف الحقيقية غير المعلنة للعدوان يبدو أن ترابطا قويا بين العديد من الأسباب التي سرّعت تنفيذi وعجّلت في كشف المستور من أوراق الأطراف الفاعلة فيه.وعليه فإن البحث الموضوعي في الأسباب والنتائج يستلزم المزيد من التدقيق والتمحيص للوصول برؤية واضحة وحاسمة لما يمكن ان تكون عليه الأمور في المرحلة القادمة.

فعملية خطف الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز 2006 ليست كافية بكل المقاييس القانونية الدولية والسياسية والأخلاقية لتبرير ما قامت به إسرائيل من اعتداءات فاقت وسائلها ونتائجها ما يمكن اعتباره نتائج لحرب تقليدية في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي؛ كما أن مسارات العدوان وما تخللته من مفاصل عسكرية وسياسية من الصعب إدراجها ضمن حروب تقليدية إقليمية إذ تخطت أبعاده وأهدافه العناصر التي قام عليها العدوان نفسه.وإذا كان العدوان نفسه كان بمثابة الواجهة لتنفيذ أهداف أمريكية - إسرائيلية مشتركة،فإن إفلات الأمور من عقالها أثناء العدوان وبعده قد ارتدَّ سلبا على القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية،فبدلا من أن يدخل رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت التاريخ الإسرائيلي كمنتصر في حرب اتخذ قرارها،سجل سابقة من بين رؤساء الوزراء الإسرائيليين الذين خسروا حربا أعد لها جيدا مع أطراف فاعلين في تركيب وتنظيم النظام الدولي.وبمعنى آخر كان اولمرت نفسه سببا في إفشال مخطط أمريكي لإنجاز ما تبقى من ثغرات ممانعة في النظام العالمي القائم التي رتّبت أوضاعه واشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل العقد الأخير من القرن الماضي.

وإذا كان تقاطع المصالح الأمريكية - الإسرائيلية الاستراتيجية قد التقت على ترميم وترسيم وتكييف مشروع الشرق الأوسط الكبير - الجديد في النظام العالمي القائم،فإن القراءة الأولية لما بعد العدوان تثبت أن وقتا طويلا سوف يمر لإعادة ترتيبه من جديد وفقا للرؤية الأمريكية – الإسرائيلية إذا تمكنتا من ذلك؛كما أن مفاهيم وعقائد واستراتيجيات كثيرة سوف يُعاد النظر فيها لاحقا نظرا لعدم تمكن الطرفين من انجاز الحدود الدنيا من غايات العدوان الأساسية.فرغم الصفة الظاهرية التي برزت على أنها حربا إقليمية محدودة و"بروفا" لحروب قادمة،إلا أنها من الناحية الفعلية والعملية تعتبر محاولة إحداث لنتائج حرب عالمية لم تقع،هدفها النهائي تثبيت دعائم وركائز النظام العالمي القائم.

في المقلب اللبناني ثمة انتصار استراتيجي سجلته المقاومة من الصعب القفز فوقه أو تحجيمه عبر مقاربته بما نجم عن العدوان من خسائر مادية.فنتائج الحروب لا تقاس عادة بما يلحق بأطراف الصراع من خسائر ومكتسبات مادية إن وجدت،بل تقاس بمعايير ما يلحق من أذى وعدم تحقق للغايات المعلنة وغير المعلنة للحرب,وفي هذا المجال تمكنت المقاومة من "فرملة" أو عرقلة مشاريع استراتيجية أمريكية – إسرائيلية على مستوى المنطقة بأسرها.وصحيح أيضا إن ما آلت إليه الأمور لاحقا لم يكن بمستوى الإنجاز المحقق،إلا انه يعتبر انعكاسا لواقع ظروف التفاوض التي جرت إبان العدوان وما أحاطه من ضغوط على لبنان من جهة ،وعدم تمكن المفاوض اللبناني من استثمار نتائج النصر مقارنة بما جرى سابقا كظروف ونتائج عدوان 1996 على سبيل المثال.

عربيا ثمة تفاوت وحتى تباين واضح في المواقف وصل إلى حد تشكيل محاور متواجهة بخلاف الحالات السابقة التي واجهت لبنان،مرد ذلك يعود إلى ظروف المنطقة والضغوط الأمريكية الهائلة على بعض المحاور العربية وعدم تمكنها من مواجهة هذه الضغوط،الأمر الذي أدى إلى إشعال سياسة المحاور العربية من جديد وافتراقها حول المواضيع الاستراتيجية المتعلقة بملفات الصراع العربي - الإسرائيلي،ما مهّد لاختراقات واسعة لآليات الحل المقترح والمتمثل بورقة قمة بيروت العربية.

وفي مطلق الأحوال يمكن تسجيل العديد من الملاحظات أبرزها:

- أتت العملية في خضم سجال لبناني حاد حول وضع المقاومة وسلاحها واستراتيجية الدفاع اللبنانية المفترضة في مواجهة إسرائيل، ولا نخفي سرا إذا قلنا أن بعض الأطراف اللبنانية ذهبت بعيدا في التحليل والتأويل واجتراح الحلول،في وقت لا زالت إسرائيل تحتل أراض لبنانية وتمارس اعتداءات يومية وأعمال إرهابية أمنية وعسكرية ونفسية على الشعب اللبناني بكافة فئاته وتلاوينه السياسية دون تميِّز بين مقاوم وغير مقاوم.

- لا زالت إسرائيل تحتجز لبنانيين ورغم كل الجهود الدولية والإقليمية لم تفلح المفاوضات الدبلوماسية من إغلاق هذا الملف،إذ شاءت إسرائيل اعتباره "كمسمار جحا" في ربط النزاعات واستثماره سياسيا رغم إنسانية الملف التي تكفله المواثيق والأعراف الدولية ذات الصلة بالأسرى والمعتقلين المدنيين وغيرهم من الفئات المصنفة في اتفاقيات جنيف الأربعة المعروفة.

- أتت العملية في خضم جدل وارتباك إسرائيليين كبيرين حول كيفية التعامل مع الجندي الإسرائيلي الأسير لدى الفصائل الفلسطينية،وسط خوف إسرائيلي واضح في التعامل مع هذا الملف لكي لا يصبح سابقة يمكن اللجوء إليها لاحقا،سيما وان سابقة اختطاف المقاومة في لبنان قد كرّست معادلة واضحة مع إسرائيل،أن تبادل الأسرى من الاستحالة إتمامها بدون وجود أسرى إسرائيليين؛وبالتالي لا زالت إسرائيل تبحث عن حل في الكواليس لهذا الجندي الذي لحق به أسيران في يد المقاومة.

- أتت العملية وسط تأزم إقليمي واضح المعالم من الصعب تخطيه دون فعل شيء أساسي في أوراق الضغط المحتملة إن لم يكن تفجير ما تقوم به إسرائيل للهروب إلى الخارج من مآزقها الداخلية.فالوضع في فلسطين حيث لغة الحديد والنار الإسرائيليتين تمارس فعلها في الفلسطينيين أطفالا وشيوخا ونساء،ولغة القتل باتت أمرا مألوفا ومعتادا بل مقررا من دوائر القرار الإسرائيلي السياسي والعسكري،في الوقت الذي ليس لحكومة اولمرت أي أفق سياسي قابل للحياة مع الفلسطينيين أو غيرهم.وفي الجانب الآخر في العراق حيث الآلة العسكرية الأمريكية تفعل فعلها قتلا وتدميرا؛وسط غطرسة أمريكية لا مثيل لها في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية.باختصار واقع لا تحمد المنطقة عليها،مجموعة من القضايا غير القابلة للحل بهذا الأسلوب الأمريكي أو الإسرائيلي،يرافقه احتقان كبير ينذر بانفلات الأمور من عقالها.

لا شك بأن هذه العملية تركت آثارا غير عادية على العديد من الملفات ولن تقتصر آثارها على ملف الأسرى بالتحديد فمشاكل المنطقة وقضاياها هي متشابكة ومترابطة إلى حد التعقيد الذي يمكن استغلاله بشتى المواضيع والقضايا، بدء بملف الأسرى اللبنانيين مرورا بملف الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية وصولا إلى قضايا ربما تتخطى اطر وملفات الصراع العربي - الإسرائيلي التقليدية المعروفة.

ففي لبنان لا زال ملف الأسرى مفتوحا على كافة الاحتمالات وان يبدو أن هذه المرة قد يحسم بنسبة عالية جدا بل من الممكن أن يكون قد انتهى عمليا وأصبح مسألة وقت ليس إلا،.كما أن في لبنان أرضا محتلة عمليا وأرضا محتلة واقعيا بفعل الألغام الإسرائيلية التي ترفض إسرائيل تسليم خرائطها الدقيقة،كما في لبنان مشكلة حقيقية لدى بعض اللبنانيين الذين لا زالوا يركبون رأسهم عنادا ويحاولون إقناع أنفسهم بأن زمن المقاومة قد ولى وأنها أدت قسطها للعلا وعليها إما اختيار التقاعد أو إطلاق رصاصة الرحمة عليها.

في الواقع ثمة افرقاء كثر في لبنان لا زالوا يعتقدون أن فعل المقاومة هو فعل عابر وغير ذي أهمية بكونه مرتبط بحسابات إقليمية،فيما الوقائع أثبتت عكس ذلك،فالمقاومة لم تكن مرة عبء داخلي أو ورقة مساومة خارجية وهذا سر نجاحها.كما انه في لبنان لا يزال البعض يراهن على حسابات دولية أثبتت عقمها وعدم جدواها في التعاطي مع الملفات الحساسة ومنها الأسرى والأراضي المحتلة ،وبالتالي إن الاستمرار في هذا الاعتقاد كمن يذر الرماد في العيون ويتعامي عن الحقائق ويغرس رأسه في الرمال خوفا من رؤية الحقيقة.

إن ابرز ما يمكن تسجيله من نتائج لهذه العملية تكمن في العديد من النقاط أبرزها:

- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن جميع ملفاتها هي في الحفظ والصون لدى رجال عرفوا واختبروا عدوا لا يفهم إلا لغة الحديد والنار لجلبه إلى طريق الحق.

- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن ما يحكى عن وسائل دبلوماسية وغيرها لحل ملفات عالقة عمرها من عمر كيانات المنطقة أمر لا فائدة منه، بل مضيعة للوقت واستنزاف للجهد،فاستراتيجيات الدفاع المطروحة على طاولة الحوار في مواجهة استراتيجية المقاومة لا تعدو كونها استراتيجيات من نوع الإنشاء والشعر العربيين الذين لا يسمنان ولا يغنيان من جوع.فالتاريخ حافل بأمثلة مقاومة الاحتلال في غير دولة، وفي هذا التاريخ لا نقرأ سوى النصر الذي كانت تسجله المقاومات بدء من المقاومة الفرنسية تحديدا لمن لا يعرف القراءة مرورا بالجزائرية وصولا إلى مقاومات جنوب أمريكا اللاتينية وفيتنام وغيرها وعلى رأسها فعل المقاومة اللبنانية التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من غالبية الأراضي اللبنانية دون قيد أو شرط.

- ومن آثارها أيضا أنها ستكون مناسبة أولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي لممارسة عدوانية إسرائيل المعروفة،فهو آت من خلفية لكودية متعصبة ووريث شارون السياسي ،وفي هذا الإطار ومن وجهة نظره لا بد إثبات ذلك للإسرائيليين بأنه وريث سياسي وعدواني بجدارة،فهل سيثبت ذلك في لبنان لقد بات أمرا مؤكدا بعد تنفيذ اعتداءاته وتصريحاته العدوانية بعد العملية مباشرة.

- إن المنطقة قادمة على خلط أوراق كثيرة،فهي تعج بالقضايا المستعصية وغير القابلة للحل بالوسائل التقليدية،ومن هذا المنظار ربما تشعر الولايات المتحدة الأمريكية ومحافظوها الجدد أن الفرصة سانحة للانقضاض على ما تبقى من حلمها في الشرق الأوسط الكبير.فإيران وبرنامجها النووي واصل إلى أفق مسدود،وأزمة واشنطن في العراق كبيرة،ومشاريع السلام موضوعة في الثلاجة الأمريكية الإسرائيلية ،فإلى أين المسير من وجهتي النظر الأمريكية والإسرائيلية،طبعا المزيد من التورط في إشعال المنطقة وربما يكون لبنان بوابتها الرئيسة.

وبصرف النظر عن ردود الفعل الإسرائيلية على هذه العملية والى أي مدى وصلت،يبقى فعل المقاومة وآثاره هو أقوى بكثير من كل الاحتمالات المطروحة.ثمة دولا وجيوشا كثيرة خاضت الحروب،انتصرت وفشلت،إلا أن التاريخ لم يسجل يوما أن مقاومة خسرت معركتها الحقيقية هذا على الأقل من يعرف كيف يقرأ التاريخ.

لقد وعد سيد المقاومة بنصر مبين،فكانت هزيمة إسرائيل في لبنان مرة أخرى وباعتراف إسرائيلي صريح،وليس لأن التاريخ يكتبه المنتصرون،بل لأن النصر أسسَّ لمرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة،أخذنا على عاتقنا تأريخ هذه المرحلة بأسلوب علمي وموضعي رصين،محاولين في عملنا هذا إلقاء الضوء على الخلفيات والأبعاد التي وقفت ورائها كل من واشنطن وتل أبيب لتنفيذ العدوان على لبنان.

لقد قسمنا هذا العمل إلى سبعة فصول،خصصنا الفصل الأول منه إلى الاستراتيجيات الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة وعالجنا فيه بشكل خاص مشروع الشرق الأوسط الكبير في الاستراتيجية الأمريكية وكيفية تقاطع المصالح الإسرائيلية - الأمريكية في هذا المشروع.

أما الفصل الثاني فقد خصصناه للملفات العالقة بعد هزيمة إسرائيل في لبنان في العام 2000 ؛إذ عالجنا فيه قضية مزارع شبعا المحتلة والعناصر القانونية والتاريخية التي يستند إليها لبنان في حقه لتحريرها،وكذلك موضوع الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية،إضافة إلى قضية الألغام التي خلفتها إسرائيل في الأراضي اللبنانية والتي تعتبر من قبيل العدوان المستمر على لبنان.

في الفصل الثالث عرضنا لعملية الوعد الصادق وأبعادها،مرورا بشروط التفاوض التي حددها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لاسترجاع الأسيرين،كما ناقشنا الظروف الموضوعية المحيطة بالعملية وبالتالي صحة تنفيذها آنذاك،مرورا بمفاجآت المقاومة المحققة أثناء المواجهات العسكرية والأمنية،إضافة إلى أساليب القتال المعتمدة وصولا إلى انعكاس الهزيمة على استراتيجيات الجيش الإسرائيلي وما أسست إليه المقاومة من فرض معادلات واستراتيجيات جديدة على الجيش الإسرائيلي.

وبما أن هزيمة إسرائيل كانت محققة بالألسن والشهادات الإسرائيلية نفسها فقد عالجنا هذه القضية في الفصل الرابع محاولين إلقاء الضوء على الاستراتيجيات القتالية الإسرائيلية وأسباب فشلها والنتائج المترتبة عليها.

وبما أن إسرائيل تعتبر استثناءً للقرارات والمواثيق الدولية ونظراً لسجلها الحافل في ارتكاب المجازر وانتهاكاتها الفاضحة للقوانين والأعراف الدولية فقد عرضنا في الفصل الخامس الوضع القانوني للانتهاكات الإسرائيلية للمعاهدات الدولية وسبل مقاضاتها.

أما الفصل السادس فقد عرضنا فيه للحصار الإسرائيلي للبنان إبان العدوان وبعده محاولين إلقاء الضوء على الجانب القانوني لهذه القضية،كما عالجنا فيه قوات حفظ السلام الدولية وأنواعها وتطرقنا الى قوة اليونفيل المعززة والقرار 1701 وما جاء به.

وفي النهاية عرضنا في الفصل السابع لنتائج العدوان وآثاره في لبنان وإسرائيل عبر مقاربة موضوعية وعلمية بهدف الرد على الأسئلة الخبيثة التي طرحت بعد العدوان،إضافة إلى مقاربة الظروف والنتائج للحرب العربية الإسرائيلية الرابعة والعدوان على لبنان لجهة التشابه والاختلاف في كلا الحربين.

لقد حاولنا في عملنا المتواضع هذا مشاركة نصر المقاومة في الكلمة، علها توقظ من هم لا زالوا في سباتهم العميق، والذين لا يريدون أن يُصدِّقوا أن إرادة المقاومة والشعب الذي احتضنها هما أقوى من الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أو بالاحرى الجيش الذي لا يفهم.


الفصل الأول


الاستراتيجيات الأمريكية - الإسرائيلية

والعدوان على لبنان

أولا : استراتيجية الولايات المتحدة

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي عنوة،استرشدت الإدارة الأمريكية بأفكار المحافظين الجدد لتأكيد سطوتها على باقي الدول والشعوب،وان القراءة الدقيقة لوثيقتي استراتيجية الأمن القومي الصادرتين في العامين 2002 و 2006 توضح العديد من الرؤى الاستراتيجية التي حاولت فرضها على العالم وأبرزها:

- اعتماد مبدأ "الحرب الوقائية" في التعامل مع الأخطار، بدلا من سياسة الردع النووي، والدفاع الذاتي (العراق نموذجا).

- تدويل "الحرب على الإرهاب" وجعلها في صلب الدبلوماسية الأمريكية، حيث تتحكم بمستوى العلاقات مع الدول الأخرى والمساعدات ودرجة التعاون الاقتصادي، إلى جانب المزج بين الحرب الوقائية والإرهاب (أفغانستان نموذجا).

- فرض الهيمنة الاقتصادية من خلال التحكم بمسار الطاقة والنفط على المستوى الدولي (محاولة الهيمنة على فنزويلا، السيطرة المطلقة على نفط الخليج، تطويق منابع النفط في بحر قزوين، والسعي للإمساك بنفط العراق) .

- إعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن ونظام عمل الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الكبرى ، بما يفضي إلى منح الولايات المتحدة سلطة "حق النقض" الخاصة بها، دون باقي الدول الأربع الكبرى التي تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن (يلاحظ خفايا الصراع بين واشنطن ومحور "باريس - برلين").

- إعادة النظر في الخارطة الجيو - سياسية في الشرق الأوسط، بما يتيح تفكيك بعض الدول المركزية في الشرق الأوسط وتمكين دول الأطراف من لعب دور مركزي بحماية أمريكية في مواجهة الدول الرئيسة في الإقليم العربي، وتساهم تلك الصراعات التي تم نقلها من مستوى منخفض إلى مستوى عالٍ في شلِّ عمل المؤسسات العربية وخاصة جامعة الدول العربية والمنظمات المتفرعة عنها لصالح البديل الأمريكي.

- الهيمنة على العراق وجعله نقطة الانطلاق المركزية في التحرك الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط ، في مقابل توقّع حالة من عدم الاستقرار في منطقة الخليج خلال عملية تفكيك بعض الدول وإعادة تركيب أنظمة حكم جديدة .

- تفكيك بعض مؤسسات المجتمع المدني في الدول العربية، التي تتعارض مع الأجندة الأمريكية لصالح دعم مؤسسات وهيئات تتوافق مع الرؤية الأمريكية تحت غطاء الليبرالية (نموذج ما يحصل في مصر والأردن ودول الخليج).

- إعادة النظر في تركيبة الحلف الأطلسي ومبدأ الشراكة مع أوربا، بما يضمن للولايات المتحدة دورا مميزا في الحالة الأوروبية، ويتيح لها استخدام العامل الاقتصادي الأوروبي في تخفيف العبء الواقع عليها في المساعدات الخارجية، وبخاصة مناطق النزاع، وهو ما جعل بعض الأوروبيين يعتبرون أنهم تحولوا من "حلفاء" إلى "أتباع" ، ومن "شركاء" في حصد المنافع، إلى "أُجراء" لا يتلقون من المنافع الكبرى سوى الفتات (يلاحظ أن أهم دولة حليفة لواشنطن في حربها على العراق بريطانيا لم تحصل إلا على عقود يسيرة لشركاتها).

أما لجهة أسباب الإخفاقات التي منيت بها الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الخارجي فتظهر بالنقاط التالية:

- اعتماد إدارة بوش إستراتيجية للتعامل مع الصراعات لا تحظى بالإجماع سواء داخل الولايات المتحدة، أو على صعيد الدول الغربية، التي تعتبر أن مبدأ "الحرب الوقائية" لا يخدم في نهاية المطاف النظام الرأسمالي ومصالحه الحيوية في المنطقة العربية، وبدا واضحا أن عديدا من الأصوات ارتفعت في الغرب لتحذر من أن الاندفاع الأمريكي غير الواعي ستكون له آثار بالغة على مستقبل العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب من ناحية إحياء عوامل التوتر بينهما، كما أن من شأن ذلك أن يقّوّض الدعم الذي حظيت به الحرب الأمريكية على "الإرهاب".

- تجاهل إدارة بوش لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا، ما ساهم في نشوء محور "باريس - برلين - موسكو" الذي استطاع الحيلولة دون حصول واشنطن ولندن على تفويض من مجلس الأمن لشنّ حرب ضد العراق، وبدا أن تلك الحرب تمّت دون غطاء قانوني أو أممي. وأدى ذلك التجاهل في نهاية المطاف إلى إحداث شرخ في العلاقة بين ضفتي الأطلسي يتوقع أن يترك آثارا سلبية، ما لم تقم إدارة أمريكية جديدة بجهود لجسر الهوة الناشئة بين الطرفين.

- اعتماد الإدارة الأمريكية على "التضليل" الإعلامي لتمرير خططها وبرامجها العسكرية والأمنية والتسلّحية، ورغم أن ذلك ساهم إلى حدّ ما في التأثير على حركة الرأي العام الأمريكي لبعض الوقت، غير أن الدلائل تشير إلى أن تأثير الدعاية التي حشدت لها إدارة بوش كل إمكاناتها، بدأ يتراجع، خاصة في ظل الإخفاق في تقديم أدلة حسيّة على الاتهامات التي تمَّ من خلالها تبرير الحرب على العراق، وتتعلق تحديدا بأسلحة الدمار الشامل، التي تبين أنها قامت على أسس ملفقة.

- إصرار المجموعة المهيمنة على القرار داخل الإدارة على خوض سلسلة من النزاعات في آن معا، وطرح مجموعة خطط تغييرية على المستوى الدولي من غير أن تتوفر لديها الكفاءة والقدرة على إدارة صراعات متعددة في وقت واحد، دون حلفاء أو شركاء فعليين. ومن ذلك تصعيد الأزمة مع العراق ثم احتلاله، وتصعيد الأزمة مع كوريا الشمالية وإيران وسوريا والفلسطينيين والعدوان على لبنان، إلى جانب استمرار المواجهات في أفغانستان، ثم السعي إلى تغيير نمط العلاقة مع الدول الأوربية، وتركيبة مجلس الأمن وأداء الأمم المتحدة، ومحاولة التأثير على المنظمات الدولية، ومن بينها محكمة جرائم الحرب في لاهاي.

- طرح الإدارة الأمريكية خططا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ، تتنافى عموما مع تشهده الولايات المتحدة من إجراءات وتدابير بحق الأقليات وبخاصة المسلمين، الذين يتعرضون للاضطهاد بسبب انتمائهم الديني أو العرقي، إضافة إلى ما يحدث في معتقل غونتانامو وأبو غريب وصولا إلى السجون الطائرة، ما نزع السند الأخلاقي، الذي ارتكزت عليه الإدارات الأمريكية عند تقييمها للأوضاع الداخلية في الدول الأخرى، وبخاصة ما يتصل منها بأوضاع حقوق الإنسان.

- الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة قوى ضعيفة من الناحية العسكرية ، كما حدث في أفغانستان ومن ثمَّ في العراق، حيث لجأت الولايات المتحدة لاستخدام كميات هائلة من الأسلحة والصواريخ المدمرة، وكان غالبية ضحاياها من المدنيين، ما حدَّ من مستوى التأييد الذي يمكن أن تحظى به حملات عسكرية من هذا القبيل، وساهمت بعض وسائل الإعلام في كشف الآثار الإنسانية القاسية للاستخدام المبالغ فيه للقوة من جانب الأمريكيين، ما دفع واشنطن في بعض الأحيان لمحاولة إسكات وسائل الإعلام التي تتباين مع سياساتها.

- الربط بين الخطط العسكرية والمنافع الاقتصادية التي تعود في الغالب لصالح شركات لها صلة بكبار مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الدفاع، ما راكم الإحساس لدى قطاع واسع من الرأي العام بأن الحروب التي تشنها إدارة بوش وثيقة الصلة بأطماع بعض الشركات الكبرى لجني المال، ولا شك أن طريقة توزيع العقود في العراق تعزز تلك الشكوك.

ثانيا : وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2006

صدرت وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي بطبعتها الأخيرة 2006 وبدت كأنها قد مزجت أفكارها وطروحها بجنون العظمة ، فالإستراتيجية سعت وبكل توكيد وتأكيد على إن تجعل العالم بأسره عجوة طرية تلوكها قبضة القوة والقهر الأمريكيتين.

لقد مضت أربع سنوات من الممارسة في ظل الإعلان الإمبراطوري الأول عام 2002 وبات جليا أن محفزات ودوافع المضي قدما على نفس النهج أكبر بكثير من المثبطات ودوافع التباطؤ، فبرز جنون العظمة واضحا في الإستراتيجية الجديدة؛ لذا قال الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب تدشينه لها "إننا نسعى إلى تشكيل العالم، وليس مجرد أن يشكلنا هو، وأن نؤثر في الأحداث من أجل الأفضل، بدلا من أن نكون تحت رحمتها".

الجديد في الإستراتيجية الثانية كما ونوعا متواضع إذا ما قورن باستراتيجية العام 2002، ورغم ذلك لم تفتقد التميز عن سابقتها وذلك بالتفصيل الذي ألمَّ بعناصرها وبنودها وأفكارها والإكثار من سرد الأمثلة فيما يختص بأي منها، لذا جاءت ضعف الأولى في الحجم (54 صفحة)، حيث لم تترك إقليما أو دولة إلا واستعرضت أحوالها ورصدتها تحت المجهر الأمريكي، ومن ثمَّ أخذت تسدي النصح وفي نقس الوقت تنذر وتتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور.

صدرت الوثيقة قبل أسابيع من تصريحات سمراء السياسة الخارجية الأمريكية،كونداليسا رايس، واعترافها بآلاف الأخطاء في العراق ورغم ذلك أتت الوثيقة لتقارب وتؤكد مقولات الساسة الأمريكيين أجمعين بين الوقت المستقطع للوثيقتين،وكأن هضما للدروس غير المستفادة من ممارسات الفترة ذاتها قد أثّرت بمن صاغها فتمَّ وصف الإستراتيجية الجديدة بأنها "مثالية فيما يتعلق بالأهداف وواقعية فيما يتعلق بالوسائل".

كررت الإستراتيجية المبدأ المعروف أن "أمريكا في حالة حرب" وكأنها تكرر أيضا مقولة جورج بوش بالرسالة السماوية التي بعث بها لدحر الإرهاب أفرادا و دولا وجماعات، وبالطبع "لنشر الديمقراطية ودعمها في كل ثقافة وأمة... وذلك للحفاظ على أمن الشعب الأمريكي"كيف لا وان الأمة الأمريكية تعرّضت لأسوأ صفعة في تاريخها وفي عقر دارها في 11 أيلول 2001، وهذا يتطلب حكما "البقاء في حالة هجوم، وهزيمة الإرهابيين خارج الأراضي الأمريكية حتى لا نضطر لمواجهتهم على أرضنا" إنه التوكيد مجددا ودون تبرير للحروب الاستباقية أينما كان وفي أي زمان.

لتلك الأهداف جعلت من الولايات المتحدة في حالة الجهوزية التامة لمن يصوِّب عليها فبداية كانت حرب "طويلة كالتي خاضتها إبان الحرب الباردة، ومثلما تُوِّجت في النهاية بالانتصار على عقيدتي الشيوعية والفاشية"، فالايديولوجيا التي تهدد (أمريكا) هي أيديولوجيا لا تنطلق من فلسفة علمانية وإنما تأسست على أيديولوجيا شمولية ركيزتها تحريف ديانة عظيمة (الإسلام) قد تختلف في المنطلق عن أيديولوجيا القرن الماضي ولكنها تتفق في المضمون "عدم التسامح، والقتل، والإرهاب، والاستعباد، والقمع".

إذن فنواة الإستراتيجية هي الحرب الاستباقية. وفي منتصف دائرة التصويب يقع الإسلام السياسي "فالصراع ضد الراديكالية الإسلامية المقاتلة هو الصراع الأيديولوجي الأكبر في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، ويأتي في وقت تصطف فيه القوى العظمى في جانب واحد في مقاومة الإرهاب".

وكما أسلفنا لم تأبه الاستراتيجية بكل الانتقادات التي وجهت للسياسة الأمريكية في الحقبة الماضية بل تجاهلت حتى انتقادات صانعي السياسات الأمريكية واعتبرت إن الإرهاب "ليس مرده القضية الفلسطينية – الإسرائيلية" ولا هو "ببساطة نتاج عداوات أثارتها سياسات أمريكا في العراق"، وكذلك"ليس ناتجا ثانويا عن الفقر"، وأيضا "ليس استجابة لجهود أمريكا لمنع الهجمات الإرهابية".

وتتابع الوثيقة لتنفي بشكل قاطع أن تكون الإدارة الأمريكية في حرب ضد المسلمين، وإنما تخوض معاركها في "الحرب على الإرهاب باعتبارها معركة أفكار وليست معركة ديانات"، حيث "يواجهنا الإرهابيون الدوليون باستغلال دين الإسلام العظيم لخدمة رؤيتهم السياسية العنيفة".

عند تلك النقطة بالذات تتواضع الوثيقة لتسترشد بما سبق أن حذر منه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير المارقين من المسلمين بالتزام "التيار العام للإسلام" أو Main stream Islam وهو الإسلام الذي يرضي الغرب ومن يخالفه فهو إرهابي، فتمنح الإستراتيجية نفسها الحق في وصف الدين الذي تحاربه "بالإسلام الراديكالي" الذي "يسوغ القتل، ويحرف ديانة الإسلام العظيمة وليها لخدمة الشر".وهنا للتذكير فقط بما ابتدعته مؤسسة راند بمقولة الإسلام المعتدل كمقاربة لما ينبغي أن يكون عليه الإسلام من وجهة النظر الأمريكية "السمحاء"ّ

كما ذهبت الإستراتيجية إلى حد مد اليد وسرقة أحد أهم أركان تفسير مقولات الإسلام "فالإرهابيون يشوهون فكرة الجهاد للدعوة لقتل كل ما يخالفهم من المرتدين والكفرة كالمسيحيين واليهود والهندوس وسائر الديانات الأخرى". ولذلك شرَّعت لنفسها أيضا فرض شجب المسؤولين المسلمين لـ "الأيديولوجية" التي تشوه وتستغل الإسلام بغية نهاية مدمرة"، ولكن بالطبع فإن من يقرر هذه الاستراتيجية يعرف ويدرك أن "الأكاذيب التي ترتكز عليها أيديولوجية الإرهابيين لاستغلال المؤمنين"، فلذلك لن يبخل الأمريكيين جهدا في "تمكين المسلمين المسالمين من ممارسة إيمانهم والتعبير عنه" وكان ينقص بعد تلك الفقرة التوضيح بأن هذا التمكين هو فقط سيؤمن للذين يأكلون ويشربون وينامون من دون أي إضافة أو تأويل لسلوك حياة ولو كان رتيبا.

ورغم تخلي الإستراتيجية عن أسلوب التهويل فقد استخدمت القوة الرقيقة كاستعمال المداهنات الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية على وسائل أخرى بهدف نشر الديمقراطية والقضاء على الطغيان.ورغم ما سبق وأعلن عن رغبة أمريكية في "استخدام مجال أوسع نطاقا من الوسائل" وصولا لأهداف الإستراتيجية، فقد أكدت الوثيقة على أهمية الدور الرئيس للقوة العسكرية الأمريكية حيث تقول الوثيقة: "بيد أننا عند الضرورة، ووفقا لمبادئ الدفاع عن الذات المعمول بها منذ وقت طويل، لا نستبعد استخدام القوة قبل أن تحدث الهجمات ضدنا، حتى في حالة عدم اليقين بشأن توقيت ومكان هجوم العدو" وهو تأكيد مرة أخرى بأن الولايات المتحدة كانت وستبقى بحاجة إلى عدو وهمي لتثبت قوتها.

من ثمَّ تتوسع وثيقة 2006 بشكل واضح حول إطار الإستراتيجية الأصلي الذي تحوّلت بموجبه سياسة أمريكا من سياسة الردع والاحتواء التي تبنتها لعقود طويلة إلى سياسة أكثر عدوانية، تقوم على "مهاجمة الخصوم قبل أن يقوموا هم بمهاجمة الولايات المتحدة"، لذا لم يطرأ تغيير بالإستراتيجية المعدلة ويؤكد بوش في خطاب تدشينها أنها "ستظل كما هي".

لقد سبق توقيت إعلان الإستراتيجية 2002 غزو العراق بستة أشهر تقريبا، والاتهامات الموجهة إلى إيران في وثيقة 2006 تتطابق والاتهامات التي وجهت لنظام الرئيس العراقي صدام حسين قبل غزو العراق ، فأمريكا بحسب الوثيقة لديها مخاوف أكبر من "النظام الإيراني يدعم الإرهاب ويهدد إسرائيل ويحاول نسف السلام في الشرق الأوسط وينكر على شعبه التطلع إلى الحرية". ولذلك وبكل بساطة تعتبر هذه الإستراتيجية رسالة قوية جدا لإيران مفادها أن واشنطن قد تستخدم القوة للقضاء على التهديد النووي الذي تشكله، إذ تشير بجلاء إلى إيران باعتبارها "أكبر خطر يمكن أن تشكله دولة بمفردها على الولايات المتحدة".

وثيقة الإستراتيجية الأولى تحدثت عن محور الشر "إيران والعراق وكوريا الشمالية"، أما الثانية فلم تركز على كوريا الشمالية واكتفت بأن عليها "تغيير سياساتها"، ثم بشيء من التوسع وجهت أصابع الاتهام إلى خمسة "أنظمة دكتاتورية استبدادية" أخرى مثل سوريا وكوبا وروسيا البيضاء وبورما وزيمبابوي. كما تضمنت الوثيقة صفحة كاملة خصصت لتبرير الحرب على العراق، ويبدو أنه تحذير مباشر لإيران جاء فيه "ليس لدينا أدنى شك في أن العالم سيكون أفضل حالا إذا أدرك الطغاة أنهم بامتلاك أسلحة دمار شامل سيتحملون عواقب ذلك".

لم توفر الوثيقة روسيا ولا الصين، فعلىالصين " أن تتصرف كدولة مسؤولة تفي بالتزاماتها وتضمن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية"، وإستراتيجية أمريكا تسعى إلى "تشجيع الصين على اتخاذ الاختيارات الإستراتيجية الصحيحة لشعبها مع قيام الولايات المتحدة في نفس الوقت باحتياطاتها لكافة الاحتمالات الأخرى". كما نظرت الوثيقة إلى روسيا نظرة أكثر حذرا وشكا مقارنة بسابقتها 2002 عندما كان وهج التقارب بين بوش وبوتين لا يزال ساطعا. فقد ورد في الوثيقة عند الإشارة إلى روسيا: "إن الاتجاهات الحديثة تؤشر للأسف إلى تقلص الالتزام الروسي بالحريات والمؤسسات الديمقراطية".

كما توضح الوثيقة أن "أفريقيا تكتسب أهمية جغرافية – إستراتيجية متزايدة وتشكل أولوية في جدول أعمال الإدارة"، وتوجه تحذيرا إلى شعوب أمريكا اللاتينية "من الانسياق وراء الدعوات المضادة للسوق الحرة" في إشارة للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز.

غريب المفارقات أن الوثيقة التي التزمت في أول كلمة فيها بنشر الديمقراطية تعترف بأن "الانتخابات ليست كافية في حد ذاتها"، كما أنها تقود أحيانا إلى "نتائج غير مرغوبة"، تقول الوثيقة "فهذه المبادئ قد تعرضت للاختبار عندما فاز مرشحو حماس في الانتخابات الأخيرة التي عقدت في المناطق الفلسطينية".

أخيرا لولا فضول الباحث وحشريته العلمية لن يجد غضاضة في الهرب من قراءتها والتدقيق فيها، فهي نسخة ليست منقحة ولا مزيدة عن سابقتها بل صيغت بعبارات ومفردات حاول من أسس لها إن يوحي جديدا،وإذ كنا منصفين في معرض الدرس والنقد فلا نجد حرجا في القول إن الجديد فيها قول الولايات المتحدة من جديد أن لا جديد لدينا سوى الحروب الاستباقية وصناعة الأعداء الوهميين كيف ونحن الذين نحتاج دائما للأعداء لإثبات قوتنا على من اضعف منا !.

ثالثا: الأبعاد القانونية والسياسية للقانون الأمريكي لتحرير لبنان وسوريا

بصرف النظر عن الجانب القانوني للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على بعض دول العالم، تحت ذرائع ومبررات واهية لم تعد تنطلي على احد حتى في أوساط الرأي العام الغربي، باعتبارها لا تستند إلى وقائع موضوعية ، ولا لإسس شرعية أو قانونية أجازتها الشرائع الدولية.ولو سلمنا جدلا إن دولة ما ينطبق عليها ما تدعيه الولايات المتحدة فهل يجوز لهذه الأخيرة إن تفرض العقوبات وتنفذ منها ما تشاء؟ وأين دور الأمم المتحدة في هذا المجال ولماذا أنشئت في الأساس ؟ أم أن الشرعية الدولية باتت يدا طيعة بتصرف الدولة العظمى التي تقود النظام العالمي وفقا لرغباتها ومشيئتها؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو موقع الشرعية الدولية ومبادئها التي يجب أن تسود إذا ما أريد لهذا العالم أن ينعم بالأمن والسلم الدوليين ؟.

وإذا نظرنا إلى الأمر من المقلب الآخر، أين ممارسات الولايات المتحدة على مر العصور والأزمان ،من التدخلات في الشؤون الداخلية للدول وتنظيم ورعاية الانقلابات وتنصيب الرؤساء وعزلهم ؟ وأين التدخلات العسكرية والحروب التي خاضتها واشنطن والتي تعدّت المئة خلال القرن الماضي؟ وأين حملات الابادة الجماعية المنظمة ضد الهنود الحمر وغيرهم في فييتنام و....؟وحتى أين حقوق الإنسان في أميركا نفسها قبل 11 أيلول وبعده؟ فهل يجوز لها أن تدّعي بأن غيرها من الدول دول مارقة ترعى الإرهاب وتهدد الأمن والاستقرار الدوليين؟

وفي الواقع لا يعتبر مشروع قانون تحرير لبنان وسوريا جديدا،بل له أصوله التاريخية في الأجندة الأمريكية وآخرها قانون محاسبة سوريا الذي أحيته في حزيران العام 2003،إلا أن هذه المرة طوّرت منهج التنفيذ بأدوات قانونية دولية مع تفصيل آلية التنفيذ إلى الحد الذي يعتبر أن التنفيذ محتوما.فما هي الخلفية القانونية لهذا المشروع؟

- لقد أناط المشروع بالرئيس الأمريكي " أن يؤيد وأن يعطي إرشاداته لممثل الولايات المتحدة الدائم في الأمم المتحدة للسعي من داخل مجلس الأمن الدولي إلى فرض حظر دولي على الحكومة السورية وفقاً للفقرة 41 من شرعة الأمم المتحدة"وهذا يعني إن منهجية التعاطي هي اللجوء لمجلس الأمن الدولي وفقا للفصل السابع من ميثاق الهيئة،وان كانت المادة 41 المذكورة لا تصل إلى حد استعمال القوة للتنفيذ، إلا أن ما أتى في سياق المشروع ما يؤدي إلى الانتقال للوسائل العسكرية للتنفيذ.

- لقد نص مشروع القانون على سلسلة تدابير تنفيذية لم تتعلق بالدول فقط وفقا للقسم 104 بل شملت الأفراد وأيضا الشركات والمؤسسات وفقا للقسم 103 ،وهنا التدخل بأي نشاط مالي أو اقتصادي ولو بطريقة افتراضية،وهذا ما يعد خرقا لمبادئ حقوق الإنسان.إضافة إلى ذلك فان الافتراضية التي أتى بها نص المشروع من العمومية بمكان يجعله قابلا وبسهولة للتأويل وفقا لأية وجهة تود المضي به، وهذا ما يسهل افتراض أي نشاط مالي للأفراد عرضة لوضعها ضمن الأعمال غير المشروعة قانونا وبشكل تعسفي،ما يؤدي إلى شمول فئات لا تعد ولا تحصى ضمن مجتمعات ودول كثيرة خارج إطاره المتعلق بسوريا.

- لقد وصفت الوجود العسكري السوري في لبنان "بالاحتلال"كما ورد في الفقرة الأولى من القسم 101،وهذا يعتبر خرقا وتجاوزا لاتفاقيات دولية معقودة بين سوريا ولبنان (اتفاق الطائف ومعاهدة الإخوة والتعاون والتنسيق) الموضوع نسخأ عنهما وفقا للأصول في الأمم المتحدة.

- لقد أتى المشروع بشبكة من الإجراءات المتماسكة التابعة للأمم المتحدة لا سيما المؤسسات المالية والاقتصادية لاستعمالها كأدوات ضغط على سوريا،وهذا ما يؤكد استعمال واشنطن للأدوات القانونية والشرعية الدولية لتنفيذ برامج سياسية خاصة بها،وهو ما يعتبر خرقا لميثاق الأمم المتحدة نفسه.

- التدخل في شؤون الدول وبمفعول رجعي عبر السعي للكشف الدقيق عن الاتفاقيات المعقودة بين سوريا وغيرها من الدول،مالية أو عسكرية وحتى الإنسانية،وهذا ما ورد في الفقرة 6 من التقرير الواجب رفعة بصورة دورية،وهذا ما يخالف العرف والقانون الدوليين،لا سيما حق الدول في حماية شعوبها.

- إن ميزة مشروع القانون ما ورد به من آليات التطبيق الدقيقة إن كانت عبر الفترات الزمنية المحددة بتسعين يوما بعد إقرار مشروع القانون في المجلسين (النواب والشيوخ) وكذلك ربطه بآلية التواصل الإقليمية التي سوف يسعى الرئيس الأمريكي إلى إقامتها مع الدول المعنية في الشرق الأوسط لإقامة منتدى حيث يكون بإمكان المسؤلين الأمريكيين عن جهود محاربة انتشار أسلحة الدمار الشامل أن يلتقوا، مرتين سنوياً على الأقل، مع نظرائهم.

- كما أن مشروع القانون أتى بعد إقرار قانون نشر الديموقراطية في 43 دولة على لائحة الاستهداف الأمريكي والذي جعل السفارات الأمريكية في هذه الدول منارة للحرية والإشعاع الديموقراطي،على قاعدة تعميم تجربة الثورة البرتقالية في أوكرانيا والوردية في جورجيا،و ثورة الأرز في لبنان.

لقد مهّدت واشنطن لهذا المنهج بيئة قانونية في قرارات عدة صادرة عن مجلس الأمن منها،1373 و1566 المتعلقين بمحاربة الإرهاب،ومنها القرارين 1546 و1559 المتعلقين بالعراق ولبنان ،فضلا عن تقارير عدة للامين العام للأمم المتحدة وبيانات رئاسية لمجلس الأمن الدولي،ما يؤكد أن واشنطن اتخذت قرارا ببدء تنفيذ تهديداتها لسوريا وللبنان.وإذا كانت البيئة القانونية قد تهيأت عمليا فما هي الخلفيات السياسية لهذا المشروع.

لقد بات واضحا إن أولوية لبنان وسوريا باتت على الأجندة الأمريكية في الولاية الثانية للرئيس جورج بوش،والتي تتأسس على قاعدة تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير لا سيما الشق المتعلق بلبنان وسوريا،وقد مهّدت له أيضا قبل ثلاثة اشهر بسحب مهمة المظلة الأمنية الأطلسية المتعلقة بلبنان وسوريا من فرنسا وتوكلت به عبر الجنرال الأمريكي اللبناني الأصل أبي زيد.

إن التدقيق في مجريات الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط يظهر العديد من الأمور التي تشير إلى التوجه الأمريكي القادم وأبرزه:

- التصويب مباشرة على الوضعين اللبناني والسوري باعتبارهما عقبة في نشر الديموقراطية ومحاربة الإرهاب وهما خلفيتان سياسيتان واضحتان لمشروع الشرق الأوسط الكبير، من دون إغفال إيران في هذا المجال وهذا ما ورد أيضا في مشروع القانون عند ربطه بوسائل منع امتلاك القدرات النووية في المنطقة.

- إن الاستثمار السياسي لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الواقع السياسي اللبناني وما تلاه من مطالب بعض فئات المعارضة،يظهر التوجه الأمريكي في السير باستراتيجية الدمينو في المنطقة عبر إسقاط الحكومات والأنظمة بدءا بلبنان مرورا بسوريا وانتهاء بإيران في هذه المرحلة،وهو جزء من سياسة الثورات المخملية المتبعة.

- كما إن تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليسا رايس مرتين في أسبوع واحد حول"نظرية ملء الفراغ" بعد انسحاب القوات السورية من لبنان من باب الإشراف على نزاهة الانتخابات اللبنانية عبر قوات أممية أو متعددة خارج إطار مجلس الأمن،تظهر أيضا نية الولايات المتحدة على خوض غمار تجارب سابقة في لبنان عامي 1958 و1983،أي بمعنى استعمال لبنان نقطة ارتكاز للانطلاق شرقا وما يتيح هذا التوجه من استثمار سياسي لإسرائيل لاحقا .

- القضاء بشكل تام على النظام الإقليمي العربي وإدخال المنطقة برمتها في فوضى "نظيفة" كما يسميها مشروع ديك تشيني عام 1996، تمهيدا لذوبان النظام الإقليمي العربي في المنظومة الإسرائيلية ضمن الشرق الأوسط الكبير.

الولايات المتحدة وإسرائيل والشرق الأوسط الكبير

يعود استخدام مفهوم الشرق الأوسط إلى الحرب العالمية الأولى بهدف مواجهة المد القومي العربي الذي سعى بدوره إلى التصدي لمشروع ما عرف بسياسة "التتريك" التي أرادت الحركة القومية التركية فرضها على المجتمعات العربية بقيادة حركة "تركيا الفتاة" منذ بدايات القرن العشرين. وفي نفس الوقت برزت مشروعات مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية عبر اتفاقات ومعاهدات تقسيم الوطن العربي بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، مثل معاهدة سايكس- بيكو لعام 1916.

وفي الواقع لم يكن مفهوم "الشرق الأوسط" يشير إلى نطاق جغرافي محدد المعالم ولا إلى تاريخ محدد لشعوب المنطقة،إنما استند في الأساس إلى نظرة السياسات الاستعمارية الأوروبية إلى أوروبا كـ"مركز" للعالم يقع خارج "الشرق الأوسط"، ولذلك أطلقت القوى الاستعمارية الأوربية التعبيرات المختلفة بخصوص مناطق التوسع الاستعماري، وفي هذا الإطار شاعت فكرة "الشرق الأوسط" في السياسة البريطانية، وفكرة "المشرق" في أدبيات السياسة الفرنسية وكلاهما يعتبران من المفاهيم الجيو سياسية والإستراتيجية اللتين دلّتا على طبيعة وأهداف القوى الأوروبية إزاء "شرقها"، وهي بالمعنى الجغرافي عكست إستراتيجيات تقاسم مناطق النفوذ بينها وبخاصة مع اكتشاف النفط في كل من إيران والعراق وشبه الجزيرة العربية . وبذلك تداخل في المشروع الاستعماري الأوروبي الجغرافيا والتاريخ والأيديولوجيا، وحمل المفهوم في ثناياه تصورًا لعلاقة الوطن العربي بالعالم الغربي.

ولقد شكل نشوء إسرائيل ككيان سياسي في قلب الوطن العربي شكلا جديدا لمصطلح الشرق الأوسط ، كعلاقة ما تجمع أو تمزج العرب بإسرائيل من وجهة النظر الأوروبية للجفرافيا السياسية للمنطقة ، ذلك بعدما تفاقمت المسألة اليهودية في أوروبا لجهة عدم اندماج اليهود في الدول الأوروبية وسعي الحركة الصهيونية لإنشاء كيان صهيوني في فلسطين ، وبذلك تقاطعت مصالح كل من فرنسا وبريطانيا والحركة الصهيونية على هدفين أساسيين هما تجزئة المنطقة العربية من جهة وحل "المشكلة اليهودية" التي شغلت أوروبا كثيرًا، من جهة أخرى .

وعليه يمكن القول أن الشرق أوسطية نُسِبَت كفكرة إلى قوى خارج النطاق الجغرافي للمنطقة وتحديدا إلى أوروبا ولاحقا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو لم يشمل منطقة محددة من الناحية الجغرافية ، إذ تبدلت توسعا وانكماشا بحسب مخططات هذه القوى ضد دول المنطقة ومستوى تحالفاتها ومصالحها. ففي إطار سعي بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة لحصار المد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين،توسّع المفهوم ليشمل دولاً إسلامية غير عربية مثل إيران في عهد الشاه وتركيا، بحيث يصبح الشرق الأوسط نطاقًا إستراتيجيًّا وأمنيًّا يقوم على سلسلة من الأحلاف مثل حلف بغداد عام 1955، ومن ثم مشروع الرئيس الأمريكي الأسبق ايزنهاور لملء الفراغ الإستراتيجي بقيادة الولايات المتحدة مع أفول نجم بريطانيا وفرنسا عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر ، ثم الحلف الإسلامي عام 1965، ولقد جمعت هذه الأحلاف دولاً عربية تحكمها أنظمة محافظة موالية للولايات المتحدة مثل الأردن والسعودية والعراق في فترة حكم نوري السعيد، وأخرجت من نفس نطاق الشرق الأوسط دولاً عربية رغم أنها تقع في قلب النطاق الجغرافي نفسه، مثل مصر وسوريا والعراق منذ عام 1958 واليمن منذ عام 1962.كما تغير المفهوم بعد حرب الأيام الستة عام 1967 ليشمل حصرا الدول التي اشتركت في الحرب.

وتحت تأثير سياسة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر استثمرت الولايات المتحدة في عهد إدارة نيكسون سعي الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى تسوية سلمية سريعة ومنفردة مع إسرائيل، عبر فك الارتباط بين قضيتي النفط والصراع العربي - الإسرائيلي ؛ ومن جانب آخر وضعت الولايات المتحدة تصورًا للشرق الأوسط في هذه الحقبة حصرته في الأطراف العربية التي تقبل التسوية السياسية للصراع العربي - الإسرائيلي بقيادة منفردة لواشنطن ومعها كل من إسرائيل وإيران الشاه وتركيا، مع التأكيد على أهمية إقامة علاقات اقتصادية وتنسيق أمني بين هذه الأطراف العربية وإسرائيل. وقد تم ذلك جزئيًّا مع توقيع أنور السادات معاهدة "سلام" منفردة مع إسرائيل عام 1979.

لقد شكَّل انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة مناسبة هامة لواشنطن لإعادة صياغة مشروع الشرق الأوسط وفقا لمتغيرات دولية وإقليمية درامتيكية. فقد صُوِِرت هزيمة النظام العراقي أمام التحالف الذي قادته واشنطن لتحرير الكويت هزيمة لكل العرب، وجرّت كافة الدول العربية إلى مفاوضات ثنائية ومتعددة تحت عناوين ومسميات مختلفة، وتمّ التركيز آنذاك على المباحثات متعددة الطرف التي شملت كل الدول العربية تقريبًا حتى تلك التي لم تشارك في الحروب العربية – الإسرائيلية مثل دول الخليج ، وحاولت واشنطن فرض تصورها الشرق أوسطي بقضايا متداخلة بين بعدها العالمي وبعدها الإقليمي مثل التسلح واللاجئين والمياه والبيئة والتعاون الاقتصادي، مع السعي لتأسيس نماذج للتعاون والتكامل الاقتصادي والأمني على أسس جيو إستراتيجية، وجيو اقتصادية بهدف تقويض النظام الإقليمي العربي .

وفي هذا الإطار تقاطعت المصالح الأمريكية والإسرائيلية في إعادة صياغة خريطة المنطقة عبر طرح صيغة ملائمة لإدخال إسرائيل في "منطقة يسلخ عنها مواصفات الجغرافيا وسمات التاريخ الحضاري والثقافي، ويتم فيها التركيز على الجغرافيا الاقتصادية في إطار نشر مفاهيم العولمة بكافة أوجهها،عبر نواة سوق شرق أوسطية تتوسع بالتدريج انطلاقًا من إسرائيل كدور وقوة جاذبة ومهيمنة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وأمنيًّا ومدنيًّا وقد تقدم بهذا الطرح شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" وكذلك بنيامين نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس"، حيث تم تقديم إسرائيل كدولة متقدمة وسط محيط عربي متخلف، ودولة ديمقراطية بين أنظمة دكتاتورية، وكقوة عسكرية رادعة تمكنت من جلب العرب إلى طاولة المفاوضات بعد اقتناعهم بأنه لا مجال لهزيمة إسرائيل عسكريًّا. ويعتبر هذان الكتابان اللذان نشرا عامي 1995 و1996 حصيلة فعلية لما طرحته تل أبيب من قائمة مقترحات قُدمت في الاجتماع الأول لما عرف بالمفاوضات متعددة الطرف في موسكو في يناير/ كانون الثاني 1992، ثمَّ في المؤتمرات الاقتصادية لما عرف بـ"الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في الدار البيضاء عام 1994 وعمّان عام 1995 والقاهرة عام 1996 والدوحة عام 1997.

وتضمّنت المؤتمرات السالفة الذكر برامج للتعاون الاقتصادي في قطاعات ومشروعات محددة مثل المشاركة في الموارد الطبيعية والتكنولوجية والبشرية، والتعاون في ميادين البحث العلمي، وتوسيع أسواق المنطقة، وجذب الاستثمارات الخارجية من دول النفط العربية، وجذب مؤسسات التمويل الدولية للاستثمار في تطوير البنية الأساسية الإقليمية، وتأسيس صندوق إقليمي للتنمية في الشرق الأوسط. كما تقدمت إسرائيل أيضًا بمقترحات للتنسيق الأمني بينها وبين الدول العربية، وصولا إلى إقامة نظام للإنذار المبكر يقوم على جمع وتبادل المعلومات الاستخبارية والأمنية بينها وبين الأطراف العربية، وبما يكفل عدم حدوث أزمات مفاجئة وإدارة الأزمة وقائيًّا في حال حدوثها .

وقد تمكنت إسرائيل من تحقيق نجاح جزئي بدعم تام من الولايات المتحدة وتركيا في مجال التطبيع الاقتصادي وتوقيع معاهدة "سلام" مع الأردن في وادي عربة عام 1994 والتوصل لإعلانات أوسلو بين أعوام 1993 و1995 مع سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، وبادرت دول الخليج العربي وتونس والمغرب بفتح مكاتب تمثيل تجاري لإسرائيل لديها، وزادت وتيرة التطبيع السري والعلني، ومن جانبها أقدمت دول الخليج على إلغاء المقاطعة الاقتصادية من الدرجتين الثانية والثالثة، أي مع الشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل أو لها فروع فيها.وهكذا يمكن ملاحظة أن الشرق أوسطية كمشروع أمريكي - إسرائيلي توسّع ليضم مختلف الدول العربية.

ومن اللافت للنظر أن معظم النظم العربية - عدا سوريا ولبنان- سارعت إلى الدخول في هذا المشروع الموسّع تحت أوهام عديدة منها أن إدراج إسرائيل في منظومة شرق أوسطية قائمة علي التعاون والتكامل الاقتصادي والمشروعات السياحية والتنموية المشتركة، وخصوصًا بين مصر وإسرائيل والأردن مع ضغط القاهرة وعمّان على السلطة الفلسطينية للانضمام إليها، من الممكن أن يدفع تل أبيب لتنفيذ التزاماتها الواردة في إعلانات أوسلو بشأن القضية الفلسطينية، وخصوصًا أن معظم النظم العربية توافقت ضمنًا مع بعضها البعض من جهة، ومع تل أبيب وواشنطن من جهة أخرى على الحيلولة دون عودة الكفاح المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل وبالطبع رفضت تل أبيب وواشنطن هذه "المقايضة" وصممتا على الفصل بين التطبيع الثنائي والإقليمي وبين التسوية السلمية للصراع على الجبهات الفلسطينية واللبنانية والسورية ، لكن ذلك الرفض لم تقابله النظم العربية الداخلة في المشروع الشرق أوسطي بتجميد روابط واتصالات التطبيع مع إسرائيل لإدراكها أن بقاء صلات ما بتل أبيب مدخل مهم للغاية لاستمرار علاقاتها الجيدة مع واشنطن، بل إنها التحقت بـ"التجمع الشرق الأوسطي الموسع" بالمفهوم الأمني الذي أرادته له كل من واشنطن وتل أبيب عندما حضرت معظم الحكومات العربية ما سُمِّي "مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب"، والمقصود "الإرهاب" الفلسطيني خاصة بعد عمليات استشهادية عديدة استهدفت تل أبيب وعسقلان في عام 1996.وتجمدت مشاريع الشرق أوسطية مع وصول الليكود إلى الحكم في إسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو.

وقد شكلت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 والعدوان على العراق واحتلاله والإطاحة بنظام صدام حسين مناسبة هامة لواشنطن لفرض تصوراتها عما أسمته "الشرق الأوسط الكبير" والذي يقوم على إعادة صياغة كاملة للخريطة الجيو إستراتيجية للمنطقة العربية تتضمن القضاء على ما تبقى من بقايا النظام الإقليمي العربي، والعمل على طمس المقومات الثقافية/ الحضارية عروبية وإسلامية للوطن العربي عبر تذويب هذا الفضاء السياسي الجغرافي التاريخي الثقافي المشترك في نطاق إستراتيجي أوسع يمتد من بحر قزوين وشمال القوقاز شمالاً وشرقًا إلى المغرب غربًا.وقد استندت الإدارة الأمريكية إلى مزاعم برغماتية غير متناسقة ومن أهمها أن "الشرق الأوسط" هو منطقة الاضطراب الكبير في العالم ومصدرا للمشكلات والتهديدات القديمة الجديدة للأمن القومي الأمريكي مثل الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل والأصولية والتطرف والهجرة غير المشروعة.إلى جانب ما كرره المسئولون الأمريكيون، بدءاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش ، ونائبه ديك تشيني إلى وزيرة الخارجية كوندا ليزا رايس إلى وزير الدفاع رامسفيلد ومستشاره "بيرل" ووكيل الوزارة "دوغلاس فايث" وغيرهم، استنادا إلى دراسات وتقارير قدمتها مراكز بحوث يمينية مثل "مؤسسة أمريكان إنتربرايز" و"مؤسسة هيريتاج"، ومفادها أن الطابع السلطوي للأنظمة العربية الحاكمة في دول كبيرة مثل مصر والسعودية وغيرهما إلى جانب مناهج التعليم والسياسات الثقافية والإعلامية والفساد السياسي والمالي، وكذلك غلبة أنماط التفكير غير العصرية، تُعَدّ كلها مسؤولة عن انتشار التطرف والإرهاب والتعصب وكراهية الولايات المتحدة والغرب وموجات الهجرة إلى الدول الغربية والحرمان الاقتصادي والاجتماعي.

لقد اتخذت الإدارة الأمريكية على عاتفها مهمة إعادة الهيكلة الشاملة للوطن العربي والعالم الإسلامي فيما يعرف الآن بمشروع "الشرق الأوسط الكبير". وكانت إدارة بوش قد خيّرت العالم كله بين تأييد ما يسمى الإرهاب أو محاربته، وحاول الرئيس جورج بوش الربط بين الإرهابيين وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وصمّم على أن تحتكر إدارته وحدها تحديد التهديدات المختلفة، ولم يقبل بمشاركة الآخرين بمن فيهم الحلفاء الأوروبيون أنفسهم في ذلك التحديد.

لقد قبلت معظم الدول العربية الدخول في مشروع الشرق الأوسطي عندما اقتصر على التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني، بل وتسابقت على المشاركة فيه، لكن عندما توالت تصريحات وأفكار إدارة بوش الابن عن أن الشرق الأوسط الكبير هدفه الرئيس إدخال الشرق الأوسط في دائرة الديموقراطية العالمية وفقا للرؤية الأمريكية وبالقوة ودون مراعاة لمواقف بعض الحلفاء، عبّرت هذه الأنظمة عن استيائها من التصميم الأمريكي، وذكرت أن الديمقراطية لا تفرض من الخارج، مع أن غالبية سياسات وقرارات هذه الأنظمة إنما جاءت وطبقت أساسًا بناء على ضغوط وإغراءات خارجية أمريكية تحديدا. ويمكن تفسير ذلك من قراءة جوهر مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي قدمته إدارة جورج بوش إلى قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى في جورجيا بالولايات المتحدة التي عقدت في يونيو/ حزيران 2004.

وكانت واشنطن قد أجرت مناقشات عديدة مع بعض الوزراء الأوربيين في العاصمة واشنطن بهدف أن يكون الموضوع الرئيس على جدول أعمال تلك القمة. وحتى يتم التنسيق بين التصورين الأمريكي والأوربي الذي تقدمت به ألمانيا في فبراير/ شباط 2003 إبان القمة الأوروبية التي عقدت في ألمانيا والتي دعت إلى إصلاح ديمقراطي في الشرق الأوسط وأساسًا في الدول العربية،من الداخل إلى جانب مشروع تنمية متكامل وإصلاح عربي وتنمية مستدامة وأثارت المبادرة الألمانية أيضًا أهمية قضية المعرفة.

وبتقديرنا يعتبر مشروع الشرق الأوسط الكبير عبارة عن أفكار هلامية غير معدة جيدًا ومتناثرة ولا تشبه خطة محددة أو مشروعًا متكاملاً، فمن أهم ملامح الجانب المتعلق بالتغيير الديمقراطي الذي تريده واشنطن هو ما تحدث عنه بوش في خطابه في السادس من نوفمبر 2003 عندما وصف المجتمع الديمقراطي الناجح بأنه مجتمع يضع حدودًا بين سلطة الدولة وسلطة الجيش؛ وبهدف إلى تمكين الحكومة من الاستجابة لإرادة الشعب بدلاً من الاستجابة لإرادة النخب فقط، وهو المجتمع الذي يشجع قيام المؤسسات المدنية السليمة وتشكيل الأحزاب ونقابات العمال ووجود الصحف ووسائل الإعلام المستقلة، أما اقتصاد هذه المجتمعات فهو قائم على اقتصاد القطاع الخاص ويضمن حق الملكية الفردية ويعاقب الفساد ويخصص الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم للمواطنين ويعترف بحق المرأة، وبدلاً من توجيه مواطنيه نحو كراهية ورفض الآخرين يسعى إلى تحقيق آمال شعبه.

وبهذا المعنى أيضًا قدّم كولين باول وزير الخارجية السابق مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية، وإلى جانب القضايا الاقتصادية التي تتشابه مع ما ورد في خطاب بوش سالف الذكر، ذكر باول أن هذه المبادرة صممت لدعم الرجال والنساء والشباب في الشرق الأوسط في سعيهم نحو الديمقراطية والحريات المدنية وحكم القانون ومساعدة المنظمات غير الحكومية والأفراد المنتمين إلى جميع الفئات السياسية العاملين في سبيل الإصلاح السياسي من خلال آليات كصندوق ديمقراطية الشرق الأوسط.

ورغم أن المبادرة تعرّضت لقضية الإصلاح التعليمي، فإنها أشارت فقط إلى برامج تعلم القراءة والكتابة وتحسين سبل اكتساب المعرفة ومنح دراسية للبكالوريوس في الولايات المتحدة، أما هدف تغيير نظم ومناهج التعليم والسياسات الثقافية والإعلامية فقد ورد غالبًا في تقارير كشف النقاب عنها، والغرض من وراء ضغوط وإغراءات إدارة بوش وراء ذلك متعدد من أهم جوانبه العمل على إنهاء الكراهية والتعصب ضد الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عمومًا باعتبار أن هذه النظم والسياسات كما تزعم إدارة بوش هي المسئولة عن تفريخ الإرهابيين وتشكيل وعيهم .

وإذا كانت هذه الصورة التاريخية تدل على بعض خلفيات المشروع، فإننا نورد بعض الملاحظات التي تكشف المزيد من النوايا غير المعلنة التي سعت واشنطن وتسعى لتحقيقها وأبرزها:

- لقد جاء المشروع كنتاج لهزيمة النظام العراقي وسقوطه ، وتعميم الهزيمة العراقية على كافة الدول العربية في محاولة لابتزاز المواقف من الدول التي لم تزل تمانع وتقاوم المشاريع الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة.

- وبعد أن هدف مشروع الشرق الأوسط الجديد في منتصف التسعينيات إلى دمج إسرائيل في المحيط العربي، يهدف مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى دمج الدول العربية في بيئة المفاهيم والاستراتيجيات الإسرائيلية في المنطقة.

- القضاء نهائيا على النظام الإقليمي العربي المتمثل في آليات تعاون الجامعة العربية ، وإنشاء بدائل منها تتلاءم وتتوافق مع المعطيات الإقليمية الجديدة.

- تذويب مقومات الحضارة والثقافة العربيتين عبر إدخال مجموعات من الدول غير العربية في نظام إقليمي فضفاض وواسع المهمات والأهداف بحيث يسهل استغلال أو تمرير أي أمر تريده واشنطن وتل أبيب.

- محاولة جعل المشروع في حال نجاحه تجمعا مواجها لدول وتجمعات إقليمية هادفة إلى لعب ادوار واعدة في النظام العالمي . أي بمعنى أن يكون هذا المشروع مواجها لمشروع الاتحاد الأوروبي وعلى تخوم روسيا والصين بعدما تمّ توسيع حلف شمال الأطلسي ليضم كافة الدول الأوروبية الشرقية سابقا.

- وفيما يتعلق بالإصلاح والديموقراطية والتنمية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة وغيرها من القضايا، فجميعها تعتبر من باب الحق الذي يراد به باطل. فعلى الرغم من اعترافنا بالحاجة الماسة لتلك الإصلاحات في أنظمتنا ، فان شكوكا وأسئلة كثيرة تطرح نفسها وتحتاج إلى إجابات واضحة ومنها: هل أن الإصلاح من الخارج وبالقوة يمكن أن يؤتي ثماره المرجوة؟ وهل في الأساس أن من مصلحة واشنطن أن تكون أنظمتنا العربية أنظمة ديموقراطية تعرف كيف تحكم جماهيرها وتقدم لهم ما هو خير لمصلحتهم؟ وأكثر من ذلك هل من مصلحة الولايات المتحدة أن تمتلك شعوب المنطقة العربية العلم والتكنولوجيا الكافية لاستقلالها الفعلي؟

صحيح أننا في منطقة فيها الكثير من النعم وهذا ما يفسر اهتمام الكثيرين بنا، وصحيح أيضا إننا شعوب متخلفة بسبب أنظمتنا وليس بقلة طاقاتنا وقدراتنا ، وصحيح أيضا وأيضا أننا بحاجة لكل شيء ، إلا أننا لسنا بحاجة إلى إلباسنا "المريول" وسوقنا إلى المدارس الأمريكية لتثقيفنا الديموقراطية الأمريكية، كما لسنا بحاجة حتما إلى ديموقراطية التوما هوك والكروز الذي تسقطه على رؤوسنا بالقوة.

إن أفظع الأخطاء المميتة التي وقعت فيها الإمبراطوريات عبر التاريخ، أنها وضعت نفسها في جهة والشعوب الأخرى في جهة ثانية وراحت تحاول إلباسها ما تشاء وفقا للمقاييس التي تراها مناسبة، الأمر الذي أدى إلى إشعال الثورات ضدها وانهيارها، وهذا ما سيحدث حتما للإمبراطورية الأمريكية التي لا زالت تكافح وتعاند التاريخ والجغرافيا معا.

رابعا : خريطة الشرق الأوسط الكبير - الجديد

نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية تقريرا خطيرا يتحدّث عن عملية تغيير لمعالم دول الشرق الأوسط من الناحية الجغرافية تنشأ عبرها دول جديدة و تتقسم دول أخرى و تتغير معالم دول و تندمج دول أخرى. ويعرض التقرير خرائط لمنطقّة الشرق الأوسط بشكلها الحالي وخرائط للشكل الذي يتمُّ العمل على تحقيقه. و يعتمد التقرير لتبرير هذا المخطط على عدد من الحجج لتمرير هذا مشروع و منها:

- إن الحدود الحالية هي حدود رسمها كل من بريطانيا و فرنسا بشكل عشوائي في القرن التاسع عشر هي حدود غير عادلة.

- إن قوص الحدود الأكثر تشابكا و فوضوية في العالم يكمن في أفريقيا و الشرق الأوسط, وانّ هذه الحدود تعمل على إثارة الحروب و الموت في هذه المنطقة من العالم, و لذلك يجب تغييرها وإعادة رسمها لإعطاء الأقليات المذهبية أو القومية والاثنية حقوقها المسلوبة.

- صحيح انّه في بعض الحالات, قد تتفاهم مجموعات مختلفة متعددة الأعراق أو الديانات و الاثنيات بحيث تتعايش و تتداخل مع بعضها البعض, لكنّ الغالب أن التداخل بالدم أو المعتقد في أماكن أخرى قد لا يكون ناجحا بقدر الاتحاد الذي يحصل في داخل المجموعة الواحدة, لذلك لا بد من إجراء هذا التغيير في خريطة الشرق الأوسط.

- أنّ الحدود المرسومة للدول ليست ثابتة على الإطلاق و العديد من الحدود من الكونغو إلى القوقاز مرورا في كوسوفو تتغيّر الآن, و من هنا فانه لا يجب التجاوب مع الحجّة القائلة أن هذه الحدود لهذه الدول لا يجب تغييرها لأنّها تعبّر عن واقع موجود منذ آلاف السنيين, وانّ المحافظة عليها تتطلب تحمّل ضريبة المشاكل التي تحصل فيها.

- أنّ حدود الشرق الأوسط تسبب خللا وظيفيا داخل الدولة نفسها و بين الدول بعضها البعض خاصّة من خلال الممارسات ضد الأقليات القومية والدينية والأثنية, أو بسبب التطرف الديني أو القومي والمذهبي, و لضلك يجب إنهاء هذا الأمر.

ويدعي التقرير آن الغاية من هذا التعديل هو تحقيق عدد من الأهداف الإنسانية التي تتعلق بالعدل و الديمقراطية و التوازن و أهداف أخرى رئيسة هي:

- إنهاء الظلم الذي يعاني منه عدد من الأقليات في الشرق الأوسط و منها: الأكراد, البلوش و الشيعة العرب. و على الرغم من أن التعديلات المرتقبة تأخذ بعين الاعتبار مصالح هذه الفئات, إلا إن هذه التعديلات المرتقبة قد لا تستطيع أن تحقق مصالح أقليات أخرى بالكامل مثل: المسيحيين, البهائيين, الإسماعيليين النقشبنديين, و عدد من الأقليات الأقل عددا.

- محاربة الإرهاب بشكل كامل بواسطة القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة و حلفائها من الدول المحلية أو العالمية.

- تأمين تدفق النفط بشكل تام و كامل للغرب دون أي قيود.

- تحقيق السلام الكامل عبر إحداث تعديلات في الحدود الجيو-سياسية للدول الموجودة حاليا في الشرق الأوسط, و نشر الديمقراطية.



و يمرر التقرير في ثناياه عددا من النقاط التي قد يمر القارئ عليها مرور الكرام و لكنّها خطيرة جدا في مضمونها و معناها و منها:

- الترويج أن هذا التغيير و التعديل هو لمصلحة الجميع خاصّة أنّه و على عكس ما قامت به كل من فرنسا وبريطانيا, يراعي مصالح القوميات والاثنيات والمذاهب و المجموعات المختلفة المنتشرة في المنطقة القائمة حاليا لأنه قائم على أساس وقائع ديموغرافية تشمل الأقليّات المذهبيّة والأثنيّة و القوميّة.

- إن هذا التغيير في الحدود المرسومة حاليا و تعديلها لخلق شرق أوسط جديد لا يمكن أن يتم بسهولة وسرعة ولأن إعادة تصحيح الحدود الدولية يتطلب توافقا لإرادات الشعوب التي قد تكون مستحيلة في الوقت الراهن, و لضيق الوقت فانه لابد من سفك الدماء للوصول إلى هذه الغاية و استغلال عامل الوقت لصالح هذه الخطّة.

استنادا لما تمَّ ذكره, فإن دولا جديدة ستنشأ ما يعني فقدان بعض الدول الموجودة لأجزاء كبيرة من حدودها الحالية و زيادة حدود دول أخرى.

الدولة الكردية: تقتضي الخطّة المذكورة إقامة دولة كردية مستقلة للأكراد البالغ عددهم ما بين 27 و 36 مليون كردي يعيشون في مناطق محاذية لبعضها البعض في الشرق الأوسط. إذ يعتبر التقرير إن الأكراد هم اكبر قوميّة في العالم لا يعيشون في دولة مستقلة وانّه يجب تحقيق دولتهم المستقلّة عبر عدد من الخطوات منها:

- استغلال الفرصة التاريخية التي لاحت للولايات المتّحدة بعد سقوط بغداد في انشاء دولة كردية اثر تقسيم العراق إلى ثلاث دول, باعتبار أن الأكراد سيصوتون بنسبة 100% لصالح قيام دولة مستقلة إذا عرضت عليهم فرصة قيام دولة مستقلة.

- دعم أكراد تركيا على الرغم من أن هجماتهم في الداخل قد خفّت خلال العشر سنوات الماضية, إلا أنهم عادوا من جديد الآن وعليه, يجب استغلال هذه الفرصة للضغط على تركيا وإظهار الجزء الشرقي منها كما وأنها "منطقة محتّلة".

- بعد قيام الدولة الكرديّة المستقلة في العراق و تركيا, فانّ أكراد إيران وسوريا سينضمون بمناطقهم مباشرة إليها و سيشكلون "دولة كردستان الكبرى المستقلّة" بحدودها النهائية.وستكون هذه الدولة الكرديّة الممتدة من ديار بكر في تركيا إلى تبريز في إيران أكبر حليف للغرب في المنطقة ما بين اليابان وبلغاريا.





الدولة الشيعية العربية: وفقا للتقرير, فانّ الجزء الجنوبي من العراق سيكون نواة لتشكيل دولة شيعية عربية تنضم إليها مناطق واسعة من الأراضي المحيطة بها ليشكل حزاما على المنطقة المحاذية للخليج "الفارسي" على ان تشمل المنطاق التالية:

- الجزء الجنوبي الغربي من إيران و المعروف بمنطقة الأهواز أو عربستان و التي تضمن معظم الشيعة العرب في إيران.

- الجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية والذي يضم العدد الأكبر من الأقلية الشيعية في المملكة.

دولة سوريا الكبرى: بعد تقسيم العراق إلى 3 أقسام, كردي في الشمال, شيعي في الجنوب و سني في الوسط, سيضطر الجزء السني إلى الالتحاق بسوريا باعتباره سيصبح دولة لا مقومات لها بين مطرقة الدولة الكردية الكبرى إلى شماله و سندان الدولة الشيعية إلى جنوبه إذا لم ينضم إلى سوريا. و سيتم إجبار سوريا على التخلي عن جزء صغير منها لضمّه إلى لبنان لتشكيل "دولة لبنان الكبير" على البحر المتوسط لإعادة إحياء دولة فينيقيا.

تقسيم المملكة العربية السعودية: ستكون المملكة إلى جانب الباكستان بالإضافة إلى تركيا من أكثر الدول التي ستعاني نتيجة للتغيير الذي سيطرأ على المنطقة. و سيتم تقسيم المملكة إلى خمس أقسام:

- القسم الغربي الساحلي حيث تتواجد الأقلية الشيعية في المملكة و سيتم إلحاق هذا القسم بالدولة العربية الشيعية.

- القسم الثاني هو جزء يقع في شمال غرب و شرق المملكة و سيتم إلحاقه بالأردن الذي سيشكّل بحدوده الموجودة حاليا إضافة إلى الجزء السعودي دولة "الأردن الكبرى" التي ستضم كل الفلسطينيين في الشتات.

- القسم الثالث من المملكة سيضم كل المدن الدينية لاسيما مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة التي سيتم تشكيل دولة دينية عليهما يحكمها مجمّع ديني من مختلف الطوائف و المذاهب الإسلامية يشبه إلى حد كبير الفاتيكان.

- إلحاق قسم من جنوب المملكة إلى الجمهورية اليمنية التي سيزيد حجمها.

- تشكيل دولة سياسية في القسم المتبقي من مساحة المملكة الأصلي.

الجمهورية الإيرانية: صحيح انّه سيتم اقتسام بعض الأجزاء من إيران لصالح تشكيل دولة كردية و دولة شيعية عربية و دولة بلوشية و جزء صغير لضمّه لدولة أذربيجان , إلا أنّه سيتم اقتطاع جزء من أفغانستان المجاورة لتشكيل دولة قومية فارسية تحلّ محل الجمهورية الإيرانية الحالية.

أفغانستان و باكستان: القسم الذي سيتم اقتطاعه من أفغانستان لمنحه لإيران سيتم تعويضه من خلال منح أفغانستان جزء كبير من الباكستان حيث العديد من القبائل الأفغانية و القريبة لها, و سيتم اقتطاع جزء آخر أيضا من الباكستان حيث يقيم البلوش لمنحه لدولة بلوشستان الحرة و بذلك يتبقى مساحة ثلث أو اقل من مساحة الباكستان الحالية التي ستشكّل الدولة الجديدة المنتظرة.

الكويت, قطر, عمان , الأمارات و اليمن: ستبقى هذه الدول على الأرجح بشكلها الحالي دون زيادة أو نقصان مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإمارات قد تشهد بعض التغييرات و ذلك تبعا للتغير الذي سيصيب بعض الدول المجاورة لها سواءا لناحية إيران أو لناحية دولة الشيعة العرب, فيما سيزيد حجم اليمن نتيجة لمنحها جزء من المملكة العربية السعودية.

لذلك وكما نرى فانّ إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط سيتم على أساس قومي أو اثني في بعض الأحيان و طائفي في أحيان أخرى, و بما أن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط انعكاسا لإرادة الناس و الفئات لا يمكن أن يتم فورا حتى ولو أرادوا ذلك, إلا أنّه مع الوقت و مع عملية سفك الدماء وفقا للتقرير فان تحقيق هذه الخريطة الجديدة سيكون ممكنا جدا.

أما بالنسبة لإسرائيل ووفقا للتقرير, فلكي تمتلك أي أمل بالحياة بسلام مع جيرانها سيكون عليها الانسحاب من كل المناطق التي احتلتها في العام 1967 مع ضرورة اتخاذ إجراءات تعديلات محلية تواكب القلق الأمني الذي يساورها بشكل دائم.

ويمكن أدراج العديد من الملاحظات حول هذا التقسيم وخلفياته أبزحا:

- إن نشر مثل هذا التقرير في مجلة عسكرية أمريكية هدفه إن لم يكن التطبيق الفعلي, فهو لابتزاز عدد من الدول الكبيرة كالسعودية و الباكستان وتركيا للبقاء ضمن الدائرة الأمريكية, خوفا من هذا المصير. و في حال تمّ تطبيقه فالهدف منه خلق بيئة رسمية وشعبية موالية للولايات المتحدة الأمريكية, لأنّ الدول التي ستنشأ و الكيانات التي ستقوم و المجموعات التي ستستفيد من هذا الواقع ستكون مدينة للولايات المتحدة كما هو حال الحكومة الحالية في أفغانستان من الناحية الرسمية أو كما هو الحال مع شيعة العراق وكرده رسميا أو شعبيا.

- إن الخطط الأمريكيّة تجاه العالم الإسلامي "الذي تدعوه الشرق الأوسط , عندما تريد تخصيص الدول العربية و بعض الدول الأخرى في محيطها" تعدّدت و تنوّعت على مر السنين لتتلاءم مع التغيرات التي تطرأ على المنطقة بين الحين و الآخر, لكنّها في جميع الأحوال و الظروف حافظت على عاملين اثنين أساسيين اعتبرتهما كثوابت في جميع هذه الاستراتيجيات, و خطّا احمر يمس الأمن القومي الأمريكي:

العامل الأول هو: حماية امن إسرائيل و دعمها بأي ثمن.

العامل الثاني هو: تأمين النفط و المصالح الاستراتيجية الأمريكية

الأخرى.وعلى العموم فانّ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة يمكن تلمّس معالمها من خلال الأدوار التي لعبتها أمريكا في أفغانستان و العراق و من خلال الأدوار التي تلعبها مؤخرا بمساعدة أوروبا في عدد من الملفات سواء في سوريا أو لبنان أو فلسطين أو مصر أو الخليج العربي و تركيا.

- إن مسألة التلاعب أو التحكّم بورقة الأقليّات وحقوق الإنسان مسألة معروفة قديما في العرف السياسي الأمريكي الخارجي, و هذا الأسلوب يظهر الولايات المتّحدة بمظهر المدافع عن حقوق البشر و توجّهاتهم في وقت تعاني هي أصلا فيه من عنصر الخطة الأمريكية الجديدة تقوم على استعمال ورقة الأقليات لزعزعة استقرار و وحدة الدول القائمة في الشرق الأوسط لاسيما أن لهذه الورقة قوّة كبيرة و قد تؤدي إلى مواجهات عنيفة تتفكك على أثرها الدولة إلى دويلات طائفية وعرقية أو تضعف الدول كثيرا في أحسن الأحوال, لأنّ الدولة في الشرق الأوسط بطبيعتها الحاليّة ومنذ انهيار الدولة العثمانيّة هي دولة قوميّة بالأساس وتضم عددا كبيرا ومتنوعا من الأعراق والطوائف والقوميات.

وبطبيعة الحال فان الدول التي تحويها القائمة الأمريكية في هذا المجال هي الدول الأكثر تنوعا و امتزاجا مثل: العراق , أفغانستان, السودان, الجزائر, لبنان...الخ و ذلك من أجل إعادة صياغة الواقع العرقي والطائفي والقومي وفق تركيبة تناسب المخططات الأمريكية التي تهدف إلى تحقيق عدة أهداف منها:

أولا: إضعاف الدولة القوميّة- بشكلها الحالي- التي لديها حساسية كبيرة بطبيعة الحال تجاه التدخلات الخارجية في شؤونها وهو ما سيسهّل عملية الاختراق الأمريكية للدول التي تأبى الانصياع لما تريده أو التي ترفض التغيير بحسب الوصفة المقدّمة على الطريقة الأمريكيّة.

ثانيا: ضمان عدم التحام هذه الأقليات و الطوائف و الأعراق, و ضمان عدم ذوبانها أو على الأقل انسجامها مع الأغلبية في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط في أي إطار جامع على الشكل الذي كانت فيه منذ قرون لضمان أنها ستكون بحاجة إلى مساعدة خارجية, و كل ذلك من أجل أن تبقى هذه الأقليات برميل بارود يمكن تفجيره في الوقت الذي تراه القوى الغربية مناسبا و بالتالي أمريكا ستكون جاهزة للتدخل في أي مكان وزمان تراه مناسبا في أي بلد من هذه البلدان إذا رأت أن ذلك لمصلحتها, و بحجّة الحماية بطبيعة الحال. وان لم يكن ذلك في مصلحتها فلا هي ترى و لا تسمع و لا تتكلم.

ثالثا: إن الهدف أيضا من ورقة الأقليات هو تبرير وجود إسرائيل و توسيع رقعة المشاكل و النزاعات الإقليمية الداخلية العرقيّة و القوميّة لإشغال العالم العربي والإسلامي وشعوب هذه الدول بالمشاكل الداخلية المستجدّة لديهم والمخاطر التي تتهدّد بلدانهم المعرضّة آنذاك للتفتيت والتقسيم, بمعنى تقسيم المقسّم أصلا و تجزئة المجزّء .

رابعا: الهدف أيضا من نفس الموضوع هو إفساح المجال أمام إسرائيل للدخول و التغلغل في هذه الدول عبر الأقليّات سواء القومية أو الطائفية أو العرقية و لنا في أكراد العراق و شيعته مثال على ذلك, إذ أن الدولة المدمّرة أو المفتّتة أو التي يتم إضعافها عبر ورقة الأقليات سيكون من السهل على إسرائيل اختراقها كما حدث أيضا في جنوب السودان.

ترتكز الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة, في شقّها الثاني على تحجيم نفوذ الدول الكبرى تقليديا في المنطقة مثل:

- السعوديّة: التي من المفترض أن تشمل دائرة نفوذها الإقليمية على الأقل دول الخليج العربي وذلك لاعتبارات اقتصادية وديمغرافية و جغرافيّة وعسكرية.....الخ.

- مصر: التي من المفترض أن تشمل دائرة نفوذها أو دائرة تأثيرها أيضا منطقة شمالي أفريقيا والسودان وفلسطين على الأقل وذلك أيضا لأسباب ديمغرافيّة, اقتصاديّة, تاريخيّة..الخ.

- سوريا والعراق: حيث تمتد دائرة نفوذ الدولتين إلى الدول المجاورة لهما سواء لبنان وفلسطين بالنسبة إلى سوريا أو الأردن والخليج بالنسبة للعراق. بالإضافة إلى عدد آخر من الدول الكبيرة أيضا.

كما يلاحظ أنّ الولايات المتّحدة قد لجأت إلى هذه الخطّة في تحجيم نفوذ الدول الكبرى نظرا للتعقيدات الكثيرة و التشابكات الكبيرة التي تتركها دائرة نفوذ مثل هذه الدول الكبرى على الدول الأخرى ما يحد من التدخّل الأمريكي بحيث يصعّب على الولايات المتّحدة التدخل في أي موضوع أو ملف لأي دولة تكون لهذه الدول الكبرى نفوذ فيها, إذ أن الأمر آنذاك سيتطلب من الولايات المتّحدة جهدا مضاعفا و وقتا مضاعفا وتباحثا مع جميع الأطراف و ربما جوائز ترضية للدول الكبرى و ربما قد تفشل في النهاية للوصول إلى هدفها أو قد تصل إليه بصعوبة.إلا أنه عندما تكون دائرة نفوذ كل دولة محصور في إطارها الداخلي فقط فانّ ذلك يفيد الولايات المتّحدة من عدّة جوانب:

أولا: يسهّل ذلك على الولايات المتّحدة مهمّة التدخل بشؤون أي دولة دون تعقيدات تذكر حيث تصبح العلاقة مباشرة و فردية بين الولايات المتّحدة والدول الأخرى, و بطبيعة الحال فانّ الدول الأخرى في غالبها دول صغيرة وضعيفة ولا حول ولا قوّة لها في وجه الاملاءات الأمريكية حتى لو أرادت فعلا رفض ما يملى عليها.

ثانيا: إن تحجيم النفوذ يؤمن الاستفراد بالدول الواحدة تلو الأخرى دون أن يكون لها أي حليف أو نصير و بالتالي فانّ الملف يصبح أسهل والنتائج أضمن والاملاءات والشروط أكبر والتهديدات بالعقوبات والعمليات العسكرية في حال عدم التنفيذ أجدى.

و يمكن ملاحظة ذلك في ثلاث حالات واضحة و صريحة و منها:

- السودان حيث تمّ عزله عن محيطه العربي و ترك لوحده في مواجهة أمريكا والقوى الدولية وتمّ عزل مصر عن الملف إلى أن وصلت الأوضاع إلى ما وصلت إليه الآن و بعد فوات الأوان, و نرى التهديدات و العقوبات الأمريكية و الأممية واضحة لأي مراقب.

- العراق و قد تمّ أيضا عزله و محاصرته و قصفه و تدميره و تحجيم نفوذه إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من خراب و دمار و انهيار نتيجة عدم تنفيذ الاملاءات و الشروط الأمريكية.

- سوريا, و قد بدا الأسلوب الذي نتحدث عنه عن تحجيم النفوذ واضحا في هذه الحالة و لا يحتاج إلى شرح حيث أصبحت قدرة الولايات المتّحدة على التدخل في الملف اللبناني أكبر بكثير و تمّ تحجيم النفوذ السوري فيه, و بالطبع فسيف التهديدات لم ينته بعد وسلسلة المطالب من سوريا تجاه العراق و لبنان وفلسطين تكبر يوما بعد يوم بانتظار التنفيذ الكامل وألا.

تبقى الإشارة إلى أن نقطة الانطلاق في تنفيذ هذا المشروع والنقطة الفاصلة وفقا لما يذكره التقرير هي العراق, فإذا نجح المشروع الأمريكي في العراق تمّ الانتقال إلى دول أخرى وإذا فشل سقطت هذه الخرائط الأمريكية برمّتها.


الفصل الثاني


الملفات العالقة بعد هزيمة إسرائيل الأولى



على الرغم مما قيل وسيقال عن الأسباب الحقيقية للعدوان الإسرائيلي على لبنان، تبقى حقيقة دامغة أن إسرائيل لم تكن تنتظر يوما حجة أو ذريعة لاستهداف لبنان، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة،بدء من عدوان العام 1982 بحجة محاولة اغتيال سفيرها في لندن آنذاك شلومو أرغوف وقد انكشف زيف ادعاءاتها فيما بعد، مرورا في العديد من العمليات اللاحقة كـ "تصفية الحساب" في العام 1993 و"عناقيد الغضب" في العام 1996 وصولا إلى عدوان تموز 2006..ومهما يكن من أمر الحجج والتبريرات التي ساقتها إسرائيل،يبقى أن العديد من الملفات العالقة في إطار الصراع بين لبنان وإسرائيل لم تجد لها حلا بعد انسحابها من غالبية الأراضي اللبنانية في 25 أيار 2000،وبذلك تركت الباب واسعا أمام العديد من الاحتمالات في سياق الصراع القائم.فما هي هذه الملفات؟وما هي الخلفيات التي وقفت ورائها إسرائيل لتنفيذ اعتداءاتها على لبنان؟وما هي نتائج العدوان؟ والى أين يمكن أن تسير الأمور في هذه الملفات؟.

وعلى الرغم من الوعود الدولية المتكررة لحل هذه الملفات،إلا أنها لم تأخذ طريقها للحل،بل بذلت إسرائيل كل ما بوسعها لـتأزيم العديد من مفاصل تلك الملفات،بدء بملف مزارع شبعا وتلال كفر شوبا مرورا بملف الأسرى وصولا إلى ملف خرائط الألغام والخروق الإسرائيلية المتكررة جوا وبحرا وبرا للسيادة اللبنانية.

أولا: مزارع شبعا وتلال كفر شوبا

حين انتهت اللجنة الدولية لترسيم الحدود الدولية من أعمالها الميدانية أواخر صيف العام 2000، دأب خبراء الأمم المتحدة ومن جانب واحد على ترسيخ خطاب صارم وجازم، مفاده أن الجبهة الأمنية المفتوحة بين لبنان و"إسرائيل" أغلقت إلى غير رجعة. ولم يتنبَّه هؤلاء، ومعهم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان ناهيك عن الاميركيين والإسرائيليين بصفة خاصة، إلى أن خط الانسحاب الإسرائيلي المعروف بـ "الخط الأزرق" لم يكن سوى خط هدنة جديد.‏

لقد أخذ الجدل القانوني والسياسي موقعا لافتا في الأوساط المحلية والإقليمية والدولية حول البعد الجيو ـ استراتيجي لمزارع شبعا الواقعة عند مثلث حدودي بين لبنان وسوريا وفلسطين. وربما يكون التعامل الخاص مع موقعها يعود إلى التعقيدات والتداخلات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي مرّت بها قضية المزارع في امتداد زمن طويل.‏فبلدة شبعا تقع على السفوح الغربية لجبل حرمون قرب الحدود اللبنانية ـ السورية وعلى علو 1400 متر عن سطح البحر، وهي إحدى البلدات الكبرى في قضاء حاصبيا. وتعود أهميتها الاستراتيجية إلى خمسة عوامل :‏

ـ اتساع ملكيتها العقارية بحيث تقدّر بـ 200 كلم مربع، وتمتد من الجسر الروماني على نهر الحاصباني (علو 450 متراً) حتى جبل الشيخ (علو 2600 متر).‏

ـ موقعها المشرف على المنطقة، وبخاصة في مرتفعاتها، حيث بنى الإسرائيليون محطتهم الشهيرة للإنذار المبكر التي يمكن منها مراقبة محيط كبير من منطقة الشرق الأوسط تمتد من العراق حتى مصر. وبحكم هذه الصفة فهي حارسة البوابة الجنوبية ـ الشرقية للبنان.‏

ـ ثرواتها الزراعية وبخاصة الثروة المائية. فبالإضافة إلى وجود نبعين كبيرين في شبعا يغذيان المنطقة وصولاً إلى جديدة مرجعيون (نبع المغارة ونبع الجوز) فإن شبعا تقع على خط المياه الجوفية الرئيسة لجبل الشيخ حيث يوجد ثاني أكبر خزّان مائي في شرق المتوسط (بعد خزان صنين ـ الأرز) ومنه تتفجر ينابيع بانياس واللدان والوزاني التي تشكّل المصدر الرئيس لمياه نهر الأردن.‏

ـ كونها على مفترق الحدود بين ثلاث دول: لبنان وسوريا وفلسطين. وهذا ما يجعل ملكيتها (خاصة مزارعها الموجودة على مثلث الحدود) عرضة للتجاذبات السياسية الدولية. فترسيم الحدود، في منطقة فقيرة بالمياه، يأخذ في الاعتبار الوضعية المائية كمصلحة حيوية للدولة، ويعرّضها بالتالي للتجاذبات من أكثر من جانب، ومن ثم للقضم وفقاً للتطورات الدولية ولميزان القوى.‏

ـ كونها منطقة سياحية من الدرجة الأولى حيث يوجد فيها أجمل المناخ وأطيب الفواكه صيفاً، وفيها أفضل الأمكنة للتزلج شتاءً.‏

إن وضع شبعا المميز بالمعنى الجيو ـ إستراتيجي جعل من المنطقة الممتد، من إصبع الجليل إلى جبل حرمون، مكاناً مليئاً بالألغاز المتعددة وعدم الوضوح: في الحدود، في الإشارات، في الصور الجوية، في التحفظات، في الترسيم، إلى الانتماء والهوية. وكانت مزارع شبعا الأكثر معاناة، ولا تزال، باعتبارها واقعة في قلب المثلث اللبناني ـ السوري ـ الإسرائيلي.‏

ويعيد العديد من المؤرخين احتلال أراضي بلدة شبعا وغيرها من الأراضي التي استولت عليها "إسرائيل" إلى ما قبل قيام الدولة اليهودية بفترة طويلة، أي منذ حقبة حكم الإمبراطورية العثمانية، مروراً بالحقب التالية التي شهدت على السيطرتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية. وهي عملية مرّت بمراحل متعاقبة :‏

ـ الأولى: بدأت منذ مؤتمر بال 1897 وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى.‏

ـ الثانية: منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية.‏

ـ الثالثة: من عام 1967 حتى 1970 ثم إلى عام 1992.‏

المرحلة الأولى: بعد المؤتمر الذي عقدته المنظمات الصهيونية والذي اتخذت فيه قرارها النهائي، بإقامة دولة "إسرائيل" في فلسطين، بدأت هذه المنظمات تشجع اليهود على شراء الأراضي في فلسطين كعملية تمهيدية للسيطرة عليها وإقامة دولتهم فيها، وقد أصدر السلطان عبد الحميد "فرماناً" يقضي بمنع تطويب الأرض وبيعها لليهود في فلسطين. وكان ذلك سبباً لخلعه على ما تُبين ملفات الأحداث آنذاك. وفي هذه المرحلة لم تتمكن المنظمات اليهودية من الاستيلاء أو شراء أي قطعة أرض من أراضي مزرعة المغر، ولكنها استطاعت شراء بعض الأراضي في فلسطين، كما نالت وعداً من بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، هو الوعد الذي أصدره اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، المعروف بوعد بلفور.‏

أما المرحلة الثانية: حيث انتهت الحرب العالمية الأولى بسقوط الدولة العثمانية وزوال سيطرتها على المنطقة، حتى جاء جور الانتدابين الفرنسي على سوريا ولبنان والبريطاني على فلسطين والأردن والعراق، ليضع السيطرة المستأنفة على نشأة جديدة. وخلالها بدأ رسم الحدود وفق اتفاقية سايكس ـ بيكو، البريطانية ـ الفرنسية. وقد تطورت الحدود وتغيّرت لتخدم الحركة الصهيونية وأطماعها حيث كانت حاضرة ومتنبهة لتستعمل أشكال النفوذ والضغط كافة، لرسم الحدود التي تتوافق مع أهدافها. وبعد أن كانت منطقة الحولة بكاملها تابعة للنفوذ الفرنسي، والتي غالبية مُلاك الأراضي فيها من قضاءي مرجعيون وحاصبيا اللبنانيين في أول الأمر، ضمت هذه الأراضي إلى النفوذ البريطاني بين عام 1920 و1923 وذلك بموجب اتفاقات بين الدولتين المنتدبتين، لا سيما في مؤتمر سان ريمو 1920 واتفاق 29 تموز / يوليو 1920، ثم اتفاق تعديل الحدود الذي جرى في 23 حزيران / يونيو 1923. وبموجب هذه الاتفاقات تمَّ سلخ قسم كبير من الأراضي اللبنانية وضمها إلى فلسطين، بالإضافة إلى أراضي الحولة، حيث اقتطعت الاتفاقات المشار إليها شريطاً حدودياً شمل عدة قرى مع أملاكها، وهي المعروفة بالقرى السبع وهي: إبل القمح، هونين، النبي يوشع، قَدَسْ، المالكية، صلحا، طيربيخا. وبذلك حصلت القطيعة النهائية بين هذه الأراضي والأراضي اللبنانية. وعند قيام دولة "إسرائيل" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بفترة أي في العام 1948 خسرت بلدة شبعا جزءاً من أراضيها في سهل الحولة لا سيما تل القاضي وسواها من الأراضي. كما أن المنظمات الصهيونية حاولت مراراً شراء الأراضي من أهالي المغر والحولة من أبناء شبعا، لكنهم رفضوا بيع الأراضي رفضاً قاطعاً.‏

المرحلة الثالثة: وهي الأخطر بالنسبة إلى اغتصاب مزارع بلدة شبعا، فبعد الحرب العربية ـ الإسرائيلية التي جرت عام 1967 بفترة وجيزة بدأت "إسرائيل" تستولي على مزارع بلدة شبعا بالتدريج، وذلك تحت حجج واهية للاستيلاء على الأرض وضمها إليها. وقد فعلت ذلك مستغلة ضعف وجود الدولة في المنطقة بعد توقيع اتفاق القاهرة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فكانت تدمر بيوت هذه المزارع وتزيلها بخاصة بين عامي 1970 و1986.‏وقد ضمت "إسرائيل" أراضي هذه المزارع إليها بصورة تدريجية ، وأقامت الأسلاك الشائكة ومنعت أصحابها الشرعيين من استثمارها وحرمتهم من أملاكهم، وعلى هذا النحو فقد أهالي البلدة أملاكهم وأراضيهم الزراعية ومراعي الماعز وسائر المواشي، كما فقدوا مصادر الرزق الأساسية ونزحوا في كل اتجاه طلباً للرزق.‏

محطات الاحتلال

شكَّلت مزارع شبعا القضية الأولى في مسلسل الضم والاقتطاع اللذين مارستهما "إسرائيل" في لبنان. وتمتد هذه المزارع في الطرف الشمالي الشرقي لمنطقة العرقوب، على مساحة تزيد على 100 كلم مربع بطول 15 كلم وبعرض يراوح بين 7 و 10 كلم. وقد اجتاحتها قوات الاحتلال بعيد انتهاء الحرب العربية ـ الإسرائيلية في حزيران / يونيو 1967، ثم بدأت عملية الضم التدريجي على نحو يضعه الخبراء في سياق يمتد على عشر محطات:‏

- الأولى في الخامس عشر من حزيران / يونيو 1967 حين اجتاحت الدبابات الإسرائيلية المزارع الآتية: خلة غزالة ـ ضهر البيدر ـ رويسة القرن ـ جورة العقارب ـ فشكول. عندها أُجبر الأهالي بعد قتل أعداد منهم على إخلاء المزارع المشار إليها.‏

- الثانية في 20 حزيران / يونيو، وسّعت وحدات من جيش الاحتلال مجال تموضعها لتأخذ في طريقها مزارع قنوة ـ زبدين ـ والرمقا ـ وكان مصير الأهالي مشابهاً لمن سبقهم.‏

- الثالثة بدأت في 25 حزيران / يونيو 1967 حين استولت قوات الاحتلال الإسرائيلي على ما تبقى من مزارع شبعا ـ بيت البراق ـ برختا الحتا ـ برختا الفوقا ـ مراح الملول.‏

- الرابع 26 حزيران / يونيو 1967، في الواحدة بعد الظهر فجّرت قوات الاحتلال المنازل والزرائب في كل المزارع.‏

-الخامسة في آب /أغسطس 1967 أحرقت "إسرائيل" البساتين والحقول ودمّرت مشهد الطير، وهو مقام النبي إبراهيم (ع).‏

- السادسة جرت في صيف عام 1972، إذ تم تسييج المزارع بالأسلاك الشائكة والألغام، واستتبعت للأراضي الفلسطينية المحتلة.‏

- السابعة في غمرة المواجهة الإسرائيلية ـ السورية عام 1973، اقتطعت "إسرائيل" عدداً من المواقع اللبنانية في مرتفعات جبل الشيخ أهمها في خراج بلدة شبعا: جورة العليق، وبركة النقار، والسواقي، وتلة السدانة، الواقعة بين شبعا والهبارية، وتتميز بموقعها الاستراتيجي المهم الذي يطل على القطاع الشرقي كله، وصولاً إلى محيط قلعة الشقيف ومنطقة النبطية.‏

- الثامنة عام 1975 تقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي شمالي شرق كفرشوبا من جبل الشميس الذي يشرف على عموم القطاع الشرقي. وباحتلاله صارت كفرشوبا في وضع عسكري بالغ الحرج، وصارت سائر منطقة العرقوب ومرجعيون تحت التهديد الجدي. ولقد بات معروفاً أن هذه الأراضي المقتطعة من العرقوب خارج حالة المزارع كانت قد استبيحت بشكل دائم أمام حركة الدوريات الإسرائيلية، وصارت ميداناً حراً ابتداءً من عام 1975.‏

- التاسعة وكانت الأهم في تطور مراحل احتلال المزارع. ففي العام 1985 بدأت أول عملية استيطانية في مزارع شبعا حيث أقيمت مستوطنتان ليهود الفالاشا في مزرعتي رويسة القرن وزبدين تحت إشراف الحاخام مئير كاهانا، إضافة إلى منتجع سياحي للتزلج في منطقة مقامر الدود، وتم اختيار هاتين المزرعتين لتميزهما بمناخ دافئ يتأقلم معه المستوطنون اليهود الأفارقة. وكذلك لتمتعهما بتربة خصبة وقربهما من سهل الحولة، لقد استوعبت البيوت الجاهزة في المستوطنتين قرابة 3000 يهودي سرعان ما بدأوا بالسطو على مواشي وأرزاق أهالي العرقوب والقيام بأعمال السلب لمواسم المزارعين ومقتنياتهم .‏

- العاشرة واستكمالاً للاقتطاع التام لمزارع شبعا، أقدمت "إسرائيل" في موازاة السيطرة على المنطقة المشار إليها في محيط العرقوب، على إحكام السيطرة على كامل المزارع بطرد ما تبقى فيها من سكان .

هوية المزارع‏

عندما انتهت الأمم المتحدة من ترسيم ما يسمى "الخط العملي" للحدود مع فلسطين المحتلة، وهو ما عرف "الخط الأزرق" حتى انطلق سجال قوي من نوع جديد قادته الأمم المتحدة ومعها الولايات المتحدة الاميركية حول وجوب أن يوقّع لبنان على خطوط الحدود الجديدة. وفيما بدا أن الحكومة اللبنانية تحفظّت على هذه الخطوط بسبب بقاء جزء من الأراضي اللبنانية في منطقة العرقوب الجنوبية الشرقية تحت الاحتلال، بدأت حملة محمومة في الأمم المتحدة تشكك بلبنانية مزارع شبعا، وبأن هذه المزارع لا تدخل في نطاق عمل القرار 425 كونها احتلت في حرب العام 1967، ويرتبط مصيرها بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 المتعلق بالتسوية الشاملة للصراع العربي ـ الإسرائيلي.‏

في هذا الوقت كانت وزارة الخارجية اللبنانية تنقل معلومات عن أوساط في الأمم المتحدة تطلب من لبنان وسوريا التقدم بكتاب خطي حول مسألة ترسيم الحدود بين البلدين على أن يودع هذا الكتاب أو الاتفاقية في الأمم المتحدة. وفي ضوء ذلك الكتاب تقرر المجموعة الدولية لمن تعود أحقية مزارع شبعا. يومئذٍ لفتت المصادر إلى أن هذه الاتفاقية تعتبر بمثابة اعتراف وإقرار سوري بأن هذه الأراضي هي أرض لبنانية، وخصوصاً أن الكتاب الذي تقدم به ممثل سوريا في الأمم المتحدة السفير مخايل وهبة في أواسط تشرين الثاني / نوفمبر 2000 حول مزارع شبعا يطالب المجتمع الدولي بالعمل على إخراج الاحتلال الإسرائيلي منها .‏

وفي حين لم تقتنع أوساط الأمين العام كوفي أنان بكفاية الكتاب المقدّم من السفير السوري، شككت هذه الأوساط بلبنانية المزارع وقالت: إنه عندما احتلت "إسرائيل" الأراضي اللبنانية عام 1967 وحتى اجتياحها للأراضي اللبنانية عام 1978 لم يتقدم لبنان طوال هذه الفترة الطويلة بأي شكاوى إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن حول احتلال "إسرائيل" لهذه المزارع، إضافة إلى أن مزارع شبعا لا تدخل في نطاق القرار 425 ولم تبحث في حينه، فالأمم المتحدة ترى اليوم أن القرار قد طبّق. وعندما حصلت المفاوضات بين لبنان والأمم المتحدة قبل الانسحاب الإسرائيلي لتحديد الخط الأزرق طلبت المجموعة الدولية من لبنان وسوريا التقدم بكتاب خطي أو معاهدة بين الدولتين لبّت مسألة لبنانية مزارع شبعا. فهذه المزارع هي في نظر الأمم المتحدة أرض لا سيادة لها. فقد تكون المزارع سورية، حيث كان السوريون فيها قبل الاحتلال الإسرائيلي لها عام 1967، وقد تكون لبنانية إذا جاز المغزى القانوني لاعتماد مبدأ الملكية والوجود .

لقد ظهرت الحجة الإسرائيلية في هذه القضية على خط موازٍ مع ما تسوقه الأمم المتحدة من وجهات نظر. غير أن المنطق الإسرائيلي كان بطبيعته أشد حرصاً على امتلاك المزيد من الذرائع التي تتيح له جعل قضية المزارع خارج دائرة ترسيم الحدود مع لبنان، وبالتالي على أن تكون عديمة الصلة بروح القرار 425 وتطبيقاته .

أن الحجة الإسرائيلية في شأن المزارع لم تصل إلى درجة اعتبارها جزءاً ما يسمى أرض "إسرائيل". لكنها تسعى إلى توظيفها في سياق أي تسوية مفترضة مع سورية. وعليه بحسب هرئيل أن "إسرائيل" لا تزعم أن مناطق شبعا هي جزء من "إسرائيل"، ولا تطالب بأي ملكية لها هناك. وتدعم موقف الأمم المتحدة القائل بأن مزارع شبعا هي أراضٍ احتلت عام 1967 واقتطعت من سوريا، علماً أن هناك قرية واحدة من هذه المزارع احتلت عام 1982 وكان فيها قوة سورية ما زالت موجودة هناك. وفي إطار سعيه لتأكيد ذريعة الاحتلال يؤكد الكاتب الإسرائيلي تسفي هرئيل: أن أكثر من 15 ألف مواطن لبناني كانوا يعيشون في المزارع من قبل أن تحتلها "إسرائيل"، ومعظمهم غادرها، ولم يبق إلا بضع عشرات من الذين يعيشون من الزراعة. على أي حال فإن مؤدى الحجة الإسرائيلية يركز على التعامل مع قضية المزارع كباب من أبواب اللعبة المفتوحة على الجبهتين اللبنانية والسورية، بحيث إن الحرص على بقاء هذا الجزء تحت سلطة الاحتلال غايته إبقاء خيط وصل تفاوضي مع الحكومة اللبنانية يفتح على قضايا أساسية مثل معاهده السلام والتطبيع والمياه والترتيبات الأمنية وسواها؛ بالإضافة إلى هدف آخر أساسه تحويل هذه الثغرة الواقعة على مثلث الحدود المشتركة اللبنانية ـ الفلسطينية ـ السورية إلى مجال جيو- سياسي وأمني للضغط على سوريا.‏

وما يؤكد ذلك ما نقله المبعوث الدولي إلى لبنان تيري رود لارسن من شروط إسرائيلية إلى المسؤولين اللبنانيين، وفقا للتالي :‏

- أولاً: إن "إسرائيل" لا تعتبر مزارع شبعا مشمولة بالقرار 425، وبالتالي فإنها احتلت هذه الأراضي قبل هذا التاريخ، وخلال حرب 1967. إضافة إلى أن هذه الأراضي غير لبنانية، وأن "إسرائيل" ستتفاوض بشأنها مع سوريا من ضمن القرار 242 وفي إطار مفاوضات السلام الشامل، وان "إسرائيل" أعلنت من خلال الرسالة التي وجهتها إلى كوفي أنان، أنها ستعمل على تنفيذ القرارين 425 و426، وعلى تراجع جيشها إلى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً، وتعود بالتالي إلى الحدود التي كانت عليها عام 1978، وهذا يعني أنها تحتفظ بمزارع شبعا كونها كانت تحتلها قبل ذلك التاريخ.‏

- ثانياً: يشترط الإسرائيليون للانسحاب أن يتم انتشار القوة الدولية في المناطق التي ستنسحب منها، على إن تتخذ مواقعها في هذا "الجيب"، كما يفترض إقامة ثلاث نقاط أو أكثر لمنطقة حقوق الإنسان لمنع حصول أعمال انتقامية على هذه المجموعات. وهكذا يتم الانتشار الدولي قبل الانسحاب الإسرائيلي بحيث عندما تنجز القوة الدولية انتشارها ينسحب الجيش الإسرائيلي.‏

- ثالثاً: لا بد من أن تقوم المنظمة الدولية بمسؤولياتها وفق ما يشير إلى ذلك القرار 426 وتتولى القوة الدولية الموجودة في الجنوب مهماتها ودورها في تأمين انسحاب إسرائيلي بظروف هادئة، وفي أجواء طبيعية، لذلك قد تعطى هذه القوة صلاحيات جديدة، وبتوسيع إطار مهمتها تبقى من اهتمام الأمين العام للأمم المتحدة كوفي.‏

وهكذا، فإن أكثر الذين تابعوا تحوّلات الموقف الإسرائيلي حيال مزارع شبعا اتفقوا على خلع صفة الغموض عليه. فالجدل حول فضائل الانسحاب وسلبياته ظل على احتدامه بين القوى والتيارات المختلفة في "إسرائيل".

الحجج اللبنانية

يستند لبنان في مواقفه حول مزارع شبعا وأحقية سيادته عليها إلى عدة أسس : في مقدمها أن هذه الأرض احتلت بالتدريج في ظل المناخ ألاحتلالي الذي فرضته حرب حزيران / يونيو 1967. ولئن كانت الحجة الإسرائيلية تقوم على أن هذه الأرض قد جرى احتلالها استتباعا بهضبة الجولان السورية، فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنها جزء من الهضبة، ولو كان احتلالها قد تمَّ لدواعٍ عسكرية واستراتيجية. أما فيما يتعلق بالادعاء بما إذا كانت المزارع لسوريا أو للبنان فبالتأكيد إن المزارع ليست "لإسرائيل". ثم إن لبنان يملك صكوكاً موجودة لدى الدوائر العقارية في مدينة صيدا تؤكد لبنانية المزارع.‏

هناك مثلاً أراضٍ تابعة للأوقاف الإسلامية مثل "مشهد الطير"، وهناك ولاية قضائية، حيث كان القضاة يذهبون إلى هناك للتحقيق في قضايا مختلفة وجرائم. فلو كانت أرضاً سورية لما ذهب إليها قضاة لبنانيون، في هذا الإطار يتحدث الخبراء والباحثون عن عدد من نقاط القوة، منهم من كان يقول: "إن لدينا قرار الجنرال غورو للعام 1920 الذي يقول إن حاصبيا جزء من لبنان، ثم بعد ذلك معطيات المساحة لهذه الأراضي وهوية السكان، وهما موجودتان في لبنان. فصكوك الأراضي تؤخذ من الدوائر العقارية في صيدا، والمزارع مثل الرمتا، القفوة، الفشكول، مغر شبعا، مزارع زبدين والنخيلة، كانت فوق النقطة 39. لذا فإن حدودنا لم تكن قد وصلت إلى الحاصباني بترسيم بوليه ـ نيو كمب عند جسر الغجر. فنحن هنا وصلنا إلى بانياس. ولو كانت هذه النقطة غير لبنانية لكانت الحدود توقفت عند الحاصباني". أما وأن الحدود بعيدة عن الحاصباني لمسافة كيلومترين ونصف الكيلومتر تقريباً، على بعد قليل من بانياس، فيعني ذلك أن المناطق التي تقع وراءها هي لبنانية. وما يؤكد ذلك هو القرار الإداري للسراي الحكومي عام 1925 حيث نظم لبنان محافظات ومديريات، ومؤداه أن النخيلة لبنانية، وهي تقع تحت المزارع. ولو عدنا إلى خريطة العام 1920 لوجدنا أن هناك مشروع خط انطلاقاً من بانياس وليس انطلاقاً من الحاصباني.‏

ومن النقاط المستند إليها أيضا، ما يعود إلى العام 1949 حين جرى تجديد ترسيم الحدود بين لبنان و"إسرائيل". ويبين الخبراء استناداً إلى حشد من الخرائط والوثائق: "أنه في أقصى نقطة شرقية للحدود الإسرائيلية ـ اللبنانية لا توجد علامة بتاتاً لذا يجب وضعها". في حين يوصي الخبراء بوضع حجر وعلامة (A) جنوب محور الجسر والضفة الغربية من النهر، والكلام عن نهر اللدان. إن هذه الوثيقة المتعلقة بإحياء ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا تؤكد أن بدء الحدود اللبنانية هو قرب بانياس وليس قرب الحاصباني. وهناك خريطة وضعها العالم الجغرافي الفرنسي "دوبرتريه" في العام 1943 تثبت أن الحدود لا تبدأ من الحاصباني، وإنما من منطقة قريبة من بانياس السورية. كذلك ثمة مؤرخ إسرائيلي (موشيه براور) وهو من أهم الجغرافيين المتخصصين بمسائل الحدود يقول في كتابه "حدود إسرائيل" إن مزارع شبعا هي منطقة متنازع عليها. فهناك خرائط تقول إنها للبنان وخرائط تقول إنها لسوريا..‏

ثمة قرائن وحجج قانونية موثقة تؤكد ما أخذ به لبنان الرسمي في إظهار لبنانية المزارع وأحقية السيادة عليها، ومنها :‏

- أولاً: "في إحدى الخرائط المرسومة عام 1932 يبدو مكان التقاء الحدود الاسرائيلية ـ السورية ـ اللبنانية، أسفل جبل الشيخ، على بعد مئات من الأمتار شمال قرية بانياس، ويمتد من هناك في خط مباشر تقريباً لمرتفعات الجبل وفي ضوء هذه الخريطة فإن المناطق الواقعة بين مجرى نهر الحاصباني، وبين جنوب جبل الشيخ تعود جميعها للسيادة اللبنانية".‏

- ثانياً: إذا كان صحيحاً أن بعض الخرائط قد وضعت نسبة غير قليلة من مزارع شبعا ضمن الحدود السورية، وأوصلت الحدود السورية ـ اللبنانية ـ الإسرائيلية إلى نهر الحاصباني، فإن خرائط أخرى لحظت وجود نقطة تلاقي الحدود السورية ـ اللبنانية ـ الإسرائيلية بين بانياس والحاصباني، فعلى سبيل المثال لا الحصر إن خريطة لبنان الطبيعية الصادرة عام 1943 (400000/1) من قبل L.Dubertret رئيس القسم الجيولوجي في فترة الانتداب، تؤكد أن مزارع شبعا هي ضمن الأراضي اللبنانية.‏

– وسائل الإثبات

كثر الحديث عن الطرق الممكنة لتحديد ملكية مزارع شبعا وبالتالي لمن السيادة عليها،وقد طرح البعض اللجوء إلى محكمة العدل الدولية كأحد الخيارات الدبلوماسية فيما طرح البعض الآخر الاحتذاء بنموذج منطقة طابا في صحراء سيناء كوسيلة للاسترداد،وفي كلا الحالتين ثمة عقبات جمة إن لم يكن استحالة اللجوء إليها.فما هي محكمة العدل الدولية وحدود اختصاصاتها وإحكامها؟وهل يمكن اللجوء إليها في مثل هذه الحالة لترسيم الحدود؟وما هي حقيقة الخيار الآخر وأبعاده وخلفياته؟ .

- في محكمة العدل الدولية

تعتبر محكمة العدل الدولية الهيئة القضائية الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة،وقد استمد نظامها الخاص من النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي الذي وضع إبان عصبة الأمم.وكما هو معلوم يعتبر النظام الأساسي للمحكمة جزءا لا يتجزأ من ميثاق الأمم المتحدة.

وللدول وحدها الحق في أن تكون إطرافا في الدعاوى التي ترفع إلى المحكمة،والدول المشتركة في النظام الأساسي للمحكمة تمتلك حق التقاضي مباشرة أمامها.وهذه الدول تتكون من جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ومن الدول غير الأعضاء التي تنضم للنظام الأساسي بالشروط التي تحددها الأمم المتحدة بناء على توصية من مجلس الأمن.أما بقية الدول فلا تستطيع اللجوء إلى المحكمة إلا بناء على شروط يحددها مجلس الأمن الدولي على أن لا يكون بين هذه الشروط ما يخل بمبدأ المساواة بين المتقاضين أمام المحكمة.

وولاية المحكمة لا تمتد إلى غير المسائل التي اتفق المتقاضون على إحالتها إليها قبل قيام النزاع أو عند قيامه. فالمادة (36) من النظام الأساسي تنص على أن ولاية المحكمة تشمل جميع القضايا التي يرفعها المتقاضون إليها كما تشمل جميع الحالات المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق الأمم المتحدة،أو في المعاهدات والاتفاقيات المعمول بها.فيما المادة (95) من ميثاق الأمم المتحدة تنص على انه لا يوجد في الميثاق ما يمنع لجوء الدول إلى أي محكمة أخرى بموجب اتفاقات سابقة بين الدول أو باتفاقات يمكن ان تنشا لاحقا، أي بمعنى أن الميثاق قد وسّع الخيارات ولم يحصرها باللجوء إلى محكمة العدل الدولية.

والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه هنا، هل اختصاص المحكمة اختياري أم إلزامي؟ أي هل على الدول أن تلجأ إليها عند حدوث نزاع أم لا، وبالتالي هل اختصاصها هو جبري؟.في الواقع رفضت الدول الكبرى إلزامية اختصاصها،ونتيجة العديد من المداولات اقر الرأي على أن يكون اختصاصها إلزاميا لمن يقبل به بتصريح خاص.فالمادة (36) تنص على انه يحق للدول الأطراف في النظام الأساسي أن تصرح في أي وقت ودون الحاجة إلى اتفاقية خاصة بأنها تقر للمحكمة بولايتها الجبرية في جميع المنازعات القانونية التي تقوم بينها وبين دول تقبل الالتزام نفسه متى كانت هذه المنازعات القانونية تتعلق بالأمور التالية:تفسير معاهدة من المعاهدات،أية مسألة من مسائل القانون الدولي،أي آمر يعتبر خرقا لالتزام دولي،وطبيعة التعويض ومقداره عن خرق لالتزام دولي.وبطبيعة الأمر تعني هذه المادة انه إذا قام نزاع بين دولتين من هذه الدول حول مسألة من المسائل السالفة الذكر، فليس هناك من ضرورة على عقد اتفاق خاص لعرض الموضوع على المحكمة ويكفي لأي دولة طرفا في النزاع أن ترقع دعواها إلى المحكمة حتى يكون لها حق النظر فيها.وعليه ليس للمحكمة حق النظر عفوا في النزاعات.

كما أن للمحكمة اختصاص استشاري لقضايا يمكن أن تعرض غليها من قبل أجهزة الأمم المتحدة أو إحدى وكالاتها،وكذلك الدول،وتصدر فتواها وبطبيعة الأمر ليست ملزمة إلا لمن قبل سلفا بالرأي أو الفتوى التي يمكن أن تصدرها المحكمة.أما حكم المحكمة فيعتبر نهائيا وغير قابل للمراجعة إلا في حال الالتماس التي يجب أن يتوفر له شرط ظهور وقائع حاسمة جديدة لم تكن متوفرة أثناء مداولات المحكمة على أن لا تكون هذه الوقائع كانت موجودة ومهملة من قبل الطرف المتضرر.

- في موضوع مزارع شبعا والاتفاقات التي تحكمها

في 31 آب عام 1920 أصدر الجنرال الفرنسي غورو قراراً تحت الرقم 318 عرّف حدود لبنان الشرقية بحدود الأقضية ومنها قضاء حاصبيا، وقد تأكيد ذلك من المادة الأولى من الدستور اللبناني الصادر عام 1926،الذي جاء فيه أنها تتبع: ".. حدود أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الشرقية".‏‏

وخلال الانتداب الفرنسي أغْفل خط الحدود المرسوم في العام 1923 ذكر تبعية هذه المزارع، ووضعتها بعض الخرائط ضمن الأراضي السورية، وفي عام 1946 وجهت الحكومة اللبنانية مذكرة إلى الحكومة السورية بهذا الخصوص. وجاء الرد السوري بموجب مذكرة رسمية تحت الرقم 574 بتاريخ 29/9/1946، ليؤكد أن ما حصل خطأ فني بحت، وأن مزارع شبعا هي أراضٍ تحت السيادة اللبنانية، واستتبع ذلك تأليف لجنة سورية- لبنانية عام 1949 برئاسة وزير الدفاع اللبناني آنذاك مجيد أرسلان، واتفقت اللجنة على اعتبار مزارع شبعا جزءًا من الأراضي اللبنانية. وقبل وخلال حرب العام 1967 وقعت معظم هذه المزارع تحت السيطرة الإسرائيلية، وتم قضم بقيتها من قبل الاحتلال على مراحل منذ عام 1970 وحتى 1992.‏‏

كما أكدت الدولة اللبنانية عقب الانسحاب الإسرائيلي في 25 أيار 2000، في رسالة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة أن "الانسحاب الإسرائيلي جاء منقوصاً لأن مزارع شبعا ما زالت محتلة، وبالتالي يحتفظ لبنان بحقه في القيام بكل الإجراءات الدبلوماسية وغير الدبلوماسية لاستكمال تحرير ما تبقى من أراضٍ محتلة، وجاء في الجواب اللبناني: "إن الحكومة اللبنانية ما كانت لتحجم عن اتخاذ أي تدبير من شأنه تكريس حق لبنان في مزارع شبعا، وتوثيق هذا التكريس على الصعيد الدولي، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي لهذه المزارع يحول دون تمكين الجانبين اللبناني والسوري من الدخول إلى المزارع المذكورة لترسيم حدودها، على الطبيعة أولا، ومن ثم تكريس هذا الترسيم بموجب خرائط يوافق عليها الطرفان".‏‏

وفي مذكرة بعث بها رئيس الجمهورية العماد إميل لحود إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 4/5/2000 جاء ما نصه حرفياً: إن "تنفيذ القرارين 425 و426 يستوجب انسحاب "إسرائيل" الكامل من الأراضي اللبنانية إلى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً من دون قيد أو شرط. وهذه الحدود هي التي تم ترسيمها عام 1923 مع فلسطين، والانسحاب الكامل يجب أن يشمل أيضاً مزارع شبعا. وأي تجاوز لهذه الحدود يعني أن إسرائيل لم تنسحب بموجب القرار 425، وأن تراجعها في تلك الحال يشكل إعادة انتشار وليس انسحاباً".‏‏

وفي مذكرة أخرى للرئيس إميل لحود موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 9/6/2000 جاء ما نصه حرفياً: "أما بالنسبة إلى مزارع شبعا فقد كان واضحاً في تقرير سعادة الأمين العام بتاريخ 22/5/2000 أنه اعتمد خطاً عملياً في تلك المنطقة في ضوء عدم توافر خرائط قديمة تؤكد الحدود هناك بين لبنان وسوريا. وعلى هذا الأساس اعتبر الخط العملي هو الخط الفاصل ما بين انتداب "اليونيفيل" وانتداب "الأوندوف"، مع إشارة الأمم المتحدة إلى أن هذا الخط العملي لا يمكن اعتباره في أي حال يمس الحقوق الحدودية المتبادلة بين الأطراف المعنيين. ولقد وافق لبنان على هذا التقويم في انتظار أيجاد صيغة مشتركة لمنطقة المزارع موقعة بينه وبين سوريا لتقديمها إلى الأمم المتحدة".‏‏

ومن الناحية القانونية تعتبر قرية شبعا ومزارعها مسجّلة في الدوائر العقارية اللبنانية وأهلها مكلفون كغيرهم بالضرائب للدولة اللبنانية. وهي وحدة عقارية، كما صكوك الملكية والإفادات العقارية التي يحملها سكانها تصدر عن الدوائر الرسمية في مدينة صيدا. وتؤكد القوانين اللبنانية الصادرة في فترة الانتداب، ومنها القانون الصادر في 20 نيسان 1928، صلاحية سلطة محكمة حاصبيا البدائية التي كانت تمتد على كامل قرى مديرية حاصبيا ومنها شبعا ومزارعها، وثمة دعاوى مدنية وجزائية وجنائية في شبعا ومزارعها بتت بها محاكم البداية والاستئناف والتمييز. كما ثمة مستندات جمركية ورخص بناء لأهالي من هذه المزارع صادرة عن قائمقام مرجعيون.‏‏

وفيما يختص بالسيادة فقد مارستها الدولة اللبنانية على مزارع شبعا منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، خلال عهد الانتداب الفرنسي وبعد استقلال لبنان عام 1943، وكان القضاء اللبناني يمارس صلاحياته كاملة على هذه المزارع. وتؤكد تقارير الدرك في جنوب لبنان، أن شبعا ومزارعها ظلت حتى تاريخ 14/9/1965 تحت السلطة اللبنانية المباشرة، إلى أن حالت الحوادث الأمنية والظروف الناتجة عن التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين من الأرض المحتلة عام 1967 إلى نشوء واقع أمني حال دون تمكين السلطة من ممارسة أدائها الميداني، ولم يصدر أي قرار عن الحكومة يشير إلى تخلي لبنان عن سيادته عليها.‏‏ إضافة إلى ذلك ثمة العديد من الستندات القانونية منها:

- بتاريخ 29/9/1946 بعثت سورية إلى الحكومة اللبنانية رسالة تحمل الرقم (52-124) 574 تقول أن مزارع شبعا أراض تحت السيادة اللبنانية خلافاً لما ورد في بعض الخرائط.

- وفي عام 1950 طلبت السلطات السورية من أهالي مزارع شبعا وجوب الحصول على إذن مرور من اجل الدخول إلى المناطق السورية المحاذية للمزارع.

- وفي 1955 سمحت الحكومة اللبنانية من خلال ممثلها في اللجنة اللبنانية – السورية العقيد جميل الحسامي للسوريين بوضع مركز مراقبة عسكري في مزرعة زبدين وعرف باسم "مخفر زبدين المؤقت" ذلك للضرورات الأمنية ومنع التهريب. كذلك تؤكد محاضر اللجان المشتركة اللبنانية – السورية بتاريخ 27/2/1964 و21/2/1967 أن الحدود العقارية والإدارية لأقضية حاصبيا وراشيا وبعلبك هي الحدود الدولية بين البلدين وبالتالي مزارع شبعا هي ضمن الحدود العقارية لقضاء حاصبيا.

- كما أكدت الحكومة السورية موقفها كتابةً في رسالة إلى الأمم المتحدة بتاريخ 25 تشرين الأول 2000 أوردت فيه: "إن الذي يهدد الأمن والسلم في المنطقة هو استمرار تجاهل إسرائيل قرارات الشرعية الدولية وبخاصة قراري مجلس الأمن 242 و338 وعدم استكمال انسحابها من الجنوب اللبناني إلى الحدود المعترف بها دوليا، بما في ذلك مزارع شبعا واستمرار احتلالها للأراضي العربية بالقوة منذ حزيران 1967...".‏‏

كما حسم الرئيس السوري بشار الأسد في مؤتمر صحافي عقده في ختام زيارته إلى باريس في 27 حزيران عام 2001 لبنانية المزارع، حيث أكد أن "من يحدد جنسية هذه المزارع في القانون الدولي هما الدولتان الموجودتان على جانبي الحدود أي لبنان وسوريا، أما الأمم المتحدة فيمكن أن نسميها مستودعاً للاتفاق النهائي بين هاتين الدولتين" ويضيف الرئيس الأسد: ".. نحن أعلنا بشكل رسمي أن مزارع شبعا لبنانية، وهذه المناطق هي محتلة الآن.. وفي المستقبل بعد أن يتم تحديد الحدود تقوم الدولتان بتسجيل هذا التحديد في الأمم المتحدة".‏‏

- ملاحظات ومقاربات

من كل ما سبق يمكن إدراج بعض الملاحظات أبرزها:

- إن الملكيات العقارية لمزارع شبعا هي لبنانية وفقا للقوانين المرعية الإجراء في لبنان كما هو مبين بالوقائع والتواريخ،كما أن لبنان قد مارس سيادته الفعلية عليها ولم يتمكن من ذلك في بعض الفترات في ظل الاحتلال الإسرائيلي لهذه المزارع،ومن المعروف وفقا لمبادىء وأعراف القانون الدولي إن الاحتلال لا يلغي سيادة الدولة بأي حال من الأحوال مهما طال زمن الاحتلال وبالتالي تظل حقوق السيادة اللبنانية على مزارع شبعا قائمة من الناحية القانونية بصرف النظر عن الحالة الواقعية الموجودة نتيجة الاحتلال الإسرائيلي.

- لقد أكدت العديد من المذكرات المتبادلة بين لبنان وسوريا وكذلك بين سوريا والأمم المتحدة وكذلك في تصريحات العديد من المسئولين السوريين أن مزارع شبعا هي لبنانية وليست سورية،ومن الثابت كذلك في الأعراف والقوانين الدولية والدبلوماسية، إن المذكرات المتبادلة وكذلك التصريحات التي يدلي بها مسئولون رفيعو المستوى تعتبر وثائق رسمية تلزم أصحابها؛وبالتالي إن هذه النوع من المذكرات والتصريحات هي وثائق رسمية بطبيعتها ويمكن الاستناد إليها لمن يرغب ،الأمر الذي يسقط ضرورة المطالبة من بعض الأطراف اللبنانيين الطلب من سوريا إثبات لبنانية مزارع شبعا،وكأن الأمر في معرض لزوم ما لا يلزم،أو ضرورة تأكيد ما هو مؤكد.

- إن السيادة في القانون الدولي يمكن تثبيتها في العديد من المظاهر ،أبرزها عبر ممارسة الدولة لسلطاتها الأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والقضائية والإدارية.ففي الشق الأول فقد مارست الدولة اللبنانية سيادتها الأمنية والعسكرية في مزارع شبعا كما أسلفنا ولم تتخلى عنها طوعا إنما الظروف الأمنية والعسكرية التي نتجت عن تواجد المقاتلين من مختلف التنظيمات الفلسطينية في تلك المناطق أدى إلى ضمور الدور الأمني والعسكري اللبناني ،كما وتلاشى هذا الدور مع احتلال إسرائيل للمزارع في حرب العام 1967،وان خطأ أو إهمال لبنان في عدم المطالبة في أراضيه ألمحتله قد عقد الأمور أكثر وأكثر،ويعتبر هذا الإهمال محاولة لبنان في تلك الحقبة من تاريخه السياسي إبعاد نفسه عن الصراع العربي الإسرائيلي قدر الامكان،ولكن في أي حال من الأحوال فإن الاحتلال في القانون الدولي لا يلغي السيادة مهما طال أمد الاحتلال وبالتالي تظل هذه الأراضي لبنانية. أما الشق الثاني والمتعلق في الصلاحيات المالية والاقتصادية فمن المعلوم أن سكان مزارع شبعا يدفعون الضرائب والرسوم للدولة اللبنانية، وسندات الملكية لهذه الأراضي تصدر عن الدوائر العقارية المختصة اللبنانية.وفي الشق الثالث والمتعلق بالصلاحيات القضائية فان محاكم البداية والاستئناف والتمييز تمارس صلاحياتها في المنطقة وفقا للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء.أما الشق الرابع والمتعلق بالوضع الإداري فجميع قرى هذه المزارع هي مسجلة في إطار القانون الإداري كوحدات إدارية لها حقوقها وواجباتها علاوة على أن هذه القرى قد جرى فيها انتخابات بلدية وشاركت في الانتخابات النيابية على مر السنوات الماضية.وبذلك هذه الأراضي تخضع للسيادة اللبنانية.

- أما غريب المفارقات في هذه القضية أن ليس ثمة أي سابقة دولية في معرض نزاعات الدول الحدودية، أن فريقا داخليا يدعي عدم ملكية وسيادة دولته على ارض معينة ويطلب من الدولة الأخرى إثبات عدم ملكيتها وسيادتها،بينما السائد والشائع هو العكس بين الدول.والأغرب في ذلك أيضا أن هذا المطلب يصب في مصلحة العدو المحتل ويعتبر مطلبا استراتيجيا له.

أما فيما يختص باللجوء إلى محكمة العدل الدولية فللوهلة الأولى يظن البعض أن ما أدرجناه من اختصاصات لمحكمة العدل الدولية تنطبق على موضوع مزارع شبعا، إلا أن الأمر مختلف تماما للعديد من الأسباب والاعتبارات أبرزها:

- ليس ثمة نزاع حدودي دولي بين سوريا ولبنان أقله بخصوص مزارع شبعا،والخلاف هنا قائم في تفسير بعض اللبنانيين حول سيادة الدولة اللبنانية عليها وليس ملكيتها في الأساس؛ وبالتالي إن اللجوء للمحكمة يتطلب أولا قرارا رسميا لبنانيا بذلك إذ من حق الدول اللجوء إلى المحكمة وليس الأفراد أو الفئات السياسية ضمن الدولة.الأمر الذي يعني أولا وأخيرا وجوب التوافق بين مختلف التيارات السياسية اللبنانية لاتخاذ قرار رسمي باللجوء لهذا الخيار إذا تأمن.

- ليس ثمة نزاع على تفسير معاهدة أو اتفاق بين لبنان وسوريا على مزارع شبعا،ففي هذا القسم بالتحديد من الحدود ثمة اعترافا سوريا موثقا بلبنانيتها،كما أن هذه القضية لا تعتبر خرقا أو انتهاكا لمبدأ قانوني دولي يمكن للبنان وحده اللجوء إلى المحكمة وإلزام سوريا بما يمكن إن يصدر من أحكام.

- وتأسيسا على ما سبق لجهة عدم وجود أي خرق لمبدأ قانوني دولي فلا يجوز للمحكمة النظر في مثل هذه القضايا عرضا وإصدار أحكام من دون موافقة الدولتين المعنيتين بهذا الموضوع.

- ولو سلمنا جدلا أن ثمة مشكلة بين لبنان وسوريا من الناحية القانونية وتمَّ الاتفاق على اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وصدرت بها حكم معين فكيف يمكن تطبيقه من الناحية العملية في ظل الاحتلال الإسرائيلي لهذه المزارع.وما هي القيمة العملية لأي خريطة يتمّ الحِكم بها من دون تنفيذها على الأرض؟فكيف سيتم وضع المعالم الحدودية من قبل التقنيين والطبوغرافيين وهل ستنسحب إسرائيل لتنفيذ هذا الحكم؟ثمة قرارات دولية عمرها من عمر الكيانات السياسية في المنطقة ولم تطبقها إسرائيل،فلتنسحب وفقا للقرارات الدولية 242 و338 و425 وغيرها لتحل المشكلة من أساسها.

وإذا كان ثمة استحالة للجوء إلى محكمة العدل الدولية كما يطالب البعض ذلك لانتفاء الأسباب الموضوعية وبخاصة لجهة اختصاص المحكمة،فان اللجوء للخيار الثاني المتعلق بنموذج طابا فهو خيار مفخخ وراءه خلفيات واضحة الأبعاد والأهداف.والمعروف إن منطقة طابا استرجعتها مصر عبر مفاوضات شاقة وكانت تفصيلا لنتاج اتفاق السلام المصري الإسرائيلي،أي بمعنى خيار المفاوضات بين دولتين وقعتا على معاهدة سلام وما تبقى من تحفظ على بعض القضايا يتم بمفاوضات ثنائية لاحقة.فكيف للبنان احتذاء هذا النموذج؟

فالمطلوب من لبنان وفقا لهذه الفرضية السعي إلى معاهدة سلام مع إسرائيل والشروع في مفاوضات لتحصيل ما يمكن تحصيله من مطالب،وهذا الأمر بطبيعة الحال يتطلب شرطا آخر هو التخلي عن سلاح المقاومة وإذ لم تستجب الشروع في نزع سلاحها بالقوة وهو أيضا مطلب إسرائيلي .

ولو سلّمنا جدلا باللجوء إلى الخيارات الدبلوماسية فثمة سابقة بين لبنان وإسرائيل في العام 1983،فما الذي جناه لبنان في اتفاق 17 أيار، إن إنعاش الذاكرة قليلا لمن نسوا أو تناسوا أو خانتهم ذاكرتهم، تقودهم إلى أمر واحد كيف جعل هذا الاتفاق لبنان مقيَّد السيادة مغلول القرار في وقت لم يكن للمقاومة دور،ولإنعاش الذاكرة أيضا كيف تمكنت المقاومة من فرض خياراتها في اتفاق نيسان 1996 وأجبرت إسرائيل على القبول بمبدأ توازن الرعب حماية للبنان.

إن جميع المتحاربين يذهبون إلى المفاوضات ويدهم على الزناد بحثا عن مصدر قوة لفرض الخيارات والشروط، فكيف للبعض أن يجرؤ على مد يده على الزناد لضرب قوة فرضت نفسها على عدوها قبل صديقها.إن غريب المفارقات في لبنان انه لا يزال هناك من يعيد نظرية قوة لبنان في ضعفه، وأن اليد التي لا تقوى على كسرها قبِّلها وادع عليها بالكسر أو الغدر سيان.

2 – الأسرى:

أنشأت القوات الاسرائيلية بعد غزوها للبنان في العام 1982 معتقل أنصار حيث زجت فبه الآلاف من اللبنانيين ؛ ثم ما لبثت أن نقلت منهم المئآت إلى السجون داخل "إسرائيل", وأبقت البعض الآخر في المعتقلات التي أنشأتها في الشريط الحدودي المحتل بعيد إعادة انتشارها في العام 1985.

الاتفاقيات الدولية والوضع القائم

على الرغم من عدم اعتراف إسرائيل باتفاقية الهدنة الموقعة مع لبنان في العام 1949، فان هذه الاتفاقية تعتبر قائمة من وجهة نظر القانون الدولي، فعدم اعتراف احد أطرافها بها لا يلغيها ،وبالتالي فان حالة الحرب لا زالت قائمة إلى حين التوصل إلى اتفاق سلام ؛ وبصرف النظر عن الوضع القائم وتوصيفه لجهة شكل أو أسلوب النزاع ، إن كان نظاميا أو عبر المقاومة الشعبية المسلحة ، فان العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد لبنان تعتبر نزاعا مسلحا من وجهة نظر القانون الدولي .

فقد نصت اتفاقية جنيف الموقعة في 12/8/1949 الخاصة بمعاملة أسرى الحرب في المادة الثانية بفقراتها الثلاث على :

"تنطبق هذه الاتفاقية في حالة الحرب المعلنة ، أو اشتباك مسلح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف المتعاقدة ، حتى ولو لم يعترف احدهما بحالة الحرب".

" تطبق هذه الاتفاقية في جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي،لإقليم احد الأطراف المتعاقدة ، حتى ولو لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلحة ".

وبما أن كلا من لبنان وإسرائيل قد وقعتا على اتفاقيات جنيف الأربع، فان إسرائيل ملزمة بتطبيق هذه الاتفاقية وما يندرج فيها على الواقع الموجود.

وبصرف النظر عن التكييف القانوني السالف الذكر ، فان مجلس الأمن الدولي قد كرر مرارا لا سيما في القرار 425 تاريخ 19/3/1978 أن الوضع القائم بين إسرائيل ولبنان يشكل نزاعا مسلحا،وحتى أن إسرائيل تعترف ضمنا بهذا الوضع ، عندما تدعي بأنها تحترم القانون الدولي في ممارساتها ضد لبنان ؛ وهنا لا بد من ذكر أمرين أساسيين:

- إن العمليات والتحركات التي تقوم بها إسرائيل في لبنان وتحديدا جنوبه ، لها صفة الاحتلال العسكري وهو بمنظور القانون الدولي عمل مؤقت ، كما يجب عدم المس بالعناصر الأساسية للدولة كالشعب والمؤسسات والأرض حيث تبقى تحت سيادة الدولة المحتلة أراضيها ويقتصر دور الدولة المحتلة على السلطة الإدارية التي بموجبها يجب السهر على حفظ سلامة وأمن المواطنين وعدم المسّ بالأوضاع القانونية للأراضي المحتلة

- إن البندين (46) و (50) من اتفاقية لاهاي لعام 1907 المنظمة لقواعد الحرب بين الدول ،قد حددا وجوب احترام الدولة المحتلة لحرية وحياة المقيمين في الأراضي المحتلة، واعتبرا أن التعدي على هذه الحقوق بمثابة جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي ،كما أكد ت كذلك محكمة نورمبورغ في قرارت عدة صدرت عنها.؛ إضافة إلى ذلك فقد ضيَّقت اتفاقيات جنيف حدود الصلاحيات التي يمكن أن تمارسها الدولة المحتلة تجاه المواطنين المقيمين في الأجزاء المحتلة ، حيث نصت في عدة بنود منها على عدم جواز أخذ الرهائن والاعتقال والعقاب الجماعي ونقل المدنيين إلى أراضيها والتعذيب الجماعي والمسّ بكرامة الشخص وحرمته.

الأوضاع القانونية للأسرى اللبنانيين

اتخذت مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان وبقاعه الغربي إشكالا وأنواعا متعددة أبرزها المقاومة العسكرية؛ ولقد شرعت معظم المواثيق الدولية تلك المقاومة كاتفاقيات مؤتمر لاهاي لعام 1907 وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لا سيما القرار رقم 1514 تاريخ 14/ 12 / 1960 ، وكذلك شرعة حقوق الإنسان وخصوصا حق الشعوب في مقاومة الاحتلال والاستغلال والاستعمار .

فالمقاومون يعتبرون ثوار من وجهة القانون الدولي ويتمتعون بصفة المحارب ولهم وعليهم الحقوق والواجبات المتصلة بتلك الفئة من العسكريين النظاميين، لذلك فان حالتي الأسر والاعتقال يجب أن تطبق عليهم وفقا لاتفاقيات جنيف.

لقد نصت الفقرة (2) من المادة (4) على اعتبار أسرى الحرب كل من :" الميليشيات… والوحدات الأخرى بمن فيهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة الذين ينتمون إلى احد أطراف النزاع ويعملون داخل أو خارج إقليمهم ، حتى ولو كان هذا الإقليم محتلا".واستطردت المادة نفسها محددة الشروط الواجب توفرها في هذه الميليشيات والتنظيمات لكي تطبق عليها اتفاقيات جنيف وهي:

- أن يقودها شخص مسؤول عن مرؤوسيه .

- أن يكون لها شارة مميزة يمكن التعرف عليها عن بعد .

- أن تلتزم في عملياتها قوانين الحرب المنصوص عليها في الشرائع الدولية.

وفي الواقع وعلى الرغم من عدم انطباق المنطق على هذه الشروط لجهة عدم تمكن المقاومين من المجاهرة بحمل السلاح وما يدل عليهم فقد انطبقت بمعظمها على المقاومين اللبنانيين.

وبصرف النظر عن قانونية أو عدم قانونية اعتقال المدنيين في المناطق المحتلة ، فقد نصت الفقرة (2) من المادة (5) من اتفاقية جنيف لحماية المدنيين ، على وجوب استفادة المدنيين من هذه الاتفاقية في حال إلقاء القبض عليهم من قبل القوات المحتلة بحجة وجود شبهة معينة حولهم، أو شك في قيامهم بعمليات ضد القوات المحتلة وذلك بانتظار تحديد وضعهم.

نقل الأسرى إلى السجون الإسرائيلية

منعت الفقرة الأولى من المادة (49) من اتفاقية جنيف من نقل الأفراد المحميين إلى خارج إقليم الدولة المحتلة أراضيها ، لا سيما أراضي الدولة المحتلة؛ إلا أن إسرائيل خرقت هذه الممنوعات ونقلت المئات من اللبنانيين إلى سجونها ،وبأشكال مهينة كتعصيب العيون وتكبيل الأيدي ، وعدم التزويد بالألبسة ، إلى التعرض للإهانة والعنف الجسدي والنفسي، من قبل المدنيين الإسرائيليين خلال عمليات النقل وهذا ما يخالف نص المادتين (20) و(21) من نفس الاتفاقية.

إن عمليات نفل الأسرى إلى داخل إسرائيل يعتبر انتهاكا واضحا لاتفاقيات جنيف ،وقد أكدت ذلك لجنة العفو الدولية وقالت ، انه لا يجوز لإسرائيل أن تنقل الأسرى وتدعي بأن هذا الإجراء هو مؤقت إلى حين تغير الظروف في المنطقة التي اسروا فيها.

إضافة إلى ذلك فقد سجلت عمليات المحاكمة انتهاكات خطيرة ، لجهة الطريقة والأسلوب والأحكام التي صدرت وطريقة تنفيذها لا سيما المواد (82) و(83) و( 84) و(87) و (88).

أساليب التحقيق ومعاملة الأسرى

نصت المادة (31) من اتفاقية جنيف الرابعة على أن :" أي توقيف جسدي او معنوي لا يمكن ممارسته ضد الأشخاص بغية الحصول منهم على المعلومات ". وفي الواقع أيضا خرقت إسرائيل هذا المحظور ومارسته بطرق تعسفية ضد اللبنانيين وبأساليب مهينة ومذلة وأبرزها:

- العنف والعقوبات الجماعية ومخالفة المادتين (32) و(33).

- التعسف في الاعتقال وعدم التمييز بين المعتقلين لا سيما الأشخاص المشمولين بالحصانات مثل الأطباء والمحامين .

-عدم التمييز بين الشيوخ والأطفال والنساء.

أما بخصوص معاملة الأسرى والمعتقلين فقد اتسمت بانتهاكات عديدة أبرزها:

- الظروف المعيشية معدومة تماما ؛ حيث تكتظ الزنزانات بظروف صعبة جدا ، إذ يوضع خمسة أشخاص في غرفة لا تتعدى المتر المربع، وحيث لا يقدم الطعام يوميا.

- أما العناية الصحية فهي معدومة أصلا ، بحيث يترك الجرحى والمرضى دون أدنى رعاية صحية.

- تعرض الأسرى للتحرش والإذلال ، وعند الاحتجاج تتدخل المخابرات الإسرائيلية المشرفة على السجون وتمارس أبشع أساليب القمع الذي أدى إلى العديد من حالات الوفيات.

- تعدد أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ،وتتراوح بين الصدمات الكهربائية والتعليق على الأعمدة والجلد ، وإجبار الأسرى على الغمر في المياه الآسنة .

- العزل عن العالم الخارجي وعدم إمكانية الاتصال مع الأهل ، وعدم السماح بالزيارات إلا في حدود ضيقة جدا.

- دوام تهديد الأسرى بالملاحقة بحجة تهديد امن إسرائيل ، رغم أن هذه الملاحقة تعتبر مخالفة للمادة (70)من اتفاقية جنيف الرابعة.

أما لجهة التحقيقات فتتناول بصفة خاصة المعتقدات والأفكار للأسرى وحياتهم الخاصة الأمر الذي يخالف اتفاقيات جنيف المذكورة، أما المحاكمات فهي صورية حيث لم تقدم إسرائيل على تنظيمها وفقا للقوانين الدولية التي تحكم مثل هذه الحالات ، فغالبا لم تسمح بتوكيل المحامين للدفاع عنهم ، وان وافقت على ذلك فلا تسمح بمقابلتهم.

إن التدقيق في أوضاع المعتقلين وظروف اعتقالهم يؤدي بتطابق المعتقلات الإسرائيلية مع المعتقلات النازية إن لم تكن أسوأ منها، ومن كافة الجوانب ، والكثير ممن أفرج عنهم عانوا من مشاكل صحية ونفسية لا تحصى، إضافة إلى حالات الوفيات التي حدثت بعد الإفراج بمدة وجيزة.كما لا بد من الإشارة إلى فرضيتين وهما:

- إذا اعتبرت إسرائيل أن المعتقلين أسرى حرب فيجب عليها بالتالي أن تطبق الاتفاقية الثالثة بشأنهم لا سيما المادة (13) المتعلقة بالمعاملة الإنسانية،وكذلك المادة (14) حول احترام شخص المعتقل، والمادة (35) حول تأمين الرعاية الصحية .

- أما في خال عدم اعتبارهم أسرى حرب ، فعليها أن تطبق الاتفاقية الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين لا سيما المادة (32) التي تمنع التعذيب الجسدي والنفسي ، وكذلك المادة (85) المتعلقة بالظروف الصحية والسكنية للمعتقل.

لقد عانى الأسرى اللبنانيون من شتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي إلى أن تمَّ تحرير معظمهم عبر صفقات تبادل جرت على عدة مراحل وأخذت وقتا طويلا ،ورغم الجهود الهائلة التي بذلت لإغلاق هذا الملف فقد أدى تعنّت إسرائيل إلى إبقائه مفنوحا عبر الإصرار على عدم شمول الأسيرين سمير القتطار ونسيم نسر ضمن عملية التبادل الأخيرة،ما عقّد الأمور وأدى إلى اختطاف المقاومة للجنديين الإسرائيليين في 12 تموز 2006 بهدف مبادلتهم بالأسرى اللبنانيين.أما عمليات التبادل السابقة فقد تمّت وفقا للتالي:

التبادل الأول 1996

في مطلع يوليو/ تموز أعاد حزب الله لإسرائيل رفات جنديين هما يوسف فينك ورحاميم اليشيخ، وكانا قد اختطفهما الحزب في فبراير/ شباط 1986 وأعلنت إسرائيل عام 1991 أنهما ليسا على قيد الحياة، وقد تمّت مقايضة جثتيهما بالإفراج عن رفات 123 لبنانيا وفي نفس اليوم أطلق حزب الله سراح 25 جنديا من عملاء جيش لبنان الجنوبي الموالي لإسرائيل، فيما أفرجت تل أبيب عن 25 سجينا من معتقل الخيام بجنوب لبنان.

التبادل الثاني 1998

في 25 يونيو/ حزيران 1998 أعاد لبنان جثة الجندي الإسرائيلي إيتمار إيليا (وكان قد قتل في كمين للمقاومة في أنصارية مع 12 عسكريا من الكوماندوس البحري الإسرائيلي أثناء مهمة خاصة في لبنان في سبتمبر/ أيلول 1997) مقابل تسليم إسرائيل رفات حوالي 40 من المقاومين من بينهم السيد هادي نجل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي استشهد أواخر 1997 بالإضافة إلى أسرى لبنانيين. وقد وصلت الجثث على متن طائرة فرنسية.

التبادل الثالث 1999

في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1999 تمَّ الإفراج عن 5 من عناصر حزب الله كانت تل أبيب تحتجزهم منذ أكثر من 10 سنوات وهم: هاشم أحمد فحص وأحمد حكمت عبيد وحسين محمد طليس المعتقلون عام 1989، وأحمد حسين سرور المعتقل عام 1987، وكمال محمد رزق المعتقل عام 1986.

التبادل الرابع 2003

في 25 أغسطس/ آب 2003 تسلم حزب الله من إسرائيل جثتي عمار حسين حمود وغسان زعتر وكان الأخير قد استشهد في إقليم التفاح عام 1998 في حين استشهد عمار في ديسمبر/ كانون الأول عام 1999 خلال عملية استهدفت موكبا عسكريا إسرائيليا جنوب لبنان. وكان تسليم الجثتين بغرض التوصل لاتفاق بين الطرفين وتفعيل المفاوضات.

التبادل الخامس 2004

في 29 يناير/ كانون الثاني 2004 تمَّت أكبر صفقة تبادل للأسرى. وضمت 23 أسيرا لبنانيا و12 أسيراً عربياً منهم (سوريان وليبي و3 مغاربة و3 سودانيين) و400 فلسطيني بالإضافة إلى الأسير الألماني ، ورفات 59 مقاوماً لبنانيا. وفي المقابل تسلَّمت تل أبيب من حزب الله الحنان تننباوم العقيد في المخابرات وجثث 3 جنود هم عدي أفيطان وعمر سواعد وبيني أفراهام الذين قتلوا أثناء أسرهم عام 2000. ومن أبرز الأسرى اللبنانيين ضمن الصفقة الشيخ عبد الكريم عبيد الذي خطفته إسرائيل من داخل الأراضي اللبنانية عام 1989 ومصطفى الديراني المختطف عام 1994.



ويبين الجدول التالي حصيلة الصفقات الخمس لتبادل الأسرى بين الجانبين:

السنة حزب الله إسرائيل

أحياء جثث أحياء جثث

1996 25 123 25 2

1998 - 40 - 1

1999 5 - - -

2003 - 2 - -

2004 436 59 1 3

ثالثا: الألغام

فرض القانون الدولي على من يزرع الألغام إزالتها، وان لم يستطع فعليه التعاون مع الأمم المتحدة من اجل تحقيق ذلك، عبر تسليم الخرائط التي تحدد أماكن زرع الألغام. إلا أن إسرائيل لم توقّع على البروتوكول الثاني لاتفاق لاهاي عام 1980 وفيه انه "يجب أن تسجل كل المعلومات المتعلقة بحقول الألغام والمناطق الملغومة، ويجب على أطراف النزاع أن تقوم من دون تأخير بعد توقف الأعمال العدائية باتخاذ التدابير الضرورية المناسبة بما في ذلك استعمال هذه المعلومات لحماية المدنيين من آثار حقول الألغام والمناطق الملغومة. وعليها أن توفر للطرف الآخر وللأمين العام للأمم المتحدة كل ما في حوزتها من معلومات عن حقول الألغام والمناطق الملغومة في المناطق التي لم تعد تحت سيطرتها". وأكد البروتوكول انه "من دون تأخير، وبعد توقف الأعمال العدائية، تكسح كل حقول الألغام الملغّمة". وكذلك، لم توقع إسرائيل على معاهدة اوتاوا عام 1997، وفيها يفرض على كل دولة طرف فيها "أن تقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة في اقرب وقت ممكن تقريرا عن كل المواقع المزروعة ألغاما".

وقد خلفت إسرائيل بعد انسحابها في العام 2000 من لبنان عشرات حقول الألغام ،ورغم العديد من المحاولات الدولية الرامية إلى حث إسرائيل على تسليم خرائطها إلى لبنان،واصلت "إسرائيل" عمليات التسويف والمماطلة في هذا الملف ما تسبب بالعديد من الإصابات والشهداء على مر السنين.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد فقد عمدت "إسرائيل" في السابق إلى إجراءات هدفت إلى إحداث المزيد من الأذى عبر تحويل المياه من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى الأراضي اللبنانية حيث جرفت العديد من الحقول وكذلك الألغام المزروعة فيها، بحيث لم يعد هناك قيمة عملية لخرائط الألغام حتى ولو سلمت لاحقا إلى لبنان بفعل الجرف الحاصل للأتربة وتغيّر معالم الأرض وأمكنة الألغام المزروعة فيها.

علاوة على ذلك فقد استعملت "إسرائيل" في عدوانها الأخير على لبنان قنابل محرّمة دوليا كالقنابل العنقودية وباعتراف القيادة العسكرية الإسرائيلية ثمة مليون ومئتا ألف قنبلة عنقودية ألقيت على لبنان خلال 33 يوما،معظمها لم ينفجر وهي موزعة في مختلف الأراضي اللبنانية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب،أدّت إلى إصابات مباشرة بين المدنيين ذهب ضحيتها العشرات بين شهيد وجريح ومعوق منذ وقف العمليات العسكرية في الرابع عشر من آب 2006.

إن حقول الألغام والقنابل العنقودية المحرّمة دوليا تعتبر شكلا من أشكال الاحتلال غير المباشر التي تمارسها إسرائيل ضد لبنان،وتعتبر من الملفات غير القابلة للحل في المدى المنظور نظرا للسلوك الإسرائيلي في هذا المجال،ما سيشكل تهديدا مباشرا ويوميا ضد المدنيين اللبنانيين الأمر الذي يستوجب تحركا سريعا فاعلا من قبل الأمم المتحدة لحل هذه القضية سيما وأن هذا الملف ورد بشكل صريح في القرار 1701.


الفصل الثالث


عملية الوعد الصادق

أولا : أبعاد العملية ,وآثارها

تمكنت المقاومة الإسلامية في لبنان من تنفيذ عملية نوعية وهي بطبيعة الأمر ليست الأولى في تاريخ الصولات والجولات مع إسرائيل إلا أنها ارتدت هذه المرة طابعا خاصا في هذه الظروف.فالوضع الداخلي اللبناني مختلفا عما كان، كما الوضعين الإقليمي والدولي وبالتالي سيكون لهذه العملية آثارا لافتة داخليا وخارجيا،فما هي إبعاد هذه العملية وكيف يمكن توصيفها وبالتالي احتمالات نتائجها؟ا.وفي مطلق الأحوال يمكن تسجيل العديد من الملاحظات أبرزها:

- أتت العملية في خضم سجال لبناني حاد حول وضع المقاومة وسلاحها واستراتيجية الدفاع اللبنانية المفترضة في مواجهة إسرائيل، ولا نخفي سرا إذا قلنا أن بعض الأطراف اللبنانية ذهبت بعيدا في التحليل والتأويل واجتراح الحلول،في وقت لا زالت إسرائيل تحتل أراض لبنانية وتمارس اعتداءات يومية وأعمال إرهابية أمنية وعسكرية ونفسية على الشعب اللبناني بكافة فئاته وتلاوينه السياسية دون تمميز بين مقاوم وغير مقاوم.

- لا زالت إسرائيل تحتجز لبنانيين ورغم كل الجهود الدولية والإقليمية لم تفلح المفاوضات الدبلوماسية من إغلاق هذا الملف،إذ شاءت إسرائيل اعتباره "كمسمار جحا" في ربط النزاعات واستثماره سياسيا رغم إنسانية الملف التي تكفله المواثيق والأعراف الدولية ذات الصلة بالأسرى والمعتقلين المدنيين وغيرهم من الفئات المصنفة في اتفاقيات جنيف الأربعة المعروفة.

- أتت العملية في خضم جدل وارتباك إسرائيليين كبيرين حول كيفية التعامل مع الجندي الإسرائيلي الأسير لدى الفصائل الفلسطينية،وسط خوف إسرائيلي واضح في التعامل مع هذا الملف لكي لا يصبح سابقة يمكن اللجوء إليها لاحقا،سيما وان سابقة اختطاف المقاومة في لبنان قد كرّست معادلة واضحة مع إسرائيل،أن تبادل الأسرى من الاستحالة إتمامها بدون وجود أسرى إسرائيليين؛وبالتالي لا زالت إسرائيل تبحث عن حل في الكواليس لهذا الجندي الذي لحق به أسيران في يد المقاومة.

- أتت العملية وسط تأزم إقليمي واضح المعالم من الصعب تخطيه دون فعل شيء أساسي في أوراق الضغط المحتملة إن لم يكن تفجير ما تقوم به إسرائيل للهروب إلى الخارج من مآزقها الداخلية.فالوضع في فلسطين حيث لغة الحديد والنار الإسرائيليتين تمارس فعلها في الفلسطينيين أطفالا وشيوخا ونساء،ولغة القتل باتت أمرا مألوفا ومعتادا بل مقررا من دوائر القرار الإسرائيلي السياسي والعسكري،في الوقت الذي ليس لحكومة اولمرت أي أفق سياسي قابل للحياة مع الفلسطينيين أو غيرهم.وفي الجانب الآخر في العراق حيث الآلة العسكرية الأمريكية تفعل فعلها قتلا وتدميرا؛وسط غطرسة أمريكية لا مثيل لها في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية .باختصار واقع لا تحمد المنطقة عليه،مجموعة من القضايا غير القابلة للحل بالأسلوب الأمريكي - الإسرائيلي،يرافقه احتقان كبير ينذر بانفلات الأمور من عقالها.

لا شك بأن هذه العملية تركت آثارا غير عادية على العديد من الملفات ولن تقتصر آثارها على ملف الأسرى بالتحديد فمشاكل المنطقة وقضاياها هي متشابكة ومترابطة إلى حد التعقيد الذي يمكن استغلاله بشتى المواضيع والقضايا، بدء بملف الأسرى اللبنانيين مرورا بملف الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية وصولا إلى قضايا ربما تتخطى اطر وملفات الصراع العربي - الإسرائيلي التقليدية المعروفة.

ففي لبنان لا زال ملف الأسرى مفتوحا على كافة الاحتمالات وان يبدو أن هذه المرة قد حسم بنسبة عالية جدا بل من الممكن أن يكون قد انتهى عمليا وأصبح مسألة وقت ليس إلا،.كما أن في لبنان أرضا محتلة عمليا وأرضا محتلة واقعيا بفعل الألغام الإسرائيلية التي ترفض إسرائيل تسليم خرائطها الدقيقة،كما في لبنان مشكلة حقيقية لدى بعض اللبنانيين الذين لا زالوا يركبون رأسهم عنادا ويحاولون إقناع أنفسهم بأن زمن المقاومة قد ولى وأنها أدت قسطها للعلا وعليها إما اختيار التقاعد أو إطلاق رصاصة الرحمة عليها.

الكثير من الملفات اللبنانية الداخلية انتظرت نتائج العملية و
آثارها،ويبدو أن أهمها ما يتعلق باستراتيجية الدفاع التي ينبغي على لبنان المضي بها،إذ أن جلسات الحوار المتعددة ارتكزت في الأساس على هذه القضية تحديدا ومن الصعب تجاوز أي ملف آخر من دون الوصول للتوافق عليه.فهل ستتمكن المقاومة من فرض وجهة نظرها على الفريق الآخر أم أن عليها فعل عمليات نوعية كثيرة لإثبات صحة وجهة نظرها؟.

في الواقع ثمة افرقاء كثر في لبنان لا زالوا يعتقدون أن فعل المقاومة هو فعل عابر وغير ذي أهمية بكونه مرتبط بحسابات إقليمية،فيما الوقائع أثبتت عكس ذلك،فالمقاومة لم تكن مرة عبء داخلي أو ورقة مساومة خارجية وهذا سر نجاحها.كما انه في لبنان لا يزال البعض يراهن على حسابات دولية أثبتت عقمها وعدم جدواها في التعاطي مع الملفات الحساسة ومنها الأسرى،وبالتالي إن الاستمرار في هذا الاعتقاد كمن يذر الرماد في العيون ويتعامي عن الحقائق ويغرس رأسه في الرمال خوفا من رؤية الحقيقة.

وفي المقلب الإقليمي الآخر من الآثار المحتملة لهذه العملية يبدو أن الأمر معقد هو الآخر، فمن الممكن ربط مصير الجنديين إضافة إلى الأسرى اللبنانيين بملف المفقودين الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة منذ العام 1982،بعدما تحدثت تقارير كثيرة بأنهم موجودون في إسرائيل بعدما سلمتهم القوات اللبنانية لتل أبيب،وفي هذا الإطار يمكن ربط المزيد من القضايا ذات الصلة بالموضوع كمصير الطيار الإسرائيلي رون اراد الذي فقد في لبنان اثر سقوط طائرته في خلال تنفيذ عملية عسكرية إسرائيلية في الأراضي اللبنانية.

ونظرا لتداخل العديد من الفضايا من السهل الاسترسال في أي موضوع يخطر أو لا يخطر على البال وربطه بموضوع الأسيرين الإسرائيليين ،فهما صيدان ثمينان يمكن الوصول بهما إلى آماكن ربما لا تخطر على البال.فكما إسرائيل قد عوَّدت العرب على أهمية العنصر البشري لها وعدم تراخيها في استرجاع أي أسير أو قتيل،كلك علمتنا المقاومة في لبنان أن صيدها هو الآخر ثمين وتعرف كيفية استثماره والوصول بهما إلى حيث تريد.

إن ابرز ما يمكن تسجيله من نتائج لهذه العملية تكمن في العديد من النقاط أبرزها:

- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن جميع ملفاتها هي في الحفظ والصون لدى رجال عرفوا واختبروا عدوا لا يفهم إلا لغة الحديد والنار لجلبه إلى طريق الحق.

- تأكيد المقاومة مرة أخرى أن ما يحكى عن وسائل دبلوماسية وغيرها لحل ملفات عالقة عمرها من عمر كيانات المنطقة أمر لا فائدة منه، بل مضيعة للوقت واستنزاف للجهد،فاستراتيجيات الدفاع المطروحة على طاولة الحوار في مواجهة استراتيجية المقاومة لا تعدو كونها استراتيجيات من نوع الإنشاء والشعر العربيين الذين لا يسمنان ولا يغنيان من جوع.فالتاريخ حافل بأمثلة مقاومة الاحتلال في غير دولة، وفي هذا التاريخ لا نقرأ سوى النصر الذي كانت تسجله المقاومات بدء من المقاومة الفرنسية تحديدا لمن لا يعرف القراءة مرورا بالجزائرية وصولا إلى مقاومات جنوب أمريكا اللاتينية وفيتنام وغيرها وعلى رأسها فعل المقاومة التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من غالبية الأراضي اللبنانية دون قيد أو شرط.

- ومن أثارها أيضا أنها ستكون مناسبة أولى لرئيس الوزراء الإسرائيلي لممارسة عدوانية إسرائيل المعروفة،فهو آت من خلفية لكودية متعصبة ووريث شارون السياسي ،وفي هذا الإطار ومن وجهة نظره لا بد إثبات ذلك للإسرائيليين بأنه وريث سياسي وعدواني بجدارة.

- إن المنطقة قادمة على خلط أوراق كثيرة،فهي تعج بالقضايا المستعصية وغير القابلة للحل بالوسائل التقليدية،ومن هذا المنظار ربما تشعر الولايات المتحدة الأمريكية ومحافظوها الجدد أن الفرصة سانحة للانقضاض على ما تبقى من حلمها في الشرق الأوسط الكبير.فإيران وبرنامجها النووي واصل إلى أفق مسدود،وأزمة واشنطن في العراق كبيرة،ومشاريع السلام موضوعة في الثلاجة الأمريكية - الإسرائيلية ،فإلى أين المسير من وجهتي النظر الأمريكية والإسرائيلية، طبعا المزيد من التورط في إشعال المنطقة وربما يكون لبنان بوابتها الرئيسة.

وبصرف النظر عن ردود الفعل الإسرائيلية على هذه العملية والى أي مدى وصلت،يبقى فعل المقاومة وآثاره هو أقوى بكثير من كل الاحتمالات المطروحة.ثمة دولا وجيوشا كثيرة خاضت الحروب،انتصرت وفشلت،إلا أن التاريخ لم يسجل يوما أن مقاومة خسرت معركتها الحقيقية هذا على الأقل من يعرف كيف يقرأ التاريخ.ثمة أشخاص كُثر في لبنان يدَّعون قيادة تيارات سياسية عليهم تعلم القراءة لقراءة التاريخ لكي لا يأتي حكمهم غدرا على المقاومة أو رغدا لحياة في أحضان أعداء وطنهم!.

ثانيا : هل اخطأ حزب الله في عملية الأسر

أسئلة كثيرة طرحت خلال العدوان وبعده فيها سذاجة البسطاء،كما فيها لؤم الخبثاء،وفي كلا الحالين هدف واحد محاولة النيل من الحزب والمقاومة،ولا ندّعي أننا نكتب في المحظورات دفاعا أو انتقادا في لحظة حرجة من تاريخ لبنان والمنطقة بقدر ما هي محاولة لتوجيه البوصلة لمن فقدها عفوا أو قصدا.

فهل أخطأ حزب الله في أسر الجنديين الإسرائيليين وقتل سبعة آخرين؛؟ وهل أخطأ بعدم إبلاغه الحكومة اللبنانية سلفا بالعملية وبالتالي لم يشركها في اتخاذ القرار وتداعياته وانفرد بقرار الحرب؟ أم أن الحزب قد أصاب كغيرها من المرات في تحديد المكان والزمان المناسبين لإنجاح هدفه؟ وهل تقصَّد عدم الإبلاغ بما يود القيام به لإدراكه المسبق بأن حكومة بلاده لا حول ولا قوة لها وهي بالتالي عاجزة عن تحمل المسؤولية وتداعيات العملية؟أم أن الأمر معروف في مطلق الأحوال بالنسبة للجميع سيما وان الحزب قد أعلن مرارا عن عزمه اختطاف جنودا إسرائيليين بهدف المبادلة؟ولو سلمنا جدلا بصحة المعرفة المسبقة أم لا فهل كانت ستوافق على العملية؟.وفي نفس سياق الأسئلة الساذجة – الخبيثة هل قام حزب الله بهذه العملية النوعية كمغامرة غير محسوبة العواقب والنتائج، دون أن يكون مستعدا لمواجهة تداعياتها ونتائجها؟ وهل أتت العملية في سياق خلط الأوراق في المنطقة العربية لمصلحة إيران وسوريا ولحسابات إقليمية خاصة ألمحت قوى سياسية عربية رسمية أنها "خدمت أجندة الشيعة في المنطقة"؟.

في الواقع إن عجز الحكومات العربية إن لم نقل تقاعسها عن استرجاع حقوقها المسلوبة منذ زمن طويل كاسترجاع الأرض أو الأسرى،وقبولها بأن تكون دول تابعة لا فاعلة في محيطها الإقليمي والدولي،إضافة إلى أفول الحروب الكبيرة في زمن السيطرة الأمريكية وشيوع الحروب الصغيرة،كل ذلك أدى إلى أن تأخذ الحركات المقاومة مكان الحكومات كمثال لبنان وفلسطين. وفي العودة إلى تلك الأسئلة الساذجة - الخبيثة يمكن تسجيل العديد من الملاحظات أبرزها:

- كان يدرك حزب الله العواقب عندما أسر الجنديين في جنوب لبنان، والأهم أنه كان مستعدا للاحتمالات التي قد تحدث مستفيدا من أنه حركة مقاومة وليس ملتزما بأية مواثيق دولية تلتزم بها الحكومة اللبنانية.

- قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله قبل اندلاع المعارك بشكل واضح وصريح "إن المقاومة لا تريد التصعيد، لکنها مستعدة للمواجهة إذا قررت إسرائيل تصعيد وتأزيم الأوضاع.. لا نريد التصعيد في الجنوب ولا نريد أخذ لبنان إلى حرب، ولکن إذا أراد العدو التصعيد فنحن جاهزون للمواجهة إلى أبعد ما يمكن". وأضاف: "إن قرار عملية الأسر لم يكن مفاجئا؛ بل هو قرار متخذ سابقا، ويأتي ضمن عملية الدعم للشعب الفلسطيني الذي يُقتل على مرأى ومسمع العالم".

- لم يقم حزب الله بما قام به كمغامرة غير محسوبة كما يحلو للبعض قوله، فهو أقوى اليوم بعشرات المرات عما كان عليه قبل عشر سنوات أو عشرين سنة، كما أعلن السيد حسن نصر الله قبل ستة أشهر أنه يملك في جعبته آلاف الصواريخ قادرة على زلزلة الكيان الصهيوني، كما أعلن عقب أسر الجنديين أن في جعبة الحزب العديد من "المفاجآت" للإسرائيليين لو اختاروا الحرب، ظهر منها قصف البارجة وإنزال الطائرة والبقية أتت بقصف مدن إسرائيلية تباعا في العمق الإسرائيلي.

- وعندما صعّد الإسرائيليون المعركة بحرب شاملة ضد لبنان، رد السيد نصر الله قائلا للإسرائيليين: "أردتموها حربا مفتوحة ونحن ذاهبون إلى الحرب المفتوحة ومستعدون لها (...) إلى حيفا وإلى ما بعد بعد حيفا". وتأتي هذه التصريحات موازية لتقارير هامة لمراكز الأبحاث العسكرية وتقرير جينز العسكري التي تؤكد أن حزب الله يمتلك آلاف صواريخ الكاتيوشا المطورة التي تصل لعمق 70 كم، فضلا عن صواريخ زلزال-1 التي يبلغ مداها 150 كلم ويمكنها الوصول إلى تل أبيب .

- ولهذا أيضا قال السيد نصر الله: إن العصر الذي كانت إسرائيل تجول فيه وتصول وتقتل اللبنانيين دون مقابل انتهى، وإن أطفالهم وأسرهم ستعاني مثلما يعاني أطفال لبنان. وبالتالي فقد رأى بعض المحللين أن "المغامرة" التي قام بها حزب الله محسوبة ، وأن نتائجها في نهاية الأمر ستكون إهانة للجيش الإسرائيلي وكسر هيبته، في حين أن الاعتداءات الإسرائيلية أمر اعتاد عليه اللبنانيون بعكس هروب أكثر من مليوني إسرائيلي من الشمال أو نزولهم للملاجئ.

- لقد طوّرت المقاومة وسائلها وسلاحها واستفادت من تجارب كثيرة سابقة مع إسرائيل، كما أنها تحركت ضمن تصور إستراتيجي هادئ بدون انفعال؛ بحيث تقوم خططها على إطلاق دفعات أقل من الصواريخ تليها دفعات أكبر، وتبدأ من أقرب المدن حتى أبعد المدن الإسرائيلية ، كما أن هجماتها دقيقة وردّت على أهداف مختارة مثل مراكز القيادة الإسرائيلية والمطارات في المستوطنات ومرابض المدفعية والوقود وصولا إلى حيفا وعكا.

- لقد أدت عمليات أسر الجنديين الإسرائيليين وما تلاها من مجازر إسرائيلية في المدن اللبنانية لتوحيد الجبهة الداخلية المتشرذمة، ورغم التنصل الحكومة اللبنانية من عملية حزب الله، وهجوم قوى محلية على العملية باعتبارها أجندات لأطراف أخرى على حساب لبنان، فقد توحَّدت الجبهة الداخلية وأصبح الجميع يدرك أن حزب الله هو الجيش الحقيقي الذي يحمي لبنان، ويحمل درعا للردع أو توازن الرعب مع إسرائيل.

- قد يكون حزب الله مخطئا لو كان قد خطط لعملية إشعال المنطقة دون أن تكون لديه الأوراق اللازمة للمنازلة مع الجيش الإسرائيلي، وقد يكون مخطئا لو كان قد تحرك دون هدف ووعي بما يقوم به، ولكن تطور المعارك أظهر بوضوح أن حزب الله يدرك عواقب عمليته واستعد لها .

- لم يقل الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله شيئا حماسيا أو تهديدات جوفاء، ولكنه تحدث عن أمور وقعت بالفعل؛ فقد ألمح أكثر من مرة لخطف جنود إسرائيليين أحياء ونفذ، وحذر من مفاجآت لحزب الله في الحرب وحدثت في ضرب البارجة وإنزال الطائرة وضرب مدن إسرائيلية لأول مرة مثل طبريا وحيفا والعفولة وغيرها، وحتى الصواريخ التي اعترفت إسرائيل بأنه يمتلكها وقادر على ضرب تل أبيب نفسها لم يستخدمها بعشوائية، ولكن وفق مخطط مدروس بتوسيع قصف المدن الإسرائيلية تدريجيا في العمق، وربما احتفظ بأكثر هذه الأسلحة قوة لمراحل لاحقة إبان العدوان.

ثالثا : شروط التفاوض

بعدما قررت القيادة السياسية الإسرائيلية تصعيد عملياتها في لبنان استجابة لتوصيات القيادة العسكرية، أخذت الأمور اتجاهات أخرى، فلم تعد المسألة مجرد رد على عملية نوعية لأسر جنود إسرائيليين بهدف المقايضة بأسرى لبنانيين، وإنما توسّعت الأهداف والطموحات لتصل إلى خلفيات استراتيجية عجزت عنها في تاريخ الصراع مع حزب الله تحديدا،فماذا في السقف السياسي لحزب الله؟وما هي حدود الاستجابات الإسرائيلية ؟وهل هناك من أفق سياسي واضح في هذه العملية؟.

في موقف حزب الله المعلن على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله يمكن رسم حدود متحركة لأهداف العملية،وهي ليست بالضرورة محددة وجامدة بل يمكن النظر أليها على أنها قابلة للمد والجزر بحسب ظروف التفاوض وما يحيط به من نتائج محتملة على الأرض.فالسيد حسن نصرالله أطلق عدة مواقف وشروط تبدو في ظاهرها محددة إلا أن التدقيق في بعضها تحمل ملامح التأويل وهو أمر طبيعي في معركة هدفها الرئيس أولا وأخيرا فتح قناة مفاوضات بصرف النظر عن حجم النجاحات لكلا الفريقين فيها.ويمكن تسجيل العديد من الملاحظات في هذا الإطار أبرزها:

- رغم الصيد الثمين المحقق بأسر جنديين إسرائيليين وبصرف النظر إن كانا لا يزالان على قيد الحياة أم لا،فان السقف الذي أطلقة السيد حسن نصرالله يبدو منخفضا قياسا على السوابق الأخرى.فهو اشترط المفاوضات غير المباشرة والتبادل وأنهاها بالسلام،والمقصود هنا "نقطة على السطر" أي بمعنى أن لا شروط يمكن أن تُضاف أو مطالب يمكن أن تطرح.فالتحديد هنا الوسيلة والهدف المحدد بعينه .

- لقد بدا الخطاب السياسي للأمين العام مدروسا بدقة متناهية،فعلى الرغم من ثقل وحجم المكسب من اسر الجنديين،لم تكن اللهجة تصعيدية،بل كانت متوازنة وهادئة في آن معا،بمعنى أن الحزب هدف إلى عملية التبادل لا إلى توتير أجواء المنطقة وخلق فرص للتصعيد الإسرائيلي؛مترافقا مع الإعلان الصريح بأن الحزب جاهز للخيارات الأخرى ومنها المواجهة إذا أرادتها إسرائيل ذلك بلغة حازمة وجازمة من دون تردد أو إعطاء فرصا لتأويل الموقف.

- إن استناد المواقف المطلقة إلى السوابق الماضية في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والحزب هدفت بشكل أساسي لتذكير القيادة الإسرائيلية بالنفس الطويل للحزب ومقدرته على الوصول إلى ما يريد ولو بعد حين،فعمليات تفاوض الأسرى السابقة مرت بظروف معقدة جدا وتمكَّن حزب الله من تحقيق مكاسب لافتة،وسط إتقان مهني رفيع لأساليب التفاوض والتي مكنته في بعض المرات إحراز نتائج سياسية إضافة إلى النتائج ذات الصلة بالأسرى أو غيرها من المطالب التكتية التفصيلية .

- إن التهديد بمفاجآت غير متوقعة في حال صعَّدت إسرائيل مواقفها لم يكن من باب التهويل أو إطلاق المواقف غير المدروسة،إذ أن خيارات الحزب كانت متنوعة وما إطلاق صاروخ "رعد 1 " إلا دليلا على ذلك بهدف خلق معادلة جديدة في إطار المواجهات آنذاك،ولو أن إطلاقه تمَّ متأخرا نسبيا مقارنة مع حجم واستهدافات إسرائيل للبنية التحتية اللبنانية.

- وما يعزز هذا الاحتمال السالف الذكر ما تقصَّده الأمين العام للحزب من إطلاق مواقفه قبل اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر بثلاث ساعات،بهدف تحديد الخيارات والسّير بها وفقا للتطورات الميدانية اللاحقة.

في المقلب اللبناني الآخر إذا جاز التعبير وتحديدا في الموقفين الرسمي والسياسي العام يمكن رصد العديد من الملاحظات منها:

- ثمة تباين واضح في الموقف الرسمي لمجلس الوزراء مع الإطار العام الذي رسمه الحزب لهذه العملية.ففي المحصلة لم يتبن المجلس ما حدث وهي سابقة في تاريخ العلاقة بين الحزب والموقف الرسمي للحكومة.وعلى الرغم من الجهد الذي أعطيَّ لصياغة المقررات ظهرت وكأنها محاولة للنأي بالنفس عن النتائج المحتملة للعملية برمتها،على قاعدة أن الحكومة لم تعرف مسبقا بالعملية وبالتالي لم تتبناها وبالمحصلة ليست مسؤولة عن نتائجها .

- لم تكن مواقف وزراء حركة آمل وحزب الله من مقررات مجلس الوزراء متشددة قياسا على حجم المواقف السابقة ذات الصلة بعمل المقاومة.فوزيرا حزب الله رفضا المقررات تدوينا فيما تحفظ وزراء أمل تدوينا أيضا.ذلك يدلُّ على قراءة دقيقة لحراجة ودقة الوضعين الداخلي والإقليمي وعدم قدرتهما على تحمل أي موقف متشدد من الحزب والحركة كما جرى في السابق إبان مرحلة مقاطعة جلسات مجلس الوزراء.

- ثمة مواقف سياسية برزت تميِّز بين الحق في المقاومة وشرعية هذه العملية بالذات،والتخوّف من التوسّع في استثماراتها السياسية لاحقا وانعكاساتها على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي اللبنانيين .

أما في الجانب الإسرائيلي فقد بدا الأمر مختلفا هذه المرة وكأن إسرائيل كانت تنتظر هذه الفرصة لتغيير قواعد اللعبة مع حزب الله والحكومة اللبنانية إذ لم يكن بالإمكان القول محاولة نسف العملية من أساسها وفرض شروط جديدة دأبت على محاولة فرضها منذ عقود،وفي هذا الإطار نبرز المواقف التالية:

- منذ اللحظة الأولى للعملية حاولت القوات الإسرائيلية التمدد ولو بشكل محدود في الأراضي اللبنانية بهدف محاولة استرجاع الأسيرين،ويبدو أن هذا السلوك ينم عن دقة القراءة الإسرائيلية لأبعاد التفجيرات الواسعة،إلا أن فشل التمدد المحدود اجبر إسرائيل على سلوك خيارات التصعيد واسع النطاق جغرافيا ونوعيا لجهة ألاماكن أو المواقع المستهدفة.

- كان واضحا جدا أن مقررات مجلس الوزراء الإسرائيلي سيتخذ مواقف استثنائية مغايرة للمواقف السابقة،وفي هذه المرّة لم يحيِّد الحكومة اللبنانية بل اعتبرها طرفا في النزاع رغم موقفها من عدم التبني ودعوتها للمفاوضات عبر الأمم المتحدة،وكذلك الأمر نفسه للجيش اللبناني الذي قُصفت بعض مواقعه أيضا كما اسلفنا.

- كما أن الإجراءات العسكرية التي اعتمدتها إسرائيل تنم عن عدة خيارات ستسلكها وفقا لتطورات الأحداث على الأرض آنذاك،فهي أولا هددت باللجوء إلى التصفية الجسدية لقيادات المقاومة،وثانيا بدأت بأسلوب تقطيع أوصال المناطق اللبنانية،وثالثا التمهيد لاجتياحات واسعة النطاق لإبعاد الحزب عن الحدود الدولية.

- ثمة شروط إسرائيلية واضحة تخطّت المطالبة بالإفراج الفوري عن الأسيرين منها إبعاد الحزب عن مواقعه في الجنوب اللبناني ومطالبة الحكومة اللبنانية بتجريد سلاحه،وهذا ما يذكر بسلسلة الاجتياحات التي نفذتها في الأعوام 1978 و 1982 و 1993 و 1996 ضد الأراضي اللبنانية.

وإذا كانت هذه المواقف والشروط بمختلف مواقعها وتوجهاتها وأهدافها ما هي النتائج الأولية لهذه العملية وآفاقها المستقبلية؟

لقد حدد حزب الله سقف شروطه وسار فيها دون تردد،فوضعه الداخلي لا يسمح له بالتراجع عنها وهي بطبيعة الأمر تُصنف في حدودها الدنيا.فهو محق في قضية استرجاع الأسرى، إضافة إلى ما يمكن أن يتأتى من هذه العملية من نتائج؛فالفشل ممنوع باعتباره سيؤدي إلى فقدان اغلب الأوراق الاستراتيجية غير القابلة للتفاوض عليها ومنها السلاح واستراتيجية الدفاع في مواجهة إسرائيل،وعليه فإن المسألة بالنسبة إليه قضية حياة أو موت.فهي علة الوجود والاستمرار السياسي والعسكري.

إسرائيليا تعتبر هذه العملية فرصة هامة لرئيس الوزراء الإسرائيلي في تكريس زعامته السياسية بعد وراثته السياسية لشارون.فأولمرت الآتي على أمجاد حزب العمل والليكود لن يترك هذه الفرصة تمر من دون اخذ دوره أيضا في تسجيل الانتصارات الوهمية التي حققها أسلافه في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي .كما سعى أيضا بكل ثقله السياسي والعسكري لعدم تسجيل سابقة تبادل الأسرى مع الفلسطينيين وحزب الله معا؛فإن نجحت مع حزب الله ستكون مناسبة قوية لتعزيز أوراق المنظمات الفلسطينية في عملياتها التفاوضية اللاحقة.

صحيح أن حزب الله سجَّل نصرا ساحقا في اسر الجنديين الإسرائيليين،وصحيحا أيضا أن إسرائيل تمكَّنت من تسجيل نصر وهمي على لبنان بقصفها وتدمير بناه التحتية،إلا أن المعركة من الناحية العملية والواقعية أتت لمصلحة المقاومة،فما هي احتمالات المستقبل وآفاقه؟.

في المبدأ بات الأسرى اللبنانيون على قاب قوسين أو أدنى من الحرية وهي مسألة وقت ليس إلا،وقد عوَّدتنا إسرائيل على رفض مبدأ التفاوض ثم ما تلبث أن تلهث وراءه بحكم طبيعة الصراع أي بين مقاومة ودولة،فالتجارب السابقة أثبتت وتثبت أيضا تمكن حزب الله من تسجيل الكثير من النقاط ذات الصلة بهذا الموضوع.

وعلى الرغم من صعوبة المسالك التي ستمر بها هذه القضية فيبدو أنها تمر في مرحلة سياسة حفة الهاوية لكل الإطراف بمن فيهم الإقليميين الآخرين كسوريا وإيران،وهما بطبيعة الأمر رُبطا بهذا الملف من الناحية العملية والواقعية اقله من وجهة النظر الإسرائيلية - الأمريكية.فواشنطن المتعثرة في ملف البرنامج النووي الإيراني ومشاكلها التي لا تعد ولا تحصى في العراق كانت مناسبة لها في إقحام طهران وسوريا في نتائج هذه العملية ومساراتها املأ في تحقيق مكسب اقله تخفيف الضغوط من جهة ومحاولة رسم اطر التعامل مستقبلا مع مشروع الشرق الأوسط الكبير المتعثر بفعل الممانعة السورية والإيرانية.

إسرائيليا وان كانت ترفض التفاوض علنا فهي عمليا بحثت عنه بشروط معينة، ولذلك لم تقبل بالتفاوض غير المباشر إلا بعد تحقيق إنجازات ولو كانت وهمية على الأرض تعطي الانطباع بأن القوة الإسرائيلية لا تهزم،وبالتالي على جميع الإطراف الانصياع لشروطها.عنوة،لذا لم تسمح بأي شرط لوقف إطلاق النار قبل أن كرَّست هذه الإيحاءات.

يبقى موقف الحكومة اللبنانية الحائرة بين منطق المقاومة والدولة ،عاجزة في التأثير على أي موقف من مواقف الأطراف الفاعلة في الأزمة،وفي أحسن الأحوال أصبحت فصيلا من فصائل الأمم المتحدة تعد وتسجل الاعتداءات الإسرائيلية.وسط صرخات بعض إطرافها بأن الوضع الاقتصادي اللبناني لن يتحمل مثل تلك العمليات؛إلا أن المأساة الكبرى أن شرخا كبيرا بات واضحا في صفوف المجتمع اللبناني حول شرعية وأسلوب عمل المقاومة.

إن المستقبل القريب ينذر بتحولات دراماتيكية من الصعب على جميع الإطراف التحكم بمساراته أو احتواء نتائجه وآثاره،فمن المعروف أن أي قوة تستطيع بدء أية معركة تريد، لكنها في غالب الأحيان تعجز عن التحكم بنهاياتها.فهل استطاع حزب الله تسجيل الهدف الذهبي في المرمى الإسرائيلي ؟ آم ثمة وقت مستقطع أعطي لإسرائيل لفرض تعديل النتيجة؟ غالبا ما تنتهي المنازلات الكبيرة بضربات الجزاء،غير أنها لا تعكس طبيعة حجم وقوة المنازلات بقدر ما هي ضربات حظ تعتمد على رباطة الجأش والتصميم والعزيمة وهذا ما تتمتع به عادة قوى المقاومة في أي موقع وأي بلد تتواجد فيهّ!.

رابعا: مفاجآت المقاومة وسيدها لإسرائيل !

ارتدت عملية اسر الجنديين الإسرائيليين أهمية خاصة في ظل الظروف الإقليمية والدولية الضاغطة على المنطقة،وبالتالي إن أي تحرك سياسي أو امني أو عسكري لأي طرف من الأطراف المعنية ينبغي أن يكون محسوب النتائج بدقة، إضافة إلى مجموعة من العوامل المرافقة التي يمكن أن تلعب دورا هاما في إدارة الصراع في الخطوط الخلفية للأطراف.ومن هنا تأتي أهمية وحساسية المفاجآت لدى أي طرف من أطراف الصراع.فماذا في مفاجآت المقاومة ؟وما هي ردود الفعل الإسرائيلية عليها أو المحتملة في المستقبل؟.

فالقوة بمختلف أوجهها إن كانت عسكرية أو اقتصادية أو مالية أو حتى معنوية تلعب أدوارا هامة في مسار المعارك بين الجيوش المتكافئة،إلا أن عنصر المفاجأة لا يمكن تجاهله في بعض الحالات الخاصة كالصراع بين جيوش نظامية أو بين حركات مقاومة وجيوش نظامية بشكل خاص.فالقوى غير المتكافئة عادة ما تبحث عن وسائل تعيد توازن القوة في الصراع،وهي غالبا تتمثل بوسائل يمكن أن تحرف مسار الصراع لمصلحة هذا الطرف أو ذاك ،وخصوصا إذا أحسنت مسارات استثماراتها أثناء المعارك .وفي إطار الإشكال والأنواع يمكن رصد العديد من هذه الوسائل أبرزها قدرة احد طرفي الصراع على إخفاء قدرة معينة عن خصمه واستعمالها في الوقت المناسب.وفي هذا الإطار يمكن رصد العديد من أنواع المفاجآت التي تمكنت المقاومة الإسلامية من إنجازها عبر فترات متعددة في تاريخ صراعها مع إسرائيل ومنها عسكرية وأمنية وتقنية ونفسية,ففي الإطار العسكري يمكن تسجيل العديد من الأمور أبرزها.

- لقد تمكّنت المقاومة من مفاجأة إسرائيل ليس بكم الصواريخ بل بنوعيتها ومداها وقدرتها التدميرية ودقة إصاباتها,فقد دأبت المخابرات العسكرية والخارجية الإسرائيلية على بث التقارير حول قدرة حزب الله الصاروخية وتبين أن في اغلبها لا تعدو تقارير فقدت إلى المصداقية والجدية والدقة،وظلت في إطار التكهنات التي تعتبر احد الأسباب الرئيسة لانهزام الجيوش.

- وفيما ركزت إسرائيل على قدرة صواريخ المقاومة لا سيما تلك المتعلقة بأرض - أرض،أتت المفاجأة بصواريخ ارض - بحر ،وتمكنت المقاومة من تسجيل سبق إعلامي قبل العسكري وتمثل يضرب البارجة الإسرائيلية على الهواء مباشرة أثناء إلقاء سيد المقاومة لكلمته المتلفزة.وهنا يكمن عنصر المفاجأة والإثارة في آن معا.

- لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحديد مكامن قوة أو ضعف المقاومة في القوة الردعية المتمثلة بالصواريخ، فتعددت بيانات وتصريحات القيادة العسكرية في ظل تضارب وتناقض واضح في مضمونها.فتارة يقال إن نصف القوة الصاروخية للمقاومة قد دُمِّرت وتارة أخرى يقال إن تقطيع أوصال المناطق اللبنانية افقد قدرة المقاومة على الحركة واستثمار القوة الصاروخية،فيما كانت الصواريخ تنصبُّ وبإعداد كبيرة على العمق الإسرائيلي .

- لقد تمكّنت المقاومة من استثمار مفهوم الردع بأقصى طاقة ممكنة مع إسرائيل،فعلى سبيل المثال عندما بدأت إسرائيل عدوانها الجوي على لبنان اعتقدت أن القوة الصاروخية هي تقليدية بصرف النظر عن نوعها أو فعاليتها لجهة الدقة،والمفاجأة في هذا الإطار أن هذه الصواريخ بمختلف أنواعها كانت دقيقة جدا في الكثير من المواقع التي قُصفت.

- أما لجهة مدى الصواريخ فهناك حديث آخر،ولا ندّعي أن المخابرات الإسرائيلية غبية إلى درجة لم تأخذ بالحسبان مدى صواريخ المقاومة وعنصر المفاجأة بل تبيّن بإخفاق المخابرات في تحديد نوعية هذه الصواريخ ومداها واعتمدت على التخمين أو أسلوب ردّات الفعل من قبل المقاومة والتي لم تكن لمصلحة إسرائيل.

- إضافة إلى ذلك فإن استعمال الصواريخ بقصف مناطق معينة بعد الإيحاء والتركيز على مناطق أخرى قد أعطى انطباعات أخرى لدى القيادة الإسرائيلية لجهة قدرة المقاومة في الاستثمار الكامل لمدى الصواريخ،فمثلا لقد ركّزت المقاومة بعد بدء إسرائيل بضرب الضاحية الجنوبية وبيروت على الإيحاء بأن توازن الرعب سيكون في مقابل حيفا،وفيما تستعد إسرائيل لتلقي الضربة في حيفا كانت منطقة طبريا تأكل نصيبها من الصواريخ.

- إضافة إلى ذلك ثمة جانب آخر من هذه الصواريخ المحمولة والموجهة إلى الدبابات والعربات العسكرية،ففي بداية المعارك تمكنت المقاومة من ضرب دبابة الميركافا ومن بعدها العشرات،إذ سقطت أسطورة هذا النوع من الدبابات التي تعتبر العصب في القوات العسكرية البرية،والتي تعلق إسرائيل الآمال الكبيرة في صفقات الأسلحة للخارج.ففي السابق كانت إصابات الميركافا هي عادية وفي هذه المواجهة باتت الدبابة تحترق بكاملها.

- لقد تمكنت المقاومة من صد جميع محاولات التسلل والاقتحامات العسكرية الإسرائيلية رغم كثافة القوة الإسرائيلية كما ونوعا،وباتت القوات الإسرائيلية البرية بحكم المشلولة من الناحية العملية،إذ كانت المفاجأة بتكتيك جذب القوات الإسرائيلية ومحاصرتها والاشتباك معها وهنا تكمن فعالية العمل العسكري على الأرض.إذ قدَّرت القيادة الإسرائيلية إن تكثيف القصف على مواقع المقاومين لعدة أيام سيفقدها قوة الصمود وبالتالي سرعة التفكك،بينما أثبتت الوقائع عكس ذلك وظلت المبادرة بيد المقاومين.

- أما المفاجأة الأكبر في الجهة المقابلة والمتعلقة بالقوات الجوية الإسرائيلية فقد تمثلت بعدم قدرتها على المضي بنفس المنهج ،فبنك المعلومات التي هددت به للقصف قد انتهى،ودليل ذلك أن الغارات الإسرائيلية بعد استهدافها عددا من المنشآت في البنية التحتية تعود وتقصفها هي نفسها إضافة إلى ذلك اعتمادها بشكل أساسي فيما بعد على قصف الشاحنات المدنية والمركبات بحجة اعتقادها بأنها تنقل الصواريخ للمقاومة،علاوة على المسائل المضحكمة المبكية والمتمثلة بقصف طائراتها لشاحنات حفر الآبار الارتوازية اعتقادا منها أنها تحمل صواريخ،فيما تمتلك تقنيات الأقمار الاصطناعية القادرة على رؤية أرقام السيارات من الجو.

إضافة إلى المفاجآت في الجانب العسكري ثمة مفاجآت أمنية واستخبارية من الطراز الأول ومنها:

- قدرة المقاومة في المراقبة وخرق استخبارات إسرائيل،وقد تجلى ذلك في العديد من المناسبات والمواقع سابقا،إضافة إلى التخطيط والتنفيذ الدقيق لأسر الجنديين.فمن الواضح أنها عملية مركبة ومعقدة وأخذت الجهد الكبير لإنجاحها ومنها إمكانية خرق العصب الأمني الإسرائيلي لترتيب الوسائل اللوجستية المتعلقة في تنفيذ العملية.

- في نفس اليوم الذي تمَّت فيه عملية الآسر تناقلت وسائل الأعلام الإسرائيلية والعالمية خبرا مفاده تمكن المقاومة من الدخول على الكمبيوترات الشخصية للضباط الإسرائيليين التي تربطهم في مراكز القيادة والتحكم وهو أمر ليس بالطبيعي على مستوى الجيش الإسرائيلي،وعلى ما يبدو أن هذا الاختراق قد ساهم مساهمة حاسمة في إنجاح العملية.إضافة إلى هذا الخرق الأمني يعتبر خرقا وإنجازا تقنيا للمقاومة وهو احد عناصر المفاجأة أيضا.

- قدرة المقاومة على قصف العديد من المواقع العسكرية الحساسة كمراكز القيادة والتحكم والمطارات الحربية ومراكز التخزين وهي بطبيعة الأمر متعلقة بالاختراقات الأمنية للمقاومة ومقدرتها في تجميع المعلومات واستثمارها عسكريا بالشكل المطلوب .ففي بعض الحالات شكلت المقاومة بقصفها لبعض المواقع سابقة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي إذ لم تقصف هذه المواقع من قبل حتى بالطائرات العسكرية أو الصواريخ من قبل في حرب العام 1973 مثلا.

في الجانب السياسي والدبلوماسي ثمة مفاجآت محققة وأبرزها:

- تمكّنت المقاومة من امتصاص الصدمة العسكرية الأولى للعدوان الإسرائيلي،عبر سلسلة من المواقف والشروط التي تحكمت بلعبة المفاوضات.فرغم الضغط العسكري الهائل ظلت قيادة المقاومة تمرر شروطها بطريقة لا توحي بأي شكل من الإشكال بأنها ستتزحزح قيد أنملة عن شروطها المعلنة بعد العملية مباشرة.

- ورغم الضغط السياسي الخارجي بدءً من مجلس الأمن مرورا بعواصم الدول الكبرى وصولا إلى مواقف بعض الدول العربية والمواقف اللبنانية الداخلية ظلّت المقاومة تكافح داخليا وبالوجهة السياسية مع أطراف انقلبوا على أنفسهم قبل أن ينقلبوا عليها.

- وفي الجانب الدبلوماسي كذلك تمكّنت المقاومة من جذب العديد من المواقع الدبلوماسية الدولية إلى إطار المفاوضات عبر تحرك مجلس الأمن وما طُبخ من مشاريع مستعجلة.

- المفاجأة الأخرى في الجانب الإسرائيلي المقابل،تمثلت بعدم قدرتها على تحقيق أي مكسب سياسي،بل سجّلت تراجعات ملفتة تتعلق بالأمور الاستراتيجية لا التكتية،وانتقلت إسرائيل من تجريد حزب الله لسلاحة وإطلاق الأسيرين دون قيد أو شرط إلى الكلام حول إمكانية تراجع المقاومة إلى مسافة عشرين كيلومترا عن الحدود الدولية.

في الجانب النفسي ثمة مفاجآت عديدة أخرى يمكن تسجيلها وأبرزها:

- تمكن المقاومة من امتصاص الإرباك الداخلي ومحاولة الإحباط المفروضة داخليا وخارجيا والانتقال إلى مرحلة الفعل في إرباك وإحباط القيادة والشعب الإسرائيليين.وقد تجلى المظهر الأول في وسيلة الإعلان عن ضرب البارجة الحربية الإسرائيلية مباشرة على الهواء.ففي الوقت الذي كان ينتظر الداخل والخارج ردة الفعل على ضربات البنية التحتية اللبنانية بقصف بعض المنشآت الإسرائيلية أتى الرد في الجانب الذي يوجع إسرائيل وفي احد مفاخرها الحربية البحرية "ساعر 5"،ما أنهك المعنويات العسكرية وأعطى دفعا داخليا لبنانيا كبيرا من الصعب وصفه لحظة الإعلان عن العملية.

- لم تستعمل المقاومة كامل طاقتها وقدرتها العسكرية وغيرها في بعض الأحيان التي يتوجب عليها ذلك،ويبدو أنها أتت في إطار مدروس جدا هدفه اللعب على العامل النفسي. ففي حين تهدد الضرب في مكان تأتي الضربة في منطقة أخرى وهذا يعتبر من أساليب الإرباك والإحباط المفترض في صفوف الإسرائيليين.

- إن مجمل الخطابات التي ألقاها سيد المقاومة قد استعمل فيها تعابير وأساليب حرب نفسية من الطراز الأول،فيها اللين والعزم والقدرة في آن،وفيها الرد المدروس بدقة وقت الضغط والشدة،فيها الهدوء وبرودة الأعصاب والابتسامات في وقت نفاد الأعصاب لدى القيادة الإسرائيلية،فيها تمرير المواقف والامكانات في وقت الجهل والضياع الإسرائيليين.

باختصار ثمة مفاجآت ومفاجآت من الصعب حصرها ، إلا إن سر وقوف المقاومة رغم هذه الضغوط الهائلة هي بحد ذاتها مفاجأة كبيرة للإسرائيليين،وهي مؤشر واضح على لعبة قامت بها إسرائيل ولن تعرف من أين سيأتيها الجواب،انه سر بعينة.

خامسا: قراءة أولية في نتائج العدوان الإسرائيلي على لبنان

أما وقد ركبت القيادة الإسرائيلية رأسها عنادا وتعنتا وأخذت الخيارات الأكثر صعوبة على الجميع،ثمة رؤى مختلفة أخذت طريقها إلى المنطقة اقلها تغيير معادلات كثيرة منها ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ومنها ما يتعلق بحجم ووزن بعض القوى الإقليمية في المنطقة ومدى فاعليتها في السياسيات الإقليمية المطروحة حاليا.فما هي القراءة الأولية لنتائج العدوان الإسرائيلي على لبنان وما هي آثاره في دول المنطقة؟في هذا الإطار يمكن تسجيل العديد من المسائل.

لبنانيا، على الرغم من أن مفاعيل الاعتداء حاول استهداف احد ابرز لاعبيه وهو حزب الله وبالتالي المقاومة،ثمة أمور كثيرة يمكن أن تضاف إلى هذا الهدف المحوري ليشمل أشياء أخرى لم تكن معلنة قبل بدء العدوان ولا حتى في اليومين الأولين على بدءه،وفي مطلق الأحول ثمة العديد من الأمور يمكن تسجيلها ومنها:

- إن ابرز نتائج العدوان استهداف إسرائيل للبنى التحتية بشكل مباشر وإعادة لبنان إلى نقطة الصفر في مجال الإنماء والأعمار،ذلك بهدف محاولة التأكيد للبنانيين أن ثمن وقوفهم إلى جانب المقاومة سيكون غاليا،وبالتالي إن الثمن المطلوب دفعه في هذا المجال إعادة لبنان إلى مرحلة ما قبل اتفاق الطائف اقله في الحجر إن لم يكن البشر.

- ممارسة الحرب النفسية بشتى صنوفها على اللبنانيين بهدف إملاء الشروط الإسرائيلية التي عجزت من فرضها عسكريا،ومحاولة توسيع الشرخ الذي أُحدِثَ مؤخرا حول التمييز بين حق المقاومة وشرعية عملها وبين تحديد المكان والزمان لذلك والتنسيق مع الحكومة.ومن الطبيعي أن ازدياد الضرب على هذا الهدف أدى إلى انقسامات حادة وواسعة في المجتمع اللبناني وبالتالي إيصاله إلى الصدام والى مرحلة ما قبل إنفاق الطائف أيضا.

- فرض معادلات داخلية جديدة على قاعدة منطق الغالب والمغلوب ولو باستثمار نتائج استعمال القوة الخارجية في أهداف داخلية،اقلها معادلات الحكم والسلطة وصولا إلى تحديد استراتيجيات جديدة تحدد موقع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي إن كان هناك وجه من أوجه هذا الصراع لا يزال موجودا خارج إطار المقاومة اللبنانية.إي بمعنى آخر فرض حياد لبنان عن ملفات الصراع العربي الإسرائيلي بعدما باءت كل المحاولات السابقة بالفشل على مدى أكثر من نصف قرن.

- إن معضلة إعادة الأعمار مجددا ستتخذ أبعادا إضافية صعبة كثيرا،فلبنان ينوء تحت حمل كبير جدا من الديون الخارجية والداخلية ولن يتمكن في المرحلة القادمة اقله تسديد فوائد الدين فقط، لذا سيجرى استغلال هذا الملف بفرض شرط مكرر منذ عشرات السنين وهو توطين الفلسطينيين في لبنان مقابل بعض المساعدات المالية والاقتصادية،إذ يعتبر هذا الملف من صلب الأهداف غير المعلنة للعدوان ومن صلب النتائج التي سيتم استثمارها لاحقا وفي أوجه متعددة ومتنوعة.

- تطبيق القرار 1559 عنوة وبالقوة بعدما عجزت الحكومة اللبنانية وبعض الأطراف الداخليين من تنفيذه لأكثر من سنة،فالحوار الداخلي توقف عند هذه النقطة بالتحديد والكل يعلم داخليا وخارجيا أن هذا الملف لن يحل داخليا بفعل موازين القوى الداخلية المعروفة.فحل موضوع سلاح المقاومة بات معروفا من وجهة النظر الأمريكية الإسرائيلية، إما بحرب أهلية جديدة تزج المقاومة فيها بشكل أو بآخر وهذا ما حاولت إسرائيل وأميركا فعله عبر التوترات الداخلية إلا أن فشله أتى بفعل حكمة القيادة السياسية للمقاومة،فلم يكن هناك من بد إلا العدوان الإسرائيلي وخلط الأوراق مجددا وقلب الطاولة الإقليمية على راس جميع اللاعبين،لإعادة برمجة جميع ملفات المنطقة من جديد.

- أما الهدف الأبعد من ذلك كله في حال تمكن العدوان من فرض إطار الشروط بشكل جيد من وجهة النظر الإسرائيلية،إجبار لبنان على الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وإخراجه نهائيا من دائرة الصراع على غرار ما حصل بعد اجتياحه العام 1982 وما تلاه من توقيع اتفاق 17 أيار 1983.

وإذا كانت الصورة تبدو بهذا المشهد القاتم من أهداف العدوان على لبنان،فان إسرائيل هدفت إلى عدة نتائج من أبرزها:

- الهروب إلى الأمام من مآزق الوضع القائم في غزة بعد اسر الجندي الإسرائيلي وعدم تمكنها من الوصول إلى نتيجة تذكر في هذا المجال،وبالتالي تحويل الرأي العام الإسرائيلي إلى أهداف أخرى.

- محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت من تثبيت زعامته السياسة وهي التجربة الأولى له بعد تسلم مقاليد الحكم في إسرائيل.وهي سوابق معروفة لدى جميع القيادات الإسرائيلية الناشئة بافتعال حروب خارجية لتكريس الزعامة السياسية الداخلية.

- استثمار هذا العدوان في حال نجاحه لتسويقه سياسيا في إدارة ملفات الصراع مع مواقع إقليمية أخرى ابززها سوريا والسلطة الفلسطينية عربيا،لفرض الشروط وإعادة إنتاج تجارب اوسلو مجددا.

أما نتائج هذا العدوان عربيا فتبدو اشد غرابة،فعلى الرغم من أن العرب قد عودوا أنفسهم وعودوا غيرهم على ردّات الفعل والابتعاد عن الفعل الايجابي،فيأتي هذا العدوان ليبرز العديد من المواضيع أبرزها:

- تشتيت الموقف العربي مجددا وظهور التباينات الحادة في أساس معالجة العدوان وذيوله،وترك محاولات الحلول لأطراف غير عربية،والإثبات مجددا أنهم غير قادرين على ممارسة أي فعل حتى ولو كان سلبيا.فاجتمعا مجلس الوزراء العرب في بيروت إبان العدوان على مستوى وزراء الخارجية أكد هذا التوجه ولم يتمكن من اتخاذ أي قرار ذات شان هام في هذا المجال.

- الوجه الآخر لنتائج العدوان إثبات أن العرب قادرون فقط وكالعادة تقديم المساعدات المادية وفي الإطار الإنساني ليس إلا ويمنع عليهم التدخل في غير هذا الإطار.

- ومن نتائج هذا العدوان أيضا عربيا إفهام من يعنيه الأمر أن على العرب شاءوا أم أبوا لن يكون لهم أي موقع لا في التاريخ ولا في جغرافية المنطقة،وهم ينبغي أن يبقوا على هامش الحياة السياسية الإقليمية حتى يقضي الله أمرا كان مكتوبا.

إن النتائج كبيرة ومن الممكن أن تقلب موازين قوى ومعادلات كثيرة في المنطقة يصعب تعدادها وحصرها، لكن مهما يكن من أمر إن شعبا تعلم كيف يرضِّع الحليب لأطفاله مع سكر المقاومة لن يهزم، وأن شعبا لديه من القيادات الحكيمة غير المتهورة كما يقال عنها من الصعب تصور هزيمته، فالأحلام شيء والواقع شيء آخر،وأن قائدا يقول وينفذ،يعد ويصدق،يعرف ويعرف فقط كيف يوصل لبنان وغير لبنان إلى بر الأمان.

سادسا: المقاومة تدشِّن عصرا جديدا من القتال

أدت الدروس المستفادة من العدوان الإسرائيلي على لبنان إلى نتيجة حتمية خلص إليها خبراء عسكريين حول العالم، وهي أن صورة الحرب في القرن الحادي والعشرين اختلفت شكلا ومضمونا وموضوعا عن الحروب السابقة؛ فالعالم مقدم على حقبة تقدم فيها الجماعات المسلحة وأشباه الدول أداء عسكريا يفوق أداء الجيوش النظامية للدول نفسها.

وقد تباينت آراء الخبراء العسكريون في تعريف وتسمية هذا النوع الجديد من الحرب؛ فهناك من سماه بـ "نزاع غير تقليدي أو لا متماثل"، وهناك من وصفه بـ"الحرب الحديثة" باعتباره نواة الشكل الأحدث لحرب القرن الحادي والعشرين، ولجأ البعض لمصطلحات فنية من قبيل "حرب الشبكات" أو "الجيل الرابع من الحروب".وربما اختلفت التعريفات قليلا أو تباينت الأوصاف، ولكنها جميعًا تشترك في رسم ملامح عامة لنزاع بين قوة صغيرة، لا مركزية، تنبثق من جماعة لا دولة، تتحول في إطاره مميزات وإيجابيات وأفضليات الجيوش النظامية الكبيرة التابعة لدولة والمتمثلة في قدرة نيرانية هائلة، وتكنولوجيا متقدمة متفوقة، وتسلسل قيادي هرمي واضح، إلى عوامل ضد هذه الجيوش، وتجعل بذلك كسب الحرب على المستوى السياسي والإعلامي أهم وأولى بالاعتبار والاهتمام من حساب الخسائر وعد الطلعات الجوية وتعداد المقذوفات .

إن التكتيكات العسكرية تعتبر من فنون وعلوم كسب المعارك، فالتكتيكات التي اتبعها المقاومون وضعت تحت الدراسة لبحث كيفية نجاحها في إدارة المعركة والبقاء صامدة في وجه جيش مصنف بأنه الرابع على مستوى العالم بعد جيوش الولايات المتحدة وروسيا والصين.

فكيف نظمت المقاومة نفسها وكيف حوّلت الأسلحة والذخائر إلى درجة عالية من الفاعلية، علما أن المقاومة لا تعمل كجيش نظامي، كما أن أساليب القتال التي اتبعتها مغايرة للمعروف من طرق وأساليب حرب العصابات المعروفة. تتلخص الإجابة في حرب الشبكات وأسماها البعض "حرب عصابات مطوَّرة"؛ فلدى الحزب 4 مستويات من الأفراد؛ اثنان قتاليان، واثنان احتياط:

- القوات الخاصة وهي عبارة عن مقاتلين محترفين تدريبهم على مدى سنوات من خلال فرق ودورات تدريبية عالية.

- المقاتلون العاديون، وهم أفراد عاديون ذوو خبرة بسيطة بالقتال أو بدونها، وهؤلاء يوكل إليهم عمليات الدعم والإمداد والأنشطة المعتادة في أثناء المعارك فيما عدا القتال مع إمكانية مشاركتهم في الاشتباكات بصورة غير أساسية.

- مستوى الاحتياط الأول، وهؤلاء أنهوا تدريبات عسكرية بعد أدائهم للخدمة العسكرية الإلزامية بحيث لا تزيد مدة بعدهم عن الأجواء العسكرية عن 3 سنوات، باعتبارهم ما زالوا يحتفظون بذاكرة هذه الأجواء يوكل إليهم بالعمليات اللوجستية وجمع المعلومات، ونادرا ما يتم الدفع بهم في خطوط الجبهة.

- مستوى الاحتياط الثاني، وهؤلاء يختلفون عن المستوى الأول بزيادة مدة بعدهم عن الأجواء العسكرية عن 3 سنوات.

ويضاف لهؤلاء الأربعة أنواع من الفرق، الفرق الفدائية المعروف عن أفرادها القليل، ويتميزون بالهدوء والكتمان والسرية والقدرة الفائقة على عدم لفت الانتباه ، والذي شارك بشكل قوي وفعال في الحرب المستويات الثلاث الأولى من الخمس مستويات.

لقد أتقنت المقاومة تكتيك الكر والفر بحيث يعجز الإسرائيليون عن استهدافهم باتباع أساليب الحرب التقليدية، وفيما يشبه الخلايا العنقودية التي في عالم الحركات والمنظمات السرية، فإنهم يقاتلون في شكل جماعات من 5 إلى 6 عناصر، وكل مجموعة مستقلة تماما عن المجموعات المجاورة فيما أطلق عليه "الشبكات" في دنيا الحروب والعسكرية.

فلكل مجموعة من تلك المجموعات لديها تعليمات عسكرية عامة أي خطة حركة يتفق عليها تقتضيها الظروف قبل الاشتباك وأثناءه ، ما يسمح بالعمل حتى في حالة الانقطاع الكلي للاتصالات مع قواعد القيادات، أو الانقطاع الميداني وهو ما حدث فعلا خلال الحرب بعدما دمرت إسرائيل الطرق التي تصل بين مختلف المناطق اللبنانية ، ويؤمن هذا النظام أيضا عدم التنصت.

تتنقل كل مجموعة مستخدمة الدراجات النارية، ما سمح بمرونة فائقة تتواءم مع الطبيعة الخاصة بلبنان، والتسليح الأساسي لكل واحدة هو بنادق خفيفة ورشاشات ومضادات للدروع وقنابل يدوية، وبأقل قدر من الخسارة الذاتية، يمكن لهذا النمط من إلحاق خسائر بالغة في العدو.

إن أكثر ما لفت الأنظار في العدوان هو قدرة المقاومة على مواصلة ضرب المدن والبلدات الإسرائيلية بالصواريخ وقصفها، رغم دفع الإسرائيليين بألوية قوات خاصة في الهجوم البري، ووحشية وكثافة القصف الجوي، والمدفعي والصاروخي، والحصار البحري، والتفوق الإسرائيلي في الرصد بالأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع.الإجابة، بحسب مصادر عسكرية لبنانية ، تتلخص في أن 3 دراجات نارية هي التي تقوم بالعمل بشكل يضمن مرونة التحرك كالتالي:

- يربض مقاتل على مسافة للمراقبة والبحث عن أي طائرات استطلاع أو مروحيات أباتشي.

- تقوم مجموعة من فردين على دراجة نارية بنصب بطارية الإطلاق بدون تعمير القاذف بالصاروخ في زمن قدره 5 ثوانٍ ثم تنسحب.

- تقوم مجموعة من فردين على دراجة بتسليم الصاروخ ثم تنسحب في زمن قدره 3 ثوانٍ.

- تقوم مجموعة بتعمير القاذف بالصاروخ وتطلقه وتنصرف في زمن يتراوح بين 10 و20 ثانية.

- تقوم المجموعة الأولى بالعودة لجمع منصة الإطلاق وسحب القاذف، وإذا أبلغهم عنصر المراقبة بأن الجو خال وأمان، يقومون بإخفائه في مكمن تحت الأرض حتى يتسنى استعماله في عملية أخرى، وتتفرق كل المجموعات الصغيرة في اتجاهات مختلفة .

كما أتضح من سياق المعارك أنها شهدت أيضا تكتيكات مبتكرة جديدة درست فيها المقاومة عدوها الإسرائيلي جيدا، واستلهمت وهضمت التكتيكات الكلاسيكية وطورتها بما مكَّن مقاتليها من تكبيد الإسرائيليين خسائر فادحة، فقد بلورت نمطا جديدا من القتال يختلف عن القتال التقليدي وعن القتال غير التقليدي. وكان نمطه المستند في كل معاركه على القدرات الصاروخية نمطا ثالثا، فهو يستخدم طائفة من الصواريخ "سطح - سطح" في قصف العمق الإسرائيلي، وتدمير بارجة وزورق بحريين إسرائيليين، وصواريخ مضادة للدروع والدبابات، وصواريخ مضادة للطائرات.

كذلك اعتمد رجال المقاومة أسلوب قتال يعتمد على المواجهة المباشرة والتصدي للقوات المتسللة، وهو يختلف عن كل التقنيات وأساليب قتال العصابات القائمة على مبدأ "تجنب المواجهة المباشرة" (الفر في التقدم، والكر في السكون والتراجع). هذا الأسلوب حمل إسرائيل على القول بأننا لا نحارب مليشيا بل لواء من القوات الخاصة من الجيش الإيراني، ربما ليخفف من حجم الهزيمة التي لطخت وجهه في بلدة مارون الراس.

وأدق من هذا التكتيك الميداني المتمثل في المواجهة المباشرة، والالتفاف حول القوة المهاجمة، نفذ المقاومون تكتيك الاندفاع نحو المواقع الخلفية للعدو بمجموعات صغيرة وإنزال ضربات في القوى الموجودة والانسحاب تحت وابل من صواريخ تستهدف المدن والمستوطنات وخطوط الإمداد والدعم، ومن ثم اعتماد مبدأ الحركة الدائمة وعدم إخلاء الميدان ما يحول دون تحول الاختراق إلى احتلال، وفرض مفهوم إنشاء مناطق اشتباك بدل الأرض المحتلة. ثم تنوع أساليب القتال أو نمط العمل التكتيكي الميداني؛ من السد الواقف والضرب على الأذناب، إلى الوعاء الحاضن ثم المدمر، إلى الكمائن البسيطة أو المركبة والمتعددة، إلى الاستدراج إلى مناطق التقتيل، إلى الغارات المركبة أو البسيطة، إلى الأفخاخ البسيطة أو ذات القوة التدميرية الهائلة .

كما لجأت المقاومة أيضا أثناء تقدم القوات الاسرائيلية إلى زرع العبوات ضد جنود الاحتلال على جانبي الطرق، ولما استطاعت القوات الإسرائيلية مواجهة العبوات الناسفة المفخخة السلكية عبر قطع الأسلاك والتشويش على العبوات اللاسلكية التي تفجر عبر موجات الراديو، قام المقاومون بتطوير أجهزة التحكم في التفجير عبر هاتف خلوي، ثم عدة هواتف خلوية بمنظومة مركبة بعد أن أبطل الإسرائيليون هذه الطريقة، وأخيرا استخدم حزب الله تفجير عبواته الناسفة من خلال أجهزة تحكم تستخدم الخلايا الضوئية كتلك المستخدمة مثلا في المصاعد.

سابعا: مقاربة بين حرب 1973 وعدوان إسرائيل 2006

خاضت إسرائيل ست حروب كبرى ومعارك كثيرة مع العرب جيوشا وأنظمة ومقاومين. وسميت هذه الحروب إما بتاريخ وقوعها مثل 48 و56 و67 و73 و82 و2006 أو من الأولى حتى السادسة بالترتيب أو بأسماء ذات دلالة مثل النكبة والعدوان الثلاثي والنكسة وتشرين التحريرية وغزو لبنان لإخراج المقاومة الفلسطينية وحرب الوعد الصادق مع حزب الله.وفي كل هذه الحروب ما عدا اثنتين كانت إسرائيل هي المبادرة للحرب وكانت الحروب بالنسبة لإسرائيل أقرب إلى النزهة .

أما الاثنتان الرابعة والسادسة فكانتا كما وصفهما الإسرائيليون أنفسهم بالصدمة أو الفشل أو الكارثة أو التقصير وهما في الواقع هزيمتين كبيرتين بكل المعايير العسكرية والسياسية والنفسية وكان الطرف العربي هو المبادر فيهما.إلا أن المهم في هاتين الحربين النتيجة السياسية التي يمكن استثمارها من الناحية العملية، والى أي مدى يمكن أن تنسحب على قضايا الصراع وملفاته المتعددة والمتنوعة.

- المشترك بين الحربين

في حرب 1973

- ثمة فشل استخباراتي أميركي - إسرائيلي كبير في كشف التحضيرات المصرية - السورية للمعركة وفي تقدير حجم التسليح الذي تم تحضيره للمعركة .

- ثمة مفاجأة في شل فعالية الطيران الإسرائيلي وفي قدرة مضادات الطائرات سام 6 وسام 7 على إسقاط الطائرات الإسرائيلية.

- ثمة مفاجأة في قدرة مضادات الدروع على تدمير الدبابات الإسرائيلية .

- تم تدمير خط بارليف الذي اعتبر أهم تحصين عسكري في العصر الحديث .



- أدت المعركة إلى حالة من الصدمة في أوساط القادة الإسرائيليين وفي أوساط جيشها.

- قامت أميركا بمد إسرائيل بجسر جوي أدى إلى قلب موازين المعركة وجعل الانتصار جزئياً وإن كان له دلالته الإستراتيجية الكبرى.

- في عدوان 2006

- ثمة فشل استخباري إسرائيلي فاضح في تقديراته لقدرات حزب الله وفي فشله في اختراق بنيتة التنظيمية وكشف أماكن تواجد قادته ومنصات صواريخه.



- ثمة مفاجأة في قدرة المقاومة على امتصاص الضربات الجوية، وعلى إيصال صواريخها إلى العمق الإسرائيلي حتى تل أبيب، التي هدد سماحة السيد بقصفها إذا قصفت بيروت، فكان أن وافق الصهاينة على وقف إطلاق النار ربما ليس خشية من قصف تل أبيب بل ربما خشية من تصعيد يصعب توقيفه وربما خشية أن يطال القصف ما بعد تل أبيب كمفاعل ديمونا.



- ثمة مفاجأة في هشاشة دبابة المركافا - الدبابة الأولى تصفيحا في العالم- أمام مضادات الدروع التي تمتلكها المقاومة .



- عجز إسرائيل عن التقدم في الأرض اللبنانية في المعارك البرية، برغم كل قوات النخبة التي تم زجها في المعركة، وبرغم الكم الضخم لعدد القوات مقارنة بمقاتلي المقاومة.

- ثمة صدمة هائلة لدى القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية لدرجة إقدام رئيس هيئة الأركان على إقالة قائد المنطقة الشمالية أوري آدم أثناء الحرب، وهو ابن نائب رئيس هيئة أركان سابق قتل على أيدي المقاومين.

- مدت الولايات المتحدة إسرائيل بكل وسائل الدعم السياسي والعسكري وأقامت جسرا جويا للصواريخ الذكية والذخيرة علها تحقق لإسرائيل انتصارا في القضاء على حزب الله.

- أوجه الاختلاف بين الحربين الرابعة والسادسة

ثمة فروق يمكن تلخيصها في التالي:

- خاض الحرب الرابعة جيشا دولتين عربيتين مركزيتين هما مصر وسوريا ولم تكن هذه الحرب ملهمة بكون النظم الأخرى لا تستطيع لا بحجمها ولا ببنيتها العسكرية ولا بما كان متوفرا لها من نظم تسلح أن تقلد النموذج المصري والسوري. بينما خاض الحرب السادسة حزب كبير في دولته الصغيرة والضعيفة والمنهكة .

- في الحرب الرابعة كان هناك تضامن رسمي عربي تجلى في إرسال المساعدات وفي إرسال فرق الجيوش وفي استعمال سلاح النفط في الضغط على الحلف المعادي للعرب والمتحالف مع إسرائيل. بينما في الحرب السادسة خاضها حزب الله مجردا من أي تعاون رسمي عربي بل تمت مواجهته بتواطؤ مكشوف سياسيا وإعلاميا شكل غطاء مثاليا لإسرائيل للاستمرار في عدوانها ، ولم يجد سوى الدعم الشعبي اللبناني والعربي المحبط بفعل أداء نظمه وقواه السياسية، ودولة عربية واحدة هي سوريا ودولة إسلامية إقليمية هي إيران.


الفصل الرابع


العدوان والهزيمة

أطلقت إسرائيل في الثاني عشر من تموز 2006 العنان لآلة حربها المدمرة على لبنان وظل يُنظر وباستغراب إلى الاستهداف المتعمد للبنية التحتية والسكان المدنيين وأسلوب الدمار الممنهج الذي اتبعته هذه القوات، ولكن واقع الأمر أن ما قامت به إسرائيل هو تجربة لاستراتيجية عسكرية لعقيدة قتال وضعتها الولايات المتحدة عرفت باسم "الرعب والصدمة" تهدف إلى الاستغلال الأمثال لقدرات الأسلحة المتطورة، وكان من المفترض تجربة وتنفيذ هذه العقيدة في غزو العراق عام 2003 بعد أن عرضها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي على الرئيس بوش والذي وافق عليها، ولكنها لم تنفذ وبالتالي لم تدمر البنية التحتية للعراق نسبة لنوايا أمريكا للبقاء فيه وحاجتها إلى هذه البنية للاستفادة منها في مراحل العمليات اللاحقة ومنذ ذلك الوقت لم تتح أي فرصة لتطبيق هذه الاستراتيجية والعقيدة حتى سمحت الفرصة لتطبقها إسرائيل في لبنان .

يتمثل مفهوم الرعب في كثافة وحجم القوة المستخدمة، أما الصدمة فتتمثل في نتائج هذا الاستخدام ويتم هذا المفهوم باستخدام مزيج من الأسلحة فائقة الدقة من الجو مع ضربات جوية وبرية وبحرية متواصلة على الوحدات المتحركة أو أي أهداف مختارة وفرض الهيمنة والسيطرة السريعة بفضل الاستغلال الكامل لخصائص وقدرات وتقنيات الأسلحة الحديثة وحركتها ودقتها العالية وكثافة التدمير حتى لا تترك للخصم أي فرصة أو مجال للقتال أو الصمود بل الوصول إلى انعدام الرغبة في مواصلة القتال والتفكير في الانصياع والاستسلام.

ويعتمد تطوير عمليات عقيدة الرعب والصدمة ومنذ المراحل الأولى لها على معرفة وتحديد الأهداف المهمة عسكرية ومدنية وأسبقية تدميرها أو عزلها مع مواصلة الإزعاج بالقصف والاستطلاع لجمع المزيد من المعلومات المفصلة واستمرار الوتيرة العالية للعمليات وتنوع المصادر المستخدمة في التدمير ولإيجاد حالة من الإحباط والفزع ودفع الخصم بالقوة للوصول إلى حالة من الضعف التام وعدم القدرة على التصدي والعجز عن الدفاع.

وتعتمد الفكرة العامة لتنفيذ عقيدة الرعب والصدمة على السرعة في التطبيق لشل الخصم وتحقيق الهيمنة على كافة أبعاد المسرح براً وبحراً وجواً، لذلك فإن النجاح يتطلب ضرورة تحديد الأهداف الاستراتيجية السياسية والعسكرية والعملياتية ومن ثم تحديد الأهداف الحيوية المهمة التي يمكن أن يؤدي استهدافها إلى الانهيار السريع والمباشر للخصم، ويتطلب ذلك بدوره أهمية تأمين أكبر قدر من المعلومات الاستخبارية المفصلة عن الخصم أو الأهداف وأن يتم الهجوم بسرعة وقسوة شديدة من البداية لإقناع الخصم بعدم جدوى المقاومة، ويلاحظ ذلك بشكل واضح في عدوان إسرائيل على لبنان، كما شكل شح المعلومات الدقيقة عن المقاومة وكوادرها ومواقعها وأسلوب الصمود والمقاومة الذي أبدته مفاجأة لم تتوقعها إسرائيل ما دفعها بالتالي إلى زيادة جرعة التدمير في البنية التحتية وإيقاع خسائر كبيرة بالسكان المدنيين.

إضافة إلى الهيمنة والسيطرة الفورية فإن التركيز على ضرب المناطق والأهداف الحيوية والسكانية هدف أيضا إلى تحقيق الانهيار العسكري والسياسي السريع وذلك بفضل تأثير منظومة الاستهداف المتطورة من الطائرات والسفن والمدفعيات والأسلحة فائقة الدقة التي تحدث قدراً كبيراً من التدمير في العناصر والوسائل التي تخدم أو تربط القادة العسكريين بوحداتهم وتدمير قدرة وفاعلية الحكومة وشلها تماماً وإيجاد حالة من الذعر والرعب والهلع بين السكان

إن القدرة على تدمير البنية التحتية والمرافق التجارية والطرق والجسور والمطارات والموانىء ومراكز السلطة والحكومة ومساكن المدنيين ومصادر المياه والطاقة والاتصالات يمكن أن يحقق السيطرة والهيمنة الفورية على مسرح العمليات إذ يؤدي استخدام وتوجيه المصادر العسكرية المتاحة إلى تأثير نفسي ومعنوي وجسدي ومادي وهي النتيجة النفسية المرجوة في النهاية من إتباع سياسة التدمير الممنهج على أن يصاحبها الإصرار على الانصياع والاستسلام من دون أي قيد أو شرط لمطالب المعتدي، وعليه يلاحظ التشدد والتعنت والإفراط في القوة الإسرائيلية والإصرار على مواصلة تدمير البنية الأساسية واستهداف السكان المدنيين مع التهديد بالمزيد من التدمير واستخدام أنواع أخرى من الأسلحة أشد فتكاً وكل ذلك لكسر إرادة الخصم وبالتالي إمكانية تحقيق الأهداف الاستراتيجية السياسية والعسكرية.

لقد كانت هيروشيما وناكازاكي مثالاً تاريخياً على رؤية وأهداف استراتيجية الرعب والصدمة، فبعد القنبلة الذرية الثانية انقسم مجلس الحرب الياباني بين مواصلة التصدي أو الاستسلام ثم أعلن الإمبراطور استسلام اليابان من دون قيد أو شرط لذلك فإن الانقسام وسط الفئات اللبنانية والعالم العربي والإسلامي هو ما سعت إليه إسرائيل من خلال تطبيق عقيدة "الرعب والصدمة" فهي هدفت إلى فرض الاستسلام والاعتراف بقدراتها العسكرية والاستجابة إلى شروطها ومطالبها في وقت تنظر وتنتظر فيه أمريكا نتائج تجربة تطبيق إسرائيل لنظريتها العسكرية وبإعجاب وتأييد شديدين.

ثانيا :الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في حروبها مع العرب

بات واضحا منذ بداية الصراع العربي – الإسرائيلي أن القوة العسكرية سوف تكون مرنكزا اساسيا في ادارة هذا الصراع، وبصرف النظر عما إذا كان من الممكن لقرار تقسيم فلسطين عام 1947 أن يشكل حلا للمشكلة أم لا، كانت رؤية الأطراف المختلفة لما يتم التنازع حوله تركّز على أنها ليست مجرد "مصالح إستراتيجية" يمكن الوصول إلى حل وسط بشأنها، وإنما هي "قيم أساسية" لا توجد إمكانية للمساومة عليها، رغم أن بعض المساومات الفرعية قد جرت بالفعل، وشكل ذلك مع الوقت ما أصبح يوصف عربيا وإسرائيليا أيضا بأنه "صراع وجود، وليس صراع حدود" ، أي أنه لا يحل –على الأقل من وجهة النظر العربية حينها– سوى بنهاية أحد أطرافه. لكن بينما كانت الدول العربية تتصور أن بإمكانها أن تقضى على إسرائيل، لم يكن من الممكن أن تتخيل القيادات الإسرائيلية أنها يمكن أن تقضي على الدول العربية، ومن هنا تشكلت الأطر العامة السياسات العسكرية التي تعرف حاليا بالسياسات الدفاعية الحاكمة للعقائد والإستراتيجيات العسكرية للجانبين.

ورغم أن تلك النوعية من الصراعات الاجتماعية الممتدة لا تحل باستخدام القوة العسكرية تحديدا، إذ إن ذلك يتطلب اتباع إستراتيجيات إبادة أو تطهير عرقي أو ترحيل جماعي ليس بمقدور أي طرف تحقيقها عمليا، فقد ساد تصور على الجانب العربي بأن الصراع مع إسرائيل "لن يحسمه إلا معركة عسكرية فاصلة" ، وسيطر تصور على الجانب الإسرائيلي بأنه – حسب تعبير موشى دايان وزير دفاع إسرائيل الأسبق- "ليست لدى الدول الصغيرة سياسة خارجية، وإنما فقط سياسة أمنية". والمثير أنه وضح في الفترات التالية خلال الخمسينيات والستينيات أن القوة المسلحة تمارس في الإستراتيجية الإسرائيلية (الدفاعية شكليا) دورا أكبر بكثير مما تمارس عمليا في الإستراتيجيات العربية (الهجومية نظريا)، رغم ما كان يفترض أنه العكس تبعا للخطاب الرسمي المعلن للطرفين .

لقد بنت إسرائيل عقيدتها الدفاعية على أساس قراءة أمنية متطرفة لبيئتها الإستراتيجية وخصائصها القومية، وذلك على النحو التالي:

1 - انعكاسات البيئة الإستراتيجية:

استندت الرؤية الإسرائيلية على أن إسرائيل دولة صغيرة وسط عالم عربي كبير يهدف إلى تدميرها، وبالتالي فإن قضية الأمن بالنسبة لها ليست مسألة فقدان سيادة بل إنها تهديد للبقاء "من الناحية الفيزيائية" وبالتالي فإن عليها –حسب تعبيرات إيغال آلون– أن تستعد لأسوأ حالة متصورة، وهى هجوم عربي شامل تشنه عدة دول عربية ضدها من جهات مختلفة ، وقد أدى ذلك إلى اعتماد مبدأين في السياسة العسكرية الإسرائيلية، هما:

الأول أن تتعامل مع الدول العربية على أساس القدرة لا على أساس النوايا، في ظل وجود احتمالات دائمة للتنسيق فيما بينها، والثاني أن تمتلك قوة عسكرية تتفوق على مجموع عناصر القوة المسلحة للدول العربية التي يمكنها أن توحد قواتها وتنسق فيما بينها، بهدف ردع الدول العربية بمنعها من شن هجوم كبير، وإذا ما اندلعت الحرب يتسنى لها كسبها.

الثاني: انعكاسات الخصائص القومية وقد عكست تلك الخصائص نفسها على الإستراتيجية العسكرية مباشرة، فتبعا للتحليل الإسرائيلي، تتمثل أهم خصائص إسرائيل في محدودية مساحتها، وتقلص أبعادها الجغرافية، وبالتالي افتقادها إلى العمق الإستراتيجي .

ورغم ما يبدو من أن تلك النظريات المشار إليها تعبر عن إسقاطات حتمية لضرورات إستراتيجية، فإن كثيرا منها يستند إلى رؤية سياسية من زاوية ضيقة لملامح البيئة الإستراتيجية أو الخصائص القومية، أو يستند على أسس نفسية تتصل بعقدة الأمن في التاريخ اليهودي، كما أنها ظلت تمثل موجهات لإستراتيجية إسرائيل العسكرية، حتى بعد انتهاء الأسس التي أفرزتها، فلم تكن إسرائيل مضطرة إلى المشاركة في حرب السويس عام 1956، وثمة من حاول في إسرائيل قراءة "البيئة الإستراتيجية" بصورة مختلفة على نحو أدى إلى بدء اتصالات مع مصر عام 1955، كما فعل موشى شاريت رئيس وزراء إسرائيل الثاني، قبل أن تفسد "مجموعة بن غوريون" في وزارة الدفاع ذلك. ورغم أن إسرائيل حصلت على "حدود قابلة للدفاع عنها خلال حرب يونيو1967"، إلا أن بعض المبادئ الهجومية لإستراتيجيتها ظلت على ما هي عليه، وحاولت بعض قياداتها العسكرية، كأرييل شارون، استخدام القوة العسكرية لأهداف "الإجبار"، البعيدة تماما عن الدفاع أو الردع، في لبنان عام 1982.

لقد كان العنوان العريض لإستراتيجية إسرائيل العسكرية قبل عام 1967 هو "الأسباب المبررة للحرب"، الذي يقوم على تحديد الخطوط الحمراء التي يمثل تجاوزها مبررا يؤدي إلى قيام إسرائيل بشن حرب (وقائية) دون انتظارها، ولقد أدى احتلال إسرائيل لسيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 إلى تحول تلك الإستراتيجية إلى مبدأ رئيسي هو "الحدود القابلة للدفاع" الذي يرتبط بإمكانية إتباع إستراتيجية ردعية/ دفاعية معتادة، بحد أدنى من مبادئ الهجوم. لكن في أواخر السبعينيات أدت بداية عملية التسوية المصرية– الإسرائيلية، بما تتضمنه من استعادة مصر لسيناء، والتوترات المسلحة في جنوب لبنان بين عناصر المقاومة الفلسطينية وإسرائيل إلى عودة التفكير –في ظل ضغط من قبل شارون- بمنطق الأسباب المبررة للحرب"، مع اندفاع شديد باتجاه استخدام القوة المسلحة لتحقيق أهداف سياسية وليس دفاعية، كما أوضحت حرب لبنان عام 1982، التي أدت تداعياتها إلى انهيار الصيغة التقليدية لإستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلية ، وظهور أفكار حول بناء إستراتيجية عسكرية تقليدية معدلة، أو الانتقال إلى الإستراتيجية النووية.

ولم يكن النقاش حول إستراتيجية إسرائيل العسكرية قد حسم حتى أوائل التسعينيات عندما بدأت عملية التسوية الشاملة للصراع العربي – الإسرائيلي عام 1991، في أعقاب نهاية حرب الخليج (1991)، على نحو أدى إلى ارتباكات جديدة، بفعل انتشار صواريخ أرض – أرض البالستية، وأسلحة التدمير الشامل غير النووية في المنطقة، بالتوازي مع احتدام عمليات "حرب العصابات" التي اتبعتها المقاومة في جنوب لبنان وكذلك في الاراضي الفلسطينية المحتلة

وقد أفضى النقاش حول إستراتيجية إسرائيل العسكرية عام 2000 إلى الأفكار الخاصة ببناء "جيش صغير ذكي" قادر على الفعل ورد الفعل السريع تجاه التهديدات غير المحددة، وغير المتوقعة لأمن الدولة، تلحق به برامج عسكرية متطورة لإنتاج نظم تسليحية حديثة، كبرنامج حيتس للدفاع ضد الصواريخ البالستية، مع تطوير مهام الجيش للتعامل مع ما أصبح يسمى التهديدات الموجهة ضد "الأمن الشخصي" للإسرائيليين، ويتم كل ذلك عبر مستويات مرتفعة من التكلفة المالية، ودرجات عالية من عدم اليقين بشأن النتائج العملياتية.

في الجانب العربي، ثمة مشكلة دائمة، فلا يوجد في واقع الأمر ما يمكن أن يسمى "إستراتيجية عسكرية عربية"، فالإشارة إلى القدرات العربية لا تعدو أن تكون مجرد مسألة افتراضية، إذ إن لكل دولة عربية جيشا منفصلا، ولكل منها عقيدة عسكرية خاصة، مع ضعف شديد في قدرات النقل الإستراتيجي بين الدول، وبالطبع عدم وجود قيادة موحدة، فما تمّت إقامته في إطار جامعة الدول العربية من هياكل للعمل العربي المشترك، لم يكن سوى كيانات "على الورق"

لقد كانت الإستراتيجيات العسكرية الوطنية لدول المواجهة العربية مع إسرائيل هي الأساس العملي الذي يعمل طوال الوقت، في ظل اختلالات مختلفة. فبينما كانت الدول العربية تتبنى رسميا في مرحلة 1948-1967 هدف تحرير فلسطين، واستخدام القوة المسلحة أداة رئيسية، كان الواقع يشير إلى ما يلي:

- ضعف شديد في القوة العسكرية لدول المواجهة الثلاث الرئيسة مقارنة بإسرائيل، فلم تكن قوات تلك الدول (مصر، سوريا، الأردن) قادرة على تحقيق أي أهداف إيجابية إزاء إسرائيل، من خلال التهديد أو الهجوم، لأسباب تتعلق بضعف إمكانياتها، والاهتمام بأمن النظم، وتدخل الجيش في السياسة

- إستراتيجيات دفاعية على جبهات المواجهة الثلاث، فقد تبنت الدول الثلاث في واقع الأمر إستراتيجيات دفاعية، وتبعا لما يذكر المشير محمد عبد الغني الجمسي "في الجبهتين الأردنية والسورية (عام 1967) كانت فكرة الخطط فيهما دفاعية، دون تخطيط مسبق للتعاون بينهما أو للتعاون مع الجبهة المصرية وكذلك الوضع نفسه على الجبهة المصرية، فحتى عندما عقدت اتفاقية التعاون المصري - السوري عام 1966، لم يتخط التخطيط العسكري نمط الدفاع، فقد كانت معظم الخطط دفاعية وقائية، ولم تنفذ حينما جاء الوقت لتحقيقها.

ولقد أدت حرب يونيو/ حزيران 1967 إلى تحولات جوهرية في الإستراتيجيات العسكرية العربية، فقد تبددت التوجهات المعلنة الخاصة بشن حرب شاملة على إسرائيل في ظل أهداف واقعية تتصل بتحرير الأراضي التي احتلت عام 1967، بالتوازي مع تحوّل حقيقي من جانب مصر وسوريا باتجاه التخلي عن الخطط الدفاعية، وتبني مبدأ "الهجوم المحدود"، الذي عبرت عنه حرب تشرين أول / أكتوبر 1973، بينما كانت فيه الأردن قد التزمت بمبدأ الدفاع منذ نهاية حرب حزيران / يونيو 1967. وبعد الحرب (1973) عادت المفاهيم الرئيسية المصرية والسورية مرة أخرى إلى "الدفاع" بأشكال معدلة، واتجهت مصر إلى استخدام الأدوات السياسية لاستعادة بقية أرض سيناء، بينما اتجهت سوريا بالمحاولة لتحقيق "توازن إستراتيجي" يتيح لها استعادة الجولان بالقوة العسكرية.

وفي المراحل التالية التي بدأت خلالها عملية التسوية السلمية للصراع العربي – الإسرائيلي، بدأت التصريحات الرسمية تشدد على أن تلك الدول تتبع إستراتيجيات ردعية – دفاعية، في ظل تحولها في اتجاه تبني السلام خيارا إستراتيجيا، إلا أن تقديرات مختلفة تشير إلى أنها لا تزال قائمة أساسا على الدفاع، وأنها تحاول التحول من الدفاع إلى الردع، في ظل تحديات خطرة يفرضها ميزان القوة العسكرية بين إسرائيل وتلك الدول، بالتوازي مع التوجسات المستمرة إزاء احتمالات الانزلاق إلى حرب إقليمية في الشرق الأوسط.

ثالثا: الهزيمة تغيِّر استراتيجيات وعقائد عسكرية إسرائيلية

غرقت المؤسسة السياسية العسكرية الأمنية الإعلامية والأكاديمية البحثية الإسرائيلية في مرحلة ما بعد العدوان على لبنان، وفي أعقاب الهزيمة الشاملة التي منيت بها "دولة إسرائيل العظمى" أدخلتها حركة فراغ سياسي داخلي صعب.فالجدل تصاعد في مختلف المستويات وأخذت لجان التحقيق المتعددة تتشكل للتحقيق في إخفاقات وتقصير المشرفين على الحرب إلى درجة أن الجيش الإسرائيلي أعلن مثلا عن تشكيل خمسين لجنة تحقيق داخلية تضم مئات الجنرالات بهدف التحقيق في أسباب وعوامل الهزيمة المدوية كما وصفها الخبير العسكري زئيف شيف في إحدى مقالاته.

فقد حطمت وأسقطت نتائج الحرب من ضمن ما حطمت وأسقطت جملة من النظريات والمفاهيم الحربية القتالية التي درج ذلك الجيش على تبنيها وتطبيقها على مختلف الجبهات العربية بمنتهى الغرور العسكري الإجرامي على ما يزيد عن نصف قرن.وعليه فإن جملة كبيرة من الأسئلة والتساؤلات الإستراتيجية المتعلقة بالجيش ونظرياته الحربية القتالية وغيرها تطرح نفسها بقوة متصاعدة من يوم لآخر.فما الذي حدث للعقيدة العسكرية الحربية الإسرائيلية،وما الذي حدث مع تلك المفاهيم والنظريات الحربية التي كرَّست وجود الدولة العبرية وحافظت عليه على مدى عقود مضت؟وأين النوع التسليحي الإسرائيلي وأين التكنولوجيا الحربية الإسرائيلية الأميركية المتفوقة في هذه المواجهة الحربية مع المقاومة وأين الردع الإسرائيلي وما الذي جرى له؟.وماذا فعلت المساندة التي قدمتها الدولة الأميركية العظمى لإسرائيل في هذه الحرب، وهل أنقذتها من الهزيمة، ثم أين سلاح الجو الإسرائيلي الضارب الساحق الذي نجح في هزيمة الجيوش العربية في ساعات معدودة؟ ولماذا لم ينجح في تدمير بنية المقاومة التحتية ومخزونها من الصواريخ العابرة للحدود الإسرائيلية، وأين الوحدات المظلية والإنزالية والمدرعة النخبوية المتميزة في الحرب، وما الذي جرى لها؟والسؤال الاستراتيجي: أين الجيش الإسرائيلي الرابع في العالم الذي لا يهزم ولا يقهر؟

لقد عكفت إسرائيل بكافة مؤسساتها العسكرية الأمنية الاستخبارية السياسية الأكاديمية البحثية على تقييم وتقويم مجريات الحرب وعوامل الهزيمة والقصور.كما عكفت على استنتاج العبر والدروس اللازمة على مستوى إعادة دراسة النظريات والمفاهيم والمرتكزات والرؤى الحربية الإسرائيلية المعتمدة حتى الحرب الأخيرة والعمل على إعادة صياغتها من جديد، إضافة إلى العمل على تطويرها وتطوير الأدوات الحربية اللازمة معها.وفي هذا الإطار الحربي التحديثي كانت الحكومة الإسرائيلية قد اتخذت قرارا مبكرا بتكليف دان مريدور بتشكيل لجنة تحت رئاسته بهدف تغيير النظريات العسكرية الحربية التي لم تتغير منذ عهد بن غوريون.وقد توصّلت هذه اللجنة إلى مفهوم جديد للأمن الإسرائيلي استنادا إلى المرتكزات التالية:

- لم يعد تهديد الحرب التقليدية من قبل العرب يشكل التهديد المركزي لإسرائيل.

- ينبغي توظيف طاقات أكبر في مواجهة التهديد النووي الإيراني.

- لم تعد أساليب الردع القديمة عملية في مواجهة مقاتلي العصابات.

- ثمة ضرورة قصوى للتزود بالمزيد من الطائرات بدون طيار من أجل حماية أجهزة الحواسيب الوطنية

وفي حين أشار الخبير الإستراتيجي زئيف شيف إلى "أن ثورة جوهرية تجري في الجيش الإسرائيلي بالنسبة للمخطط الهيكلي للحرب القادمة"، تحدث الكاتب عوفر شيلح عن "أن تقرير مريدور تحدث عما لا يقل عن 14 اتجاها ومرفقا للتعاظم المستقبلي للجيش الإسرائيلي"، إذ بحث في تطوير ومتابعة حقيقة النظرية العسكرية لإسرائيل، كما بحثت اللجنة كل شيء من الطائرات بدون طيار إلى القدرات الاستخبارية.وعلى نحو متكامل كتب إسحق بن إسرائيل في صحيفة يديعوت يقول "انقضى فصل الحرب وتوجد حاجة إلى البدء بالعمل لإعادة بناء الجيش".وفي هذه المضامين والأبعاد أيضا تساءل المحلل والمعلق العسكري الإسرائيلي رؤوبن بدهتسور في هآرتس "هل يجب أن تتغير النظرية القتالية للجيش الإسرائيلي وبنية الجيش المشتقة منها كواحد من دروس الحرب في لبنان؟ ويستحضر بدهتسور هنا مرتكزات العقيدة العسكرية الإسرائيلية في العقود الماضية قائلا "تذكر هذه الفترة بقدر كبير بالتصور الذي صيغ في الجيش الإسرائيلي بين 1967 و1973، حين اعتقدت القيادة الرفيعة آنذاك أن سلاح الجو الذي استطاع أن يخضع الجيوش العربية في ابتداء حرب يونيو/ حزيران 1967، سيستطيع أن يرد وحده تقريبا على كل تهديد جديد، ولكن النتيجة كانت غير ذلك حينما تم النظر بعجرفة إلى قدرة العدو العسكرية على أنها غير جدية.ويرى هذا الكاتب أنه يجب على الجيش الإسرائيلي أن يفحص إمكانات مواجهة الصواريخ وصواريخ الكاتيوشا قصيرة المدى، منبها إلى أنه ليس من الواضح ما إذا كان نظام "نيئوتيلوس" يستطيع الرد على المشكلة، مع أنه تجب العودة إلى فحص إمكانية إكمال تطويره.ويقول إن سلاح الجو يجب أن يستمر في تطوير طرائق "صيد" منصات إطلاق الكاتيوشا، مع العلم بأنه قد يكون من غير الممكن مواجهة هذا التهديد من الجو، مضيفا أن هذه أفكار أولية، وأنه على الجيش الإسرائيلي أن يصرف الأشهر القريبة إلى مناقشات عميقة صائبة لدروس حرب لبنان ولتطوير نظرية قتالية جديدة .

وفي نفس السياق اعتبر نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز في مقالة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية "أن على إسرائيل استخلاص الدروس من الحرب في لبنان وإعادة النظر في مقاربتها للمسائل العسكرية".وقال بيريز "اختبرنا في لبنان شكلا جديدا من أشكال القتال"، مؤكدا أن على إسرائيل التركيز على التكنولوجيا الجديدة خاصة الإنسان الآلي المسير عن بعد الذي يعمل في ساحة المعركة, مع الاحتفاظ بقواتها الدفاعية التقليدية لمواجهة أي هجوم محتمل من جيش كلاسيكي.وبشر بيريز الإسرائيليين ويهود العالم بتطوير منظومة جديدة من الأسلحة الرادعة، مؤكدا أنه منذ اليوم يمكن القول إن في إسرائيل مجموعة من العلماء الممتازين القادرين على إنشاء منظومة أسلحة ووسائل دفاعية حديثة وجديدة "نانو تكنولوجي"، ما يمكن الجيش من الإصابة الفردية للعدو، وتوفير حماية شخصية لمن يدافع عن نفسه.

وتبعا لما أشار إليه بيريز من تطوير أسلحة النانو تكنولوجي، فإن المؤسسة الحربية العسكرية الأمنية الإسرائيلية باشرت عمليا بتوظيف أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا، واكتشفت أن في التكنولوجيا الصغرية (NANO TECHNOLOGY) الأداة المناسبة والرد الأنجع على تحديات أسلوب حزب الله القتالي.وفي هذه الموضوع نشرت صحيفة معاريف تقريرا كاملا حول حرب "نانو تكنولوجي أو حرب الأنتربرايز" كما وصفتها.فتحدثت على سبيل المثال عن تطوير تكنولوجيا تمكن من إخفاء الجنود والدبابات والطائرات، وعن سلاح "هايتيك" يمكن من كشف المسلحين وتفجيرهم بكبسة زر.

وكشفت عن روبوت شخصي يتبع الجنود ويجر وراءه الذخيرة والتموين، وكذلك عن غلاف دفاعي يشمل مواقع كاملة ويزودها بالرد المناسب الأوتوماتيكي في مواجهة أي تهديد، إضافة إلى عاكس يبين للجنود ما يجري خلف الجدران من الجانب الآخر.

كما أكدت صحيفة جيروزلم بوست أن وزارة الحرب الصهيونية طلبت من شركة لوكهيد مارتن الأميركية للصناعات العسكرية إجراء الاختبارات والتعديلات اللازمة على مدفع "سكاي شيلد / درع السماء" للدفاع الجوي لاعتراض صواريخ الكاتيوشا قصيرة المدى التي تعتقد أن حزب الله ما زال يمتلك منها ترسانة تقدر بعشرة آلاف صاروخ.ويشار إلى أن نظام "درع السماء" من تصميم شركة "أويرليكون كونترافيس" السويسرية وتتولى "لوكهيد مارتن" إنتاجه، وقد جرى اختباره في يوليو/ تموز من العام 2004 في حقل الرماية العائد للجيش الأميركي في تشاينا لايك بكاليفورنيا وأثبت نجاحه.

وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية عن خطة جديدة لجهاز الأمن العام الإسرائيلي تقضي بتجنيد عناصر من رجال التكنولوجيا "الهايتيك" المؤهلين وذوي التجربة لتطوير برامج جديدة.وأوضح المسؤول الإسرائيلي أن جهاز الشاباك يبحث عن أشخاص يقومون بتطوير برامج ممن لهم باع طويل في التجارب السابقة في العمل بأجهزة مماثلة، وبتطوير برامج خاصة بالمراسلات الإلكترونية.وقالت صحيفة يديعوت أحرونوت أيضا إنه ابتداء من تاريخه فإن خريجي الوحدات التكنولوجية في الجيش الإسرائيلي سيتلقون رسائل شخصية من رئيس جهاز "الشاباك"، يوفال ديسكن، يطلب فيها منهم الانضمام إلى "التحديات التكنولوجية والعملية لجهاز الأمن العام".وتحت عنوان "تكنولوجيا تحت النار" كتب أرييه أغوزي في يديعوت أحرونوت يتساءل ما الذي جرى لأجهزتنا الدفاعية؟ مشيرا إلى أن هجوم الصواريخ من قبل حزب الله على إسرائيل كان من أضخم عمليات الهجوم التي شنت عبر التاريخ.ويؤكد أن الثقة العمياء بالقدرات التكنولوجية الإسرائيلية أعمت عيون قادة الجيش في الحرب، وهذا السؤال سيكون بالتأكيد نصب أعين لجان التحقيق أيا كانت.

والمؤكد كما يضيف هو أن عمليات تطوير الهايتيك عملت على مدار الساعة في هذه المعارك، منبها إلى أن هذه الحرب كانت من جهة الجيش الإسرائيلي حرب "المزلطيم" أي الطائرات بدون طيار، إذ استخدم الجيش في الأجواء اللبنانية هذا النوع من الطائرات بصورة مكثفة جدا.ولكن الكاتب يتناسى الإشارة هنا إلى فشل هذه الطائرات أيضا في إخضاع المقاومة!"

إن نتائج الحرب الكارثية لم تأت في الحسابات الإسرائيلية على الإطلاق الأمر الذي سيجبر إسرائيل على إعادة النظر في حسابات إسرائيل وتقييماتها المتعلقة بعقيدتها ونظرياتها الحربية التي اعتمدتها على مدار العقود الماضية.

كما أن هذه الهزيمة الإستراتيجية والتاريخية التي ألحقها حزب الله بذلك الجيش الذي "لا يقهر" وكذلك الذي "لا يفهم" في هذه الحرب يوحي للعديد من الباحثين الأكاديميين وللأكاديميات العسكرية في العالم بأن تطرح الأسئلة الإستراتيجية وأن تفتح ملفات العقائد والنظريات الأمنية الكلاسيكية من جديد بجدية متناهية، وأن تبحث بالتالي عن سر هذا الانتصار التاريخي الذي حققه حزب الله في مواجهة رابع جيش في العالم.فهل سيغير هذا الانتصار التاريخي والإستراتيجي الذي حققه حزب الله على إسرائيل من إستراتيجيات الجيوش النظامية بشكل عام، ومن إستراتيجيات الجيوش العربية بشكل خاص، كما أثر في العقيدة العسكرية الإسرائيلية وأسقط مرتكزاتها الإستراتيجية والتكتيكية على حد سواء؟أسئلة تحتاج إلى أجوبة المعنيين بها.

وفي المحصلة يمكن القول أن نتيجة الحرب كانت مختلفة عن الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل في المنطقة، حيث اضطرت للتراجع عسكرياً، والاعتراف بالفشل في ميدان المعركة في مواجهة المقاومة ، رغم استخدامها لأعتى ما في حوزتها من قوة تدميرية. وبمعنى أكثر تحديداً فقد وجدت إسرائيل نفسها في هذه الحرب، في مواجهة المعطيات الآتية:

- عدم القدرة على خوض حرب نظامية، بسبب مواجهتها لقوة مقاومة، ليس لها قواعد معينة، أو ثابتة. ومن الواضح انه في حرب كهذه يصعب تحديد الأهداف، وتعيين مفهوم موازين القوى، كما يصعب تحديد معنى النصر والهزيمة، ولعل هذا هو مصدر الاضطراب والتخبط الإسرائيليين في هذه الحرب، الأمر الذي اعترف به إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية.

- نجاح المقاومة بنقل المعركة بأهوالها، إلى داخل البيت الإسرائيلي، أي إلى نهاريا ومعلوت والعفولة وطبريا وعكا وحيفا وصفد، ما اضطر حوالى مليون إسرائيلي للنزوح من أماكن اقامتهم، أو للاحتماء في الملاجئ، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، وقد أدى ذلك إلى ضغط داخلي كبير، على القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل، بعد أن تبين أن ثمة ثمناً كبيرا جدا ينبغي على إسرائيل أن تدفعه هذه المرة جراء الحرب.

- ضعف القدرة على التحكم بالمعركة، مكانها وزمانها وأسلحتها وأهدافها. ففي هذه الحرب اضطرت إسرائيل مراراً إلى تعديل جدولها الزمني، إذ باتت أمام حرب استنزاف طويلة، والأهم من ذلك اضطرارها إلى تغيير سلم الاولويات والاستهدافات العسكرية والسياسية.

- العجزعن اجتياح الأراضي، بسبب استبسال المقاومين في مواجهة الدبابات وجنود المشاة الإسرائيليين، وهو ما شكل مفاجأة حقيقية لإسرائيل.

- الإخفاق في إسكات مصادر النيران، أو السيطرة عليها، ما جعلها تخوض حرباً دفاعية من الداخل .

- فشل سلاح الجو، كما سلاح المدرعات، في حسم المعركة، ما اضطر إسرائيل لدفع ثمن باهظ عند محاولة إدخال سلاح المشاة مباشرة في الحرب، حيث تكبدت خسائر فادحة بالأرواح، و تدهور الروح المعنوية.

- تمكن المقاومة بسبــــب الجهوزية العالية، وحسن إدارة الوضع، من إبقاء المبادرة والمباغتة والهجوم لديها، في كثير من الأحيان، ما أربك مخططات إسرائيل وحساباتها، وأضعف من قدرتها على الحسم.

وعليه يمكن القوا أن إسرائيل أخفقت في عملياتها واستهدافاتها وإدارتها العسكرية، فهي لم تستطع استعادة الجنديين الأسيرين، ولم تتمكن من إضعاف المقاومة، ولا إبعاد تهديد صواريخها، كما لم تنجح في إبعادها عن الحدود مع إسرائيل. والمفارقة الهامة أن هذه الحرب كانت بمثابة فضيحة للجيش الإسرائيلي، الذي بدا هشاً في مواجهة المقاومين وتكتيكاتهم ومفاجآتهم، الأمر الذي أضعف من هيبته، وقوّّض من قدرته على الردع في المنطقة .

رابعا : في أسباب الفشل العسكري خلال العدوان

ثمة أسباب متنوعة للفشل الإسرائيلي خلال العدوان منها استراتيجي ومنها تكتي وأهمها:

- افتقار الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية لمعلومات دقيقة عن إمكانات المقاومة ومراكز قيادته ونوعية أسلحته وتكتيكاته القتالية ومخازن أسلحته. فأحد أكبر إنجازات الحزب، منذ نشأته، هو منع الاستخبارات الإسرائيلية من اختراق صفوفه، وحتى في حال نجاحاتها المحدودة على هذا الصعيد كان الجهاز الأمني للحزب يعالج المشكلة بسرعة ويفكك شبكات التجسس. فكل ما حصل منذ 12 تموز (يوليو)، من تمكن المقاتلين من خطف الجنديين الإسرائيليين ومفاجأة البحرية الإسرائيلية بصاروخ موجه وتمكنهم من الصمود على الجبهات وإلحاق خسائر في المدرعات وفشل الكوماندوس الإسرائيلي في تحقيق أي هدف من أهداف عمليات الإنزال وعدم تمكن إسرائيل من وقف إطلاق صواريخ الكاتيوشا على أراضيها، كل ذلك يعتبر من الناحية العسكرية إخفاقات استخباراتية كبيرة.

-الاستعمال المفرط لسلاح الجو، ويعيد بعض الخبراء الإسرائيليين ذلك لكون قائد الأركان الإسرائيلي الحالي(دان حالوتس) من سلاح الجو.إلا أن اعتماد إسرائيل على سلاح الجو لحسم المعركة ليس أمرا جديدا. كما أن إسرائيل أخذت تعتمد بشكل متزايد على هذا السلاح في مواجهة المقاومة ومرد ذلك هو العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تضع ضمن أولوياتها تقليص الإصابات في صفوف جنودها .

- التركيز على سلاح المدرعات في المعارك البرية مع إعطاء دور ثانوي لسلاح المشاة. ومرد ذلك إعطاء الأولوية لتحقيق نصر سريع عبر الحرب الخاطفة التي تعتمد على الحركة السريعة للمدرعات عبر وخلف خطوط الخصم وتحت غطاء جوي ومدفعي. لكن الصواريخ المضادة للدروع انتزعت تفوق الميركافا وأخفقت حركتها .

- الاعتماد المفرط على التكنولوجيا وشل القدرات القتالية لسلاح البر، خاصة عند الفشل في تحقيق السيطرة الكاملة على أرض المعركة خلال مواجهة خصم محترف . كما أن الجيش الإسرائيلي لم يخض أي حرب برية منذ اجتياح لبنان العام 1982 سوى التصدي للانتفاضة. وغالبية جنوده من قوات الاحتياط.



الفصل الخامس


جرائم إسرائيل وانتهاكات القانون الدولي الإنساني



كعادتها لم تتورع إسرائيل يوما عن انتهاك القوانين والأعراف الدولية المنظمة للحروب،بل عمدت منذ بداية عدوانها على لبنان إلى استهداف المدنيين والمنشآت غير العسكرية،فنفذت المجازر علة مساحة لبنان شماله وجنوبه شرقه وغربه،وامتدت يد الغدر إلى الأطفال والشيوخ والنساء، دون رادع أو وازع قانوني أو أخلاقي.كما دمّرت بشكل منهجي البنى التحتية اللبنانية من جسور ومنشآت صحية وتربوية وكل ما يخطر ولا يخطر على البال،خارقة بذلك كل ما يمكن أن يوصف بحقوق الإنسان أو القوانين المنظمة لحماية المدنيين أثناء الحروب والنزاعات.

أولا : القانون الدولي الإنساني والنزاعات المسلحة

يُعرّف القانون الدولي الإنساني، الذي يسمى أيضا قانون " النزاعات المسلحة"، بأنه مجموعة المبادئ والقواعد التي تحمي في زمن الحرب الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو الذين كفّوا عن المشاركة فيها والتي تحد من استخدام العنف أثناء الحرب أو من الآثار الناجمة عنها تجاه الإنسان عامة. ويعتبر هذا القانون فرعا من فروع القانون الدولي العام لحقوق الإنسان، غرضه حماية الأشخاص المدنيين في حالة نزاع مسلّح وحماية الممتلكات والأموال والمنشآت التي ليست ذات طابع عسكري، وهو يسعى إلى رفع أي اعتداء عسكري عن السكان غير المشتركين بصورة مباشرة أو الذين كفّوا عن الاشتراك في النزاعات المسلحة مثل الجرحى والغرقى وأسرى الحرب .

ثانيا الاتفاقات والنصوص المنتهكة

إن استهداف العدوان الإسرائيلي البربري أولا وآخرا وبصورة متعمّدة المدنيين الأبرياء والآمنين والبنى التحتية والاقتصادية في لبنان يناقض بشكل صريح وواضح القانون الدولي الإنساني لاسيما الاتفاقيات والصكوك الدولية التي ترعى النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وقواعد الحرب ويؤسّس جرائم حرب خطيرة يعاقب عليها القانون الدولي الجزائي.

وفي الواقع يحظر القانون الدولي الإنساني العنف الممارس على المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء بصورة منظمة ومنهجية، كما تحرّمه كل الديانات السماوية في حدود تحقيق العدالة في صراعات أو مواجهات يكون الهدف منها ردُّ الظلم والدفاع عن النفس والحياة والممتلكات مع "احترام الإنسانية في الإنسان البريء الذي أجمعت الأديان كلها على "ومضة عزة الله" في خلقه وتكوينه" . وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارات كلها تجسّد هذه القيمة الإنسانية وترفض الظلم الذي يكمن في إيقاع الأذى بغير وجه حق وعدل بواسطة أسلحة مدمرة ومحظورة دوليا. ذلك إن الهدف من "الحرب العادلة" هو وضع حد لاغتصاب حقوق الشعب وليس ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية ضد شعب آخر والخروج على تقاليد الأديان والقيم الإنسانية وقواعد القانون الدولي الإنساني. ومن هذا المنطلق بالذات، وبالتأسيس على هذه القيم والقواعد، فان قانون النزاعات المسلحة - القانون الدولي الإنساني- قانون الحرب- يهدف أساسا إلى حماية الإنسانية وحقوق الإنسان من خلال القوانين والاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحدد قيود استخدام القوة العسكرية في النزاعات المسلحة ومن أهم النصوص الدولية :

اتفاقية " جنيف الأولى" لسنة 1864.

- إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة.

- إعلان لاهاي لسنة 1899 حول قذائف " دم دم " والغازات الخانقة.

-اتفاقية " لاهاي" لعام 1907 وهي تتضمن نصوصا أساسية تضع ضوابط وقواعد وأصول مهمة للنزاعات المسلحة، إذ أنها تهدف إلى تنظيم وسائل حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة البرية والبحرية.

- اتفاقية هيغ لعام 1907 التي تتضمن قواعد مهمة تتعلق بمفهوم الحياد وبمفهوم الاحتلال وبكيفية إدارة العمليات الحربية. يشار إلى أنه أضيفت على هذه الاتفاقية قواعد الحرب الجوية التي وضعت مسودتها في العام 1923 من دون أن تعتمد بشكل رسمي حتى الآن .

- بروتوكول جنيف بشأن تحظير استعمال الغازات السامة والأسلحة الجرثومية لعام 1925.

- ميثاق الأمم المتحدة.

- اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.

- اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية المواقع الثقافية في زمن النزاعات المسلحة.

- اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972 .

- اتفاقية أوسلو لمنع استخدام بعض الأسلحة.

- اتفاقية باريس لتحظير استعمال الأسلحة الكيماوية.

- اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980 بشأن حظر أو تقييد بعض الأسلحة التقليدية.

- البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في العام 1977 لاستكمال الحماية التي تضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.

وبعد التدقيق في نصوص الاتفاقيات والصكوك الدولية السالفة يتضح أن الحرب المدمرة والمبرمجة التي شنّها الجيش الإسرائيلي على لبنان والتي نتج عنها قصف المدنيين الآمنين وتشريد مئات الآلاف منهم وضرب البنى التحتية والاقتصادية دون التركيز على الأهداف العسكرية، تشكّل خرقا فاضحا لقوانين النزاعات المسلحة وللمبادئ العامة والأعراف التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني.

وإذا كانت إسرائيل ترتكز في عدوانها على مبدأ "حق الدفاع عن النفس" وفقا لنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. فإن ضخامة العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في لبنان تثبت تخطيها لحق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة لجهة استهداف العدوان بالدرجة بشكل منظم ودائم المنشآت والبنى المدنية والجسور ودور العبادة والمدنيين، ومن حيث استعمال الجيش الإسرائيلي لكم هائل ومخيف من الأسلحة المدمرة والمتطورة وحتى بعض الأسلحة التي تحظرها الاتفاقيات الدولية . ومن هنا، يتأكد بوضوح أن إسرائيل تخرق أحكام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعترف بحق كل دولة بالدفاع عن نفسها إما بشكل فردي وإما بشكل جماعي، وذلك لعدم تناسب وسائل الدفاع التي تستعملها مع خطورة الاعتداء الذي وقع عليها ( خطف الجنديين)، إذا كان هناك فعلا من اعتداء. وعليه، لا يمكن التسليم بأن العملية المدمرة التي قامت بها تستند إلى حق الدفاع عن النفس، إذ أن هذا الحق لا يقوم إلا في حال كانت وسيلة رد العدوان متناسبة مع حجم خطورة وقوة العدوان الواقع. يضاف إلى ذلك إن نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة يضع لزاما على الدولة التي تستعمل حق الدفاع بأن تبلّغ مجلس الأمن فورا "بعملية رد العدوان" أو بإجراءات استعمال حق الدفاع، على أن لا يحول هذا الدفاع عن النفس دون تمكّن مجلس الأمن من القيام بالإجراءات التي يراها مناسبة من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدولي تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كما يلاحظ في هذا السياق، أن مجلس الأمن الذي يقع على عاتقه واجب حفظ الأمن والسلم الدوليين وفقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة لم يبادر إلى اتخاذ قرار بوقف شامل لإطلاق النار مكتفيا في المرحلة الأولى بوقف العمليات العدائية وفقا للقرار 1701.

ثالثا: انتهاك قواعد النزاعات المسلحة.

إن العدوان الذي شنته إسرائيل ضد لبنان وعلى النحو البربري والوحشي الذي اعتمدته أساسا لنجاحه عبر القضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء وبتهديم ما أمكن من المنشآت المدنية والجسور والبيوت، تشكّل انتهاكا فاضحا للعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، إذ أنها خالفت مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال، وموجب تحييد المدنيين ومبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء أو الخطر المحدق بالجهة التي تلجأ إلى القوة من أجل حل نزاعها مع الطرف المستهدف.

أ‌- مخالفة مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال الحل العسكري

من الواضح لا تسمح قواعد القانون الدولي الإنساني باللجوء إلى استعمال القوة من اجل حل النزاعات بين الدول أو في داخل الدول إلا في حالة الضرورة القصوى بحيث تكون القوة الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها من أجل التوصل إلى حفظ السلم والأمن الدوليين أو من اجل رد العدوان أو وضع حد للأعمال الإرهابية التي تتعرض لها الدولة المعتدى عليها. وهذا ما يمكن استنتاجه من نص البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي جاء فيه أنه " يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر". وهذا ما يؤكّد عليه أيضا وبشكل صريح البند الرابع من المادة ذاتها بنصه على أنه " يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". ما يعني أن الدولة المعنية لا يمكنها استعمال القوة العسكرية ضد دولة أخرى أو بلد آخر إلا في حالة الضرورة كحالة الدفاع عن النفس أو كالحالة التي يصبح فيها استخدام القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة المتوفرة لرد العدوان أو لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو لمواجهة أعمال إرهابية تطال من أمن الدولة المعنية ومن سلامة مواطنيها. .

إن مراجعة سير وطبيعة الأعمال الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد لبنان، يتبيّن أن هذه الأعمال لا يمكن إسنادها إلى حالة الضرورة العسكرية، باعتبارأن فعل خطف الجنديين الإسرائيليين لا يؤلّف مبررا كافيا ومقنعا كي يستخدم كأساس شرعي لهذه الحرب الشرسة التي شنتها إسرائيل ضد لبنان، كما أن هذا العدوان وان وصفه البعض بالخطر على إسرائيل ، فهو لم يهدد فعلا الكيان الإسرائيلي ولم يحمل اعتداء خطيرا على أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها وبالتالي لا يبرر حربا مدمرة ومنظمة واسعة النطاق.

إضافة إلى ذلك إن حالة الضرورة العسكرية لا تقوم قانونا إلا إذا كانت مسندة إلى سبب شرعي أو قانوني، ما يعني أنه لا يمكن اعتبار فعل خطف الجنديين الإسرائيليين اعتداء فعليا ضد الجيش الإسرائيلي طالما أن إسرائيل لا زالت تحتفظ بعدد من الأسرى اللبنانيين من دون وجه حق. ومن هنا، فان فعل خطف الجنديين الإسرائيليين يمكن إدخاله في خانة عمل المقاومة الشرعي ضد العدو الذي تجيزه شرعة الأمم المتحدة في البند الثاني من مادتها الأولى أي حق الشعوب في تقرير المصير.

وعلى ما سبق يمكن القول أن الحرب التي شنتها إسرائيل ضد لبنان لا تقوم على أساس الضرورة العسكرية، ذلك لأن هذه الضرورة لا تستند إلى أي مبرر موضوعي حقيقي كما أن العملية الحربية التي يراد تبريرها بالضرورة العسكرية لا تتمتع بالشرعية الحاسمة.

ب‌- مخالفة مبدأ التقيّد بحدود معّينة في استعمال القوة العسكرية

أكّدت المادة 35 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الموقع في العام 1977 على « إن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقا لا تقيده قيود". وفي الاتجاه ذاته، كانت قد أشارت صراحة المادة 22 من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1907 إلى أنه " ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو".

وعليه ليس للمتحاربين الحق غير المقيّد بأي قيد في اختيار وسائل الإضرار، باعتبار أن الهدف الرئيس للحرب يكون ضرب القوة العسكرية للعدو وإيقاع الهزيمة به. وفي السياق ذاته، يحظّر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949 استخدام الأسلحة التي من شأنها زيادة معاناة الجرحى وآلامهم وجعل تدهور حالتهم الصحية أو موتهم أمرا محتوما ومؤكدا. وهذا ما كانت قد أكّدت عليه من قبل المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان المؤرخة في 12 آب / أغسطس 1949 والتي جاء فيها أنه " يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية". وكذلك تنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب على أنه " يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين...".

أن إسرائيل لم تفرط في استعمال القوة العسكرية فقط وإنما لم تتقيد بأي حدود أو سقف في تنفيذ عملياتها العسكرية حيث لجأت إلى استعمال كافة الأسلحة الثقيلة وحتى بعض الأسلحة المدمرة وغير المسموح استعمالها والمحرّمة دوليا ضد المدنيين الشيوخ والأطفال والنساء والمرضى من دون تمييز ولم تضع لعملياتها الحربية أي حدود أو أهداف واضحة ومحددة غير تلك التي تبتغي القتل والدمار والتهجير.

ج – مخالفة واجب تحييد المدنيين

يفرض قانون النزاعات المسلحة على الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية حماية المدنيين وتحييدهم عبر اتخاذ الإجراءات الضرورية التي يمكن بموجبها التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وتلتزم الدولة التي تختار القوة العسكرية لحل نزاعها مع دولة أخرى أو لصد عدوان ما أو لوضع حد لخطر إرهابي أو لأعمال إرهابية معينة بحماية الأشخاص العاجزين عن القتال أي المقاتلين الذين عجزوا عن القتال بسبب مرضهم أو إصابتهم بجروح أو أسرهم أو لأي سبب آخر يمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وعناصر الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية، ذلك تطبيقا لنص المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان ولنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. كما يتوجب على القوات المسلحة التي تستخدم القوة العسكرية، عملا بأحكام المادة 21 من اتفاقية جنيف الرابعة، احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل. وعلى كل طرف من أطراف النزاع أن يكفل حرية مرور جميع إمدادات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصرا إلى سكان مدنيين حتى ولو كانوا تابعين لدولة عدوة. وعليه أيضا الترخيص بحرية مرور أي إمدادات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال والنساء الحوامل أو النفاس ( م 23 من اتفاقية جنيف الرابعة). ويكون من واجبات أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال دون الخامسة عشر من العمر الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب وتيسير إعالتهم وممارسة طقوس ديانتهم وإيوائهم في بلد محايد طوال مدة النزاع ( م 24 من اتفاقية جنيف الرابعة).

إن الوقائع الثابتة بالصور والمشاهد التلفزيونية والتقارير الصحافية والأمنية تثبت أن القوات الإسرائيلية انتهكت جميع هذه القواعد والأعراف التي تحكم النزاعات المسلحة كونها تستهدف بقصفها العشوائي المدنيين من دون تمييز بين مواقع عسكرية وأخرى مدنية ومن دون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين وتقوم بضرب الجسور وبقطع كل المواصلات البرية بهدف منع وصول المؤن والأغذية والأدوية إلى المدنيين اللبنانيين المحاصرين. اضافة إلى ذلك أن هذه القوات وبدلا من أن تتخذ إجراءات معينة لتحييد المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة ولحمايتهم أو لتسهيل عملية نقلهم إلى مناطق آمنة أو محايدة، راحت تلقي عليهم الأطنان من القنابل وتقطع عنهم المؤن والأغذية وتهجّرهم من منازلهم ومن قراهم ومدنهم وترتكب بحقهم أبشع الجرائم وأخطرها ( جرائم حرب ) التي يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، ما يؤلّف خرقا فاضحا وخطيرا لكل قواعد قانون النزاعات المسلحة أو للقانون الدولي الإنساني.

د – مخالفة مبدأ التناسب بين الوسيلة العسكرية وحجم الاعتداء وخطورته

بات من المسلّم به أن عدوان إسرائيل ضد لبنان تخطى بمداه وبنوع الأسلحة والوسائل العسكرية المستعملة وكثافة القصف الجوي الذي لجأ إليه الجيش الإسرائيلي في عملياته الحربية ضد المواطنين المدنيين والبنى التحتية وشبكة الاتصالات الهاتفية السلكية واللاسلكية ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني وغيرها، حجم وخطورة العملية العسكرية التي نفذتها المقاومة ضد القوات العسكرية الإسرائيلية والتي أدت إلى خطف جنديين إسرائيليين وقتل سبعة جنود آخرين. وهذا ما يخالف مبدأ تناسب الوسائل العسكرية المستعملة مع حجم وخطورة العمل الذي تعرضت له الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية. ويقضي هذا المبدأ بعدم الإفراط في استعمال القوة العسكرية ووسائل القتال بحجم لا يتناسب مع خطورة الوضع العسكري أو الصفة العسكرية للهدف المقصود. ومن هذا المنطلق يضع قانون النزاعات المسلحة لزاما على أطراف النزاع ببذل رعاية متواصلة في إدارة العمليات العسكرية من أجل تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين وبالامتناع عن اتخاذ قرار بشن هجوم عسكري قد يتوقع منه أن يحدث، بشكل عرضي، خسائر في الأرواح بين المدنيين أو إلحاق الأذى بهم أو بممتلكاتهم. كما أن قواعد قانون النزاعات المسلحة تفرض بأن يلغى أو يعلّق أي هجوم عسكري إذا تبيّن أن الهدف المتوخى من ضربه ليس هدفا عسكريا أو قد ينتج عنه، بصورة عرضية، ضرر وخسائر بشرية أو مادية مدنية .

ويظهر من خلال طبيعة العمليات الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في لبنان إن الوسائل العسكرية التي استعملها لا تتناسب مع خطورة الأعمال التي قامت بها المقاومة ولا حتى مع الوسائل الحربية المستخدمة من قبل هذه المقاومة التي لا تمتلك كالجيش الإسرائيلي كافة الأسلحة والأعتدة الحربية المتطورة ولا الدبابات ولا الطيران الحربي الذي لجأت إليه إسرائيل بصورة رئيسة في هذه المعركة، ما يعتبر خرقا فاضحا لقواعد قانون النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وخصوصا أن القوات الإسرائيلية، ووفقا لمعلومات صحافية ودولية، لجأت إلى استعمال أسلحة محرّمة دوليا في هذه الحرب ضد المدنيين اللبنانيين ولاسيما منها القنابل الفسفورية والعنقودية.

رابعا: انتهاك القواعد الأساسية لحقوق الإنسان

تأثر القانون الدولي الإنساني، فيما يتعلق بحماية المدنيين وضحايا الحروب وبأسلوب إدارة العمليات العسكرية، بالصكوك الأساسية المعنية بحقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك على أساس أن للإنسان التمتع بحقوقه اللصيقة بآدميته وكرامته البشرية على قدم المساواة في زمن الحرب كما في زمن السلم.

ثمة تقارب كبير بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ كلاهما يعنى بحماية حق كل إنسان في الحياة والسلامة البدنية والمعنوية والكرامة الإنسانية مهما كانت الظروف. ولكن بحكم طبيعة القانون الدولي الإنساني ( الحد من المعاناة في النزاعات المسلحة)، فان هذا القانون يضم أحكاما أكثر تحديدا وخصوصية لجهة النزاعات المسلحة من تلك الواردة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق المتعلقة بحماية حقوق الإنسان عامة .

أ- الحقوق المحمية

نصت المادة الثالثة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان على أن " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". وتحرّم المادة الخامسة من الإعلان ذاته تعريض أي إنسان للتعذيب أو للعقوبات والمعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة الإنسانية. ويقضي الإعلان أيضا بمعاملة الأشخاص معاملة إنسانية دون أي تمييز قائم على العرق أو الجنسية أو الجنس أو الانتماء السياسي أو المعتقدات الدينية، وخصوصا الأشخاص الذين تشملهم الحماية بموجب القانون الدولي الإنساني أي الأشخاص المحميين بموجب المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. وهذا ما جاء التأكيد عليه في المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على أنه " للأشخاص المحميين في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم. ويجب معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية، وحمايتهم بشكل خاص ضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير. ويجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن، ولاسيما ضد الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن. ومع مراعاة الأحكام المتعلقة بالحالة الصحية والسن والجنس، يعامل جميع الأشخاص المحميين بواسطة طرف النزاع الذي يخضعون لسلطته، بنفس الاعتبار دون تمييز ضار على أساس العنصر أو الدين أو الآراء السياسية".

كما أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يؤكّد على ما جاء في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان من حيث حماية حق الأشخاص بالحياة وبالسلامة البدنية وبالكرامة الإنسانية، إذ نصت المادة 6-1 منه على أن " لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي". كما جاء في مادته السابعة أنه " لا يجوز إخضاع أي فرد للتعذيب أو لعقوبة أو لمعاملة فظة أو غير إنسانية أو مهينة...". ورغم أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يخوّل للدول في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تهدد كيان الدولة الحد من بعض الحقوق، فهو ينص في البند الأول من مادته الرابعة على حصر استعمال هذا الحق ضمن حدود التزامات القانون الدولي الإنساني وشرط أن لا تتنافى الإجراءات المتخذة من قبل الدولة المعنية والتي تحد من حقوق الإنسان مع قواعد القانون الدولي الإنساني وأن لا تتضمن تمييزا على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الأصل الاجتماعي.

إضافة إلى المواثيق الدولية السالفة الذكر التي تعنى بحماية حقوق الإنسان، فان القانون الدولي الإنساني الهادف إلى ضمان معاملة الإنسان في جميع الأحوال معاملة إنسانية في زمن الحرب دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة أو أي معيار آخر، قد تطور بفضل ما يعرف بقانون " جنيف" الذي يضم الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية الموضوعة تحت رعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر والتي تهتم أساسا بحماية ضحايا الحرب، وبقانون " لاهاي" الذي يهتم بالنتائج التي انتهت إليها مؤتمرات السلم التي عقدت في عاصمة هولندا ويتناول أساس الأساليب والوسائل الحربية المسموح بها، وكذلك بفضل مجهود الأمم المتحدة لضمان احترام حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة والحد من استخدام أسلحة معينة لعدم مراعاتها إنسانية الإنسان .

وبالتأسيس على المبادئ الأساسية الهادفة إلى حماية حقوق الإنسان في زمن الحرب والمنصوص عليها في اتفاقيات جنيف الأربع وفي البروتوكولين الملحقين بهذه الاتفاقيات في العام 1977، يقتضي أن لا تتنافى مقتضيات الحرب مع احترام الذات الإنسانية وينبغي على أطراف النزاع احترام وحماية الحقوق التالية:

- احترام مبدأ حصانة الذات البشرية، ما يعني أنه لا يجوز اعتبار الحرب مبررا للاعتداء على حياة من لا يشاركون في القتال أو الذين لم يعودوا قادرين على ذلك.

- منع التعذيب بشتى أنواعه، ويتعيّن على الطرف الذي يحتجز رعايا العدو أن يطلب منهم البيانات المتعلقة بهويتهم فقط، دون إجبارهم على ذلك، وأن يعاملهم معاملة إنسانية حسنة ويتيح الفرصة للجنة الدولية للصليب الأحمر زيارتهم والإطلاع على أوضاعهم.

- احترام الشرف والحقوق العائلية والمعتقد والتقاليد. وتكتسب الأخبار العائلية أهمية خاصة في القانون الإنساني الذي يوجب تسهيل عملية التواصل بين كافة المدنيين الذين حوصروا في منطقة كانت مسرحا للعمليات العسكرية.

- توفير الأمان والطمأنينة وحظر الأعمال الانتقامية والعقوبات الجماعية واحتجاز الرهائن.

- منع استغلال المدنيين واستخدامهم لحماية أهداف عسكرية.

- حظر النهب والهجومات العسكرية العشوائية والأعمال الانتقامية.

- عدم التعرّض للملكية الفردية وعدم قصف المنشآت المدنية والمنازل والممتلكات.